كشف الأسرار النورانيّة القرآنيّة - ج ٢

محمّد بن أحمد الإسكندراني الدمشقي

كشف الأسرار النورانيّة القرآنيّة - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد الإسكندراني الدمشقي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5282-4

الصفحات: ٤٦٤
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(في قوله تعالى :

(وله الجوار المنشآت فى البحر كالأعلام (٢٤)) [الرّحمن : الآية ٢٤]).

وفيه مسائل :

(المسألة الأولى) :

ما الفائدة في جعل الجواري خاصة له ، وله السماوات وما فيها والأرض وما عليها ، نقول هذا الكلام مع العوام فذكر ما لا يغفل عنه من له أدنى عقل فضلا عن الفاضل الذكي ، فقال : لا شك الفلك في البحر لا يملكه في الحقيقة أحد إذ لا تصرف لأحد في هذا الفلك ، وإنما كلهم منتظرون رحمة الله تعالى معترفون بأن أموالهم وأرواحهم في قبضة قدرة الله تعالى ، وهم في ذلك يقولون لك الفلك ولك الملك ، وينسبون البحر والفلك إليه ، ثم إذا خرجوا ونظروا إلى بيوتهم المبنية بالحجارة والكس ، وخفي عليهم وجوه الهلاك يدعون مالك الفلك ، وينسون من كانوا ينسبون البحر والفلك إليه ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) [العنكبوت : الآية ٦٥]. الآية.

(المسألة الثانية) :

الجواري جميع جارية وهي اسم للسفينة أو صفة ، فإن كانت اسما لزم الاشتراك ، والأصل عدمه وإن كانت صفة ، فالأصل أن تكون الصفة جارية على الموصوف ، ولم يذكر الموصوف هنا ، فنقول : الظاهر أن تكون صفة التي تجري ، ونقل عن الميداني أن الجارية السفينة التي تجري لما أنها موضوعة للجري ، وسميت المملوكة جارية ؛ لأن الحرة تراد للسكن والازدواج ، والمملوكة لتجري في الحوائج لكنها غلبت في السفينة ؛ لأنها في أكثر أحوالها تجري ، ودل العقل على ما ذكرنا من أن السفينة هي التي تجري غير أنها غلبت بسبب الاشتقاق على السفينة الجارية ، ثم صار يطلق عليها ذلك لم تجر حتى يقال للسفينة الساكنة أو المشدودة على ساحل البحر جارية لما أنها تجري وللمملوكة

٣

الجالسة جارية فللغلبة ترك الموصوف ، وأقيمت الصفة مقامه فقوله تعالى : (وَلَهُ الْجَوارِ) [الرّحمن : الآية ٢٤].

أي السفن الجاريات على أن السفينة أيضا فعيلة من السفن ، وهو النحت ، وهي فعيلة بمعنى فاعلة عند أبي دريد أي تسفن الماء أو فعيلة بمعنى مفعولة عند غيره بمعنى منحوتة ، فالجارية والسفينة جاريتان على الفلك ، وفيه لطيفة لفظية : وهي أن الله تعالى لما أمر نوحا عليه‌السلام باتخاذ السفينة قال : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) [هود : الآية ٣٧].

ففي أول الأمر قال لها الفلك ؛ لأنها بعد لم تكن جرت ، ثم سماها بعد عملها سفينة كما قال : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) [العنكبوت : الآية ١٥]. وسماها جارية كما قال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) (١١) [الحاقّة : الآية ١١]. وقد عرفنا أمر الفلك وجريها. وصارت كالمسماة بها ، فالفلك قبل الكل ثم السفينة ثم الجارية.

(المسألة الثالثة)

ما معنى المنشآت نقول فيه وجهان :

(أحدهما) :

المرفوعات من نشأت السحابة إذا ارتفعت وأنشأه الله إذا رفعه وحينئذ ما هي بنفسها مرتفعة في البحر ، وأما مرفوعات الشراع.

(وثانيهما) : المحدثات الموجودات من أنشأ الله المخلوق أي خلقه فإن قيل : الوجه الثاني بعيد لأن قوله : (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) [الشّورى : الآية ٣٢]. متعلق بالمنشآت فكأنه قال : وله الجواري التي خلقت في البحر كالأعلام وذلك غير جيد والدليل على صحة ما ذكرنا أنك تقول الرجل الجريء في الحرب كالأسد فيكون حسنا ولو قلت : الرجل العالم بدل الجريء في الحرب كالأسد لا يكون كذلك ، فنقول : إذا تأملت فيما ذكرنا من كون الجارية صفة أقيمت مقام الموصوف كان الإنشاء بمعنى الخلق لا ينافي قوله : (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ.) لأن التقدير حينئذ له السفن الجارية في البحر كالأعلام ، فيكون أكثر بيانا للقدرة كأنه قال : له السفن التي تجري في البحر كالأعلام أي كأنها الجبال والجبال لا تجري إلا بقدرة الله تعالى ، فالأعلام جمع علم الذي هو الجبل ، وأما الشراع المرفوع كالعلم الذي هو معروف ، فلا عجب فيه ، وليس العجب فيه كالعجب في جري الجبل

٤

في الماء ، وتكون المنشآت معترضة كما أنك تقول الرجل الحسن الجالس كالقمر ، فيكون متعلق قولك كالقمر الحسن لا الجالس ، فتكون منشآت بالقدرة إذ السفن كالجبال ، والجبال لا تجري إلا بقدرة الله تعالى.

(المسألة الرابعة)

قرئ المنشئات بكسر الشين ، ويحتمل حينئذ أن يكون قوله كالأعلام يقوم مقام الجملة والجواري معرفة ولا توصف المعارف بالجمل ، فلا تقول الرجل كالأسد جاءني ، ولا الرجل هو أسد جاءني ، وتقول : ورجل كالأسد جاءني ، ورجل هو أسد جاءني ، فلا تحمل قراءة الفتح إلا على أن يكون حالا ، وهو على وجهين : (أحدهما) : أن تجعل الكاف اسما فيكون كأنه قال الجواري المنشآت شبه الأعلام. (ثانيهما) : يقدر حالا (١) هذا شبهه كأنه يقول : كالأعلام ويدل عليه قوله (فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) [هود : الآية ٤٢].

(المسألة الخامسة)

في جمع الجواري وتوحيد البحر ، وجمع الأعلام فائدة عظيمة ، وهي أن ذلك إشارة إلى عظمة البحر ، ولو قال في البحار لكانت كل جارية في بحر ، فيكون البحر دون بحر يكون فيه الجواري التي هي كالجبال ، وأما إذا كان البحر واحدا ، وفيه الجواري التي هي كالجبال ، فيكون لذلك بحرا عظيما عميقا ، وساحله بعيدا فيكون الإنجاء بقدرة كاملة.

(في قوله تعالى :

(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ))

وذلك لأن السفر إما سفر البحر أو سفر البر ، أما سفر البحر فالحامل هو السفينة ، وأما سفر البر فالحامل هو الأنعام وهاهنا سؤالان :

(الأول) : لم لم يقل على ظهورها؟

أجابوا عنه من وجوه : (الأول) : قال أبو عبيدة ، التذكير لقوله (ما) والتقدير ما تركبون. (الثاني). قال الفراء أضاف الظهور إلى واحد فيه معنى الجمع بمنزلة الجيش

__________________

(١) قوله : يقدر حالا كذا بالأصل وليحرر. اه.

٥

والجند ، ولذلك ذكر وجمع الظهور. (الثالث). أن هذا التأنيث ليس تأنيثا حقيقيا فجاز أن يختلف اللفظ فيه كما يقال عندي من النساء من يوافقك.

(الثاني) : يقال ركبوا الأنعام ، وركبوا في الفلك ، وقد ذكر الجنسين فكيف قال تركبون؟

والجواب غلب المتعدي بغير واسطة لقوته على المتعدي بواسطة ، ثم قال تعالى : (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) [الزّخرف : الآية ١٣]. ومعنى ذكر نعمة الله أن يذكروها في قلوبهم ، وذلك الذكر هو أن يعرف أن الله تعالى خلق وجه البحر وخلق الرياح وخلق جرم السفينة على وجه يتمكن الإنسان من تصريف هذه السفينة إلى أي جانب شاء ، وأراد فإذا تذكر أن خلق البحر ، وخلق الرياح وخلق السفينة على هذه الوجوه القابلة لتصريفات الإنسان ولتحريكاته ليس عن ذلك وإنما هو من تدبير الحكيم العليم عرف أن ذلك نعمة عظيمة من الله تعالى ، فيحمله ذلك على الانقياد والطاعة له تعالى ، وعلى الاشتغال بالشكر لنعمه التي لا نهاية لها ، ثم قال تعالى : (وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) [الزّخرف : الآية ١٣].

(اعلم) أنه تعالى عين ذكرا معينا لركوب السفينة ، وهو قوله : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها). (اعلم) أن ركوب الفلك في خطر الهلاك فإنه كثيرا ما تنكسر السفينة ويهلك الإنسان ، وراكب الدابة أيضا كذلك ، لأن الدابة قد يتفق لها اتفاقات توجب هلاك الراكب ، وإذا كان كذلك فركوب الفلك والدابة توجب تعريض النفس للهلاك فوجب على الراكب أن يتذكر أمر الموت ، وأن يقطع أنه هالك لا محالة وأنه منقلب إلى الله تعالى غير منقلب من قضائه وقدره حتى لو اتفق له ذلك المحذور كان وطن نفسه على الموت.

(في قوله تعالى :

(أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [النّمل : الآية ٦٣])

(اعلم) أنه تعالى نبه في هذه الآية على أمرين : (الأول) : أن الهادي في الحقيقة ونفس الأمر هو الفاعل المختار وحده. (الثاني) : قوله : (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ) والمراد يهديكم بالعلامات في الأرض ، وبالنجوم في السماء إذا جن الليل عليكم مسافرين في البر والبحر ، وفيه بحثان :

٦

(البحث الأول) :

العلامات الأرضية لما كانت الأرض مستديرا كرويا لا يمكن رسمها ، وإحضار صورتها على وجه محررا لا بكرة ، ولكن بعدة طرق إلى إحضار سطحها على قماش أو ورق مع حفظ التناسب بين المسافات على وجه تقريبي ، وبيان ذلك أن الخرطات هي صور مسطوحة على شكل الكرة الأرضية أو بعض أجزائها لتدل على وضع البلاد والأقاليم والجبال ، وبيان الخرطات هي أن تسحب خطا غير محدود على الورقة المقصود استعمالها ، وتعتبر هذا الخط قاعدة ، وترسم عليه نقطة في منتصفه ثم تأخذ فتحة ببيكار مساوية لنصف طول الدائرة الذي تريد عمله ، وترسم علامة في يسار النقطة المتوسطة ، وأخرى في اليمين منها ، وبعد ذلك تضع طرف البيكار على إحدى النقطتين ، وتأخذ فتحة بيكار مساوية تقريبا لثلاثة أرباع القاعدة ، وترسم قوس دائرة ، ثم تنقل طرف البيكار على النقطة الأخرى المتطرفة ، وترسم قوس دائرة أخرى يقاطع الأولى في النقطة المتوسطة ، وبهذا التقاطع ترسم خطا يفوت فيه وبمنتصف النقطة يتحصل العمود ، وهذا العمود يصير خط نصف نهار الخرطة الأصلي ، ولأجل تحقيق أن هذا الخط هو عمود صحيح على القاعدة رسم بفتحات بيكار مختلفة قوسين أو ثلاثة قسي يتقاطعان اثنين اثنين كالأولى فخط العمود يجب أن يجوز بكل نقطة تقاطع هذه الأقواس ، وبعد امتحان العمود تأخذ فتحة بيكار مساوية للارتفاع الذي تريد جعله الدائر ، وترسم أقواس دائرة من كل ثلاث نقط القاعدة ، ثم تنتقل البيكار إلى النقطة المتوسطة ، وتأخذ فتحة بيكار مساوية للنقطة المتوسطة الغربية ، والنقطة المتوسطة الشرقية ، وترسم أيضا على اليمين وعلى اليسار أقواسا تقطع الأولى على جانبي الخط العمودي ، وبنقط التقاطع ونقطتي الشمال والجنوب ترسم خطوطا مستقيمة ، وهي تصنع الدوائر المطلوبة.

(البحث الثاني في رسم المقاييس):

المقاييس تستعمل لرسم المقاييس الموجودة على الأرض على الورق ، والمقاييس تختلف باختلاف القدر الذي يراد إعطاؤه للخرطة باختلاف اتساع الأرض المرسومة على الخرطة ، فإذا قيل لك ارسم مقياسا من مائة ألف فمعناه ارسم على الورقة مترا أو ذراعا يساوي في الأرض مائة ألف متر أو ذراعا ، ولما كان المقياس الذي طوله متر كبيرا جدا بالنسبة للاستعمال المعتاد اصطلحوا على أن يرسموا أصغر منه ، وأن يأخذوا قاعدة ذلك عشر المتر المسمى الدسيمتر ، وينقسم إلى سنتيمتر أي جزء من مائة جزء من المتر أو عشر الدسيمتر ، وإلى مليمتر أي جزء من مائة جزء من المتر أو عشر السنتيمتر ، ولأجل معرفة نسبة هذه الأنواع

٧

نقول : حيث إن المتر يساوي مائة ألف متر فالدسيمتر أي عشر المتر يساوي عشرة آلاف متر فإذا أخذنا طول دسى متر يعني عشر المتر ، وجعلناه على الورق فقيمته عشرة أجزاء متر ، فإذا قسمنا هذا الطول عشرة أجزاء تحصل لنا قيمة ألف ، فبعد القسمة إلى عشرة أجزاء تأخذ جزءا منها وتنقله في يسار القسم الأول وتقسمه أيضا إلى عشرة أجزاء تجد الجزء منها يساوي مائة متر ، وهذا القسم الأخير يسمى عقب المقياس تشبيها له بعقب الرجل ، ولا يحسب في العدد والنمرة إلا ليدل على الأعشار.

(في بيان قوله تعالى :

(وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) (١٤) [النّبإ : الآية ١٤])

(اعلم) أن في المعصرات قولين :

(الأول) : وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس وقول مجاهد ومقاتل والكلبي وقتادة : إنها الرياح التي تثير السحاب ، ودليله قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) [الرّوم : الآية ٤٨]. فإن قيل على هذا التأويل كان ينبغي أن يقال : وأنزلنا بالمعصرات. قلنا الجواب من وجهين :

(الأول) : أن المطر إنما ينزل من السحاب ، والسحاب إنما يثيره الرياح فصح أن يقال : هذا المطر إنما حصل من تلك الرياح ، كما يقال : هذا من فلان أي من جهته وسببه.

(الثاني) : أن من هاهنا بمعنى الباء ، والتقدير وأنزلنا بالمعصرات أي بالرياح المثيرة للسحاب ، ويروى عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعكرمة أنهم قرؤوا (وأنزلنا بالمعصرات) وطعن الأزهري في هذا القول وقال : الأعاصير من الرياح ليست من رياح المطر ، وقد وصف الله تعالى المعصرات بالماء الثجاج ، وجوابه أن الأعصار ليست من رياح المطر فلم لا يجوز أن تكون المعصرات من رياح المطر.

القول الثاني : وهو الرواية الثانية عن ابن عباس واختيار أبي العالية والربيع والضحاك أنها السحاب ، وذكروا في تسميته بالمعصرات وجوها :

(أحدها) : قال المؤرج : المعصرات السحاب بلغة قريش.

(وثانيها) : قال المازني يجوز أن تكون المعصرات هي السحائب ذوات الأعاصير ، فإن السحائب إذا عصرتها الأعاصير ، لا بد وأن ينزل المطر منها.

٨

(وثالثها) : أن المعصرات هي السحائب التي شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر كقولك أجذ الزرع إذا حان له أن يجذ ، ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض ، وأما الثجاج فاعلم أن الثج شدة الانصباب يقال مطر ثجاج ودم ثجاج أي شديد الانصباب.

(اعلم) أن الثج قد يكون لازما وهو بمعنى الانصباب كما ذكرنا وقد يكون متعديا بمعنى الصب ، وفي الحديث أفضل الحج العج والثج أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدي ، وكان ابن عباس مثجا أي يثج الكلام ثجا في خطبته ، وقد فسروا الثجاج في هذه الآية على وجهين :

قال الكلبي ومقاتل وقتادة ، الثجاج هاهنا المتدفق المنصب. وقال الزجاج : معناه الصباب كأنه يثج نفسه أي يصب ، وبالجملة فالمراد تتابع القطر حتى يكثر الماء فيعظم النفع به كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) (٤٣) [النّور : الآية ٤٣].

(قوله : (أَلَمْ تَرَ). أي بعين عقلك والمراد التنبيه والأزجاء السوق قليلا قليلا ، ومنه البضاعة المزجاة التي يزجيها كل أحد وإزجاء السير في الإبل الرفق بها حتى تسير شيئا فشيئا.

(ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) قال الفراء : (بين) لا يصلح إلا مضافا إلى اسمين فما زاد إنما قال بينه ؛ لأن السحاب واحد في اللفظ ومعناه الجمع ، والواحد سبحانه قال الله تعالى : (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) [الرّعد : الآية ١٢]. والتأليف ضم شيء إلى شيء أي يجمع بين قطع السحاب فيجعلها سحابا واحدا ، ثم يجعله ركاما أي متجمعا ، والركام جمعك شيئا فوق شيء حتى تجعله مركوما ، والودق المطر قاله ابن عباس ، وعن مجاهد القطر ، وعن أبي مسلم الأصفهاني (فَتَرَى الْوَدْقَ) أي الماء يخرج من خلاله أي من شقوقه ومخارقه جمع خلل كجبال في جمع جبل وقرئ من خلله.

(واعلم) أن قوله : (يُزْجِي سَحاباً) [النّور : الآية ٤٣]. يحتمل أنه سبحانه ينشئه شيئا بعد شيء ، ويحتمل أن يغيره أي يصيره ويؤلفه من سائر الأجسام لا في حالة واحدة ، فعلى الوجة الأول يكون نفس السحاب محدثا ، ثم إنه سبحانه يؤلف بين أجزائه ، وعلى الثاني يكون المحدث من قبل الله تعالى تلك الصفات التي باعتبارها صارت تلك الأجسام سحابا ، وفي قوله : (يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) [النّور : الآية ٤٣]. دلالة على وجود متقدما متفرقا إذ التأليف لا

٩

يصح إلا بين موجودين ، ثم إنه تعالى يجعله ركاما وذلك بتركيب بعضها على بعض ، وهذا مما لا بد منه ؛ لأن السحاب إنما هو الكثير من الماء.

(واعلم) أن تكون السحاب والضباب والطل والصقيع والثلج إنما يكون من تكاثف البخار ، وبيان ذلك أن جميع الكائنات يتصعد منها مواد بخارية ، وهذا التبخير يختلف باختلاف المحال والأفراد ، وحالة تلك الإفراد والأجزاء المركبة لها متى كانت تلك الأجزاء غير تامة التجانس ، ومن ذلك التبخير يتكون الجو البخاري المحسوس الذي يحيط بتلك الكائنات في جميع أزمنة وجودها ، ويمكن أن يعتبر التبخير والتصعد في هذه الحالة حادثا واحدا يزيد ويسرع بزيادة الحرارة وسعة الأسطحة ، وهو قوي في خط الاستواء ، ويأخذ في التناقص كلما قرب إلى المناطق القطبية ، وفي هذه المناطق الباردة يتصعد من الجليد والثلج أبخرة كما تتصعد من مياه الأقطار التي بين المدارين ، والبخار المائي أخف من الهواء جدا فإذا خلط معه صيره أخف ، والآثار التي يتنوع منها الجو ثلاثة مائية وضوئية ونارية.

(الأول) : الكائنات الجوية المائية وهي قسمان :

(أحدهما) : ما يبقى معلقا في الجو كالضباب والسحاب.

(وثانيهما) : ما ينزل على الأرض كالندى والمطر والثلج والبرد ، وكلها ناشئة من المياه التي تتصعد على الدوام من الأجسام الرطبة المماسة للهواء فتتحول إلى بخار يصير مدركا بالبصر متى تكاثف بالبرد أو بغيره ، وهذا البخار يولد ترويحا على الأبدان ورطوبة مخصوصة يحس بها في الغابات والمغارات والمطامير التي في باطن الأرض ، بل في مساكننا أيضا. الأول الضباب إذا كان مقدار البخار الذي في الهواء متناسبا مع قوته على حل المقدار اللائق به منه ومسكه له محلولا فيه بقي الهواء شفافا ، فإذا زاد مقداره عما تقتضيه سعته صار ذلك البخار محسوسا بالبصر معلقا في الجو ، ويكون ذلك هو المسمى بالضباب وهو مؤلف من أكر مائية صغيرة جدا ، ثم هو إما منخفض أو مرتفع ، ويسمى الأول صاعدا.

والثاني نازلا فالأول سحاب ضبابي يزحف أحيانا على سطح الأرض ، وتارة يظهر كأنه غيره متحرك فيشاهد بكثرة في الخريف والشتاء.

والثاني يرتفع من المحال الرطبة وأسطحة المياه وأعماق الأودية ، ويصعد في الهواء إلى أعلى كلما سخن الجو من الشمس ، الثاني السحاب هو كناية عن أبخرة أو تصعدات مائية متكاثفة بسبب البرد ، وأنها تنبسط وتنقبض وتقرب وتبعد على حسب الأسباب المقتضية لذلك التي أقواها الحرارة ، والتأثرات الجوية ، وشكل الغمام يختلف باختلاف الفصول والشهور

١٠

وأزمنة القمر وساعات اليوم وخصوصا باختلاف العروض ، ومما له فعل عظيم كذلك على تشكله سعة السهول وحرارتها والأشجار الكبيرة التي توجد فيها ومجاورة الجبال والبحار ، وأما اتجاه وسرعة سيره فهما ناشئان من اتجاه الرياح وسرعتها ومن مجامع الجبال وسلاسلها التي يظهر أنها أحيانا تجذبها ، وأحيانا تطردها وتدفعها ، وإذا أردت أن تعرف السحاب معرفة جيدة فشاهده على مهابط الجبال وارتفاعه من أعماق الأودية ، وكذلك يحتاج لمشاهدته أيضا على رأس جبل شامخ محاط به وفي جزيرة منعزلة في وسط المحيط فإن في هذه الأماكن يمكن أن تشاهد السحب في جميع أزمنة تكوينها ، وعند ما يتم تأليفها تشاهد كأنها أمواج في بحر مضطرب مغطى بالزبد والأسباب التي تحدث تغيرات في شكل الغمام لها فعل أيضا على ارتفاعه وعلوه في الجو ، ويختلف هذا الارتفاع لا إلى نهاية فإن من السحاب ما يزحف حوالينا ويحيط بنا ، ومنه ما يكون مرتفعا. هذا وكثيرا ما يشاهد في بعض البلاد العالية جدا عن سطح البحر غمامة صغيرة مسودة أو مبيضة يظهر كأنها تدفع إلى ذلك الارتفاع بسبب مخصوص ، فإذا بطل تأثير ذلك السبب اتجهت الغمامة جهة الأرض واتسعت في رأي العين فتشاهد السماء كأنها مغطاه ببرقع معتم مظلم يتسلط عليه البرق فيشققه من جميع الجهات ، فحينئذ تمزقه الصاعقة وتتلفه في لحظات قليلة ، ثم بعد ذلك بقليل تنشتت تلك الغمامة أو يرجع لها شكلها الأصلي فتصعد ببطء إلى موقفها الأول ، وهذا الغمام يصل إليه بواسطة التشعع كثير من الحرارة ، ومن التراب والمواد الكائنة على ظهر الأرض.

(الثالث الندى والطل):

من المشاهدات أن سطح الأرض وبعض الصخور وأوراق النباتات والأزهار ومعظم ما يوجد في البلاد المعتدلة وفي العروض الحارة تغطي في الصيف قرب طلوع الشمس بقطرات صغيرة من ماء ، وذلك يحصل من تكاثف الأجزاء المائية التي تصعدت مدة الليل ، فإذا نزلت درجة الحرارة إلى غاية انخفاضها صارت سائلة ، والغالب حصول ذلك قبل طلوع الشمس ، وأما ما نسميه هنا بالطل فهو أجزاء مائية تتصعد مدة حرارة النهار ، وترسب بعد غروب الشمس ببعض لحظات على الأجسام ، بنفس السبب المذكور في الندا ، فهو ندا يتجلد كلما سقط على الأجسام ، وإذا علق بالأجسام أو إذا علق بالأشجار المجردة من خضرتها كان على هيئة عناقيد أو شماريخ بلورية أو قضبان مثل قضبان الفضة ، فإذا طلعت الشمس ذابت تلك العناقيد والقضبان تدريجيا.

١١

(الرابع المطر):

هو أثر من الآثار العلوية يقع تأثيره على معظم الأرض ويرغب فيه أو يرهب منه على حسب الأسباب الكثيرة المقتضية لذلك ، وأغلب الأسباب المكونة للمطر هي تغير درجة الحرارة وتغير التأثيرات الجوية واتجاه الرياح وقوتها ، وغير ذلك منفردة كانت أو مجتمعة ، فيكفي لإحداثه سبب واحد منها ، ومن النادر سقوطه أياما كثيرة متتابعة بدون انقطاع ، وإنما الغالب نزوله سحا أي وابلا يختلف في المدة والكثيرة أو رشا تختلف قوته وينشأ ذلك الاختلاف من تغاير العروض والفصول والأقطار ، وشكل الأرض وطبيعتها وغير ذلك ، والغالب أن يسبق الرش والوبل في الأزمنة الممطرة أو الهائجة رياح عاصفة أو هبات تختلف شدتها ، ويمتد سير هذا الريح إلى بعد ما ، وتتوزع مياه الأمطار بعد سقوطها إلى ثلاثة أجزاء :

الأول : ما يتصعد في الجو بالتبخير.

والثاني : ما يسيل على سطح الأرض فيكون مدد للسيول والقنوات الجارية والنهيرات والأنهار. والثالث : ما يرشح في باطن الأرض ويشبع في سيره المهابط والمنحنيات حتى يجد محال لا يمكنه النفوذ منها فيقف فتتكون منه المياه التي في باطن الأرض ، والعيون التي تنبع وتخرج على سطحها ، وهناك بلاد أمطارها دورية تبتدئ فيها وتنقطع في أزمنة معلومة ، ويوجد في الأقطار التي بين المدارين كثير من ذلك وعدم تغير تلك الأزمنة فيها تابع للحركة التي تكاد أن لا تتغير أعني حركة البعد والقرب من الشمس ، ثم من البلاد ما يكثر وقوع المطر فيها ، ومنها ما يقل ، ومنها ما يكون فيها نادرا عارضا ، ومنها ما لا يقع فيها أصلا. هذا وقد سقط بعض الأحيان مطر ملون بالحمرة أو بعض أحجار أو غبار ، وكثيرا ما ينتشر من بعض الصحارى جراد كالمطر ويصل أحيانا إلى شواطئ البحر المتوسط ، والغالب أن الجدب والطاعون يصحبان هذه المصيبة المتلفة التي يسميها الناس بمطر الجراد.

(الخامس الثلج):

إذا كانت زرقة السماء مبرقعة بالغمام مدة تسلطن الشتاء ، ولم يقدر الهواء على مسك الأكر المائية التي يتألف منها السحاب ، فإنها تصير سائلة وتسقط.

أما إذا استولى البرد عليها وقهرها فإنها تمسك في الجو وتتكاثف ، فتكون على هيئة ندف مختلفة الحجم سيما إذا كان الجو متحملا لرطوبة كثيرة ، ومضطربا بالرياح.

١٢

(السادس البرد):

هو من الآثار العلوية التي تقع على الأرض مع أن خطره كثير في البلاد المعرضة لإتلافه ، ويكون دائما على هيئة قطع جليدية شبيهة بالزلط وبحجارة مستديرة علمت بصناعة الحك ، وهو وإن كان في الغالب مركبا من طبقات متحدة المركز إلا أنه يندر جدا أن يكون كروي الشكل منتظما ، وقد يظهر أنه مؤلف من جملة طبقات مائية ، وقطره يختلف من نصف خط إلى جملة أصابع ، ووجوده في الشتاء أندر منه في الصيف ، وكذا في الربيع من ابتداء الخريف ، وقلما تعرف آثار المهولة في المناطق القطبية والأقطار الاستوائية ، وما قارب هذه العروض في السهول المرتفعة قليلا عن محاذاة المحيط ، والغالب كون البرد مخلوطا بالمطر ويندر كونه يحترس منه ، وخطره هو إتلافه محصولات الأرض بسرعة كسرعة النار ، فلا يترك وراءه إلا الدمار والخراب.

وأما قوله تعالى : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) [النّور : الآية ٤٣]. ففيه مسائل :

(المسألة الأولى) :

قرئ (يكاد سنا برقه) على الإدغام ، وقرئ (برقه) جمع برقة ، وهي المقدار من البرق ، وبرقه بضمتين للاتباع كما قيل في جمع فعلة فعلات كظلمات ، وسناء برقه على المد المقصور بمعنى الضوء والممدود بمعنى العلو والارتفاع من قولك سنى للمرتفع ، ويذهب بالأبصار على زيادة الباء كقوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : الآية ١٩٥]. عن أبي جعفر المدني.

(المسألة الثانية)

وجه الاستدلال بقوله : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) أن البرق الذي يكون صفته ذلك لابد وأن يكون نارا عظيمة خالصة ، والنار ضد الماء والبرد ، فظهوره من البرد يقتضي ظهور الضد من الضد وذلك لا يمكن إلا بقدرة حكيم ، وأنه تعالى خلق ذلك البرق عنصرا شعاعيا ناريا ساريا في جميع العناصر والمركبات والآلية وغير الآلية.

(المسألة الثالثة) :

وجه الاستدلال بقوله تعالى : (سَنا بَرْقِهِ) [النّور : الآية ٤٣]. أي الآثار العلوية الضوئية ، وهذه الآثار تنشأ من الضوء الذي ترسله الشمس إلينا والذي تعكسه الأجرام بعد أن تقبله من الشمس ،

١٣

والأشعة الضوئية قابلة لأن يحصل في أسطحتها الجانبية نوع تغير إذا انعكست أو انكسرت بكيفية مخصوصة ، وسمي ذلك بتقطب الضوء ، وألوان الأشعة كثيرة تنتشر وتختلط ببعضها ، وقد ميز بعض منها واعتبر ذلك المميز أنه هو الألوان الأصلية لها ، وتلك الألوان هي الأحمر والبرتقالي والأصفر والأخضر والأزرق والنيلي والبنفسجي ، وإذا انضمت جميع الأشعة وانعكست على البصر تولد ما يسمى باللون الأبيض ، وإذا فقدت كلها حصل ما يسمى باللون الأسود ، وإذا تشرب جزء منها وانعكس جزء تولدت من تلك الألوان الكثيرة ألوان.

وفيه جملة أمور : وهي الفجر ، والشفق ، وضوء الشروق ، وقوس قزح ، والسراب ، والهالات ، والشموس ، والأقمار ، والصاعقة ، والرعد ، والفجر الشمالي ، والضياء المنطقي ، والنيران الطيارة ، والشهب الساقطة ، والشعلة المضيئة ، والأكر النارية ، والحجارة الساقطة من الجو وهذه الأمور موضحة في كتب الفلاسفة.

(في قوله تعالى :

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠)))

بين دلائل الرياح على التفصيل الأول ، وفي إرسالها قدرة وحكمة.

أما القدرة فظاهرة فإن الهواء اللطيف الذي يشقه البق يصير بحيث يقلع الشجر ، وهو ليس بذاته كذلك فهو بفعل فاعل مختار.

وأما الحكمة ففي نفس الهبوب وفيما يفضي إليه من آثار السحب ، ثم ذكر أنواع السحب : فمنه ما يكون متصلا ومنه ما يكون منقطعا ، ثم المطر يخرج منه ، والماء في الهواء أعجب علامة للقدرة وما يفضي إليه من إنبات الزرع وإدرار الضرع حكمة بالغة ، ثم إنه لا يعم بل يختص به قوم دون قوم وهو علامة المشيئة ، وقوله تعالى : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ) [الرّوم : الآية ٤٩]. اختلف المفسرون فقال بعضهم : هو تأكيد كما في قوله تعالى : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) [الحشر : الآية ١٧].

وقال بعضهم : من قبل التنزيل من قبل المطر ، والأولى أن يقال من قبل أن ينزل عليهم من قبله أي من قبل إرسال الرياح ، وذلك لأنه بعد الإرسال يعرف الخبير أن الريح هل فيها

١٤

مطر أو ليس فقيل المطر إذا هبت الريح لا يكون ، فلما قال من قبل أن ينزل عليهم ، ولم يقل : (إنهم كانوا مبلسين) لأن من قبله قد يكون راجيا غالبنا على ظنه المطر برؤية السحب وهبوب الرياح قال : (من قبله). أي من قبل ما ذكرنا من إرسال الرياح وبسط السحاب ، ثم لما فصل قال : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) [الرّوم : الآية ٥٠].

لما ذكر الدلائل قال لمحي باللام المؤكدة وباسم الفاعل فإن الإنسان إذا قال : إن الملك يعطيك لا يفيد ما يفيد قوله إنه معطيك ؛ لأن الثاني يفيد أنه أعطاك فكان وهو معط متصفا بالعطاء ، والأول يفيد أنه سيتصف ويتبين هذا بقوله : (إِنَّكَ مَيِّتٌ) [الزّمر : الآية ٣٠]. فإنه آكد من قوله : إنك تموت ، وهو على كل شيء قدير تأكيد لما يفيد الاعتراف ، اعتبر الكون مكونا من طبقات رقيقة موضوعة فوق بعضها تتناقص كثافتها كلما بعدت عن سطح البحر حتى تتخلخل خلخلة يعسر معرفتها ، ويأخذ هذا التخلخل في الزيادة حتى يصل إلى الحمل الذي تنتهي إليه قوة الجذب أي جذب الأرض ، وكلما كانت الموازنة بينها أكمل كان الجو أسكن وأهدأ ، فإذا انقطعت الموازنة بأي سبب كأن اضطربت تلك الكتلة وتحركت ، وابتدأ الاستشعار بالريح ، وأغلب الأسباب المزيلة للموازنة هي تغير الحرارة ، ومد البحر وجزره ، والتيارات المائية القوية ، ورطوبة الهواء وفعل القمر والشمس ، ونقول : إلحاقا لرطوبة الهواء أنه إذا تكاثفت الأبخرة المائية الممسوكة في الجو ، وتكون منها الغمام حصل في كثافة الهواء تغير فجائي ، ويظهر أن هذا هو السبب الأكثر إحداثا للرياح الغير المنتظمة ، ثم إن الرياح أفقية كانت أو عمودية أو مقاطرة تتجه بجميع ضروب الاتجاه فتتقاطع مع بعضها أو تختلط أو يمر بعضها فوق بعض مع سرعة متشابهة أو متخالفة بدون أن تختلط.

وقد تدور على نفسها ، وقد لا يكون لها اتجاه معين إنما الغالب في حركات الجو أن تكون موازنة لسطح الأرض هذا وقد ذكر فيما سبق أن حركات الجو تتبع كل اتجاه من ضروب الاتجاه ، وأن مدة تلك الحركات تختلف بجميع أنواع الاختلافات كاتجاهها ؛ ولذلك تنقسم الرياح ثلاثة أنواع :

(الأول) : الرياح الدائمة أعني التي فعلها دائم واتجاهها يكاد أن لا يختلف أصلا.

(الثاني) : الرياح الدورية أي التي تبقى ستة أشهر ، وهي التي تهب من مهب واحد في السماء جملة شهور متتابعة من السنة ، ثم في الأشهر الباقية تهب من محل مقابل للأول.

(الثالث) : الرياح المختلفة التي ليس لها اتجاه مخصوص ولا مدة معينة ، بل كثيرا ما تشاهد منها جملة مجتمعة مع بعضها في آن واحد.

١٥

(في قوله تعالى :

(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) [الروم])

لما بين أنهم عند توقف الخير يكونون مبلسين آيسين ، وعند ظهوره يكونون مستبشرين بين أن تلك الحالة أيضا لا يدومون عليها ، بل لو أصاب زرعهم ريح مصفر لكفروا فهم منقلبون غير ثابتين لنظرهم إلى الحال لا إلى المآل وفي الآية مسائل :

(المسألة الأولى) :

قال تعالى في الآية الأولى : (يُرْسِلُ الرِّياحَ) [الأعراف : الآية ٥٧] على طريقة الإخبار عن الإرسال ، وقال هاهنا ولئن أرسلنا ريحا لا على طريقة الإخبار عن الإرسال ؛ لأن الرياح من رحمته وهي متواترة والريح من عذابه وهو تعالى رؤوف بالعباد يمسكها ، ولذلك نرى الرياح النافعة تهب في الليالي والأيام في البراري والآكام وريح السموم لا تهب إلا في بعض الأزمنة في بعض الأمكنة.

(المسألة الثانية) :

سمى النافعة رياحا والضارة ريحا لوجوه :

(أحدها) : أن النافعة كثيرة الأنواع كثيرة الأفراد فجمعها فإن كل يوم وليلة تهب نفحات من الرياح النافعة ، ولا تهب الريح الضارة في أعوام غالبا.

(وثانيها) : أن النافعة لا تكون إلا رياحا فإن ما يهب مرة واحدة لا يصلح الهواء ولا ينشئ السحاب ولا يجر السفن ، وأم الضارة فربما تقتل في لفحة واحدة كريح السموم.

(وثالثها) : أن الرياح الرديئة المضرة تتكون من اختلاف الأنواع التي تحصل في عناصر الجو والأبخرة التي تتصعد من بعض أماكن من الكرة ، وهي تحصل غالبا من اختلاف أحوال الكرة دفعة واحدة ، أو من صعود أبخرة في بقعة كما يحصل ذلك عند طوفان الماء أو من الأجسام والبطاح أو من محل واسع فيه جواهر نباتية تحللت وفسدت أو من الضباب المتحمل للأجسام المنتنة المتصاعدة من بعض الأمكنة هذا.

واعلم أنه ليس للضباب رائحة مخصوصة به ، ولا يتحد مع أجزاء أخر ذوات رائحة ،

١٦

والصاعد منه يرسب بسهولة على جميع ما يمر عليه الهواء ، ولذلك يمكن التحرز بنحو الغابات والأشجار والأبنية وبنحو خرقة خفيفة من تأثيره الذي هو مضر غالبا ، ثم إن ذلك الصاعد (٢) بسبب كونه شبيها بتأثيره بمادة كثيفه تهبط بسكون أو ترسب رائقة بما يحصل له بمرورها بين أوراق الأشجار وفروعها ونفوذها ، ومرورها بما يصيبها أو بكثرة الانعكاسات التي تتأثر بها.

(واعلم) أيضا أن خطر الضباب بالليل أكثر منه بالنهار ، وعند طلوع الشمس وغروبها أكثر منه في بقية اليوم ، وهو مهلك للشخص قتال ، والحرارة الشديدة تمنع ضرره ما لم يكن الشخص متعرضا لتأثيره بأن كان في محل صعدت منه تلك الأبخرة.

(ورابعها) : أنه يوجد في الهواء كمية كثيرة من غبار دقيق يظهر أنه سابح في الهواء ولا يمكن مشاهدته وهو كما يسقط في المدن يسقط في القرى والخلاء ، وفي جميع العروض وداخل الأراضي المتصلة كوسط البحور أيضا ، وفي الزمن اليابس كالزمن الرطب.

ومثل هذا الغبار ما يحصل من تصعدات بقعة من الأرض تجعل الهواء مصفرا مشتملا على جواهر مسمة ما قابل نباتا أو حيوانا إلا قتله غالبا ، وهذا تسميه العرب ريح السموم ، وقد يحصل مثل هذا الغبار من بعض أبخرة تصعد من بعض بقاع الأرض فتجعل الهواء مصفرا مسما كما قلنا ، وهو إذا قابل نباتا أو حيوانا قتله غالبا وهذا هو المسمى عند العرب ريح السموم المشار إليه بقوله تعالى : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) (٥١) [الرّوم : الآية ٥١].

(وخامسها التلاقيح):

وهي التي تنشأ عن التيارات الهوائية الأفقية التي تتسلطن دفعة واحدة في متسع عظيم من الأراضي فتصير سريعة قوية ، بل ربما كانت ملتفة إذا انحصرت في مسافة ضيقة جدا بضغط طبقة عليا من الهواء عليها تعارض حركتها سريعة بالقسر ، وهذه الرياح الشديدة لا ينشأ عنها في غالب إلا أمطار خفيفة وتكن حيثما تبتدئ الطبقة العليا في أن تطيع حركتها.

(العواصف):

هي حوادث موضعية سريعة الزوال مجلسها يكون في غمامة كبيرة أو جملة سحب

__________________

(٢) قوله : ثم إن ذلك الصاعد ... إلخ. كذا بالأصل والمعنى غير ظاهر. اه.

١٧

منضمة بعضها ، مع بعض ولا يستشعر بها في محل إلا إذا وصلت إليه تلك الغمامة عن التي هي مجلس لها ، وتقطع حوادثها متى مضت أو خلت تلك الغمامة عما يحصلها.

أما متى بقيت حافظة للقوة المولدة لتلك الحوادث فإن نتائجها لا تزال تظهر على التعاقب في المحال المختلفة التي تمر عليها ، وهذه الرياح تحصل فجأة وفعلها يكون مقصورا على منطقة ضيقة لكنها طويلة جدا ، وربما تتابعت عواصف كثيرة يتلو بعضها بعضا ورياحها تكون منحرفة ، وتخرج على هيئة زوابع سريعة الزوال ، وتكون دائما مصحوبة بالرعد ، وإذا كانت العواصف آتية من البحر رسب على سطح الأرض من المطر الذي يسقط معها طبقة خفيفة من الأملاح.

(العواصف):

ريح يسلط على البلاد الموضوعة بين المدارين ، وبجوارهما ، ولا تختلف عن العواصف ولا عن التلاقيح إلا في شدتها وعنفوانها ، وينشأ هذا الحادث المهول من حركة الهواء وسرعته ، ويصحبه غالبا مطر غزير وبرد ورعد وعواصف تنقذف من السماء جهة الأرض ومن الأرض جهة السماء ، وكل ذلك بانضمامه لتلك الريح الشديدة يساعد على إتلاف ما يجده في ممره فيسقط الأبنية المتينة ، ويقلع الأشجار المتينة الكبيرة من أصولها ، ويتلف جواهر الحصاد ويشتت بقاياها إلى محال بعيدة ، والإتلاف الذي يحصل من هذا الحادث في البحر مهول أيضا ، وبالجملة فالظاهر أن ما لا تتلفه المياه والنيران والجنود العديدة من الأقاليم إلا في مرات عديدة تتلفه هذه العواصف المهولة في اجتيازها عليها بعض ساعات قليلة.

(الزوابع):

حركات جوية مهولة متلفة كالعواصف غير أنها تختلف عنها بحصر سلطتها في مكان ضيق ، وإن لم يخل جزء من سطح الكرة من كونه عرضة لها بخلاف العواصف فإنها لا توجد إلا في بعض الأقطار ، وبفعل تلك الزوابع يرتفع في الهواء بحالة دوران ثلج السهول الجليدية ومياه البحيرات والبحار التي في الأرض ، ومع ذلك فوجود هذا الحادث في البلاد الحارة أكثر منه في المناطق الباردة والمعتدلة وكذا في بحار الصين ، وتنقسم الزوابع إلى بحرية وأرضية ، فالبحرية تشغل من الأرض مسافة مستديرة فتضطرب المياه وتفور وكأن كتلة منها تحاول أن ترفع في الهواء على هيئة هرم مقطوع ، أو أن سطح البحر يحصل فيه اضطراب مخصوص حين ما يوجد في الجزء المقابل له من السماء غمامة شكلها مخروطي مقلوب كأنها تنزل على سطح

١٨

المياه ، والغالب حصول هذين العملين معا في آن واحد ، ويوجد في جميع الأحوال دائما مخروط أو أكثر من مائع يدور على نفسه بسرعة ، ويجذب في دوامته الهواء والماء والحيوانات التي يصادفها ، ويدع في باطنه خلوا قليل الاضطراب ، وقد يوجد مخروطان متعارضا القاعدة متلامسا القمة ، ويشاهد غالبا على سطح الكتلة المتحركة ثوارات ذات أصوات قوية ، ثم إن تلك الزوبعة تنتهي بإرسالها مطرا غزيرا أو بردا ، وتسعى في مدتها التي هي قصيرة على سطح الماء بدون أن تتبع اتجاها معينا ، وإذا صادفت في طريقها سفينة جذبتها معها.

وأما الزوابع الأرضية فتكون على شكل عمود عظيم من هواء أو غبار أو بخار يدور على نفسه بسرعة عظيمة ، ويتلف في سيره السريع الهائم ما يجده في ممره فتخف المستنقعات والبحيرات برفعه كتلة عظيمة منها ، وجذبه لها في دوامته ، ونقله لها إلى محال بعيدة جدا ، وتغطية الارض التي تقع ببقايا تلك الأشياء المجذوبة أو بطوفان مائي ، ومدة هذا الحادث وامتداده ونتائجه يختلفان كثيرا وقليل من الزوابع ما تحدث عنه حوادث غريبة مدهشة.

(في بيان قوله تعالى :

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣)))

(اعلم) أن الله تعالى لما خوف العباد بإنزال ما لا مرد له اتبعه بذكر هذه الآيات ، وهي مشتملة على أمور ثلاثة ، وذلك لانها دلائل على قدرة الله تعالى ، وأنها تشبه النعم والإحسان من بعض الوجوه وتشبه العذاب والقهر من بعض الوجوه :

(واعلم) أنه تعالى ذكر هاهنا أمورا أربعة :

(الأول البرق) : وهو قوله تعالى : (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) [الرّعد : الآية ١٢]. وفيه مسائل :

(المسألة الأولى):

قال صاحب الكشاف في انتصاب قوله : (خَوْفاً وَطَمَعاً) [الأعراف : الآية ٥٦]. وجوه :

(والأول) : لا يصح أن يكون مفعولا لهما لأنهما ليسا بفعل فاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف المضاف أي إرادة خوف وطمع ، أو على معنى إخافة وإطماعا.

١٩

(الثاني) : يجوز أن يكونا منتصبين على الحال من البرق كأنه في نفسه خوف وطمع ، والتقدير ذا خوف وذا طمع ، أو على معنى إيخافا وإطماعا.

(الثالث) : أن يكونا حالين من المخاطبين أي خائفين وطامعين.

(المسألة الثانية) :

في كون إرادة البرق خوفا وطمعا وجوه:

(الأول) : أنه عند لمعان البرق يخاف وقوع الصواعق ويطمع في نزول الغيث قال المتنبي :

فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجى

يرجي الحيا منها ويخشى الصواعق

(الثاني) : أنه يخاف المطر من له فيه ضرر كالمسافر أو كحامل ملح ، ويطمع فيه من له فيه نفع.

(الثالث) : أن كل شيء يحصل في الدنيا فهو خير بالنسبة إلى قوم وشر بالنسبة إلى آخرين فكذلك المطر خير في حق من يحتاج إليه في أوانه ، وشر في حق من يضره ذلك إما بحسب المكان أو بحسب الزمان.

(المسألة الثالثة) :

اعلم أن حدوث البرق دليل عجيب على قدرة الله تعالى ، وبيانه أن السحاب لا شك أنه جسم مركب من أجزاء مائية وأجزاء هوائية ونارية ، ولا شك أن الغالب عليه الأجزاء المائية ، والماء جسم بارد رطب ، والنار جسم حار يابس ، وظهور الضد من الضد أعجب. فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن الريح احتقن في داخل جرم السحاب واستولى البرد على ظاهره فانجمد السطح الظاهر منه ، ثم إن ذلك الريح يمزقه تمزيقا عنيفا فيتولد من ذلك التمزق الشديد حركة عنيفة ، والحركة العنيفة موجبة للسخونة وهي البرق.

(فالجواب) : أن كل ما ذكرتموه على خلاف المعقول وبيانه من وجوه :

(الأول) : أنه لو كان الأمر كذلك لوجب أن يقال : إن حصل البرق فلا بد وأن يحصل الرعد ، وهو الصوت الحادث من تمزق السحاب ، ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك ، فإنه كثيرا ما يحدث البرق القوي من غير حدوث الرعد.

(الثاني) : أن السخونة الحاصلة بسبب قوة الحركة مقابلة للطبيعة المائية الموجبة للبرد،

٢٠