تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٧٤

وجدت صفاء قلبي في همومي

إذا كانت همومي في رضاكا

لقد طالت بلايا في بلائي

بلائي يا بلائي من بلاكا

وفي الحديث المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه جاء إليه رجل ؛ فسأله عن قول أيوب : (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) فبكى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : «والذي بعثني بالحق نبيّا ما شكا فقرا نزل من ربه ، ولكن كان في بلائه سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات ؛ فلما كان في بعض الساعات ، وثب ليصلي قائما ، فلم يطق للنهوض ، فجلس ثم قال : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ، ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكل الدود سائر جسده حتى بقي عظاما نخرة ، فكادت الشمس تطلع من قبله وتخرج من دبره» ، ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بقي إلا قلبه ولسانه ، وكان قلبه لا يخلق من ذكر الله ولسانه لا يخلق من ثنائه على ربه ؛ فلما أحب الله له الفرج بعث إليه الدودتين ، إحداهما إلى لسانه ، والأخرى إلى قلبه ، فقال : يا رب ما بقي إلا هاتان الجارحتان قلبي ولساني أذكرك بهما ، وقد أقبلت هاتان الدودتان أحدهما إلى قلبي والأخرى إلى لساني ، وتشغلاني عنك ، وتطلعان على سري (مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (١).

وقال الحسين بن علي رضي الله عنه : ذكر الله على الصفاء ينسي العبد مرارة البلاء.

وقال جعفر : خرج منه هذا القول على المناجاة مستدعيّا للجواب من الحق ليسكن إليه لا على حد الشكوى.

قال بعضهم : كان أيوب قائما مع الحق في حال الوجد ؛ فلما أن كشف عنه البلاء وأظهره ، وكشف ما به قال : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ).

وقال الجنيد : عمل الدود في جسده فصبر ، فلما قصدوا قلبه غار عليه ؛ لأنه موضع المعرفة ومعدن التوحيد ومأوى النبوة والولاية ، وقال : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) افتقار إلى الله مع ملازمة آداب النبوة.

وقال ابن خفيف : كان أيوب مستترا بحال الصبر عن البلاء ، فلما أراد إظهاره للخلق ضج ، فقال : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ).

قال أبو علي المغازلي : أوحى الله إلى أيوب في حال بلائه : يا أيوب إن هذا البلاء قد اختاره سبعون نبيّا قبلك ، فما اخترته إلا لك ، فلما أراد الله كشفه عنه ، قال : (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ).

__________________

(١) ذكره ابن عجيبة في تفسيره (٤ / ١٠٦).

٥٢١

قال الحسين : تجلى الحق لسره وكشف له أنوار كرامته ، فلم يجد للبلاء ألما ، قال : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) لفقدان ثواب البلاء والضر إذا صار البلاء لي وطنا وعليّ نعمة.

وقال بعضهم : نال كل عضو منه البلاء إلا موضع النداء ، فنادى الضر من الباقي منه على العافية لا عن مواضع البلاء ؛ فقال : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ).

أدرك بقية نفس فيك قد تلفت

قبل الممات فهذا آخر الرّمق

ولو مضى الكلّ منها لم يكن عجبا

وإنّما عجبي للبعض كيف بقي

سئل الجنيد عن قوله : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ، قال : عرفه فاقة السؤال ليمنّ عليه بكرم النوال.

ثم أخبر الله سبحانه عن رفعه البلاء عن نبيّه ، وإجابة دعوته ، وإخراجه من الضر بقوله : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) حقيقة هذه الاية أن الله عرف خوف أيوب من فوت مشاهدته ووصاله ووقوفه بأسراره في بلائه ؛ فاستجاب دعوته ، ورفع عنه مكائد قهره في ابتلائه ، وغيرة ربوبيته على عبوديته ، فكاشفه جماله وجلاله بعد أن ألبسه لباس العافية ، فارتفع الضر من جميع الوجوه ، وبقي في شهود جماله ؛ فصار إليه البلاء والعافية واحدا.

قال بعضهم : استجاب دعاءه ، وفتح عليه أبواب الرضا لئلا يعارض بعد ذلك في حال لا مستكشفا للبلاء ولا متلذذا به ؛ لأن كليهما موضع العلل ، والرجوع إلى النفس وتربيتها.

قال الأستاذ : لم يقل : ارحمني بل حفظ آداب الخطاب ؛ فقال : (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣)).

قوله تعالى : (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤)) تسلية للمحبين الصابرين وتذكرة للمتعبدين.

قال الواسطي : موعظة للمطيعين عند نزول المحن بهم ، وتعريضا على الرضا ، وحسن الدعاء من غير تصريح به بل إظهارا للحال.

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨))

قوله تعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) كان يونس عليه‌السلام في منزل الانبساط والعربدة ؛ فغضب عليه إذا شغله بشريعته عنه ، وعن مشاهدته وقربه

٥٢٢

ووصاله ، وظنّ أنه في غضبه وعربدته لم يكن مأخوذا به ، ولم يكن محتجبا به ، وكان محجوبا بسر واحد ، وهو أن الانبساط حظ العارف والهيبة حظ الله فاختار حظه على حظه ، وصار محجوبا عن محل الفناء فيه ، ويمكن أنه كان مغاضبا على وجوده إذا كان موجودا عند مشاهدة وجود الأزل كأنه غار على وحدانيته ، ولم يطق أن يرى وجوده في وحدة القدم ، فلما ابتلعه الحوت ، صار تحت قهر القدم فانيا عن رؤية غيرة الحق في رؤية الحق تقاضى سر سره مقام بقائه وانبساطه فظن بسره أنه لا يخرج من درك الفناء ، ولا يدرك في منازل الفناء درجة البقاء فكاشفه الحق نقاب السلطانية عن جمال القدم ، وصار في معارج جمال أنس المشاهدة ، فلما وجد البقاء في الفناء اعترف بعجزه ، وقلة علمه بأسرار القدمية ؛ فقال : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧)) حين نازعت الربوبية بالربوبية علم أن الاتصال والاتحاد موضع المكر والخداع ؛ فأسقط العلل ، واعترف بالوحدانية الصرفة لأزلية الله تعالى.

قال الجنيد : مغاضبا على نفسه في ذهابه ، فظنّ أن لن يأخذه بغضبه وذهابه.

قال ذو النون : أخفى أيخدع به العبد الألطاف والمكرمات ورؤية الايات؟ (١)

قال الجنيد في قوله : (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧)) أي : من الجاهلين إنك لا تقرب بطاعة ، ولا تبعد بمعصية ، وقد ظننت في زمان الصبا أن الله سبحانه أراد أن يهيئ ليونس عليه‌السلام معراجا ، ومشاهدة في بطن الحوت فتعلل بالأمر والنهي ، والمقصود منه القربة والمشاهدة فأراه الحق في أطباق الثرى في ظلمات بطن الحوت ما أرى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوق العرش ، فلما رأى الحق تحير في جلاله ، وقال : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ) ، نزهت نفسك عما ظننا فيك ، فأنت بخلاف الظنون ، وأوهام الحدثان ، (كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، في

__________________

(١) اعلم أن الاية هذه حكاية كلام يونس عليه‌السلام ؛ وهو في قعر البحر في بطن الحوت ، فجعل كلامه معه تعالى من طريق الخطاب لا من طريق الغيبة ؛ إذ لا غيبة بالنسبة إليه تعالى ؛ فإنه هو المتجلّي في كل شيء بحسبه :

أي بحسب ذلك الشيء لا بحسبه تعالى ، فإنه تعالى لا يسعه شيء إلا بالاعتبار ، وبعض الوجوه ، فيونس إنما خاطب الله المتجلّي فيه. والحاصل أن خطاب يونس ، وهو في تخوم الأرض ؛ كخطاب نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو في المستوى ، وذروة العرش حيث قال : «لا أحصي ثناء عليك أنت ؛ كما أثنيت على نفسك» ، فإذا كل من المقامات العلوية والسفلية ؛ مقام الخطاب ، والسماء على أنه لا سفل بالنسبة له إلى الله تعالى ؛ ولذا شرّع التسبيح والتكبير في انتقالات الصلاة ؛ تقديسا له تعالى عن التقيد بمرتبة من المراتب الكونية بحسب قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٩٧].

فظهر من هذا التقرير : إن كلّ من الخطاب ، والغيبة ، والتكلّم ؛ نسبة من نسب الكلام معتبرة بحسب المقام.

٥٢٣

وصف جلالك إذ وصف لا يليق بعزة وحدانيتك فوقع لهذا القول منه موقع قول سيد المرسلين حيث قال : «لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك» (١).

ولذلك قال عليه‌السلام : «لا تفضلوني على أخي يونس» (٢) ؛ فلما رأى ما رأى استطاب الموضع ، وظن أن لن يدرك ما أدرك في الدنيا بعد فغاب الحق عنه فاهتم ودعا بالنجاة فنجاه الله من وحشة بطن الحوت بقوله : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨)) يعني : من كان هذا حاله مع الله سبحانه ننجيه به منه.

قال الجنيد : من همومهم وكروبهم بالإخلاص والصدق والافتقار والالتجاء ، وحقيقة حسن الاعتراف وإظهار الاستسلام.

قال الواسطي في قوله : (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) حيث اختلج سري أن أريد غير ما أردت.

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩))

قوله تعالى : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) ما اختلج في سرّ الإرادة من صميم سر سري أن شيخ الأنبياء عليه‌السلام رأى ما ورد عليه من أنوار كبرياء الله وجلال عظمته وعز سلطانه في مشاهدة ذاته فخاف من محل الاتحاد والاتصاف الذي يقتضي حلاوة شربة التفريد في دعوى الأنانية والربوبية فاستعاذ بالله أن يكون محتجبا به عنه ، فقال : (لا تَذَرْنِي فَرْداً) حين أفردتني بفردانيتك ، فإن ذلك علىّ عارية تنصرف إلى القدم ، والحدث ينصرف إلى الحدث.

ألا ترى كيف قال : (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩)) ترث صفة بقائك بعد فنائي بغيرتك ، وأيضا (لا تَذَرْنِي) في (فَرْداً) عنك بك حتى لا أحتجب بك عن حقيقتك ، وأيضا كان سره يتحرك من جذب أسرار مقادير القدم التي تجذب سره إلى رؤية روح يحيى في مكمن الغيب فافتقر إلى الله بالسؤال إدخال روحه في هيكله ليكون سحرا في إفشاء أسرار ربوبيته.

قال جعفر : لا تجعلني ممن لا سبيل له إلى مناجاتك ، والتزين بزينة خدمتك.

وقال أيضا : فردا عنك لا سبيل لي إليك.

وقال ابن عطاء : خاليا عن عصمتك ، وقال الجنيد : خاليا عنك مشتغلا بشيء سواك.

__________________

(١) رواه مسلم (١١٩ ، ٧٥١ ، ٧٥٤) ، وأبو داود (٣ / ٥٤) ، والترمذي (١١ / ٣٩٨).

(٢) ذكره القرطبي في تفسيره (١١ / ٣٣٣).

٥٢٤

وقال الواسطي : الفرد المعرض عن ذكر الله الغافل عنه.

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠))

قوله تعالى : (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) موضع النداء والدعاء في منازل العبودية مكان الخوف والرجاء والرهبة من جلال عظته ، والرغبة في وصول جماله وقربه ، وبهاتين الصفتين صار العارف خاشعا لله في طاعته (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠)) فانين تحت أذيال عظمتي ورداء كبريائي.

قال الواسطي : أمر الله الأنبياء بالخشوع ، وهو الوقوف بين الرغبة والرهبة ، وحقيقته سكون يشير إلى الرضا ، قال الله تعالى : (يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً).

وقال بعضهم : رغبة فينا ورهبة عما سوانا ، وقيل : رغبة في لقائنا ، ورهبة في الاحتجاب عنا.

قال أبو يزيد : الخشوع زمام الهيبة وخمود القلب عن الدعاوى.

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤))

٥٢٥

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) وصف الله أهل الولاية والنبوة والرسالة الذين اصطفاهم في الأزل بحسن عنايته ومعرفة جلاله وجماله مشاهدة كماله ووصاله ووقاهم من عذاب الفرقة والحرمان عن المشاهدة بقوله : (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) هي في جنان الوصلة لا يحسون شواهد أهل العلة من البرية فظاهر حسن العناية السابقة منهم أربعة أشياء الانفراد من الكونين والرضا بلقاء الله عن الدارين وإمضاء العيش مع الله بالحرمة والأدب فظهور أنوار قدرة الله منهم بالفراسات الصادقة والكرامات الظاهرة وباطن حسن العناية السابقة من الله في الأزل لهم أربعة أشياء : المواجيد الساطعة ، وانفتاح العلوم الغيبية ، والمكاشفات القائمة ، والمعارف الكاملة ، وفي كل موضع ظهرت هذه الأشياء بالظاهر والباطن صار صاحبها مشهورا في الافاق بسمات الصديقين وعلامات المقربين وخلافه المرسلين.

قال الحسن بن الفضل : سبقت العناية ، وظهرت الولاية.

وقال الجنيد : من سبق من الله إليه إحسان ؛ فإنه لا يزال ينتقل في ميادين المحسنين إلى أن يبلغ إلى أعلى مراتب أهل الإحسان بقوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦].

وقال الواسطي : أولئك قوم هداهم الله فهداهم بذاته وقدسهم بصفاته فسقط عنهم الشواهد والأعراض ، ومطالعات الأعواض ؛ فلا لهم إشارة في سرائرهم ، ولا عبارة عن أماكنهم وحجبهم عن الاستقرار في المواطن ؛ فلا لهم هم بأنفسهم ، ولا هم حاضرون في حضورهم بحضورهم.

وقيل : الحسنى العناية السابقة ، وهي خمسة أشياء : العناية ، والاختيار ، والهداية ، والعطاء ، والتوفيق ، فبالعناية وقعت الكفاية وبالاختيار وقعت الرعاية ، وبالهداية وقعت الولاية ، وبالعطاء وقعت الخلة ، وبالتوفيق وقعت الاستقامة والحسنى هذه السوابق.

وقال الواسطي في قوله : (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) : هم أهل الحقائق لا يحسون بضجيج أهل الدنيا ؛ لأنهم مصدودون عنها بما ورد على سرائرهم من وهج الحقائق فهم مترددون في منازلهم لا يقطعهم عن ذلك قاطع لانغماسهم في بحور الحقيقة ، ثم وصفهم الله بالأمن الدائم والحسن القائم بقوله : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) كيف يلحقهم الفزع ، وهم في مشاهدة جلال الحق مدهوشين والهين واصلين إلى مناهم غير محجوبين عنه بشيء من الحدثان ، والحق سبحانه يكون مرادهم يفعل كما يريدون.

٥٢٦

قال تعالى : (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) اشتهاؤهم في جمال الحق دوام المشاهدة بنعت الوصلة على السرمدية ، وهذا اشتهاء قلوبهم واشتهاء عقولهم كشف العلوم من معدن الصفات ، واشتهاء أرواحهم الاستغراق في بحار الذات ، واشتهاء أسرارهم الفناء بنعت البقاء ، والبقاء بنعت الفناء واشتهاء نفوسهم اللذة والحلاوة والخطاب والحسن والجمال والإدراك بنعت التحصيل من القدم في لباس الحسن.

قال ابن عطاء : للقلب شهوة ، وللأرواح شهوة ، وللنفوس شهوة ، وقد يجمع الله لهم في الجنة جميع ذلك ، فشهوة الأرواح القرب ، وشهوة القلوب المشاهدة ، والرؤية وشهوة النفوس الالتذاذ بالراحة.

قال الجنيد في قوله : (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) : اجتازوا عليها ، ولم يحسوا بها وما عرفوها لصحة قصدهم إلى اللقاء ، وللنزول في دار البقاء.

وقال الصادق : كيف يسمعون حسيسها ، والنار تخمد لمطالعتهم وتتلاشى برؤيتهم ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تقول النار للمؤمن يوم القيامة : جز يا مؤمن ؛ فقد أطفأ نورك لهبي» (١).

قيل في قوله : (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) : النفوس ثلاثة أشياء : أرواح وأشباح وقلوب ، فشهوة الروح الوصلة وشهوة القلوب اللقاء ، وشهوة النفوس الأكل والشرب والزينة ، وكل مبذول له بقدر همته وحظه يوصل إلى مناه ، وشهوته فيها خالدا مخلدا أبدا.

ثم وصف الله سبحانه جلال أهل قربه بحيث يحنيهم الملائكة السفرة الكرام البررة يدخلونهم حجال الوصال ، وشهودهم مشاهدة الجمال بقوله : (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣)) أي : هذا يوم الوصلة بلا فرقة ، وهذا يوم المؤانسة بلا وحشة ، وهذا يوم الراحة بلا محنة ، وهذا يوم العافية بلا بلية ، وهذا يوم كشف النقاب بلا حجاب ، وهذا يوم الخطاب بلا عتاب ، قيل : ميعاد أهل الجنة فيها الوصلة ، وميعاد أهل النار فيها القطيعة.

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ

__________________

(١) رواه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (٩ / ٣٣٩) ، والطبراني في «المعجم الكبير» (٢٢ / ٢٥٨) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (١ / ٣٤٠).

٥٢٧

مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥)) كان في علم الأزلية أن أرض الجنان ميراث عباده الصالحين من الزهاد والعبّاد والأبرار والأخيار ؛ لأنهم أهل الأعراض والثواب والدرجات ، وأن مشاهدة جلال أزليته ميراث أهل معرفته ومحبته وشوقه وعشقه ؛ لأنهم في مشاهد الربوبية ، وأهل الجنة في مشاهد العبودية.

قال سهل : أضافهم إلى نفسه وحلاهم بحلية الصلاح معناه : لا يصلح لي إلا ما كان لي خالصا لا يكون لغيري فيه أثر وهم الذين أصلحوا سريرتهم مع الله ، وانقطعوا بالكلية عن جميع ما دونه ، ثم بيّن سبحانه أن كلامه الأزلي يبلغ الصديقين إلى معادنه من رؤية الصفات والذات الأزلي بقوله : (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦)) مشاهدين جلالنا وجمالنا بهممهم العلية ، وقلوبهم الحاضرة وعقولهم الصافية وأرواحهم العاشقة ، وأسرارهم الطاهرة.

قال سهل : لم يجمع البلاغ لجميع عباده بل خصّ القوم العابدين ، وهم الذين عبدوا الله ، وبذلوا له مهجتهم ، لا من أجل عوض ، ولا لأجل نار ولا جنة بل حبّا له وافتخارا بما أهلهم من عبادتهم إياه.

ثم وصف الله سبحانه حبيبه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه أرسله رحمة إلى جميع خلقه بقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧)) إنما الفهم أن الله سبحانه أخبرنا أن نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول ما خلقه في الأول من جميع خلقه ، ثم خلق جميع الخلائق من العرش إلى الثرى من بعض نوره ، فإرساله من العدم إلى مشاهدة القدم رحمة لجميع الخلائق إذ الجميع صدر منه فكونه كون الخلق ذكر أنه سبب وجود الخلق ، وسبب رحمة الله على جميع الخلائق إذ هو سبب وجود الجميع ، فهو رحمة كافية ؛ وافهم أن جميع الخلائق صورة مخلوقة مطروحة في فضاء القدرة بلا روح حقيقية منتظمة لقدوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فإذا قدم في العالم صار العالم حيّا بوجوده ؛ لأنه روح جميع الخلائق.

قال الله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧)) (١) ، ويا عاقل إن من

__________________

(١) قال سيدنا الجيلي في كتاب «الكهف والرقيم في شرح بسم الله الرحمن الرحيم» ما نصه : الحقيقة المحمدية خلق العالم بأسره منها لما ورد في حديث جابر أن الله تعالى خلق روح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذاته وخلق العالم

٥٢٨

العرش إلى الثرى لم يخرج من العدم إلا ناقصا من حيث الوقوف على أسرار قدمه بنعت كمال المعرفة والعلم فصاروا عاجزين عن البلوغ إلى شط بحار الألوهية وسواحل قاموس الكبريائية فجاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إكسير أجساد العالم وروح أشباح العالمين بحقائق علوم الأزلية ، وأوضح سبل الحق لهم بحيث يجعل سفر الازال والاباد للجميع خطوة واحدة ؛ فإذا قدم من الحضرة إلى سفر الغربة بلغهم جميعا بخطوة من خطوات صحارى (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى) حتى وصل إلى مقام «دنا» فغفر الحق لجميع الخلائق لمقدمه المبارك فالكافر والمؤمن والذئب والظبي والبازي والحمام والجنة والنار والدنيا والاخرة في حيز رحمته ؛ لأنه كان رحمة أزلية أبدية قطرة من بحر رحمة الرحمن وغرفة غرفت من نهر الغفران.

قال أبو بكر بن طاهر : زين الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزينة الرحمة فكان كونه رحمة ونظره إلى من نظر إليه رحمة ، وسخطه ورضاه وتقريبه وتبعيده وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق ، فمن أصابه من رحمته ؛ فهو الناجي في الدارين عن كل مكروه ، والواصل فيهما إلى كل محبوب ، ألا ترى الله يقول : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧)) فكانت حياته رحمة ومماته رحمة كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حياتي خير لكم ، ومماتي خير لكم» (١).

وقال ابن عطاء : رحمة الدارين لمن تبعك ، وآمن بك ، والرحمة العاجلة لمن لم يؤمن بك بتأخير العذاب عنه إلى العاقبة.

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢))

قوله تعالى : (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠)) يعلم شكاية العارفين منه إليه بألفاظ مجهولة من مقام الأنس ، ويعلم ما في ضمائرهم من حقائق إشارات الحقيقة من أوصاف القدس ، يسليهم بهذا الخطاب أي : لا تجزعوا ، فحان وقت الوصال ، وكشف الجمال ؛ فكيف يخفى عليه ، وهو بمحبته أزعجهم إلى الحرية والانبساط.

قال الحسين : كيف يخفى على الحق من الخلق خافية ، وهو الذي أودع الهياكل أوصافها من الخير والشر والنفع والضر؟! فما يكتمونه أظهر عنده مما يبدونه وما يبدونه مثل ما

__________________

بأسره من روح محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الظاهر بالمظاهر الإلهية ، ألا ترى إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف سري بجسمه إلى فوق العرش وهو مستوي الرحمن ، انتهى.

(١) رواه البزار في مسنده (٥ / ٣٠٨) ، والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (٤ / ١٧٤) بنحوه.

٥٢٩

يكتمونه جل الحق أن يخفي عليه خافية من عباده محال ، والله أعلم.

سورة الحج

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١)) إن الله سبحانه نادى نداء الوعيد للناسين عهود الأزل ، ومشاهدة الأبد أي : أين أنتم أيها الغافلون عن بروز جلال عظمتي من حجاب الغيب في صحاري القيمة اتقوا عن عذاب فرقتي لكي تصلوا إلى جلال وصلتي ؛ فإن الأكوان والحدثان تزلزل عند ظهور أنوار كبريائي وسلطان بهائي فحقيقة التقوى الخروج مما دون الله بالله.

قال بعضهم : التقوى ألا يستغرقك شيء دون مولاك ، وهو الحرية ، وكل من طلب الجزاء لم يكن متقيا ، وإن كان وعد له عليه.

ثم وصف أهل شهود سطوات العظمة والكبرياء بالوله والهيمان والسكر والهيجان بقوله : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) يولهون في رؤية العظمة وجلال الهيبة ، ويهيمون في أودية أنوار الكبرياء والسلطنة.

قال جعفر : أسكرهم ما شاهدوا من بساط العز وبساط الجبروت وسرادق الكبرياء حتى ألجأ النبيين إلى أن قالوا : نفسي نفسي.

وقال الأستاذ : فمنهم من سكره سكر الشراب ، ومنهم من سكره سكر المحاب ، وشتان بين سكر وسكر ، سكرهم سكر أهل الغفلة ، وسكرهم سكر أهل الوصلة ، وإن سألتني من سكر أصحاب الوقائع في كواشف القدوسية ، وبروز أنوار السبوحية في مشاهد القيمة فسكر الأعداء من رؤية القهريات ، وسكر الموافقين من رؤية بدائع الأفعال ، وسكر المريدين من لمعات الأنوار ، وسكر المحبين من كشوف الأسرار ، وسكر المشتاقين من ظهور سنا الصفات ، وسكر العاشقين من مكاشفة الذات ، وسكر المقربين من الهيبة والجلال ، وسكر العارفين من الدخول في حجال الوصال ، وسكر الموحدين من استغراقهم في بحار الأولية ، وسكر الأنبياء والمرسلين من اطلاعهم على أسرار سر الأزلية ، فبعض السكارى واله

٥٣٠

في العظمة ، وبعض السكارى تائه في العزة ، وبعض السكارى غائب في الجمال ، وبعض السكارى فان في الجمال ، وبعض السكارى صاح في البقاء ، وبعض السكارى مضمحل في الكبرياء ، وبعض السكارى سكره من حلاوة الخطاب ، وبعض السكارى سكره من الانبساط ، وبعض السكارى سكره من العتاب ، وبعض السكارى سكره من كشف النقاب ، وبعض السكارى سكره من رؤية القدم في مرآة الالتباس ، وبعض السكارى سكره من وقوعه في صرف شهود الأزل ، فهؤلاء السكارى في منازلهم ، سكرهم مقادير مواردهم في شهود القرب ، وقرب القرب ؛ فمن كان سكره بغيره فهو غير سكران إنما هو مخبط حاله من رؤية الأحوال ، ومن كان سكره به فسكره من شراب الوصال ، فسكري هناك من سكري ها هنا به لا بما منه شرابي من رؤية صرف كنه القدم وغيري من العبّاد والزهّاد سكرهم من مشارب الكرم.

ألمّ بنا طيف يجلّ عن الوصف

وفي طرفه خمر وخمر على الكف

فأسكر أصحابي بخمرة كفه

وأسكرني والله من خمرة الطرف

وقال الحسين : أسكرهم رؤية الجلال ، ومشاهدة الجمال.

قال الحريري : ما أسكرهم إلا الهيبة والإجلال (١).

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤))

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) هؤلاء الناس أهل الخيال من المشبهة والمعتزلة وأمثالهم من الذين جادلوا في الله بالقياس والخيال المحال.

قال سهل : يخاصم في الدين بالهوى والقياس من دون الاقتداء ، فعند ذلك يضل ويبتدع.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما

__________________

(١) قد روي أن الشبلي قال : شربت بالكأس التي شرب بها الحلاج فصحوت وسكر الحلاج ، فبلغ ذلك الحلاج فقال : لو شرب بالكأس التي شربت بها لسكر كما سكرت ، فبلغ الجنيد أمرهما فقال : نقبل قول الصاحي على السكران ، فرجح حال الشبلي على حال الحلاج.

ولذلك قالوا : أكثر الشطح يكون من سكر الحال وغلبة سلطان الحقيقة ، فمن ثم من تم صحوه وخلص عن بقية السكر ونزلت في قلبه السكينة ستر الحقيقة بالعلم ، ووقف على حد العبودية ، فاعلم ذلك فإنه عزيز علمه ، إذ تنكشف به الالتباسات التي لم تزل خفية على أكثر أرباب القلوب.

٥٣١

نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠))

قوله تعالى : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) أرذل العمر أيام المجاهدة بعد المشاهدة ، وأيام الفترة بعد المواصلة لكيلا يعلم بعد علم بما جرى عليه من الأحوال الشريفة والمقامات الرفيعة ، وهذا غيرة الحق على دعوى المتحققين حين أفشوا أسراره بالدعاوى الكثيرة ، أستعيذ بالله من ذلك ، وأستزيد منه فضله وكرمه ليخلصنا به من فتنة النفس وعثرتها ، ويمكن أن ذلك يتعلق بالسير في عالم النكرات حين اختلطت بحار حقائق الربوبية في قلب العارف الصادق ، فيستغرق في لجج نكرات امتناع الأحدية عن إدراك الخليقة ، فيضمحل ما علم فيما لم يعلم من معرفة الذات والصفات فتحت نكراته معارف الألوهية ، وتحت المعارف نكرات غيرة الأزل فإذا خرج من الفناء في النكرة عن النكرة إلى مقام الصحو في المعرفة فيطلع على أسرار النكرة بأسرار المعرفة ، كما قال سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) يحييهم بالمعرفة بعد موتهم في النكرة ، وبحياة المشاهدة بعد موت الفرقة ، ولذلك ضرب الله مثلا في هاتين الحالتين كما قال سبحانه : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ).

وهذا ما وافق قول الواسطي في ذلك ، قال : اندرج ما علم منه بما بسط له وفتح عليه وضرب له مثلا (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) أي : ساكنة عن النبات حافية عن الخضر (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) أي : ظهرت عليه وردت ورويت ونمت ، (إِنَّ الَّذِي أَحْياها) [فصلت : ٣٩] بالنعوت (لَمُحْيِ الْمَوْتى) بالعلوم في الدنيا وبالأرواح في الاخرة.

وقال الأستاذ : أرذل العمر زمان الفترة بعد المجاهدة ، وحال الحجبة عقب المشاهدة ،

٥٣٢

ويقال : السعي للحظوظ بعد القيام بالحقوق ، ويقال : العشرة مع الأضداد.

ويقال : يحيى النفوس بتوفيق العبادة ، ويحيى القلوب بأنوار المشاهدة.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧))

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) على طمع وهوى ورؤية عرض وطمع كرامات ومحمدة الخلق ، وقيل : الدنيا وإذا أصابته أمانيه سكر في العبادة وإذا لم يجد شيئا منها ترك التحلي بحلية الأولياء ، قال تعالى في وصفه : (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ).

ثم بيّن حاله في الدنيا والاخرة بقوله : (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) خسرانه في الدنيا فقدان القبول والجاه عند الخلق ، وافتضاحه عندهم وسقوطه من طريق السنة والعبادة إلى الضلالة والبدعة ، وخسرانه في الاخرة بقاؤه في الحجاب عن مشاهدة الحق واحتراقه بنيران البعد.

قال الواسطي : (يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) على رهن التجنب واطمأن إليه.

قال بعضهم : على طمع أن يرى ثواب عمله أو يجازي على قدر أعماله.

وقال بعضهم : الخسران في الدنيا ترك الطاعات ، ولزوم المخالفات ، والخسران في الاخرة كثرة الخصوم والتبعات.

وقالت رابعة في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) : كيف يكون ما منك إليه عوضا لما منه إليك ، وما عنك إليه لا يكون إلا بما منه إليك؟!

٥٣٣

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢))

وقوله تعالى : (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) من أهانه الله في الأزل بقهره لا يكون عزيزا لعمله ولا بعزة غيره عزيز إذ العز كله لله تعالى ، قال الله تعالى : (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [النساء : ١٣٩].

وقال : من قدّر الله عليه الإهانة في السبق لا يقدر أحد على كرامته ؛ لأن لباس الحق لا يزول ولا يحول ، وهو على الدوام.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣))

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ) يدخل العارفين الذين لهم صلاحية مشاهدته واستعداد قبول معرفته إلى جنان قربه ووصاله ، قيل : هم الذين صدقوا الله في السر ، واتبعوا سنة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يبتدعوا بحال.

(وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤))

قوله تعالى : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) وصف من دخل جنات المشاهدة ، ورتعوا رياض المكاشفة عرفوا طيب الخطاب في مقام المداناة والمناجاة ، وكوشف لهم أنوار سبل الذات والصفات طيب الله ألسنتهم وقلوبهم بطيب ذكره وهداهم إلى سبل معرفته.

قال ابن عطاء : الطيب من القول هو ذكر الله.

وقال جعفر : هو الأمر بالمعروف.

وقيل : هو نصيحة المسلمين ، وقيل : هو قراءة القرآن.

قال الأستاذ : الطيب من القول ما صدر عن قلب خالص وسر صاف مما رضي به

٥٣٤

علوم التوحيد الذي لا اعتراض عليه للأصول ، ويقال : الصراط الحميد : ما كان طريق الاتباع دون الابتداع.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥))

قوله تعالى : (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) داره دار كرامته ومنزل أضياف المعرفة إذا كشف من بيته ما فيه من آياته الكبرى يصل بركتها إلى المقيم والمسافر وحضرته القديمة منازل المقيمين فيها بالأرواح من العارفين والمشاهدين والطيارين من حمائم أسرار الواصلين ، فالمقيم بقلبه هناك من أول عمره إلى آخر عمره والطارئ عليها لحظة من المكاشفين والمشاهدين ينكشف له ما ينكشف للمقيمين ؛ لأنه وهاب كريم يعطي للتائب من المعاصي ما يعطي المطيع المقيم في طاعته طول عمره.

قال محمد بن علي الترمذي : الفتوة أن يستوي عندك الطارئ والمقيم ، وكذا يكون بيوت الفتيان من ترك فيها ؛ فقد تحرم بأعظم حرمة وأجل ذريعة ، ألا ترى الله تعالى ذكره كيف وصف بيته (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ).

قال الأستاذ : بمشهد الكرام يستوي فيه الأقدام ؛ فمن وصل إلى تلك العقوة (١) فلا ترتيب ولا رد ، وبعد الوصول فلا زجر ولا صد (٢).

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧))

قوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) هذا لخليله وجميع أحبائه بيّنه ودله إلى ما فيه من الايات والكرامات ، وما ألبسه من أنوار حضرته ليكون وسيلة لعبادته ومرآة لأنوار آياته ، وأمره ألا يطلب في طلبه شيئا من غيره في طاعته من الجنة وما فيها وجعل بيته مثالا لبيته الخاص الذي هو قلب العارف في هذا الظاهر الايات وفي بيت الباطن أنوار الصفات ومشاهدة الذات ؛ فأمره أن يطهر بيت الظاهر والباطن من خطرات

__________________

(١) أي : تلك الخيرية.

(٢) انظر : تفسير القشيري (٥ / ١٨٥).

٥٣٥

النفسانية وخطرات الشيطانية بقوله : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦)) الطائفون : عساكر أنوار تجلي الحق وزوار وارد الغيب ، والقائمون : أنوار المعرفة والتوحيد ، والركع السجود : أنوار الإيمان والإسلام ، وأيضا الطائفون : ملائكة الإلهام ، والقائمون : الأرواح ، والركع السجود : العقول أي : طهر قلبك عن ذكر ما سواي حتى لا يشوش هؤلاء في قرار أنوار صفاتي وذاتي.

قال ابن عطاء في قوله : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ) : وفقناه لبناء البيت ، وأعناه عليه ، وجعلناه منسكا له ، ولمن بعده من الأولياء والصديقين إلى يوم القيامة ، وببناء فيه آثاره ، وأمرنا الخليل عند بنائه ألا يرى فعله وبناءه ، ولا يشرك بنا في ذلك شيئا.

قال بعضهم : في قوله : (طَهِّرْ بَيْتِيَ) : وهو قلبك ، (لِلطَّائِفِينَ) : وهي زوائد التوفيق ، (الْقائِمِينَ) : وهي أنوار الإيمان ، (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) : الخوف والرجاء.

قال جعفر بن محمد : (طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) : طهر نفسك عن مخالفة المخالفين والاختلاط بغير الحق ، (الْقائِمِينَ) : هم فؤاد العارفين المقيمون معه على بساط الأنس والخدمة ، (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) : الأئمة السادة الذين رجعوا إلى البدايات عن تناهي النهاية.

قال سهل : كما طهر البيت من الأصنام والأوثان وطهر القلب من الشرك والريب والغل والغش والقسوة والحسد ، ولما استقام الخليل في تجريد التوحيد أمره الحق بأن يدعو بلسان الخلد زوار الحضرة من أماكن الغيبية ومكامن العدمية بقوله : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً) دعاهم بلسان الحق لذلك أجابوه بالتلبية بقولهم : «لبيك اللهم لبيك» ، وتلك الإجابة من الأرواح القدسية من معادنها من الغيب عشقا ومحبة ، وهذه المعاني تدل على كون الأرواح قبل الأشباح يأتون مقام خلتك المحبين المفردين من غيرنا المتجردين من أنفسهم في زيارتنا (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) نفوس مهزولة بالمجاهدات ، (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧)) من كل طريق بعيد من الأوهام ؛ لأنهم في طرف الأسرار ونوادر الأنوار يأتونك من مقام المشاهدة إلى مقام المتابعة إظهارا للعبودية بعد كونهم في مشاهدة الربوبية.

قال ابن عطاء : رجالا استصلحناهم للوفود إلينا ، وليس كل أحد يصلح أن يكون وفدا على سيده ، والذي يصلح للوفادة هو اللبيب في أفعاله ، والكيس في أخلاقه ، والعارف بما يفديه ، وبما يرد ويصدر.

ثم ذكر سبحانه علة الدعوة ، وبناء الكعبة بقوله : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) أي :

٥٣٦

ليشهدوا بأرواحهم مشاهد قربنا ومشاهدتنا ، وما أعددنا لهم من علو المقامات وسني الدرجات.

قال ابن عطاء : ما وعدوا من أنفسهم لربهم ، وما وعده الله لهم من القربة.

قال جعفر : ليشهدوا الذي بيني وبينهم.

[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]

(لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩))

قوله تعالى : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) أمرهم بالتواضع في مؤاكلة الفقراء والمساكين أهل بؤس المجاهدات ، والافتقار إلى المشاهدات أي : أطعموهم من أطيب ما تأكلون ، ولا تؤثروا أنفسكم عليهم ؛ فإنهم لا يأكلون طعام البخلاء والمؤثرين هواهم على مرادنا ، وفيه إشارة إلى أهل روح وصال المشاهدة والمكاشفة أن يخبروا طلاب المعرفة والمحبة مما كوشف لهم من أحكام الملكوت ، وغيب الجبروت.

قال أبو عثمان : أدب أدّب الله به عباده ألا يطعموا الفقراء إلا بما كانوا يأكلون ، ولا يجعلوا لله ما يكرهون هو أن تشاركوهم في مأكلهم وملابسهم ومشاربهم لقوله : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا).

وقال ابن عطاء : البائس الذي تأنف من مجالسته ومؤاكلته ، والفقير من تعلم حاجته إلى طعامعك ، وإن لم يسأل.

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها

٥٣٧

صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦))

قوله تعالى : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) حرماته مقام الاتصاف والاتحاد ؛ فمن اتصف بصفاته ، وتوحد بتوحيد ذاته يقع في بحر الربوبية ، ويستغرق في لجج الديمومية ، وينكشف له أسرار السرمدية والأزلية ، ويسكر بشربات وشراب المشاهدة ، ويقتضي هذه أحوال له دعوى الأنائية من حلاوة مباشرة أنوار الأزلية بنعت التجلي والوصلة ؛ فمن كان هناك محفوظا بقي على نعت العبودية ، ولا يخفى على حرمات الحقيقة ؛ فهو خير له بأن يزيد حاله من الله سبحانه ، ويكون إماما في الصحو والتمكين مثل الخلفاء والنجباء يقتدي به سلاك الطريقة وملوك الحقيقة ، ومن خرج برسوم أهل السكر ، ويدع الأنائية يكون محترقا بنيران الغيرة ، مصلوبا على باب الهيبة والكبرياء والسلطنة ، وأيضا من شاهد مشاهدة الحق بنعت الانفراد عن الحدثان خالصا عن الجنان متبرئا من حظوظه التي يطمع فيها عند مشاهدة الرحمن ، فهو من أهل الحرمة في القربة ، ومن كان حبه لحظه ؛ فهو غير محترم في مقام الحرمة ، يا غافل الحرمة في العبودية تقتضي قرب الربوبية والحرمة في الربوبية يسقط علل الحدوثية.

قال الواسطي : من تعظيم حرمة الله ألا تلاحظ شيئا من كونه ، ولا من طوارق محنته ، ولا تلاحظ خليلا ولا كليما ولا حبيبا ، مادام تجد إلى ملاحظة الحق سبيلا.

وقال فارس : حرمات الله صفاته ، ومن تهاون بحرمات الأمر والنهي ؛ فقد تهاون بالذات ، وهو نفس النفاق.

قال ابن عطاء : الحرمة ثلاثة أوجه ؛ أولها : القطع من الموافقة ، ثم القطع من لذة المشاهدة ، وقال بعضهم : رؤية الأفعال وطالب الأعواض.

ثم ذكر سبحانه بعد ذلك مقام حرماته ، وبيّن أن من عظم أمره ؛ فقد عظم جلاله وعظمته بقوله : (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢)) بيّن أن تعظيم الله تعظيم شعائره يصدر من قلوب المتقين الذين هم في مشاهدة عظمة الله وجلاله وكبريائه في احتشامه وهيبته ، وتقوى القلوب هو الاجتناب عن سوء الأدب في العبودية والخجل والحياة في مشاهدة الربوبية.

قال سهل : تقوى القلوب هو ترك الذنوب ، وكل شيء يقع عليه اسم الذم.

قال الجنيد : من تعظيم شعائر الله التوكل والتفويض والتسليم ؛ فإنها من شعائر الحق في أسرار أوليائه ، فإذا عظمته وعظمت حرمته زين الله ظاهره بفنون الاداب.

٥٣٨

ثم وصفهم بالإخبات والتواضع والخنوع والخشوع في عظمته وجلاله وكبريائه وبشرهم بدوام وصاله بقوله : (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤)) ، ومن أوصاف المخبتين الفناء في العظمة والحياء في رؤية الكبرياء والخجل في مشاهدة الربوبية ، والتواضع في العبودية ، وكتمان الأسرار والبكاء في الخفية والسكون في الخلوة ، ومراقبة الله بنعت الهيبة.

قال ابن عطاء المخبت هو الذي امتلأ قلبه من المحبة ، وقصر طرفه عما دونه كما أن الفريق شغله نفسه عن كل شيء سوى نفسه كذلك المخبت لشغله مولاه عن كل شيء سواه.

وقال جعفر : (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤)) : من أطاعني ثم خافني في طاعته ، وتواضع لأجلي ، وبشر من اضطرب قلبه شوقا إلى لقائي ، وبشر من ذكرني بالنزول في جواري ، وبشر من دمعت عيناه خوفا فيحظوا بشراهم «إن رحمتي سبقت غضبي» (١).

ثم زاد سبحانه في وصفهم بوجل القلوب من معاينة أنوار الغيوب ، والصبر في المجاهدات ، وتطهير أنفسهم من الذنوب بقوله : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) إذا سمعوا خطاب الله من الله ، ولله من غير الله ، وجلت قلوبهم من رؤية عظمة الله ، والشوق إلى لقاء الله ، وغلبان محبة مشاهدة الله وقع السماع لهم على آذان أرواحهم المطربة من روح أنس الله العاشقة جمال قدس الله ؛ فتضطرب بين الأنس والقدس بنعت المحبة والشوق وتطير بجناح المعرفة إلى سرادق كبرياء المعروف ؛ فيسكن هناك وجلها ، واضطرابها فتسمع من الله خطابه ، وتطمئن بجماله ، قال تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد : ٢٨] ؛ فإذا سمع الذكر من غيره اقتضى الوجل ، وإذا سمع من الله اقتضى السكون والطمأنينة (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) الذين وصفهم الوجل والإخبات صبروا تحت موارد أنوار مشاهدته إذا أتت عليهم طوارقها بأثقال الربوبية لا يجزعون ولا يتحركون حتى يفنوا في كبريائه ويبقوا في بقائه.

قال ابن عطاء : هل رأيت ذلك الوجل عند سماع الذكر أو عند سماع كتابه أو خطابه أو هل أخرسك الذكر حتى لا تنطق إلا به ، وأصمك حتى لم تسمع إلا منه هيهات هيهات.

قال الواسطي : الوجل على مقدار المطالعة ربما يريه مواضع السطوة وربما يريه مواضع المودة والمحبة.

وقال أبو علي الجوزجاني : في قوله : (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) : التاركي الجزع عند حلول النوائب والمصائب.

__________________

(١) رواه البخاري (٦٩٦٨) ، ومسلم (٢٧٥١).

٥٣٩

قوله تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) فيه إشارة إلى ذبح النفس بالمجاهدات وزمها بالرياضات عن المخالفات وفداء الوجود للمشاهدات حتى لا يبقى للعارف في طريقه حظ من حظوظه ، وبقي الله مفردا من جميع الخلائق.

قال الوراق : الحكمة في «البدن» ، وما ذكر الله من شعائره فيه وحصول الخيرية هو تطهير بدنك من جميع البدع والمخالفات وقتلها بسيوف الخوف والخشية ، وأن تجعل التقوى شعارها ، والرضا دثارها ؛ فإذا فعلت ذلك كان لك فيه أوائل الخيرات ، وهو أن يفتح لك السبيل إلى الله ، وينور قلبك بنور اليقين ، ويطهر سرك عن طلب شيء سوى الله.

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧) إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥))

قوله تعالى : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) الإشارة فيه أن جميع الأعمال الصالحة من العرش إلى الثرى لا يلحق الحق نحو المراد منه ، ولكن يصل إليه قلب ، جريح من محبته ذبيح بسيف شوقه ، مطروح على باب عشقه.

قال سهل في قوله : (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى) : هو التبري والإخلاص.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ

٥٤٠