تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٧٤

(٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١))

قوله سبحانه وتعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)) الجهال يرون الأشياء بأبصار الظاهر وقلوبهم محجوبة عن رؤية حقائق الأشياء التي هي تلمع منها أنوار الذات والصفات ، أعماهم الله بغشاوة الغفلة وغطاء الشهوة.

قال سهل : اليسير من نور بصر القلوب يغلب الهوى والشهوة ؛ فإذا عمى بصر القلب عما فيه غلبت الشهوة ، وتواترت الغفلة ، فعند ذلك يصير البدن متخبطا في المعاصي غير منقاد للحق بحال.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣))

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) إن الشيطان خلق لابتلاء الأنبياء والأولياء فيلقي كل وقت بين ذكرهم وتلاوتهم وساوسه مخايلة ، فيحترق في نور أذكارهم ، ويتخسأ من صولة أنوارهم وأسرارهم ، وذلك من الحق إظهار كرامتهم ومعجزتهم ، وحقيقة الحكمة فيه إلقاء الخجل عليهم في مقام المناجاة (١) ؛

__________________

(١) قال المصنف : وهذا الملعون لم يخل أحد من شره حتى نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فربما يعترضه ويؤذيه ، وذلك أنه عليه‌السلام كنز الله في الأرض ، والملعون السارق يحوم حول ذلك الكنز ؛ ليسرق منه شيئا ، ألا ترى كيف حكى الله سبحانه وتعالى مما ألقاه في صلاته ، قال : (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ). قال الحسين بن علي ـ رضي الله عنهما ـ : «نبئت أن جبريل عليه‌السلام أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : إن عفريتا من الجن يكيدك ، فإذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي». وقال أبو أمامة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه ما لم يقدر عليه ، من ذلك البصر سبعة أملاك يذبون عنه كما يذبون عن قصعة العسل الذباب في اليوم الصائف». وما لو بدا لكم لرأيتموه على كل سهل وجبل كلهم باسط يده فاغر فاه ، وما لو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين ، وهذا من كمال فضل الله حرس عبده بمعقباته من الملائكة المقربين من العوارض والحوادث كلما يلقي الشيطان إليه ألقى يريه الملك شيئا من أحكام الاخرة ، ويحدث معه بشيء من الخيرات ما يدفع به شر عدوه ، وربما يقذف الحق نورا من غيبه على قلبه يرى به مكائد العدو ،

٥٤١

ألا ترى كيف شكا عنه موسى حين عارضه الملعون بقوله ما سمعت ؛ فهو كلامي فكاد موسى أن يذوب من هيبة الله وحيائه حتى أوصله الحق إلى أماكن ألطاف حفظه ، ورعايته وخلصه من كيد عدوه.

قال سهل : من قرأه ، وهو يلاحظ الحق ؛ فإنه يكون بريئا مصونا من إلقاء الشيطان ، ومن قراه ، وهو يلاحظ نفسه أو يشاهد الخلق ؛ فإن ذلك محل إلقاء الشيطان.

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥))

قوله تعالى : (أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي : القرآن كلامه الحق (فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) المعرفة بالله تورث الفناء في الله ؛ فصارت قلوب العارفين بالله مخبتين لأمر الله.

قال الواسطي : إن الربوبية إذا تجلت على السرائر محت آثارها ، ومحت رسومها وتركتها خرابا.

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١))

قوله تعالى : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) ملك الجمال والجلال وكشف اللقاء للعارفين والعاشقين لله يومئذ يواسي قلوبهم بإعطائه إياهم مأمولهم ؛ فإذا برز أنوار سلطنة كبريائه اضمحل فيها الظنون والخواطر والرسوم والأعلام.

قال ابن عطاء : الملك على دوام الأوقات ، وجميع الأحوال له ، ولكن يكشف للعوام الملك يومئذ لإبداء القهارية والجبارية ؛ فلا يقدر أن يجحد ما عاين.

__________________

فيحترز من شره. تقسيم الخواطر (ص ٦٨) بتحقيقنا.

٥٤٢

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ) الذين هاجروا مما دون الله ، وقتلوا بسيوف محبة الله ، وماتوا من غلبة شوق الله تحت أثقال رؤية عظمة الله ليرزقنهم الله رزق مشاهدته ، ودوام وصلته على السرمدية ، ويحييهم بروحه إلى أبد الابدين ، وملك الحياة والأرزاق غير مقطوعة ولا ممنوعة.

قال الجريري : هو تصحيح التوجه بالفردانية ، ومعانقة التجريد بالسمع والطاعة.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢))

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) إذا ظهر الحق بنعت الحقيقة للعارفين اضمحلت في قلوبهم الحوادث ، وسقط عنهم علل الأكوان.

قال ابن عطاء : هو الحق فحقق حقيقته في سرك ولا ترجع منه إلى غيره ؛ فإن ما سواه باطل.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥))

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) أنزل مياه تجلي الصفات من بحار الذات على صحارى قلوب الصديقين فتصبح أرضها بصبح صفات مشاهدته مخضرة بأنوار ورد المكاشفات ونور المحبة والشوق والعشق ، ورياحين الزلفات وشقائق المودة ، ونرجس المداناة ، وتنبت فيها رياحين المعارف بزلال الكواشف.

قال بعضهم : أنزل مياه الرحمة من سحائب القربة وفتح إلى قلوب عباده عيونا من ماء الرحمة ، فأنبت المعرفة فاخضرت القلوب بزينة المعرفة ؛ فأثمرت الإيمان وأينعت التوحيد ، وأضاءت بالمحبة فهامت إلى سيدها ، واشتاقت إلى ربها ، وطارت بهمتها فأناخت بين يديه وعكفت عليه ، وأقبلت عليه وانقطعت عن الأكوان أجمع إذ ذاك أواها الحق إليه ، وفتح لها خزائن أنواره ، وأطلق لها التنزه في بساتين الأنس ورياض الشوق والقدس.

٥٤٣

(وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١))

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) ، (أَحْياكُمْ) بمشاهدته ، (يُمِيتُكُمْ) يفنيكم في سطوات عظمته ، ثم (يُحْيِيكُمْ) بروح بقائه حتى تبقوا ببقاء مع بقائه أبدا.

قال الجنيد : أحياكم بمعرفته ، ثم يميتكم بأوقات الغفلة والفترة ، ثم يحييكم بالجذب بعد الفترة ، ثم يقطعكم عن الجملة فيوصلكم إليه ، حقيقة إن الإنسان لكفور يعد ما له ، وينسى ما عليه.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢))

قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) إن الله سبحانه بيّن أن شواهد الملك والملكوت كلها منتظر خطاب الأزل لتسمع بأسماع شائقة إلى معاني الصفات ، وأهل الأرواح القدسية منتظرون بسماع الغيب ليستمعوه بأسماع غيبية ويعقلوه بعقول ملكوتية ؛ فإذا خاطبهم الحق بلسان السفيرة ؛ تنجذب أسرارهم وأسرار جميع الخليقة إلى منازل وقوع الخطاب فيقع نوره الرحماني عليها ، فصارت موقع الخطاب منورة بنور الصفة ، وذلك النور يظهر بنعت الاستبشار في وجوه العارفين لنظّار الملكوت ، وينتشر نور الأكوان بجميع ذراتها من نور الخطاب.

وأهل الغباوة والجهل المبعدون من ساحة كبرياء الأزل بقوا في ظلمات الجهالة ، وغبار القهريات تحت غشاء الضلالة فأسماعهم محجوبة بعوارض الامتحان عن سماع القرآن ،

٥٤٤

وشواهد أسرارهم من ظلمة الإنكار تظهر عن سواد وجوههم عند سماع الخطاب ، يعرفها كل بصير بالله ، ومن كمال شقاوتهم لا يعرفون أصلا من أصل ، ونورا من نور ، وجلالا من جلال ، وقدما من قدم ، وأزلا من أزل الذي مصادره أوجدتهم يا ليتهم يعرفون مصادر القهريات التي نقضتهم إلى ميادين الغفلة ؛ فإنهم لو يبصرون معادن فطرتهم لا يخالفون ما يصدر من معادن اللطفيات ، فإن جميع المصادر الأزلية واحدة من جميع الوجوه.

قال أبو بكر بن طاهر : يتبين في شواهد المعرضين عنا آثار الوحشة وظلمة المخالفة ؛ لأن الظواهر إنما أشرقت بالسرائر ، والسرائر أشرقت بأنوار الحق ؛ فمن كان سره في ظلمة وإنكار كيف يلوح آثار الأنوار على شاهده ، وكل شاهد ، شاهد الأعراض والأكوان هو في ظلمة حتى شاهد الحق ، ولا يشاهد معه غيره إذ ذاك يلوح عليه أنوار مشاهدة الحق ، قال الله تعالى : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ).

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦))

قوله تعالى : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) بيّن الله سبحانه ذل الخليقة تحت قهر سلطانه وعظمة كبرياء قدمه لئلا يقبل على معدن الضعف ، وذل من يطلب العز السرمدي ؛ فإن الخليقة ممنوعة عن قوة قادرية أحدية ، وكيف يكون لها مشيئة وقدرة وجميعها في قبضة الجبروت عاجزة أسيرة لعزته ، وجلاله ، دعا الخلق بنعت الإقبال إليه بلسان الغيرة عن الإقبال على معادن الحدثية ليكونوا عارفين بعز الربوبية وذل الخليقة.

قال ابن عطاء : دلهم بهذا على مقاديرهم ؛ فمن كان أشد هيبة ، وأعظم ملكا لا يمكنه الاحتراز من أهون الخلق وأضعفه ؛ ليعلم بذلك عجزه وضعفه وعبوديته وذلته ، ولا يفتخر على أبناء جنسه من بني آدم بما يملكه من الدنيا.

قال أبو بكر بن طاهر : «ضعف الطالب» أن يدركه ، والمطلوب أن يفوته.

ثم بيّن سبحانه بعد ذكره عجز الخلق والخليقة جلال قدرة الذي لا يعرفه غيره بقوله :

٥٤٥

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أزال المخائيل والأوهام والعقول عن إدراك جلاله وقدره ، وهذا شكاية الله عن إشارة الخلق إليه بما هو غير موصوف به ذكر غيرته إذا أقبلوا إلى غير من هو موصوف بالقوة الأزلية والعزة السرمدية ، ألا ترى كيف قال الله : (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠)).

قال الواسطي : لا يعرف قدر الحق إلا الحق ، وكيف يقدر قدره أحد وقد عجز عن معرفة قدر الوسائط والرسل والأولياء والصديقين ، ومعرفة قدرة ألا تلتفت عنه إلى غيره ، ولا تغفل عن ذكره ، ولا تفتر عن طاعته إذ ذاك عرفت ظاهر قدره ، وأما حقيقة قدره فلا يقدر قدرها إلا هو.

ثم بيّن سبحانه أنه اصطفى من الملائكة ، ومن الناس رسلا يخبرون عنه ما يتعلق بعجز الخلق عن إدراكه من وصف ذاته وصفاته بقوله : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) ، الملائكة وسائط الأنبياء والأنبياء وسائط العموم والأولياء للأولياء خالصة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) هذا خبر عن مقام المكاشفة في المراقبة أي : إذا شاهدتم مشاهدة الكبرياء اركعوا ، وإذا شاهدتم مشاهدة العظمة اسجدوا ، وإذا شاهدتم جمال ربوبيته افنوا في العبودية : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) تخيرون عن هذه المقامات طلاب معرفتي (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بي عني ، وتظفرون بعد فنائكم في ببقائكم مع بقائي.

قال ابن عطاء : اركعوا واسجدوا واخضعوا وانقادوا لأوامره وسلموا لقضائه وقدره تكونوا من خالص عباده ، وافعلوا الخير ابتغاء الوسيلة لعلكم تفلحون أي : لعلكم تجدون الطريق إليه ، ثم أمرهم بحق الجهاد لوجدان حقيقة المعاد ، والرجوع إلى المراد ؛ لأن ما أمرهم بالركوع والسجود على مقادير العبودية ، وطلب حق الربوبية في العبودية منهم بقوله : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) لا تظن أن هذا الأمر أمر مستحيل من حيث عجز الخلق عن درك إدراك حقيقته ، إنما أراد بهذا الأمر فناء الخليقة في الحقيقة ، وهذا ممكن خاصة أنه

٥٤٦

أخبر تعالى أنهم بذلك مصطفون بقوله : (هُوَ اجْتَباكُمْ) أي : هو اجتباكم بالفناء في بقائه حين ينكشف أنوار شموس القدم لأهل العدم ، (وَجاهِدُوا فِي اللهِ) أي : أفنوا في الله حق الفناء بحيث لا ترون فناءكم في بقائه بل ترون وجوده بوجوده لا بوجودكم ؛ لأن هذه الاجتبائية الأزلية يقتضي لكم مشاهدته ، ومشاهدته يقتضي لكم فناءكم فيه ، ثم بيّن أن في هذا الطريق المبارك ، والدين الشريف لم يكن حرج ، وتكليف ما لا يطاق بقوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي : إذا شاهدتم مشاهدة جمال سهل عليكم فناءكم في جلالي ؛ لأن من عاينني عشقني ، وطاب عيشه معي ، وسهل عليه بذل مهجته إليّ لأن هذا مقام العاشقين الرامقين المحبين مثل الخليل والحبيب والكليم (١).

ألا ترى كيف قال : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) ملة أبيكم العشق والمحبة والخلة والاستسلام والانقياد ، وبذل الوجود بنعت السخاء والكرم يا أسباط خليلي رأى أبوكم استعداد هذه المراتب الشريفة فيكم قبل وجودكم بنور النبوة بقوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) سماكم منقادين ، وبين يدي عارفين بوحدانيتي ، وفيما ذكرنا من أوصافكم حبيبي شاهد عليكم عندي ، يعرف هذه الفضائل منكم ، وهو بلّغكم ونشر فضائلي عليكم.

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨))

قوله تعالى : (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) بأنكم تعرفونهم فيما هم فيه وأن رسلهم قد بلغهم رسالاتي التي سبب نجاتهم ، ثم أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة شكرا لنعمته وحمدا لأفضاله أي : اطلبوني في مقام مناجاتكم في الصلاة ، وادخلوا بهمتكم فيها ؛ فإنها

__________________

(١) تلوح من هذه الجملة الإشارة إلى أنه إذا بقي المريد عن أحكام الإرادة فليحطط رجله بساحات العبادة فإذا عدم اللطائف في سرائره فليستدم الوظائف على ظاهره ، وإذا لم يتحقّق بأحكام الحقيقة فليتخلق باداب الشريعة ، وإن لم يتحرج عن تركه الفضيلة فلا يدنس تصرفه بالحرام والشبهة. تفسير القشيري (٢ / ٨٩).

٥٤٧

حصتي ، وكونوا بنعت التجريد عن الدنيا ، وما فيها في بذل أنفسكم إليّ ، وفي هذه المعاملات الشريفة اطلبوا الاعتصام مني ، استعينوا بي لأقويكم في طاعتي (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ) حبيبكم وناصركم في الأزل (فَنِعْمَ الْمَوْلى) حيث لا مولى غيره (وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)) حيث لا يخذل من نصره بأن نصره عزيز ممتنع من نقائص النقص.

قال جعفر : حق المجاهدة على القلب فإن النفس لا يقوم بحق المجاهدة ، وحق المجاهدة ألا يختار عليه شيئا كما لم يخير عليكم بقوله : (هُوَ اجْتَباكُمْ).

قال بعضهم : المجاهدة على ضروب مجاهدة مع أعداء الله ، ومجاهدة مع الشياطين ، وأشدها المجاهدة مع النفس ، وهو الجهاد في الله ، وهو الذي روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» (١) ، وهو مجاهدة النفس ، وحملها على اتباع ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه.

وقال ابن عطاء : الاجتبائية أورثت المجاهدة لا المجاهدة أورثت الاجتبائية.

وقال أيضا : «ملة إبراهيم» : هو السخاء والبذل والأخلاق ، والخروج من النفس والأهل والمال والولد.

وقال أيضا : في قوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) : زينكم بزينة الخواص قبل أن أوجدكم ؛ لأنكم في القدرة عند الإيجاد كما كنتم قبل الإيجاد سبق لكم من الله الخصوصية في أزله.

وقال النوري : الاعتصام بالله للخواص ، والاعتصام بحبل الله للعوام ، والاعتصام بحبل الله هو التمسك بالأوامر على السنن ، والاعتصام بالله هو حفظ القلب ، والسر عما يشغل عنه ، والاشتغال بمراقبته ، والإقبال عليه ، قال الله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ) أي : هو الذي يغنيكم به إن أقبلتم على الاعتصام.

وقال جعفر : نعم المعين لمن استعان به ، ونعم النصير لمن استنصره.

***

__________________

(١) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (١ / ٥١١) بنحوه.

٥٤٨

سورة المؤمنون

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١))

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١)) فاز بالله العارفون بمشاهدته عن حجبة الذين أجابوا الله من العدم بخطاب القدم ، وشاهدوا القدم بالقدم (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢)) هم الذين قاموا لله بالله بنعت الهيبة في مشاهدة عظمة الله في مقام المناجاة مع الله (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣)) عن لغو شياطين الإنس والجن وهو وهواجس النفوس ، وكل ما سرى ذكر حبيبهم ، (مُعْرِضُونَ) كان من طباع العارفين ألا يلتفتوا من حيث طبيعتهم إلى شيء يقتضي اللهو واللغو (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤)) باذلون الأرواح والأشباح لله وفي الله (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥)) ساترون عورات أسرارهم عن الأغيار (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) إلا على أهل القصة والنحلة (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧)) من أفشى سر الحق عنه غير أهله ؛ فقد تجاوز حد الله ؛ فيكون محجوبا عن الله بالله ، ومن لم يحافظ نفسه في حركات شهواتها ، فيسقط في هاوية الغفلة بغلبة الشهوة في قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨)) الروح والقلب والعقل والسر ، وما معهن من كشوف أحكام الغيب من الإيمان والبرهان والإيقان والعرفان أمانة الله الغيبة ، ومراعاتي بدفع الخطرات عنها ، ورياضة النفس عندها ؛ فهو من شعار أهل الله الذين عاهدوا الله في سماع خطابه حين قال : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) ، وهم به يستقيمون في

٥٤٩

طاعته ومرافقته وخدمته بقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩)) محافظتهم عليها حفظ قلوبهم عن الوساوس عند جريان صفاء المواصلة وحلاوة المداناة والاستقامة في المناجاة.

ثم وصف هؤلاء الموصوفين بهذه الأحوال الشريفة ، والدرجة الرفيعة ، والمعاملات الزكية بأنهم ورثوا علم مشاهدة الله في بساتين غيبه ، وحجال ملكوته ، ورثوا قربة وصاله ، ثم ورثوا منها مواليد حقائقها من هذه الأعمال والأحوال ، وأمثالها من خواص العبودية في مشاهدة الربوبية بقوله : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) ورثوا من فيض الله معرفة الله حين عاينوا الله في عهد الأزل ، ويرثون بها مشاهدة الله إلى الأبد.

قال ابن عطاء في قوله : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١)) : وصلوا إلى المحل الأعلى والقربة والسعادة ، وأفلح من كان مصدقا لله بوعده.

قال أحمد بن عاصم : قال الأنطاكي : المؤمن من يكون بضاعته مولاه ، بغيضته دنياه ، وحبيبه عقباه ، وزاده تقواه ، ومجلسة ذكراه.

وقال القاسم في قوله : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) : هم المقيمون على شروط آداب الأمر مخافة أن يفوتهم بركة المناجاة.

وقال بعضهم : لما طالعوا موارد الحق عليهم ، ومطالعة الحق إياهم خشعت له ظواهرهم.

وقال بعضهم : خشعت جوارحهم وهممهم عن التدنس بشيء من الأكوان لعلو هممهم لكبائرها وهمته الصغرى أجل من الدهر.

قيل : المؤمن من يأمن قلبه من نفسه.

قال يوسف بن الحسين : كلك عورات وعلل ، وليس يسترها إلا التقوى ، وحفظ الحرمات ، والتزام الشرائع كلها.

قال جعفر في قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) : عن الكون وما فيه متجردون ، ولربهم منفردون.

وقال بعضهم : اللغو ما يشغلك عن الحق.

وقال أبو عثمان : كل شيء للنفس فيه حظ ؛ فهو لغو.

وقال أبو بكر بن طاهر : كل ما سوى ذكر الله ؛ فهو لغو.

٥٥٠

قال ابن عطاء : كل ما سوى الله ؛ فهو لغو.

قال محمد بن الفضل في قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) : جوارحك كلها أمانات عندك ، أمرت في كل واحدة منها بأمر ؛ فأمانة العين الغض عن المحارم ، والنظر بالاعتبار ، وأمانة السمع صيانتها عن اللغو والرفث ، وإحضارها مجالس الذكر ، وأمانة اللسان اجتناب الغيبة والبهتان ، ومداومة الذكر ، وأمانة الرجل المشي إلى الطاعات ، والتباعد عن المعاصي ، وأمانة الفم ألا يتناول به إلا حلالا ، وأمانة اليدين ألا تمدها إلى حرام ، ولا تمسكها عن الأمر بالمعروف ، وأمانة القلب مراعاة الحق على دوام الأوقات حتى لا يطالع سواه ، ولا يشهد غيره ، ولا يسكن إلا إليه.

قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن حليف : الأمانة حفظ حدود الله ، والوقوف على ما أجاب من لفظ «بلى».

وقال ابن عطاء : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩)) : المحافظة عليها هو حفظ السر فيها مع الله ، وهو ألا يختلج فيها شيء سوى الله.

وقال بعضهم : في قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) : الذين يصلون إلى مواريث أعمالهم من رياضاتهم.

قال بعضهم : الفردوس ميراث الأعمال ، ومجالسة الحق ميراث رؤية الفضل والنعماء.

قال الأستاذ في وصف الإيمان : ابتساط الحق في السريرة ، ومخامرة التصديق خلاصة القلب ، واستمكان التحقيق من تأمير الفؤاد.

وقال : الخشوع في الصلاة إطراق السر على بساط النجوى باستكمال نعت الهيبة ، والذوبان تحت سلطان الكشف ، والامتحان عند غلبات التجلي (١).

وقال في قوله : (عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) : ما يشغل عن الله ؛ فهو سهو ، وما ليس لله ؛ فهو حشو ، وما ليس بمسموع من الله أو مقول مع الله ؛ فهو لغو ، وما فيه حظّا للعبد ؛ فهو لهو.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ

__________________

(١) أي : الأحقاء بأن يسمّوا وارثين ، دون غيرهم ممن ورث رغائب الأموال والذخائر وكرائمها ، وقيل : إنهم يرثون من الكفار منازلهم في الجنة ، حيث فوّتوها على أنفسهم ، لأنه تعالى خلق لكل إنسان منزلا في الجنة ومنزلا في النار. البحر المديد (٤ / ١٧٠).

٥٥١

(١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢)) لما خلق الله سبحانه الكون والكائنات من العرش إلى الثرى ، طبق العرش فوق الكرسي ، وطبق الكرسي فوق السماوات السبع ، وقد أحاط الكرسي بالسماوات ، وركب بعضها بعضا ، ثم تجلى من قهر سلطان عظمته ، وجلال قدمه بنعت الاستواء على العرش فزلزل العرش ، ثم تزلزل الكرسي ، ثم تزلزلت السماوات ، فعرقت السماوات من ثقل الكرسي ، وعرق الكرسي من ثقل العرش ، وعرق العرش من ثقل سطوة الاستواء ؛ فجرى عرقها ، وصار بحورا ؛ فدخلت البحور بين السماوات ، وتلاطمت بعضها بعضا من هيبة عزة القدم ، وصولة الجلال التي نفذت أنوارها في جميع ذرات الكون ؛ فكثرت تلاطمها حتى ألقت خوالص زبدها وروحها فوقها ، فيبست تلك الزبدة التي هي حقائق عرق الوجود الذي صدر من نور الاستواء ، وهو حامل بسر التجلي قد خلت البحور تحتها ، وصارت كالزبدة اليابسة من كثرة حركة ممحاض الكون.

ثم انسطحت وأظهرت حقائقها ؛ فمضت عليها أيام الله التي معاهدها مرور أنوار تجلي الصفات والذات عليها ؛ فلما رباها الحق بأفانين تجلي صفاته وذاته ، قبض منها قبضة بقبضة جبروته ، وطرحها فوق ملكوته ، وتلك القبضة من خالص تلك الزبدة المعجونة لعقاقير أنوار

٥٥٢

الصفات ؛ فمطر عليها وبل بحر الألوهية ، وخمرها بأيدي العزة ، وصورها بنقوش خاتم الملك ، وألقاها في وادي القدرة بين فضاء الازال والاباد حتى مضى أصباح مشارق شموس الذات ، وأقمار الصفات ، ثم كشف ستر الغيرة من وجه الروح التي خلقها قبل صورتها بألفي ألف عام ، وكانت في حجال الأنس وبحار القدس أصدرها من مكامن غيوب العلوم ، وهي أسرار الأولية مصورة بنقش صورتها فأدخلها فيها فصار الروح والصورة كاملة بكمال الذات والصفات.

فلما صار آدم موضع ودائع أسرار الذات والصفات والقدم والبقاء وصفه حبيب الله صلوات الله عليهما بقوله : «خلق الله آدم على صورته» (١) ، وكان عليه‌السلام معادن الأرواح القدسية والأشباح الأنسية ؛ فإذا أراد سبحانه خلق ذريته حركه بقدرته ، وألقى عليه سباتا من عظمته ، وأخرج حواء من ضلعه ثم حركهما بسر سره ، وذلك السر شهوتهما التي أورث فيهما تجلي نعوت الجمال والجلال فوصل الشهوة بالشهوة ، وانشقت بالنطفة الخالصة التي مصادرها ما ذكرنا من أسرار تجلي الاستواء ، وأبقاها في مصدر الفعل ، وقلبها في دهور التجلي وأيام التدلي وساعات كشف الملكوت والجبروت والملك والقدرة.

ثم تجلى لها في قرار رحم الفعل بالهيبة والعزة ؛ فصارت ملونة بلون حسن الفعل الذي هو مرآة تجلي الجمال ، وذلك قوله سبحانه : (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) ؛ فلما أذابها في كبر العشق بنفخ المحبة ، وصبغها بصبغ المودة صوغها في بوتقة الفطرة ذهبا لنقش نقوش خاتم الملك ، وألقاها في مشرق كشف شموس الربوبية حتى نضجت بنيران المحبة ، وصارت سبيكة من لطف التجلي ، وهذا معنى قوله : (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) ثم صيرها سواقي بحار دماء الطبيعة ، وجعل سواقيها عروق مشارب الفطرة ، فتحركت من غلبتها ؛ فغرس فيها الحق أشجار فعله حتى سكن بناؤها باستوائه قدرته بقوله : (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً).

ثم خلعها خلعة مزيد فيض النظر في زمان التربية بقوله : (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) ثم تركها في ضياء فعله ونور تجلي قدرته ليكمل استعدادها قبول نقش الملك فنقشها بنقش سر العلم بصورة آدم ، ثم زين وجهها بزينة نور جماله ، وصورها بصورة روح فعله وكلها برحمته ،

__________________

(١) رواه البخاري (٥٨٤٣) ، ومسلم (٢٦١١).

٥٥٣

وجعل قلبها مجامع الأخلاق ، وكيد وكبدها مجامع الطبائع ودماغها منورا بنور عقل ؛ فلما كساها نور خلقه وكملها بقدرته ، وأدخلها روحه فصار آدم ثانيا مواضع كنوز ربوبيته وحقائق قدرته وعلمه ، وهذا معنى قوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ).

ثم نزه نفسه عن المشابهة بالحدثان والتغاير بتغاير الزمان والمكان بقوله : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤)) قدس جلاله عن الإبعاض والتجزؤ والتمثيل والتصوير ما أحسن صنعه وقدرته عين جاء أبناء آدم عالما ، وجعل في آدم ما في جميع العالم.

وقال الحسين : الخلق متفاوتون في منازلهم ، ومقامات خلقهم وصفاتهم ، وقد كرم الله بني آدم بصورة الملك والملكوت وروح النور ونور المعرفة والعلم ، وفضلهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا.

وقال أيضا : خلق بني آدم بين الأمر والثواب وبين الظلمة والنور فعدل خلقهم وزاد المؤمنين بإيمانهم نورا مبينا وهدى وعلما ، وفضلهم على سائر العالمين ، كما نقلهم في بدء خلقهم من حال إلى حال ؛ فأظهر فيهم الفطرة والإياب وتكامل فيهم الصنع والحكمة والبينات ، وتظاهر عليهم الروح والنور والسبحات من كانوا ترابا ونطفة وعلقة ومضغة ثم جعله خلقا سويا إلى أن كملت فيهم المعرفة الأصلية ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ...) إلى قوله : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).

وقال الحسين : خلق الخلق فاعتد بها على أربعة أصول الربع الأعلى الهيبة والربع الاخر آثار الربوبية والربع الاخر النورية بين فيها التدبير والمشيئة والعلم والمعرفة والفهم والفطنة والفراسة والإدراك والتمييز ولغات الكلام والربع الاخر الحركة والسكون كذلك خلقه فسواه.

وقال أيضا في قوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) : فطر الأشياء بقدرته ودبرها بلطيف صنعه ، فأبدى آدم كما شاء بما شاء ، وأخرج منه ذرية على النعت الذي وصف من مضغة وعلقة ، وبديع خلقه ، وأوجب لنفسه عند خلقته اسم الخالق ، وعند صنعته الصانع لم يحدثوا له اسما كان موصوفا بالقدرة على إبداء الخلق ؛ فلما أبداها أظهر اسمه الخالق للمخلوق ، وأبرزه لهم ، وكان هذا الاسم مكنونا لديه مدعوا به في أزله سمى بذلك نفسه ، ودعا نفسه به ، فالخلق جميعا عن إدراك وصف قدرته عاجزون ، وكل ما وصف الله به نفسه فهو له ، وهو أعز وأجل أظهر للخلق من نعوته ما يطيقونه ، ويليق بهم (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).

٥٥٤

ثم إن الله سبحانه بعد وصف الخلق والخليقة وآدم والذرية أعلمنا محل فنائنا عن هذه الأوصاف الكاملة والصنائع الشريفة لتربية أخرى في التراب ، وإظهار زيادة قدرة فينا بإدخال حياة ثانية في أشباحنا وتربية ثانية في أرواحنا بقوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥)) الموت يتعلق بصعقة سطوات العزة ، وظهور أنوار العظمة ، وحياتنا تتعلق بكشف جمال الأزلي ، هنالك تعيش الأرواح والأشباح بحياة وصالية لا يجري بعدها موت الفراق.

قال الحسين : ملك الموت هو موكل بأرواح بني آدم ، وملك الفناء موكل بأرواح البهائم ، وموت العلماء هو بقاؤهم إلا أنه استتار عن الأبصار ، وموت المطيعين المعصية إذا عرف من عصاه.

وقال بعضهم : من مات من الدنيا خرج إلى حياة الاخرة ، ومن مات من الاخرة خرج منها إلى الحياة الأصلية ، وهو البقاء مع الله.

ثم بيّن سبحانه وصف أعلام قدرته ، وعجائب صنوف صنعه في خلقه من سماواته وما فيها من طرقها إلى عالم ملكوته بقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧)) وضح سبع طرائق لنا إلى أنوار صفاته السبعة ، وتلك الطرائق : طريق الروح إلى معادن الربوبية وعرفانها بالحقيقة ، فمنها طريق العقل ، ومنها طريق العلم ، ومنها طريق الحكمة ، ومنها طريق المعاملة ، ومنها طريق النفس ، ومنها طريق القلب ، ومنها طريق السر ، وطريق العقل التفكر في الالاء والنعماء ، وطريق العلم معرفة الخطاب بطريق الحكمة المعرفة بحقيقة الأشياء ، وطريق المعاملة تحصيل ذوقها وصفاتها باستعمال الاداب ، وطريق النفس قطعها عن حظوظها والمعرفة بمكائدها وأخلاقها ، وطريق القلب المعرفة بنازلات لطائف الغيب فيه ، وطريق السر معرفة اتصالها بنور الحضرة.

فمن قطع هذه الطرق يصل إلى سبع الصفات ، ورؤيتها والعلم بها حتى يصل إلى بحار الذات ، واستغرق فيها بنعت الحيرة ، فإذا استغاث من حيرته به أدركه بفيض المعرفة والوصلة ، وذلك معنى قوله : (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧)) ظاهر الاية تنبيه يوجب الإجلال والتعظيم في منازل المراقبات ؛ فمن بقي في هذه الحجب السماوية والأرضية وارتهن بشيء منها ، فقد انقطع عن مواصلة المشاهدة.

قال أبو يزيد في هذه الاية : إن لم تعرف ؛ فقد عرفك ، وإن لم تصل إليه ؛ فقد وصل إليك ، وإن غبت أو غفلت عنه ؛ فليس عنك بغائب ولا غافل ، قال الله تعالى : (وَما كُنَّا عَنِ

٥٥٥

الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧)).

وقال بعضهم : سبع حجب متصلة تحجبه عن ربه ، فالحجاب الأول : عقله ، والحجاب الثاني : علمه ، والحجاب الثالث : قلبه ، والحجاب الرابع : حسه ، والحجاب الخامس : نفسه ، والحجاب السادس : إرادته ، والحجاب السابع : مشيئته ؛ فالعقل باشتغاله بتدبير الدنيا ، والعلم لمباهاته مع الأقران ، والقلب الغفلة والحواس لإغفالها عن موارد الأمور عليها والنفس ؛ لأنها مأوى كل بلية ، والإرادة وهي إرادة الدنيا ، والإعراض عن الاخرة ، والمشيئة وهي ملازمة الذنوب.

وقال الأستاذ : فوقنا حجب ظاهرة وباطنة ؛ ففي ظاهر السماوات حجب تحول بيننا وبين المنازل العالية ، وعلى القلوب أغشية وغطاء كالمنية والشهوة والإرادة الشاغلة والغفلات المتراكمة ، أما المريدون إذا أظلتهم سحائب الفترة سكن هيجان إرادتهم ، فذلك من الطرائق التي علتهم ، وأما الزاهدون فإذا تحرك بهم عروق الرغبة نفد قوة زهدهم وضعف دعائم صبرهم فيترخصون بالجنوح إلى بعض التأويلات فيعود رغباتهم قليلا قليلا ، ويحيل رتبة عروقهم ، وتنهد دعائم زهدهم ، فبداية ذلك من الطرائق التي خلق فوقهم.

وأما العارفون فربما تظلهم في بعض أحايينهم وقفة في تصاعد سرّهم إلى ساحات الحقائق ؛ فيصيرون موقوفين ريثما ما يتفضل الحق سبحانه بكفاية ذلك ، فيجدون نفاذا ويرفع عنهم ما عاقهم من الطرائق في جميع هذا الحق سبحانه غير تارك للعبد ، ولا عن الحق غافل قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) أنزل من سماوات القيومية مياه أنوار المعرفة بقدر قوى الأرواح القدسية ، وأسكنها في أماكن قلوب العارفين فتجرى على عرضاتها ، وتنبت أشجار الحقائق وأزهار الدقائق وياسمين المودة وورد المحبة ونرجس السعادة ، وبنفسج الكفاية بقوله : (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩)) وتنبت على سيناء العقل شجرة الإيمان التي تنبت ثمرة الإيقان التي دهنها وصبغها حقيقة التوحيد والعرفان ، قال الله تعالى : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠)).

قال الأستاذ (١) : ماء هو صوب الرحمة يزيل به درن العصاة وآثار زلتهم ، وغبار

__________________

(١) انظر : تفسيره (٥ / ٢٤٧).

٥٥٦

عشرتهم ، وماء هو يسقي قلوبهم يزيل به عطش كيدهم ، ويحيي به أموات أحوالهم ، فينبت في رياض قلوبهم فنون أزهار البسط وصنوف أنوار الروح وماء هو شراب المحبة فيخضر به قلوب بساحات القرب ، فيزيل عنها به حشمة الوصف ، ويسكر به قلوبا فيعطلها عن التمييز ، ويحملها على التجاسر والخطر بذل الروح ، فإذا شربوا طربوا ، وإذا طربوا لم يبالوا بما وهبوا (١).

(فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨))

قوله تعالى : (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) أمر الله سبحانه نبيه نوحا عليه‌السلام أن يصنع أعماله جميعا على وصف المراقبة والمشاهدة حتى يكون محفوظا بعصمته عن طريان القهر.

قال الجنيد : من عامل على المشاهدة أورثه الله عليه الرضا.

قال الله : (اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا).

(وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨))

__________________

(١) (وصبغ للاكلين) أي : إدام لهم ، قال مقاتل : جعل الله في هذه إداما ودهنا ، فالإدام : الزيتون ، والدهن : الزيت.

٥٥٧

قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩))

قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً) أي : أنزلني منزل مشاهدتك حتى أصل بركة وصالك ، وأفوز برؤية جمالك وجلالك (١).

قال ابن عطاء : أكثر المنازل بركة منزل تسلم فيه من هواجس النفس ووساوس الشيطان وموبقات الهوى ، وتصل فيه إلى محل القربة منازل القدس ، وسلامة القلب من الأهواء والبدع.

وقال الأستاذ : الإنزال المبارك أن يكون بالله ، والله على شهود الله من غير غفلة عن الله ، ولا مخالفة لأمر الله (٢).

__________________

(١) قوله : منزلا مباركا بضم الميم ، وفتحها بمعنى : موضع إنزال ، أو موضع نزول ؛ وهي السفينة النوحية ها هنا ؛ لأن الخطاب لنوح عليه‌السلام ، فكانت السفينة منزلا مباركا له ، ولمن معه من المؤمنين حيث نجوا منها من الطوفان ، كما أن البر كان منزلا غير مبارك لمن عصاه من المشركين حيث أغرقوا من فيه بالطوفان ، وذلك لأن دخول السفينة كان بإذن الله تعالى ؛ فكانت منزلا مباركا يستتبع نفعا كثيرا ظاهرا وباطنا ، والإباء عن دخولها بإضلال الشيطان ، وتسويل النفس ؛ فكان عاقبته شرا محضا ، وهلاكا صرفا ، فكما أن دخول السفينة كان خيرا محضا ؛ لكونه امتثالا لأمر الله تعالى ، فكذا الخروج عنها بعد ما كان أمر الله مفعولا ؛ فكانت الأرض أيضا منزلا مباركا لهم ؛ ولذا قال تعالى : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) [هود : ٤٤] ؛ لأنها مع الماء المستوعب لا ينتفع بها ، ولّما كانت السورة مكية ؛ كان من إشارتها أن يدعوا نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الدعاء لنزّله الله المنزل المبارك الذي هو المدينة المنورة ؛ فكانت المدينة مباركة ببركة قدمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما كانت مكة المكرمة مباركة بقدمه ، وبأقدام سائر الأنبياء أيضا عليهم‌السلام ، فكلّ منهما منزل مبارك لمن أراد أن يكون في جوار الله تعالى ، وجوار سيد المرسلين.

(٢) وفيه إشارة إلى أن الدنيا من المنازل الرفيعة حيث استدعى لسان الروح النزول إليها ، وكذا البدن

٥٥٨

(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١))

قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠)) جعل الله عيسى وأمه مشكاتي أنوار قدسه ، ومرآتي تجلي جلاله وجماله لبصراء الصديقين ونظّار المقربين وآواهما إلى ربوة تلال مشاهد القدم ذات قرار لأسرار العارفين ومعين سواقي بحار الكرم التي شرباتها تحيى الأسرار من موت الفناء ، وتبلغها إلى حياة البقاء.

ثم خاطب روحه وكلمته باسم الجمع ؛ لأنه كان مجامع أخلاق جميع الأنبياء والرسل ، ويمكن أن هذا خطاب مع سيد الرسل محمد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو أليق بذلك ؛ لأنه بحر الله ينشق منها أنهار الأنبياء والرسل.

ثم أمره بأكل الحلال بقوله : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) الإشارة إلى خوان دنا فتدلى ومشاهدة الأعلى بين كان قاب قوسين أو أدنى جلال مشاهدته ووصال جماله جلال للعارفين ، حيث لا يدخل فيه علة الحرمان ، ولا فيه مخائيل الشيطان ؛ فطلب منه بعد أكل موائد المشاهدة العمل الصالح ، وهو التبري من الحدثان ، وتلاشي النفس بنعت المعرفة في جمال الألوهية بقوله : (وَاعْمَلُوا صالِحاً) فلما دنا من قرب القرب ، ووصل إلى سر السر فرد القدم عن علة الحدث بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (١) أكل عيسى من ربوة المشاهدة مائدة القربة ، فلما رأى سطوات الديمومية شملت وجوده أفنى نفسه لثبوت العمل الصالح

__________________

الإنساني ذلك الروح الإضافي ، وإن لم يكن حالا فيه ؛ بل متعلّقا به تعلّق التدبير والتصرف ؛ لكنه كان كالمنزل له ، وإنما كان مباركا ؛ لأن الروح إنما يترقّى إلى الكمالات ، ويضع القدم في المعراج ، والمصاعد بإعانة البدن له بمزاولة الأعمال الصالحة ، ولذلك كانت دوائرهم وبقاعهم من المنازل المباركة أيضا ، فمن وفّقه الله تعالى للنزول فيها ، والتردّد إليها غدوّا ورواحا ؛ كان عبدا مباركا نافعا للعالمين ، فطوبى لمن تشرّف بهذا الشرف العظيم ، وويل لمن وقع في الذّلّ والعذاب الأليم بدخول دويرات المبتدعة ، والفسقة الخارجة عن الصراط المستقيم. ومن المنازل العالية : القلب الإنساني ؛ لأن الواردات الإلهية تنزل فيها ، وله برزخية جميع الكمالات الإنسانية ، ومن دخله ؛ كان آمنا من برد الطبع ، وحرّ الشهوة ، سالما من آفات الشكوك والظنون ، متصفا بالصفات الإبراهيمية ، والمحمّدية ، وسائر الكمّل الندر.

(١) سبق تخريجه.

٥٥٩

عن إدراك عزته بشرط الحقيقة بقوله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦].

قال سهل : الطيبات الجلال ، والصالحات من الأعمال آداب الأمر بالفرض والسنة ، واجتناب النهي باطنا وظاهرا.

(وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢))

قوله تعالى : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي : ملة المحبة والمعرفة المفردة عن شوائب الطبيعة مقرونة بنور الإسلام والإيمان لمن تابع المصطفى بنعت الأسوة والقدوة في جميع المعاملات والأحوال.

قال القاسم : أي : تفردت بشرف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنَا رَبُّكُمْ) مني شرف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم قال : (فَاتَّقُونِ (٥٢)) أي : لا تقطعوا عني بشيء سواي ، (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) أي : شاهدني وبوصف إجلال جلالي وخوف عظمتي ؛ فأنا ربكم أربيكم بحسن وصالي ، ومعاشرة صحبتي.

(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤))

قوله تعالى : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣)) هذا إشارة تغيير لأهل المعاملات فشكا عنهم سبحانه أنهم يفرحون بمعاملاتهم ، ورؤية أعواضها ، وأضاف العلة إليهم ؛ لأن أعمالهم التي لديهم صفات الحدثانية ، ولا ينبغي للعارفين أن يفرحوا بما دون الله من العرش إلى الثرى ، فالفرح الحقيقي ما صدر من شهود مشاهدة جلاله للأرواح القدسية الملكوتية فتفرح بوصاله ، وروح جماله أبدا في محل الأفراح.

ويا لبيب افهم كلامي ؛ فإن العارف الصادق إذا استغرق في بحار المعرفة فهمومه أكثر من فرحه ؛ لأن الفرح بما وجد من الله من قربة على قدر حاله ، وما بقي عنه ؛ فهو غير محدود ، فإذا كان بما وجد محجوبا عن الكل ، فما معنى الفرح بمقام واحد ، والوقوف علة يحجب بها الأكثرون ، فبقي العارف من بحر الهموم أبدا ؛ لأن إدراكه قاصر عن البلوغ إلى عزة جلاله إذ جلاله منزه عن درك المدركين ، وإحاطة عرفان العارفين تعالى الله عن كل وهم وفهم.

قال بعضهم : ربط كل أحد بحظه في سعاياته وحركاته ، والسعيد من جذب عن حظه ،

٥٦٠