تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٧٤

تطمئن بذكر من لم يؤمنهم بل خوفهم وحذرهم.

قال الحسين : من ذكره الحق تحير في أزله اطمأن إليه في أبده.

وقال النهر جوري : قلوب الأولياء مواضع المطالع ، وهي لا تحرك ولا تنزعج بل تطمئن خوفا من أن يرد عليه مفاجأة مطالعة فتجده مترسما بسوء الأدب.

وقال الواسطي : هذه على أربعة ضروب :

فالأول : للعامة لأنها إذا ذكرته ودعته اطمأنت إلى ذكرها له فحظها منه الإجابة للدعوات.

والثاني : إطاعته وصدقته ورضيت عنه فهم مربوطون في أماكن الزيادات اطمأنت قلوبهم إلى ذلك فكانوا ممزوجين الملاحظة بشواهدهم ومقصودي الطبائع برؤية طاعاتهم.

والثالثة : أهل الخصوص الذين عرفوا الأسماء والصفات ، وعرفوا ما خاطبهم الله به ؛ فاطمأنت قلوبهم بذكره لها ألا بذكرها له وبرضاه عنها لا رضاها عنه.

والرابعة : خصوص الخصوص ، وهم الذين كشف لهم عن ذاته وعلمهم علم صفاته ؛ فأدرج لهم الصفات في الذات ، وأراهم أن ما تعرف إلى الخلق بأقدارهم وعلمهم أخطارهم ؛ فعلموا أن سرائرهم لا يقدر أن تطمئن إليه ولا يسكن إليه ، ومن كانت الأشياء في سره كذلك إلى ماذا يسكن ويطمئن؟ فلا يجد قلبه طمأنينة لقدر المكان إليه ، كلما عادت الزيادة عليه رآها حجابا لا يستطيع بالبر والنعم ؛ لأنها حجاب مستور وهباء منثور ، فإن عزمت الدخول في هذا المقام ؛ فاحتسب نفسك وأعظم الله أجرك.

وقال الأستاذ : قوم اطمأنت قلوبهم بذكر الله في الذكر وجدوا سلوتهم وبالذكر وصلوا إلى صفوتهم ، وقوم اطمأنت قلوبهم بذكر الله لهم ؛ فذكرهم الله بلطفه ، وأثبت الطمأنينة في قلوبهم على وجه التخصيص لهم.

ويقال : إذا ذكروا أن الله ذكرهم استروحت قلوبهم واستبشرت واستأنست أسرارهم ، قال الله تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) تقريرا لها على ما نالت بالله من الحياة.

قال بعضهم : قلوب أهل المعرفة لا تطمئن إلا بالله ولا يسكن إلا إليه ؛ لأنها محل نظره قيل اطمأنت إليه لأنها لم تجد دونه موضع أنسه وراحته.

وقال الروذباري : اطمأنت إليه ؛ لأنه جللها بالنور وشحنها بالأنس والسرور ؛ فاطمأنت إليه ثم أنه سبحانه لم يقنع بذكر الإيمان منهم حتى قرنه بالعمل الصالح بقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) أي : أبصروا بعيون أسرارهم أنوار آزال الازال ، وآباد الاباد وبها وصل إليهم من نور الأحدية أيقنوا ما لم يصل

٢٤١

إليهم منه بما وجدوا منه ، ثم اختاروه بما فيه أعمالهم بشرط فنائهم في أوليته وآخريته ، وذلك عملهم الصالح فأخبر من جزائهم.

وقال : (طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) أي : شجر القدم وذات القديم جل ثناؤه لهم ، وأغصان الصفات الأزلية الأبدية بشرط الكشف والمشاهدة مأوى أسرارهم وصل شجر الذات بوصف التجلي أكناف أرواحهم ، وهناك حسن ماب قلوبهم ، وأيضا أي : طوبى لمن هذا حاله مع الله وحسن رجوعه منه إليه ، وطوبى لمن كان عروس الأزل شاهد مجلسه طوبى لأعين قوم أنت بينهم فهن في نعمة من وجهك الحسن.

قال الجريري : طوبى لمن طاب قلبه مع الله لحظة من عمره ، ورجع بقلبه إلى ربه في وقت من أوقات.

وقال الشبلي : طوبى لمن غاب عن حضرته ، وحضر في غيبته وأصبح وأمسى مراعيا لسريرته.

وقال الجنيد : طاب أوقات العارفين بمعروفهم لذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وطيب القلب من النعيم» (١).

قال ابن عطاء : في قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) صدقوا ما ضمنت لهم من الرزق والعمل الصالح ما كان بريئا من الشرك والرياء والعجب.

قال الأستاذ : طابت أوقاتهم ؛ فطابت أنفاسهم.

ويقال : طوبى لمن قال أحق طوبى له ، ويقال : طوبى لهم في الحال ، ولهم حسن الماب في المال.

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠))

قوله تعالى : (قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ) لما لم ير الحق سبحانه أهلا لرؤية وحدانيته ، وإدراك حقائق توحيده من الخلق إلا سيد المرسلين صلوات الله عليه اختاره بالرسالة وإنشاء سر التوحيد ؛ فأمره أن ينزهه بلسان الحقيقة.

وقال : (قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أثبت ربوبيته حيث رباه بنور ذاته وصفاته ، ونفى غيره ولا غيره بالحقيقة دخل في بحر النفي ، بقوله : لا ووصل إلى جواهر وجود القدم والهوية فدار بسره بين دائرة هو واضمحل عن كينونية وجوده ؛ فتحرك سر طلب الأصل فيه ،

__________________

(١) لم أقف عليه.

٢٤٢

وعرف أنه لا يدركه بنفسه ؛ فاستعان بالأزل في معرفة الأزل ، واستعاذ به فقال : (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ) فلما عجز لكل عن حمل هذه المعاني ، وحمل السيد حمل جميعهم بالله صار من العالم غرض الكل ، لذلك قال : «لولاك لما خلقت الكون» (١) ، ولما قام مقام الكل فهو تعالى لم يبال بالكل ، وهذه كما قيل :

وكنت ذخر أفكاري لوقت

فكان الوقت وقتك والسلام

وكنت أطالب الدنيا لحر

فأنت الحر وانقطع الكلام

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤))

قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) عاتب المؤمنين بهذا القول أي : العتبى لهم بأن يطردوا من رؤية ربهم إلى معادن الأرواح ليعرفوا أهل الاصطفائية ممن دونهم من أهل الحجاب ، ولا يطيعون إلى إيمانهم ؛ فإن سرّ التقدير حريّ يمنعهم من مطالعة جماله.

قال الواسطي : هو على ما يقدر من تصحيح حكمه وأحكام قبضته ، ولا يبدل القول لديه.

قوله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) هو تعالى قائم على كل نفس قدر قوتها حمل أثقال ربوبيته ، وأنوار عظمته وتربية جوده وحفظه وعنايته ؛ فمن نفس قام عليه بفعله ، ومن نفس قام عليه بصفته من حيث كشف الصفة لها وكشف نور الفعل لها ، ومن نفس قام عليها بالذات من حيث كشف سبحات الذات لها ؛ فإن كسبت النفس عبوديته ؛ فهي في مشاهدة أنوار فعله ، وإن كسبت النفس محبته ؛ فهي في رؤية أنوار صفاته ،

__________________

(١) ذكره علي القاري في «المصنوع» (١ / ١٥٠) والعجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ٢١٤) بنحوه.

٢٤٣

وإن كسبت معرفته وتوحيده في رؤية سحاب أنوار ذاته ؛ فإن قصرت للنفس الأول في عبوديته بالتفاتها إلى حظها أخذها الحق بعقوبة المجاهدة ، وإن قصرت النفس الثاني في محبته بأنها استلذّت محبته ، ووقفت باللذّة عنه أخذها الحق بأن وقعها في بحر النكرة ، لكن الأخذ ها هنا الزيادة معرفتها لأنه سبحانه مشفق على النفس العارفة ، وهو تعالى أخذ هذه النفوس قائم بنعت حفظ أنفاسها في طلبها الحق.

قال الجنيد : بالله قامت الأشياء ، وبه فنيت ، وبتجليه حسنت المحاسن وباستنارته قبحت وسمحت.

قال محمد بن الفضل : لا تغفل عمن لا ينفك عنك وراقبه ، وكن حذرا.

قال الله : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) ثم بيّن سبحانه أن من لم يعرف المحيط بكل شيء القائم على كل نفس ممن دونه من الحدثان ، إن ذلك من قهره عليه وتزيين كفره في عينه بقوله : (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) زيّن الله مكرهم بمكره فيهم في الأزل في عيونهم حتى رأوه مستحسنا وهو من أقبح القبائح ؛ لأنه موضع هلاكهم وصدهم عن معرفته وحسن مشاهدته ، وكيف يخلصون بمكرهم من مكره ويعرف مساوئ مكرهم بعد أن زيّن الله مكرهم لهم ، قال تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ).

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧))

قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) أي : صفة الجنة التي وعد المتقون ، وهو جنة مشاهدة الذات تجري من تحتها أنهار الصفات ، ثمره ثمر أشجار الصفات والذات للمتجردين عن الحدثين دائم بأنهم يعينونها بلا حجاب ، ويعيشون في ظلال تجليها بلا غصة ولا حجاب ، تلك منازل أهل الأشواق إلى رؤية الملك الخلاق المتبرئين من الشرك والنفاق.

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا) مادام في حيز الحدوثية ، وإن رأى ما رأى عليه من أنوار الربوبية ووفق عليه بألا يلتفت إلى ما بدا في نفسه

٢٤٤

من أنوار الربوبية ، ويستقيم في حال العبودية ؛ فإن الربوبية في العبودية مكر الحقيقة ، ومن نظر من العبودية إلى الربوبية في نفسه فقد أشرك ؛ لأنه مخدوع بالله عن الله.

سئل أبو حفص عن العبودية ، قال : ترك كل مالك ، وملازمة ما أمرت به.

وقال أبو عثمان : العبودية اتباع الأمر على مشاهدة الأمر.

وقال ابن عطاء والجنيد : لا يرقى أحد من درجات التوحيد حق يحكم فيما بينه وبين الله أوائل البدايات ، وأوائل البدايات هي الفروض الواجبة ، والأوامر الزكية ، ومطايا الفضل ، وعزائم الأمر ، فمن أحكم على نفسه هذا منّ الله عليه بما بعده.

قال الله تعالى : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) أي : بيّنا حكم عربيا يا عربي ، وذلك الحكم ما حكمنا في الأزل بأنك خير البرية ، وأعطيناك استعداد قبول تخلقك بخلقنا واتصافك بصفاتنا ، فإذا اتصفت بصفتنا رأيتنا بنا وخرجت في مشاهدتنا من الالتفات إلى غيرنا من العرش إلى الثرى ؛ فوصفناك في كتابنا بقولنا : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) فتجريد توحيدك حكم عربي بيّناه منك لأمتك ؛ ليتصفوا بصفاتك ويتخلقوا بخلقك ، (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) حيث تخلقت بخلقنا.

قال بعضهم : أحكام العرب السخاء والشجاعة ، وهما من عرى الإيمان.

قال الحسين بن الفضل : في هذه الاية تصحيح حكم القيافة ؛ لأنه لا حكم ينفرد به العرب إلا حكم القيافة.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) وصف سبحانه تمكين نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رسالته ، كما وصف الرسل بالتمكين ؛ حيث لا يغيره صفات البشرية عن أسرار ما وجد من الله من حقائق القربة والمحبة ، بل الأزواج والذرية كانت له صلى‌الله‌عليه‌وسلم معينة في بحر سكره ، ولولا قسمته أبحر نسبوته متعلقة من تحت سفينة نبوته في بحار محبته ومعرفته ، لطارت تلك السفينة بصرصر رياح الأزل في هواء الأبد ، ولبقى الحدثان بلا عروس الرحمن ، ولم يظفر أحد بحقائق الإيمان.

٢٤٥

ألا ترى كيف قال عليه‌السلام من رأس سكره : «كلميني يا حميراء» (١) ، وذلك لأن الله أراد بقاءه بين الخلق ليرحمهم ، ويتجاوز عن سيئاتهم ولا يعذبهم ببركته.

قال الله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) وأعلم الجهال بهذه الاية أنه إذا شرف وليّا وصديقا بولايته ومعرفته ، لم يضر به مباشرة أحكام البشرية من الأهل والولد ، ولم يكن بسط الدنيا له قدحا في ولايته.

قال محمد بن الفضل : جعلنا لهم أزواجا وذرية ، فلم يشغلهم ذلك عن القيام بأداء الرسالة ونصيحة الأمة وإظهار شرائع الدين.

ويقال : أن من اشتغل بالله فكثرة العيال وتراكم الاشتغال لا يؤثر في حاله ولا يضره ذلك من وجه.

ثم بيّن سبحانه أن آيته ومعجزته وكرامته خارج عن تصرف الخلق وتعللهم ، وإن كان نبيّا أو صديقا أو ملكا ، بقوله : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) حسم أطماع المريدين عن طلب الكرامات بالمجاهدات ، ومنهم من التمسها عن المشايخ ، ثم بيّن سبحانه أنّ أوان ذلك بأجل معلوم في وقت معروف ، بقوله : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) لكل مقام ومرتبة من مراتب العارفين لها زمان عند الله سبحانه ، لا ينالها أحد قبل بلوغه إلى ذلك الوقت إلا بعد أن يكون مصطفى في الأزل بالدرجات والكرامات.

ألا ترى إلى قوله سبحانه : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) وأيضا لكل كشف من صفاته وذاته وقت في مراد الله من أوليائه ، وذلك الكشف من العيون الصفات والذات لا يكون للعارف إلا ويكون في قلبه شأن محو صفة من البشرية ، وإثبات صفة من العبودية وزيادة نور في إيمانه وعرفانه بالربوبية ، أيضا لكل مقدر في الأزل في قضية مراد الله من الربوبية والعبودية والنعمة البلية وقت معلوم في علم الله لا يأتي إلا في وقته.

قال جعفر الصادق في قوله : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) للرؤية وقت.

وقال ابن عطاء : لكل بيان ولكل لسان عبارة ، ولكل عبارة طريقة ، ولكل طريقة أهل ، فمن لم يميز بين هذه الأحوال فليس له أن يتكلم بالعرف والحقائق ، وعلم هذه الطائفة ومفهوم الإشارة إخبار الحق عن الصفتين الأزليين ، وهما الإرادة والعلم ، أي : إرادة في إنفاذ القضاء علم في ذاته في كيفية وقوع ما أراد وقوعه من أمور الربوبية ؛ فالكتاب علم ذاته يثبت إرادته في علمه ما يشاء ، يمحو ما يشاء من القضاء والقدر ، فبقي الكتاب كما كان في الأزل ،

__________________

(١) ذكره العجلوني في كشف الخفا (١ / ٣٥٧) ، وابن عجيبة في البحر (٢ / ٣٢٢) ، وحقي (١١ / ٩٣).

٢٤٦

وبقيت الإرادة كما كانت في الأزل ويتغير أحكام المقضيات والمقدورات للعباد بالعلم والإرادات ،

بقوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) يمحو بإرادته القديمة من نفوس المريدين صفات البشرية ويثبت في قلوبهم صفات الروحانية ، ويمحو من قلوب المحبين معارضة الامتحان ، ويثبت في أرواحهم حقيقة نور الإيقان ، ويمحو عن أسرار العارفين أوصاف العبودية ، ويثبت فيها أوصاف الربوبية ، وأيضا يمحو عن ألواح العقول صورة الأفكار ، ويثبت فيها نور الأذكار ، ويمحو عن أوراق القلوب علوم الحدثان ، ويثبت فيها لدنيات علم العرفان ، وأيضا ويمحو عن أرواح الصديقين أعلام المرسومات المكتبات ، ويثبت فيها نوادر الإلهيات في حقائق المراقبات ، وأيضا يمحو عن عيون العقول شواهد الايات ، ويريها أنوار الصفات ، وأيضا يخفي في القلوب أثار الصفات ، ويبدئ لعيونها أنوار الذات ، وأيضا يمحو بفضله خاطر الوسواسية والهواجسية عن قلوبهم الخاصة ، ويثبت فيها خواطر حقائق المعرفة ، وإذا كان أسرار أهل التوحيد في بحر التجريد بنعت التفريد سائحة فيغرقها الحق في بحار نكرات القدم تارة ، تبحيرها وفنائها ويغرقها في بحار معرفة الأزلية ببقائها مع الحق ومشاهداته ، فالفناء حق القدم يغلب على البقاء ، والبقاء حق الأبد فيغلب على الفناء ، وذلك من بدء نور الذات في الصفات ، وبدء نور الصفات في الذات ، لتلك الأسرار والصفات والذات أصل تلك الغرائب والعجائب بقوله : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) أم الكتاب المقدورات في الأفعال والصفات ، وأم الكتاب الصفات والذات ؛ لأن الكل منه بدأ وإليه يعود ، فما كان في كتاب الأفعال من القدريات يمحوه ويثبته ، وما كان في الذات والصفات منزه عن المحو والإثبات ، فكلّ متبدل ؛ فمن أم الكتاب يتبدل من المقدورات ، وكل محو ينهي ، فمن أم الكتاب ينهي.

قال الواسطي : منهم من جذبهم الحق ومحاهم عن نفوسهم بنفسه ، فقال : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) ، فمن فني عن الحق بالحق قيام الحق بالحق فني عن الربوبية فضلا عن العبودية.

وقيل : يمحو الله ما يشاء من شواهده حتى لا يكون على سره غير ربه ، ويثبت من يشاء في ظلمات شاهده حتى يكون غائبا أبدا عن ربه.

وقال ابن عطاء : يمحوا الله ما يشاء عن رسوم الشواهد والأعراض ، وكل ما يورد على سره من عظمته وحرمته وهبته ولذعات أنواره ، فمن أثبته فقد أحضره ، ومن محاه فقد غيبه والحاضر مرجوعه لا يعدوه ، والغائب لا مرجوع له ، يعدوه أو لا يعدوه.

قال الواسطي : يمحوهم عن شاهد الحق ويثبتهم في شواهدهم ، ويمحوهم عن

٢٤٧

شواهدهم ويثبتهم في شواهد الحق ، يمحوا اسم نفوسهم عن نفوسهم ، ويثبتهم برسمه.

قال ذو النون : العامة في قبض العبودية إلى أبد الابد ، ومنهم من هو أرفع منهم درجة غلبت عليهم مشاهدة الربوبية ، ومنهم من هو أرفع منهم درجة جذبهم الحق ، ومحاهم عن نفوسهم ، وأثبتهم عنده ، لذلك قال : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ).

وقال سهل : يمحو الله ما يشاء ويثبت الأسباب ، وعنده أم الكتاب القضاء المبرم الذي لا زيادة فيه ولا نقصان.

وقال ابن عطاء : يمحو الله أوصافهم ويثبت بأسرارهم ؛ لأنها موضع المشاهدة.

وقال الشبلي : يمحوا ما يشاء من شهود العبودية وأوصافها ، ويثبت ما يشاء من شهود الربوبية ودلائلها.

وقال بعضهم : يمحو الله ما يشاء يكشف عن قلوب أهل محبته أحزان الشوق إليه ، ويثبت بتجليه لها السرور والفرح.

قال جعفر : الكتاب الذي قدر فيه الشقاوة والسعادة لا يزاد فيه ولا ينقص ، (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩)) [ق : ٢٩].

ويقال : يمحو العارفين بكشف جلالهم ، ويثبتهم في وقت آخر بلطف جماله.

وقال الأستاذ : المشية لا يتعلق إلا بالحدوث والمحو ، والإثبات لا يكون إلا من أوصاف الحدوث ، وصفات الحق سبحانه من كلامه وعلمه لا تدخل تحت المحو والإثبات ، وإنما يكون المحو والإثبات من صفات فعله ، وقيل يمحوا الله عن قلوب مريديه همم الإرادات ، ويرتقي بهم إلى أعلى الدرجات.

قال الواسطي : يمحو ما يشاء عن رسمه ما أثبته في وسمه ، ويمحو ما يشاء عن وسمه ، وهم الأولياء وخاصة.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١))

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) ، وظاهر الاية معروف بفتح الأمصار لأهل الإسلام ، ولكن فيه إشارة عجيبة أنه تعالى إذا أراد بجلاله أن يزور عارفا من عرفائه ومحبا من أحبائه تجلى من ذاته وصفاته له ؛ فيقع أثار تجليه بنعت العظمة والكبرياء على الأرض فتروي الأرض من هيبة جلاله حتى تصير كخردله ، وذلك من غيبة من الخلق ، قال الله تعالى : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) يا ليت للعاشقين لو يرون ذلك

٢٤٨

لطاروا من الفرح به.

كما قيل : لو علمنا أن الزيادة حق لغرسنا الطريق بالياسمين ، وأيضا ينقصها من أطرافها ؛ لأن أوليائه وأوتاده في أطراف الأرض ، فإذا قبضهم نقص أطراف الأرض بقبضهم عنها.

ألا ترى إلى قوله عليه‌السلام : «في آخر الزمان لا يبقى صاحب موافق إلا في أطراف الأرض ، وكل واحد منهم في كل يوم أجر مائتي شهيد ، وإذا أراد خراب الأرض أوى أولياؤه إليه ، منها ليهلك أهلها بعدهم ؛ لأن دعاءهم وبركتهم أثبت أهل الأرض في عوافي ذلك من غيرة الله ، ولا مدفع لغيرته» (١) بقوله : (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ).

قال محمد بن علي : تخرب الأرضين بذهاب أهل الولاية من بينهم ؛ فلا يكون لهم مرجع على ولي في نوائبهم ومحنهم ويتواتر عليهم المحن والنائبات ، فلا يكون فيهم من يكشف الله عنهم بدعائه فتخرب.

وقال أبو عثمان : هم الذين ينصحون عباد الله ، ويحملونهم على طاعة الله ، فإذا ماتوا مات بموتهم من يصحبهم.

وقال أبو بكر الشاشي : شيء يسبغ عليهم الرزق ، ويرفع عنهم البركة.

وقال ابن عطاء في قوله : (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) أحكام الحق ماضية على عباده فيما ساء وسر ونفع وضر ، فلا ناقض لما أبرم ولا مضل لمن هدى.

وقال الأستاذ في قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) في كلام أهل المعرفة بموت الأولياء.

ويقال : هو ذهاب أهل المعرفة حتى إذا جاء مسترشد في طريق الله لم يجد من يهديه إلى الله.

(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢)).

قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) كل قصاراه منتهى ؛ لأنه سقط في عكره ومكره قائم على كل مسكر وله فعل لا بكل قوم مكر ؛ فمكره بالمريدين أن يزين لهم أعمال الطاعات ويجعلهم مسرورين بها ، ومكره بالمحبين سكونهم إلى راحات مواجيدهم ؛ فيجعلهم مستلذين بها فيصيروا محجوبين عما راؤها من مكاشفات جمال الحق ، ومكره بالعارفين أن يوقفهم على

__________________

(١) ذكر نحوه الهيثمي في مجمع الزوائد (٤ / ٣٤٨) ، وعزاه للطبراني.

٢٤٩

ما وجدوا ، حتى ظنوا أنهم واصلون إلى الكل ، ومكره بالموحدين أن يغرقهم في بحر البقاء ، ومشاهدة الأبدية ولا يطوق عليهم سطوات عزه القدم التي توجب الفناء في النكرة ، والفناء في نكرة النكرة ، ومن ثم في بحر النكرة ؛ فمكره أياسه من الرجوع إلى البقاء المذكور ، والكل في مكره ، ومكرهم من مكره ، ومكره وراء مكرهم يحتالون أن يخرجوا من مكره بمكرهم ، ولا يخرجون من مكره إلا بمكره.

قال الحسين : لا مكر بين من مكر الحق بعباده حيث أو همهم أن لهم سبيلا إليه بحال ، وللحدث اقتران مع القديم في وقت ، والحق بائن وصفاته بائنة إن ذكروا فبأنفسهم ، وإن شكروا فلأنفسهم ، وإن أطاعوا فلنجاة أنفسهم ، ليس للحق منهم شيء بحال ؛ لأنه الغني القهار.

قال ابن عطاء : المكر حقيقة ما مكر بهم الحق حتى توهموا أنه يمكرون ولم يعرفوا أنهم مكر بهم ، حيث سهل عليهم سبيل المكر.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣))

قوله تعالى : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) في الاية إشارة عجيبة ، أي : لو يطالبون شهيد بيني وبينكم بصدق رسالتي ؛ فانظروا فإني موضع شهود جمال الحق ، فإن ترونني بعين الحقيقة ترون جلاله وجماله وبهاءه في مرآة وجهي ؛ فشهود تجليه شاهدي ، وأيضا شاهدي من هذا حاله من الأولياء والصديقين ، ومن عنده ينكشف علم ذاته وصفاته وتصديق ذلك إشارته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله :

«من رآني فقد رأى الحق ، ومن عرفني فقد عرف الحق» (١).

وأيضا (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) يعني : علم إشارات الله من أزله في كتابه ، يعني لطائف الحروف المتشابهة المشيرة إلى دقائق أسراره وملكوته وحقائق جبروته ، أي من علم الكتاب ولهم سر الخطاب بلا واسطة من حيث الكشف والإلهام والمشاهدة والكلام ، متحققا في هذه مشاهدته وشاهدته وشاهد آيات رسله نائب أنبيائه وسفير الحق إلى خلقه ، له لسان العجائب من علوم الإلهية وغرائب حقائق الربوبية ، وله لسان الخصوص من المعرفة والتوحيد ، وله لسان خصوصية الخصوصية من بيان النعوت والأسماء والأوصاف والصفات وأبناء الغيب ، وغيب الغيب والفراسات الصادقة ، والايات الواضحة.

__________________

(١) رواه البخاري (٦٥٩٥) ، ومسلم (٢٢٦٧) ، وأحمد في مسنده (٣ / ٥٥) بنحوه.

٢٥٠

قال عليه‌السلام في وصفهم : «إنّ في أمتي محدّثين مكلّمين ، وإنّ عمر منهم» (١).

وله لسان العموم في علم المقامات من الصدق والإخلاء ، والفرق بين الإلهام والوسواس والرياضات والمجاهدات وبيان عيوب النفس ومداواتها ، وهو لسان الحق في العالم إذا نطق نطق الحق ؛ لأن الحق نطق به.

قال سهل : الكتاب عزيز ، وعلم الكتاب أعز ، والعمل بعلمه عزيز ، والإخلاص في العمل أعز ، والإخلاص عزيز ، والمشاهدة في الإخلاص أعز ، والمشاهدة عزيزة ، والموافقة في المشاهدة أعز ، والموافقة عزيزة ، والأنس في الموافقة أعز ، والأنس عزيز ، وأدب محل الأنس أعزّ.

***

سورة إبراهيم

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤))

(الر) في الألف ثلاثة أحرف ألف ولام وفاء ، والإشارة فيها إلى ألفته لقلوب أوليائه ، واللام لام الولاية ، كأنه أليف أوليائه ، والراء إشارة إلى رحمة السابقة في اصطفائيته ، كأنه قال بالألف إنا ، وباللام الأزل ، أي أنا في الأزل رحمة أوليائي واصطفيتهم لرؤية جمالي وراحة وصالي لهذه الصفات التي سبقت في اصطفائيته واصطفائيته أمرك وأخبرتك ومحبة أمتك ، وما أخبرت بإشارة (الر).

(كِتابٌ) إن هذا كتاب مجتبي ، (أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) لتعلم فضيلتك وفضيلة أمتك ، (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) إذا عرفناهم سبق عنايتي لهم تخرجهم بنور

__________________

(١) ذكره القرطبي في «التفسير» (١٣ / ١٧٤) ، وابن عجيبة في «البحر المديد» (٢ / ٧١).

٢٥١

كلامي وأخباري عن كرمي ورحمتي عليهم عن ظلمات طبيعتهم ، وغواشي غفلتهم إلى سعة فضاء كرمي ونور بسطي وانبساطي ، وأيضا تخرجهم من ظلمات الظنون إلى نور اليقين ، وأيضا من ظلمات العدم إلى أنوار القدم ، ومن ظلمات النفس الأمّارة إلى نور المشاهدة ، ومن ظلمات المجاهدة إلى نور المكاشفة ، ومن ظلمات رؤية غيري إلى نور رؤية قربي.

قال جعفر في قوله : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ) (١) : عهد خصصت به فيه بيان سالف الأمم ونجاة أمتك ، أنزلناه إليك لنخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، ومن ظلمات البدعة إلى أنوار السنة ، ومن ظلمات النفوس إلى أنوار القلوب.

قال أبو بكر بن طاهر : من ظلمات الظن إلى أنوار الحقيقة.

قال أبو حفص : الظلمة رؤية الفعل والنور رؤية الفضل.

قال الأستاذ : من ظلمات الجهل إلى نور العلم ، ومن ظلمات التدبير إلى فضاء شهود التقدير ، ومن ظلمات التفرقة إلى أنوار الجمع ، ثم إخراج الهداية من علة الكسب بقوله تعالى : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) ثم بيّن ذلك النور بأن هذا (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) وهو طريق العبودية الذي اصطفاه الحق لعرفان الربوبية على قدرهم لا على قدره ؛ فإنه عزيز ممتنع عن مطالعة الحدث حقائق قدمه ، وهو محمود في أفعاله وذاته وصفاته بألسنة أحبائه بما أنالهم عبوديته وهداهم إلى ربوبيته.

ثم وصف نفسه بالألوهية التي بدأ منه الكل وإليه يرجع الكل ، وما كان وما سيكون ، وما هو حاضر من الملك والملكوت في تصرفه وتدبيره ، يهدي فيه ويهدي به ، وبما فيه من دلائل صنعه وربوبيته عافيه إلى مشاهدة جلاله وعظيم كبريائه بقوله : (اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فيه إشارة إلى أحبائه أي أن الكون وما فيه لي من أراد ذلك ؛ فليسأل مني لا من غيري ، ومن أرادني فلا يلتفت إلى مالي.

قال الواسطي : الكون كله له ، فمن طلب الكون فإنه المكون ، ومن طلب الحق وحده سخر له الكون بما فيه.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) وصف الله المرائين الذين

__________________

(١) قال الأستاذ : أقسم بهذه الحروف : إنّه لكتاب أنزل إليك لتخرج الناس به من ظلمات الجهل إلى نور العلم ، ومن ظلمات الشّكّ إلى نور اليقين ، ومن ظلمات التدبير إلى فضاء شهود التقدير ، ومن ظلمات الابتداع إلى نور الاتباع ، ومن ظلمات دعاوى النّفس إلى نور معارف القلب ، ومن ظلمات التفرقة إلى نور الجمع بإذن ربهم وبإرادته ومشيئته ، وسابق حكمه وقضائه إلى صراط رحمته ، وهو نهج التوحيد وشواهد التفريد ، تفسير القشيري (٤ / ٢٤).

٢٥٢

يؤثرون جاه الدنيا ورياستها على طلب الولاية وشرفها ، ويصدون المريدين عن طريق القاصدين إلى الله ويصرفون وجوههم إليهم (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) في ظلمات القهر ولا مخرج لهم منها أبدا.

قال أبو علي الجوزجاني : من أحبّ الدنيا حرم عليه طريق الاخرة ، ومن طلب الاخرة حرم عليه طلب طريق نجاته ، ومن طلب طريق النجاة حرم عليه الوصول إلى التفضل.

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) لكل نبي وصدّيق اصطلاح في كلام المعرفة ، وطريق المحبة مع قومهم فيعرفهم طريق الحق باصطلاحهم الذي يعرفه قومه وأصحابه تسهيلا لسلوكهم وتيسيرا لإدراكهم ولو تكلموا بلسان الحق والحقيقة لم يعرفوا ذلك فهلكوا ؛ فيفتح تلك الحقائق لمن يشاء من المريدين ، ويحجب من يشاء منهم عنها غيره عليها بقوله تعالى : (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦))

قوله تعالى : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) فيه إشارة أن أيام القدم وأيام البقاء ، أيام القدم أولية الأولية المنزّه عن دهر الدهار ، والزمن الأثار ، كان في كان قبل كان وكما كان فيما كان الان ؛ فعشق بنفسه على نفسه ، وكان عروس نفسه ولم يكن في كان إلا كان ؛ فمضى على كان أيام قدم كان بلا عشق ملهوف ، ولا محب معروف ، ولا حيران سكران ، ولا عارف مكاشف ، ولا مؤنس مستأنس يتمتعون بجمال القدم في القدم فيا ويلتا من وصال فائت منّا ، وجمال غائب عنّا تذكرت أياما ودهرا صالحا ؛ فبكيت حزنا فهاجت حزني.

وأما أيام البقاء آخرية الاخرية بلا مرور الحدثان ولا علة الأكوان والأزمان بقاء سرمدي وجمال أحدي ووصال أبدي ويبقى لشهود عشاقه ومطالعة جمال أهل أشواقه كأنه قال ذكرهم أيام القدم ليفنوا حسرة على ما فات عنهم.

على ما فات أبكي من حياتي

وأيام مضت في النزهات

وذكرهم أيام البقاء ليبقوا

من فرح وجد إنها أبدا

دنا وصال الحبيب واقتربا

وأطربا للوصال وأطربا

٢٥٣

وأيضا أي : ذكرهم أيام وصال الأرواح في عالم الأفراح ، حيث كاشفت قناع الربوبية عن جلال وجد الصمدية لها حتى عشقت بجمالي وبقيت في وصالي وذاقت طعم محبتي من بحر قربتي ما أطيبها ، وما ألذّها حين كلّمتها بعزيز خطابي ، وعرّفتهم حقائق جمالي ، فقلت : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] من غاية محبتي وشوقي لها ، قالوا : بلى من شوقي ومحبتي أين تلك الأرواح حيث باعدت من مزار الوصال ، وأيام الكشف والجمال ؛ ليذكروا زمان الصفاء ولطائف الوفاء ؛ ليزيدوا شوقا على شوق ، وعشقا على عشق.

وكانت بالعراق لنا ليالي

سلبناهن من ريب الزمان

جعلنا من تاريخ الليالي

وعنوان المسرة والأماني

وأيضا ذكرهم سرور مشاهدتي وخوفيهم عن مقاطعتي ؛ فإن شأنهما عظيم وخطرهما جسيم.

نهايات راحات النفوس وصالها

وغايات لذات العيون لقاؤها

واشوقاه إلى تلك الأيام الصافية عن كدورة البشرية

واشواقاه إلى أيام كشف النقاب بلا علة العتاب

كان لي مشرب يصفو برؤيتكم

فكدرته يد الأيام حين صفا

ثم بيّن سبحانه أن فوت أيام القدم رزية عظيمة لكل صبّار في الفراق ، وإن رجاء وصول أيام البقاء سرور عظيم لكل شكور أنعام المشاهدة والمعرفة بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).

قال بعض المشايخ : ذكرهم بأيام الله وهي ما سبق لأرواحهم من الصفوة وتعريفه التوحيد قبل حلولها في الأشباح.

سقيا لها ولطيبها ولحسنها وبهائها

أيام لم يلح النوى بين العصا ولحافها

ويقال : ذكرهم الله بأيام الله هي أيام التي كان العبد فيها في كتم العدم ، والحق يقول بفعله الأزلي عبادي ولم يكن للعبد عين ولا أثر ولا للمخلوق منه خبر ، حين لا وفاق بعد ولا شقاق ولا وفاء ولا جفاء ولا جهد للسابقين ولا عناء ولا ورد للمقتصدين ولا بكاء ولا ذنب للظالمين ولا التواء ، كان متعلق العلم ، متناول القدرة ، مقصورا الحكم على الإرادة ، ولا علم له ولا اختيار ولا زلة ولا أوزار ، إن في ذلك لايات لكل صبار شكور.

٢٥٤

قال الأستاذ : الصابر غريق المحن لكنه راضي بحكمه ، لذيذ العيش بسره ، وإن كان مستوجبا لرحمته عن خلقيه ، والشكور غريق المنن ، لكنه محجوب بشهود النعم عن استغراقه في ظهور حقه ، بل هذا واقف مع صبره ، وهذا واقف مع شكره ، وكل ملازم بحده وقدره ، والله غالب على أمره مقدس في نفسه متعزز بجلال قدسه.

قال أبو الحسن الوراق : في هذا الاية فتح عليهم سبيل الشكر لئلا تغيروا بالنعم.

وقال : عرفهم أن الوقوف مع النعمة يقطع عن المنعم.

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩))

قوله تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) علق زيادة نعمه عليهم بزيادة شكرهم ، ولا علة لفضله وكرمه ، ولا تعلق لفيضه بكسب عباده وشكرهم وصبرهم ، بل شكرهم وصبرهم من توفيقه لهم ، أن من عرف عجزه عن شكري لأزيدنّ معرفته بي ، ولعجزه عن إدراك حقيقة معرفتي ، وحقيقة شكري يكون عبدا شاكرا.

وهذا القول الحسين حين قال : إني عجزت عن موضع شكرك فأشكرك فأشكر عني ؛ فإنه الشكر لا غير.

وهذا اعتراف داود عليه‌السلام فقال : إلهي لكل شكر شكر ، لأنه يكون بتوفيقك ؛ فعجزت عن شكرك فقال سبحانه : «الان شكرتني يا داود» (١) أيضا لئن شكرتم اصطفائيتي لكم بمعرفتي في الأزل ، وتعرفون حقيقتها لأزيدنكم بكشف مشاهدتي لكم حتى تعاينونني وتبصرونني بعيون المعرفة ، والقلوب الخالصة ، والأرواح العاشقة ، والعقول المتميزة في جلالي.

قال حمدون : شكر النعمة أن ترى نفسك فيه طفيلا.

قال بعضهم : من شكر النعمة زاده من أنعمه ، ومن شكر المنعم زاده معرفة به ومحبة له.

وقال ابن عطاء : لئن شكرتم هدايتي لأزيدنكم خدمتي ، ولئن شكرتم خدمتي لأزيدنكم مشاهدتي ، ولئن شكرتم مشاهدتي لأزيدنكم ولايتي ، ولئن شكرتم ولايتي

__________________

(١) ذكره القرطبي في «التفسير» (٩ / ٣٤٣) ، وابن كثير في «التفسير» (٣ / ٥٣٠).

٢٥٥

لأزيدنكم رؤيتي.

وسئل ابن عطاء عن قوله : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) قال : إذا وردت الأشياء إلى مصادرها من غير حضور منك لها فقدتم الشكر.

وقال الجوزجاني : لئن شكرتم الإسلام لأزيدنكم الإيمان ، ولئن شكرتم الإيمان لأزيدنكم الإحسان ، ولئن شكرتم الإحسان لأزيدنكم المعرفة ، ولئن شكرتم المعرفة لأزيدنكم الوصلة ، ولئن شكرتم الوصلة لأزيدنكم القرب ، ولئن شكرتم القرب لأزيدنكم الأنس.

وقيل : إني خلقتكم لأزيدنكم الأنس بعد الوحشة ، والقرب بعد البعد ، والحضور بعد الغيبة.

قال الواسطي : ذكر الزيادة حجبهم عن الحقيقة ، ثم كشفت الحقيقة لأقوام متواجدين ، فقال : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ) [الكهف : ٢٨] (بالغداة والعشي يريدون وجهه) ، لا الزيادة ، وفضله ولا حنته وبره ، بل الحصول مع الملك في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

ويقال : لئن شكرتم وجود الطافي لأزيدنكم شهود أوصافي.

ثم بيّن سبحانه استغناءه عن شكر الشاكرين ، وصبر الصابرين ، وإيمان المؤمنين ، وكفران الكافرين ، بقوله تعالى : (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) وصف تنزيهه وغناه وحمده وفيه إشارة ، أي مادام أنا مستغن عن الأكوان والحدثان ، فلا أبالي بغفرانهم وإن أدخلهم جميعا في بحار رحمتي ، فإني حميد حمدت نفسي قبل وجود خلقي ؛ لأني علمت عجز خلقي عن حمدي.

قال أبو صالح الغني على الحقيقة : من لم يزل غنيّا ولا يزال غنيّا ، ما زاده إيجاد الخلق غنى ، بل خلقهم على حد الافتقار ، وهو الغني الحميد.

وقال الواسطي : ليس الإيمان بمقرب إلى الحق ، ولا الكفر بمبعد عنه ، ولكن جرى ما جرى به الأمر في الأزل بالسعادة والشقاء ، فظاهر الكفر والإيمان أعلام لا حقائق ، والحقائق القضاء الذي سبق الدهور والأزمان.

(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠))

٢٥٦

قوله تعالى : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) علم الحق سبحانه أن الأعين للحدث يرى بها القدم صدقا ؛ فنصب أعلام قدرته لتراه عين الحدث بواسطة القدرة ، فقال : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فطرها بقدرته وإبداعها بعزته ، وألبسها أنوار جلاله وهيبته ، يدعوكم من نفوسكم إلى رؤية جماله في آياته ، فتنظروا إليها بأبصار فأذن وقلوب حاضرة.

ثم رقّاهم إلى أعلى الدرجات من رؤية أنواره وقدرته في خلقه إلى مشاهدة عيان ذاته ؛ وذلك قوله : (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ) وقع الغفران على النظر منهم إليه بواسطته آياته.

وأي ذنب أعظم من طلبه بواسطة من الكون ، حار الوجود في وجوده ، وغاب وجوده في وجوده ، فضلا عما أوجده في الوجود ، وأيضا يدعوكم إلى معرفته ؛ لتعرفوا بمعرفته نفوسكم وذنوبكم ، وإذا وقعت المعرفة عنكم ارتفعت ذنوب تقصيركم في طاعته ، وإدراك عزته.

قال النوري في هذه الاية قال : دعا الخلق بنفسه إلى نفسه ، وذكر من أسمائه فاطرا ؛ لئلا يتعلقوا بشيء من الأكوان.

وقال : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إن أردتم ما فيها فهو عندي ، وإن أردتموني فلا تلتفتون إليهما وارجعوا منهما إليّ.

وقال بعضهم : ما دعا الله أحدا إليه ولا الأنبياء ، وإنما دعا من دعا لحظوظهم.

قوله تعالى : (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١))

قوله تعالى : (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ووقعت التسوية على السواد والخيال ، ولكن يختار برسالته ونبوته وولايته من يشاء من عباده الذين سبقت لهم حسن العناية في الأزل بما وهب لهم من خلع استعداد معرفته ، وقبول عبوديته ، ورقية مشاهدته ، الأول تعريف التواضع ، والاخر تشريف الحقائق.

قال أبو عثمان : منّ الله على خواص عباده ما فات الإحصاء والعد ، فأول منّة له عليهم التوحيد ، ثم المعرفة ، ثم أن بعث فيهم الرسل ، ثم أن سماهم عباده ، ثم له عليهم في كل نفس نعمة عرفوها أو لم يعرفوها.

٢٥٧

وقال سهل : يمنّ على من يشاء بتلاوة كلامه والفهم فيه.

وقال الأستاذ : ما نحن إلا أمثالكم ، والفرق بيننا أنه منّ علينا بتعريفه واستخلصنا أفردنا به من تشريفه.

(وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣))

قوله تعالى : (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) أخبر الله سبحانه عن الرسل اعترافهم في آخر الاية الماضية بالعجز عن التصرف في مملكته إلا بإذنه ، وعن براءتهم عن حولهم وقوتهم في ظهور المعجزة وبين اعترافهم ، أيضا بعجزهم في تحمل إيذاء قومهم ورجوعهم إليه.

وقال : (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) بعد أن عرفنا نفسه وأنوار ذاته وصفاته بأنه معين أوليائه وناصر أصفيائه ، توكلنا عليه لمعرفتنا به وما خصنا من لطائف وجوده ومشاهدته ، وقد هدانا سبلنا ، أضاف السبل إليهم ولبس السبل لهم ولكن السبل له.

قالوا : ذلك انبساطا أي مهّد لأرواحنا سبلا إلى نفسه ، ومعرفة شأنه ؛ فإذا سلكنا تلك السبل ورأيناه وراء السبل ، وعرفنا ذاته وصفاته نتوكل عليه به لا بنا.

قيل للحسين ما التوكل عندك قال : الخمود تحت الموارد ، وقال : سماعهم الأصم في قوله : (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) وقد هدينا سبلنا ، قال : ما لنا لا نثق بالله وقد أعطانا الإسلام والهدى.

وقال أبو العباس وابن عطاء : التوكل على التجارب خدعة ، والتصديق على مطاهرة الوجود لبسته.

قال الأستاذ : ما لنا ألا نتوكل على الله وقد وقانا من تكليف البرهان إلى وجود روح البيان بكثرة ما أفاض علينا من جميل الإحسان وكفانا من مهمات الشأن.

(وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ

٢٥٨

أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١))

قوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) (١) إذا أخرج الأمر جل جلاله على وفق مراد العارف ، جعل ذلك منه عليهم ، ثم طلب منهم شكر المنّة بوصف الطالعة والمتابعة ، وزجرهم عن عصيانه ، وخوفهم عن وعيد قرآنه ، وعظيم مقامه عليهم بوصف الإحاطة على وجودهم وأسرارهم وضمائرهم لئلا يزول منهم بالغفلة عنه ، ومقامه بالتفاوت ؛ فمقامه على المريدين بالزجر والتهديد ، ومقامه على المحبين بالهيبة والتعظيم ، ومقامه على العارفين بالإجلال والحياء ، ومقامه على الموحدين بغلبات سطوات الكبرياء على قلوبهم ، ومقامه على أهل الأنس والشوق والعشق على نعت كشف مشاهدة جماله وجلاله.

وها هنا الخوف من مقامه ووعيد مفارقته ، ووداعه منظر قلوب المستأنسين حتى تكون خاليه عن كشف مشاهدته ، وأدق الإشارة فيه أن مقامه القدم في القدم ، والبقاء في البقاء ، وذلك المقام معدن الألوهية ، ومنبع السرمدية ، والخوف من ذلك الهيبة والإجلال ، وهذا المقام مقام الربوبية في الربوبية ؛ لأن الحدث يتلاشى في بوادي سطوة عزته تعالى الله عن كل علة حدثانية.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) خلق الكون بحق إرادته القديمة ، والمشيئة السابقة التي سبقت بكون الكون في الأزل ، وأيضا علم الكون حقا في الأزل ؛ فأظهر الكون بحق العلم والإرادة والمشيئة إظهار الحق حقيقة ، ولحقوق ربوبيته وعرفانه من أهل عبوديته كأنه خاطب لرؤية تلك الحقائق ثم ارتقى من رؤية الحقيقة إلى رؤية عين الحقيقة بقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ) ثم نزل من الذات إلى الصفات ، ومن الصفات إلى الأفعال ، وقال : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) فرؤية أنوار فعله للعقول ، ورؤية أنوار صفاته للقلوب ، ورؤية أنوار ذاته للأرواح ، ورؤية أنوار عين الحقيقة للأسرار.

__________________

(١) أي : قيامه للحساب بين يدي في القيامة ، أو قيامي على عبادي ، وحفظي لأعمالهم ، واطلاعي على سرهم وعلانيتهم ، أو خاف عظمة ذاتي وجلالي ، (وخاف وعيد) أي : وعيدي بالعذاب ، أو عذابي الموعود للكفار. البحر المديد (٣ / ١٩٢).

٢٥٩

وقال سهل : خلق الأشياء كلها بقدرته وزينها بعمله وأحكمها بحكمه ؛ فالناظر من الخلق إلى الخالق يتبين له من الخلق عجائب الخليقة ، والناظر من الخالق إلى الخلق يكشف له عن أثار قدرته وأنوار حكمته وبدائع صنعه.

وقال بعضهم : خلق السموات عالية على الأرضين مرتفعة عليها ، وجعل عمارة الأرضين من بركات السماء وما يصل إليه منه ، كذلك خلق النفوس وجعل القلوب أميرا عليها ، وجعل نجاة النفوس وراحتها فيما يصل إليها من بركات القلوب ؛ فمن طهر قلبه لاستطلاع المشاهدة أتته الفوائد ، والزوائد من الحق في جميع الأوقات.

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣))

قوله تعالى : (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) أخبر الحق عن كمال شرك إبليس حيث نسي الله نبعت إسقاط قدرة كل قادر غيرة في مقام المؤاخذة بقوله : (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) فسقوط النظر عن نفسه مع رؤية الغير في البيّن شرك ، ولو كان في مقام على حد تحقيق التوحيد ما لام أحد ولا نفسه وما رأي في البيّن غير الله.

ألا ترى إلى قول الواسطي : من لام نفسه فقد أشرك ، ومقام الملامة مقام المريدين لاموا أنفسهم بميلها إلى هواها ، وتكاسلها عن عبادة خالقها ، وذلك الملامة من طريق المعرفة والتوحيد ، وإفراد القدم عن الحدوث ؛ لأن هناك تسقط الوسائط وتندرس الرسوم ، وتنطمس طرق الأسباب.

قال محمد بن حامد : النفس محل كل لائمة فمن لم يلم نفسه على الدوام ورضي عنها في حال من الأحوال فقد أهلكها.

قوله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) السلام اسم من ألطف أسمائه ، كأنه محل التثنية ؛ فأهل الجنة من العارفين يدعونه بهذا الاسم لوجدانهم مشاهدته بنعت العوافي من المجاب ، فإذا أرادوا تحية بعضهم على بعض فيشيرون بعضهم بعضا سلام ، أي هذا هو مشاهدة السلام ، كأنهم في مشاهدته ليشير بعضهم على بعض إلى جماله وجلاله ، وإذا حيوا بهذه التحية

٢٦٠