تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٧٤

إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) قال في عقبه : مثل ما قصصت من أحكام الأولين وما فعلت بهم نقص أيضا زيادة الباء هل الابتلاء اعتبارا وامتحانا وإصابة الرشد والعلم باثار أهل الحقائق.

قال ابن عطاء : موعظة بعد موعظة وبيانا بعد بيان ، ثم خصه بما أفرده من العلم اللدني الإلهي والأنباء الغيبي بقوله : (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩)) الذكر اللدني كشف ما ستر الحق على الخلائق من أسرار ربوبيته يعرف حبيبه بها معلومات الحق في القلوب والغيوب.

قال ابن عطاء : أي : موعظة تتعظ بها وتتأدب بملازمتها ؛ فلا يخفى عليك شيء من أسرارنا وما أودعنا أسرار الذين قالوا قبلك ، فيكون الأنبياء مكشوفين لك وأنت في سر الحق.

(فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣))

قوله تعالى : (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦)) إذا أراد الله سبحانه أن يطلع شموس ذاته وأقمار صفاته من مشارق قلوب العارفين يقلع عن قلوبهم شواغلات الإنسانية ورسومات النفسانية وعوارضات البشرية ورسومات العلومية ، ومرسومات العقولية ، حتى بقيت الأرواح المقدسة على صحاري القلوب مطالعة لطلوع أنوار مشاهدات الأزلية ومكاشفات الأبدية بغير رسوم الفهوم ، والعلوم فإذا اضمحلت المخائيل من جبال الشهوات وموهومات النفوسية شاهدوا الله بصرف المعرفة وحقيقة الفناء.

قال الحسين : هو الذي يطمس الرسوم ويعمى الفهوم ويميت الذهن ويترك الجسم قاعا صفصفا حتى يعجز الكل عن معرفته وبلوغ نفاذ قدرته ، ثم يظهر من طوالع ربوبيته على أسرار أهل معرفته فيعرفونه به.

٥٠١

قوله تعالى : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (١٠٨)) (١) أخبر الله سبحانه عن كشف العظمة والكبرياء والسلطنة للقدم ، فهناك مقام فناء الأرواح والأشباح بنعت الخمود والخشوع فلا حيلة لهم هناك للخروج من تحت غواشي ضباب العزة ؛ لأن الحوادث مضمحلة عند بروز أنوار سطوات الألوهية ، فإذا ذهب طوفان بحار العظمة ويطلع عليهم زبرقان (٢) الجمال من مشرق الجلال فيبقوا ببقائه ويفيقوا من صعقاتهم ويجيبوا الله ويسمعوا منه فالأول مقام الفناء والاخر مقام البقاء.

قال الواسطي : وهل كانت إلا خاشعة في الأول وهل يكون إلا خاشعة في الأبد فالاقتحام في حال الوجود بالتوثب والمنازعة ووقاحة الوجه ورعونة الطبع ؛ لأنها لم تكن وهي إذا كانت كأنها لم تكن.

وقال الجنيد : كيف لا تخشع وقد كشف الغطاء وأبدي الخفاء فلهيبة الموقف وحياء الجنايات خشعت أصواتهم وذلت رقابهم ثم أخبر عن ذهاب صولات العظمة وإقبال كشف الحال بقوله : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) من رضي الله عنه في الأزل واختاره باصطفائيته وحسن عنايته ، ورضي عن قوله في دعواه في الدنيا بمحبته ، ومعرفته مقرون بالصدق والإخلاص ، وله لسان الولاية بإذن الله ، يهب الله له بشفاعته ، ولو شفع لجميع الكفرة ، فإنه لا يرد مكان خاصية إرادته القديمة ، وهناك تبيين صدق الصادقين ودعوى المدعين.

قال الواسطي : لا تنفع الشفاعة إلا لمن لا ينسب إلى نفسه شيئا ، ولا يرى نعته فإذا عاين نعته نسى الأول ، وإذا ظهر عليه رضوانه ذهب ما دونه ، ثم أخبر عن كمال جلاله وعز قدمه وبقاء ديموميته التي تقاصرت الأوهام عن إدراكها وفنيت العقول عن الإشارة إليها بقوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠)) كيف يحيط الحدث بالقدم والحدث فاني الوجود في كشف وجود الحق والفاني لا يدرك الباقي إلا بالباقي ، وإذا أدرك الباقي بالباقي لا يبلغ إلى ذرة من كمال الأزلية ؛ لأن الإحاطة بوجوده مستحيلة من كل الوجوه صفات وذاتا وسرا وحقيقة يا عارف كيف تدعي معرفة من لا تدركه معرفة كل عارف ، فإن معرفة كل عارف

__________________

(١) (وخشعت الأصوات) أي ارتخت وخفيت وخفضت لخشوع أهلها (للرحمن) أي الذي عمت نعمه ، فيرجى كرمه ، ويخشى نقمه (فلا) أي فيتسبب عن رخاوتها أنك (تسمع إلا همسا) أخفى ما يكون من الأصوات ، وقيل : أخفى شيء من أصوات الأقدام. نظم الدرر (٥ / ٢٦٩).

(٢) قالوا : سمّي الرجل زبرقان لجماله. وقالوا : زبرق ثوبه ، إذا صبغه بحمرة أو صفرة. والزّبرقان ، زعموا : القمر. جمهرة اللغة (٢ / ١٣٢).

٥٠٢

مستفاد من كرمه والحادث بمعرفته لا يعرف ماهية حديثه فكيف يعرف سر السر وعين العين وعلة العلل ، أفهم أن ما تدرك منه يرجع إليك بكل معروف ومفهوم ومعلوم فكلها متقى إدراك حقيقة ذاته وصفاته.

قال ابن عطاء : لا يحيطون بشيء من ربوبيته علما ؛ لأنه لم يظهر شيئا إلا تحت تلبيس ؛ لكيلا يستوي علمان في شيء واحد ومن لا يرى الكل تلبيسا كان المكر به قريبا ، والعبيد لا يقفون على تلبيساته.

وقال الواسطي : كيف يطلب أحد طريق الإحاطة وهو لا يحيط بنفسه علما ولا بالسماء ، وهو يرى جوهرها ثم زاد ذكر غلبة عزته وجلاله واشتمال أنوار هيبة ذاته وصفاته على كل ذرة من العرش إلى الثرى بقوله : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) افهم يا صاحب العلم أنه سبحانه ذكر الوجوه ، وفي العرف : «صاحب الوجه من كان وجيها عند كل ذي وجاهة» ؛ فالأنبياء والمرسلون والأولياء والمقربون في الحقيقة هم أصحاب الوجوه ، وكيف أنت بوجوه حور العين ووجه كل ذي حسن وحسن فوجوه الجمهور مع حسنها وجلالها ، المستفاد من حسن الله ، وإن كانوا جميعا مثل يوسف تلاشت وخرت وخضعت عند كشف نقاب وجهه الكريم وظهور جلاله وجماله القديم.

وقال سهل : خضعت له بقدر معرفتها به وتمكين التوفيق منه.

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤) وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧))

قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤)) عن الله سبحانه وتعالى إبصار سر نبيه وحبيبه ، وكشف لها بحار علومه الأزلية وعرفه مكان قصور علمه فيها فأمره باستزاده ، وقال : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤)).

قال محمد بن الفضل : «رب زدني علما» نفسي وما تضمره من الشرور والمكر والغدر لأقوم بمعونة في مداواة كل شيء منها تداويها ، ثم أخبر سبحانه عن لسان آدم صورة الأمر من غلبة سطوة إرادته بقوله : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) إن الله سبحانه قدر قبل الكون وقبل آدم أن آدم مصطفى مجتبى بالرسالة والنبوة وعلم الأسماء والجلال والكمال وأنه يعرف الله بطريق كل اسم من أسمائه ونعت من نعوته ، ونعت قهر جبروته ، فجر آدم

٥٠٣

باسمه إلى نعته ومن نعته إلى صفته ، ومن صفته إلى رؤية ذاته فألبس نور بهائه الشجرة المنهية وأراه ذلك النور والبهاء الرباني ، ثم أمره بالاجتناب عنها وألقي في قلبه محبة قربها ؛ لأنها مرآة جلاله يتجلى لادم منها فغلبت المحبة على الأمر وسلبته لطائف هذا الجمال فوقع في هيجان شوقها وغمار لذة بهاء مشاهدتها فترك صورة الأمر لشوق جمال الأمر ووقع في بحر القهر بغير مبالاته على العهد ؛ لأن عهد الأزل باصطفائيته سابق عهد الأمر فمن رؤيته عهد الأزل ترك عهد الأمر فاجترأ لعلمه بمكانته بوصف الاصطفائية عند الحق وقبوله ؛ لأن بعد القبول الأزلي لا يؤثر فيه مباشرة المعصية ، وقوله : (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥)) لم يجد الحق في قلب آدم عزم متابعة أمر الظاهر عند العهد ؛ لأن في قلبه رؤية ما يتولد من أكل الشجرة من خروج عرائس المقدرات الغيبية من مكمن القدم ، يا عاقل فديت لنقض عهده الذي بسببه بدا إعلام دولة المرسلين والنبيين والصديقين وحقيقة عهد الله مع آدم ألا يسكن بشيء دونه ، وإن كان وسيلة إلى قربه ومشاهدته فلما ارتهن في طريق الوصول بوسيلة وقع العصيان عليه لما لم يسلك في طلب الحقيقة بنعت التجريد وإسقاط الوسائط قال ابن عطاء : عهدنا إلى آدم ألا لا تطالع معي سواي فنسى عهدي وطالع الجنان.

(وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥)) أي : لم يطالع سره ، ولكن طالعه بعينه فنادى عليه (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى).

وقال الواسطي : ونسي ولم نجد له عزما أي : قوة على ضبط نفسه ، وإن كان الواجب أن ارتكاب المباشرة أوجب زوال النسيان فإن غيبته عن شاهده ليريه شواهد عبوديته تنبيها وتزيينا وقال أيضا : (فَنَسِيَ) وجهان أي : جهل قدر عهده وفرق بين من نسي بالحضرة وبين من نسى في الغيبة ، لذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» (١).

(إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢))

قوله تعالى : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) خاف آدم في سره قبل دخول الجنة أن ينقطع عن لذائذ مشاهدته ووصاله في الجنة وأن يحتجب عن روح الأنس والنظر إلى جمال

__________________

(١) رواه ابن ماجه في سننه (٦ / ٢١٧) ، والحاكم في «المستدرك» (٢ / ٢١٦) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٦ / ٨٤).

٥٠٤

القدس ، وأن يعرى عن ثوب عافية الرعاية والكفاية باشتغاله عنه بالجنة ، وهذا قرع سر القدم باب سر سره بأن ما يخاف عنه يقع فيه في ظاهر العلم ، فأخبره سبحانه (لَكَ أَلَّا تَجُوعَ) في شوقك إلى مشاهدتنا ؛ لأن هناك تستغرق في بحر وصالنا ولا تعرى عن لباس أنوار الاصطفائية ؛ فإنك ملبس أبدا بكسوة الاجتبائية ، وأنت في ظل عنايتنا لا تعطش إلى مياه الزلفة ؛ فإنك تكون في الوصلة ، ولا تضحى لا تحترق في حر شمس الفراق ، فلما وقع عليه واقعة الامتحان من القدر السابق صار عريانا في الجنة عما دون الله ، وذلك أنه سبحانه جرب صفيه بالجنة ، وأجرى عليه شهوة الحنطة ، فلما رآه في حجاب الامتحان جرده عن الجنان وأفرده عن الأكوان والحدثان غيرة على سر ما في قلبه ، وفيه إشارة أخرى كأنه أشار بالسرّ أي : لا تأكل الشجرة المنهية كيلا تجوع ولا تعرى ؛ فإن من خالقنا وقع في بحر الحجاب وعرى عن ستر الماب.

قال ابن عطاء : آخر أحوال الخلق الرجوع إلى ما يليق بهم من المطعم والمشرب ، ألا ترى إلى آدم بعد خصوصية الخلقة باليد ، ونفخ روحه الخاص ، وسجود الملائكة كيف رد لي نقص الطبائع بقوله : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨)).

قال الواسطي : خلق الله آدم بيده ، ونفخ فيه من روحه ، واصطفاه على الخلائق ، ثم رده إلى قدره لئلا يعدو طوره قال : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨)) وما تعرض لي في حكم الظاهر أن الله سبحانه قال لادم : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧)) أي : لو تخرجا من الجنة بسبب المعصية تتعبا في الدنيا لأجل المطعم والمشرب والملبس في الحراثة ، وغيرها في الدنيا وتعرى وتظمأ وتضحى ، ولا يكون مثل هذه العقوبات في جنبي وجواري ، كأنه خاطب معه من حيث الطبيعة خوف نفسه بالجوع والعرى والظمأ في الهواجر ؛ لأن النفس لا تفزع إلا من مثل هذه العقوبات لئلا تقع في جوار الحق في المعصية ، وإن من لطفه وكرمه عاقب آدم في الدنيا بالمجاهدات الكبيرة بما جرى عليه من المعصية في الحضرة ويعاقب المجهود في الاخرة بما جرى عليهم من المعصية في الدنيا وهذا خاصية له ؛ لأن عقوبة الدنيا أهون ، ولو لا امتحان الله آدم بأكل الشجرة ، ومثل هذا الخطاب لم يخرج آدم من الجنة ، ولم يظهر أسرار علوم حقائق قهرمانه لأهل المعارف من الصديقين ، ولم يقع عنده عذر المذنبين فخاطبه من حيث العبودية والحدوثية ولو خاطبه من حيث الربوبية لطار في الجنة في هواء الهوية ، ولم ير أثره في الزمان والمكان ، ولا في الجنان والحدثان.

سئل ابن عطاء عن قصة آدم : إن الله عزوجل نادى عليه بمعصية واحدة وستر على كثيرين من ذريته ؛ فقال : إن معصية آدم كانت في بساط القربة في جواره ، ومعصية ذريته في دار المحنة ،

٥٠٥

فزلته أكبر وأعظم من زلتهم ، ولما أراد الله أن يخرج من ذريته الأنبياء والمرسلين والأولياء والصديقين ابتلاه بأكل الشجرة فقفاه الشيطان حتى يوسوس ، وهذا سر القدر الغيبي كأنه يوسوسه القدر ، قال : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠)) أجرى الله هذه الكلمة الغيبية على لسان الشيطان ، وهو بذلك مغرور ظن أنه أوقع آدم في تيه الفرقة الأبدية ، ولم يعلم أن ذلك سبب الوصلة الأبدية ، وأنها شجرة الخلد بالحقيقة ؛ لأن الشجرة ملبسة بأنوار السلطانية حاملة بأسرار الربانية (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) أسرارهما التي انكشفت لهما من الغيب بعد أكل الشجرة ، ولم يبد تعبيرها ؛ فلما حازا الأسرار الألوهية خرجا من تحت موت الجهل ، وبلغا إلى ملك لا يبلى ، وذلك الملك الوقوف بالعلم الإلهي على أسرار قدر الازال والاباد دلهما الشيطان إلى هذه المعالم والمعادن الغيبية ، وهو معزول عنها مثله مثل حية تمشي على وجه الأرض إلى رأس كنز ، وخلفه إنسان ليقتلها فلما ضربها ظهر تحت ضربه كنز فصار الكنز له ، وصارت الحية مقتولة ، وبلغ إلى الأمرين العظيمين البلوغ إلى المأمول والفلاح من العدو ، فهكذا شأن آدم عليه‌السلام مع الملعون دله إلى كنز من كنوز الربوبية غرضه العداوة والضلالة فوصل آدم إلى الاجتبائية الأبدية بعد الاصطفائية الأزلية وبلغ الملعون إلى اللعنة الأزلية الأبدية.

قال الحضرمي : بدت لهما ، ولم تبد بغيرهما لئلا يعلم الأغيار من مكافأة الجناية ما علما ولو بد للأغيار ، لقال : بدت منهما ثم ذكر سبحانه تغيير آدم بالظاهر ، وأخفى تلك الأسرار في الباطن قال : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١)) عصيان آدم الرجوع من الأصل إلى الفرع ومن مكاشفة إلى الجنة ، والميل من طريق الأمر إلى طريق النهي ، ولو سلك طريق الأمر ليكشف الحق سبحانه ما كان في الشجرة بغير عصيان ؛ لأن في بساتين غيبه مائة ألف ألف شجرة غيبية مملوءة حاملة من علوم الأسرار ، ولكن سلبته صولة المحبة ، وتعجيل الاشتياق أكل من شجر القدم ، وصار سكران في وادي الأزل يكشف علم الأزل له فطلع على الجنان ، وكاد يفشي سر السر وغيب الغيب ، ويشوش أحوال الجنانين ؛ فأخرجه الحق إلى حبس الدنيا ، وحبس لسانه عن إفشاء سر القدم والبقاء ؛ فكان اصطفائيته الأزلية مصحوبة زلته ، فاستهلكت الزلة في الاصطفائية ، وزاد عليها اجتبائيته الأبدية التي لا تغيرها حوادث الدهور.

قال ابن عطاء : اسم العصيان مذمة إلا أن الاجتباء والاصطفاء منعا أن يلحق آدم اسم المذمة بحال.

قال جعفر : طالع الجنان ونعيمها بعينه فنودي عليه إلى القيامة ، وعصى آدم ، ولو

٥٠٦

طالعها بقلبها لنودي عليه بالهجران أبد الأبد ، ثم عطف عليه فرحمه بقوله : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) فلما غرق في بحر الامتحان والحجاب عن الجنان فاطلع على قلبه الرحمن ، ولم ير إلا الشوق إلى لقاء الرحمن أظهر نفسه له في منازل الفرقة بوصف الوصلة ، بقوله : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) زاد الاجتبائية على الاصطفائية وتاب الحق على صفيه ؛ لأن القديم لا يلحقه الحدث ، وإن اجتهد فأين يطلبه ، ولا أين فأقبل عليه الحق بنعت كشف جلاله هو لم يزل مقبلا عليه بنعت العناية والاصطفائية ، ويرجع إليه بحسن الإقبال ، وكشف الجمال ، وهدي إلى طريق الوصال الذي لا تفرق فيه بعد ذلك أبدا بقوله : (فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) هدي منه إليه.

قال الواسطي : العصيان لا يؤثر في الاجتبائية ، وقوله : (وَعَصى آدَمُ) أي : أظهر خلافا ثم أدركته الاجتبائية ؛ فأزالت عنه مذمة العصيان ألا ترى كيف أظهر عذره بقوله : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ، وكيف يعزم على المخالفة من هو في سر العصمة وخصوصية الاجتباء والاصطفاء.

(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩))

قوله تعالى : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣)) أي : من تبع خطابي وإلهامي فلا يضل عن طريق السنة ولا يشقى عن المتابعة.

قال سهل : هو الاقتداء وملازمة الكتاب والسنة لا يضل عن طريق الهدى ، ولا يشقى في الاخرة والأولى ثم بيّن أن من أعرض عن طريق الإلهام والذكر ومتابعة السنة وقع في ضنك عيش الفرقة بقوله : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) أي : من اشتغل بذكر غيري احتجب عن أنوار ذكري ، ومن كان محجوبا عن أنوار الذكر كان محجوبا عن أنوار مشاهدة المذكور ، وله حياة غير طيبة ويرزق غير هني ، وأي عيش أضيق من عيش من كان

٥٠٧

محجوبا عن وصال الحق؟! ومن أقبل إلى الله أقبل الله إليه ، ومن أقبل الله إليه أقبل إليه كل شيء بالخدمة والمتابعة ، قيل : لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوش عليه حاله.

وقال جعفر : لو عرفوني ما أعرضوا عني ومن أعرض عني رددته إلى الإقبال على ما يليق به من الأجناس والأكوان ، وقيل : قلة الصبر مع الذاكرين.

وقيل : ضيق الصدر على مداومة الطاعات ، ثم زاد عليه ضنك معيشة الاخرة بقوله : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤)) يعني : جاهلا بوجود الحق كما كان جاهلا في الدنيا كما قال على بن أبي طالب : «من لم يعرف الله في الدنيا لا يعرفه في الاخرة ، وقيل : عن رؤية أوليائه وأصفيائه».

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥))

قوله تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها) أي : إذا كنت متعرضا لمشاهدة جلالنا ؛ فاذكر آلاءنا ونعماءنا عليك مما عرفك خزائن جود الألوهية وعلوم الربوبية ، ونزه بذكرك صفاتنا حتى تكون مقدسا بذكرنا عن رؤية غيرنا ، فإذا تقدست بنا عن أوصافك تطلع عليك شمس جمالنا ، وينكشف لك أنوار وصالنا ، فإذا حان أن تغيب عنك حالك ففر بنعت القدس والطهارة عن لذة حالك إلينا حتى تبقى عليك آثار أنوار شمس عزتنا ، وإذا كنت غائبا بشريعتنا في آناء ليل الامتحان قف على باب ربوبيتنا بنعت التنزيه والتفريد ، واذكر شمائل منتنا عليك نزيد عليك كشف الصمدانية وبروز أنوار الوحدانية ، لعلك تصل إلى مقام المحمود من حيث دنو الدنو الذي لا يبقى بيني وبينك بين ولا بون ولا غير ولا حجاب ، ترضى برؤيتي عن رؤية كل خلق ثم حذره عن النظر إلى زينة الكون بنظر الاستحسان ؛ لئلا يشتغل بشيء دونه لحظة بقوله : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أن الله سبحانه ألبس الكون أنوار بهائه

٥٠٨

فصرف نظر نبيه عن ذلك حتى ينظر إليه صرفا بلا واسطة.

ألا ترى إلى قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) [الفرقان : ٤٥] ، ولا أن روحه كان عاشقا بالله مستأنسا بكل شيء مليح ، وبأن نظره أعظم من أن ينظر به إلى شيء دون الله.

قال الواسطي : هذه تسلية للفقراء وتعزية لهم حيث منع خير الخلق عن النظر إلى الدنيا على وجه الاستحسان ثم بيّن أن ما له من المكاشفة والمشاهدة والقربة والرسالة بلا واسطة خير مما كان له في رؤية الكون بقوله : (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣٦)) رزقه وصاله وكشف جماله ثم أمره بالعبودية وملازمة الطاعة بقوله : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) [طه : ١٣٢] ، الاصطبار مقام المجاهدة ، والصبر مقام المشاهدة (١).

قال ابن عطاء : أشد أنواع الصبر الاصطبار ، وهو السكون تحت موارد البلاء بالسر والقلب والنفس والصبر بالنفس لا غير.

وقال الجنيد : أي : وأمر أهلك بالاتصال بنا ، والاصطبار على تلك المواصلة معناه :

ومن يطيق ذلك إلا المؤيدون من جهتنا بأنواع التأييد.

قال يحيى بن معاذ : للعابدين أردية يكسونها من عند الله سداها الصلاة ولحمتها الصوم ثم بيّن أن عواقب السعادة مقرونة بالتقوى بقوله : (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢)) التقوى الخروج مما دون الله والحياء في إجلال الله.

قال أبو عثمان : هو ذم النفس والجوارح عن جميع ما يقبحه العلم.

سورة الأنبياء

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ

__________________

(١) قال الحرالي. ويصح أن يراد بها الدعاء ، فمن صبر عن الدنايا وعلى المكاره وأنهى صبره إلى الصوم فأزال عنه كدورات حب الدنيا وأضاف إلى ذلك الصلاة استنار قلبه بأنواع المعارف ، فإذا ضم إلى ذلك الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى بلغ نهاية البر. نظم الدرر (١ / ٨٥).

٥٠٩

بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥))

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١)) إن الله سبحانه حذّر الجمهور من مناقشته في الحساب ، وزجرهم حتى ينتبهوا عن رقاد الغفلات وترك الحساب أقرب من كل شيء منهم لو يعلمون ، فإنه تعالى يحاسب العباد في كل لمحة ونفس ، وحسابه أدق من الشعر وأخفى من دبيب النمل على الصفا ، ولا يعرف ذلك إلا المراقبون الذين يحاسبون أنفسهم في كل نفس وخطرة وهم في غفلة في حجاب عن مشاهدة الله معرضون عن طاعته إذ لا حظ لهم في الطاعات ، ولا شرب لهم في المشاهدات ويا غافلا لو تدري حلاوة حساب الله ودقائق تعريفه مكان السهو والغلط تحاسب نفسك في كل نفس ، ما أحلى خطابه وإلهامه في تعبير العارفين ، ما أطيب مسامرته مع الصديقين في مؤاخذته دقائق الخطرات كأن بطون علم المجهول قد أشارت إلى أن هذا حركة جرسات الوصلة ولمعات أنوار القربة ، كما قيل :

ويبقى الودّ ما بقي العتاب

وقال بعضهم : دنا أوان الانتباه ، وهم في غفلتهم معرضون عن طريق التوبة والعظة والانتباه.

قال بعضهم : قرب أوان اللقاء وهم في غفلة عن استصلاح أنفسهم لتلك الحضرة ،

ثم وصف سبحانه القلوب الغافلة بقوله : (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) ساهية عن الذكر وحقائقه ولذته ، شاغلة بحظوظ نفسها محجوبة عن لقاء خالقها.

قال ابن عطاء : معرضة عن طريق رشدهم.

وقال بعضهم : غافلة عن مسالك اليقين وطريق المتقين.

قال الواسطي : لاهية عن المصادر والموارد والمبدأ والمنتهى.

(ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩))

قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧)) أي : فاسألوا أهل شهود جمال المذكور القديم بنعت صفاء الذكر في قلوبهم من مشرق نور مشاهدته ، وهم الذين مخاطبون من الله بكل سر وكل حقيقة من علوم الغيبية الأزلية.

قال سهل : فاسألوا أهل الفهوم عن الله والعلماء به وبأوامره ونواهيه.

٥١٠

قال الجنيد : أهل الذكر العالمون بحقائق العلوم ومجاري الأمور ، والناظرون إلى الأحكام بأعين الغيب.

(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤))

(فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧))

قوله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) (١) أي : ذكر مناقبكم من حيث الأرواح القدسية والأشباح الإنسية والعقول الملكوتية والأسرار الجبروتية والنفوس الهوائية ، وهذه المراتب الجامعة لا تحصل إلا لادم وذريته ، وفيه بيان خبر الأزل بكرامتكم وخيريتكم على البرية ، أين أنتم من معرفة نفوسكم لا تعقلون شرف نسبتكم في معرفتي ووصولكم إلىّ بعنايتي الأزلية.

قال سهل : العمل بما فيه حياتكم.

قال الأستاذ : أي : شرفكم وفخركم ؛ فمن استبصر بما فيه من النور سعد في الدنيا والاخرة.

قوله تعالى : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ) كم قلب خرب عمران بنور ذكر الله بظلم الطبيعة ومباشرة الشهوة والدعاوي الباطلة ، والنظر إلى الأغيار ، وصار محجوبا بها عن مشاهدة الأنوار وحقائق الأسرار.

وقال أبو بكر الوراق : في ظلم خراب العمران كما قال عليه‌السلام : «الظلم ظلمات يوم القيامة» (٢).

إذا أظلم القلب عن المعرفة والإخلاص خرب ، وعلامة خراب القلب عصيان الجوارح وتعديها وميلها إلى ما فيه هلاكها ، ولذلك قال الله تعالى : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ

__________________

(١) أي : طوال الدهر بالخير إن أطعتم ، والشر إن عصيتم ، وبه شرفكم على سائر الأمم بشرف ما فيه من مكارم الأخلاق التي كنتم تتفاخرون بها وبشرف نبيكم الذي تقولون عليه الأباطيل ، وتكثرون فيه القال والقيل. نظم الدرر (٥ / ٢٩٠).

(٢) رواه البخاري (٢٣١٥) ، ومسلم (٢٥٧٨).

٥١١

كانَتْ ظالِمَةً).

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١))

قوله تعالى : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ) أخبر سبحانه عن الطبيعة الإنسانية التي هي منابت مخائيل الشيطانية ، وحنظلات الهواجس النفسانية ، فإذا صارت مجموعة بأباطيل شهواتها ، وظلمات هواها أشرقت شموس مشاهدة الجلال والجمال من روازن الملكوت للقلب المستعد لشهود مشاهد القربة ، فتدلت منه ، وتجلت له حتى لا يبقى من ظلمات الطبيعة أثر ، فإذا صار بدر الجمال مستقيما في سقف سماء القلوب ، وأضاء بأنوار الغيوب اضمحلت سجود ليالي النفوس ، وانهدمت قيام أباطيل الشياطين.

وقال الواسطي : الوعظ للأكابر ، ومنهم من له مشار مقذوف كقوله : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ).

قال الأستاذ : يدخل نهار التحقيق على ليالي الأوهام ، فينقشع سحاب الغيبة ، ويتجلى ضباب الأوهام ، ويبرز شمس اليقين عن خفاء الظنون ، ويصحو سماء الحقائق عن كل غبار الشبه ساطعا.

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦))

قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) فيه إشارة إلى إفراد القدم عن الحدوث وتنزيه الأزلية والأبدية عن العلة ، كأنه دعا العارفين إلى رؤية الفردانية بنعت الانفراد عن الحدثان.

قال الساري : حثك في هذه الاية على الرجوع إليه والاعتماد عليه ، وقطع العلائق والأسباب عن قلبك.

٥١٢

قوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣)) قطع لسان الحدثان بمقراض هيبة الرحمن عن الانبساط في وقت كشوف عظمة الجبروت وشهود جلال الملكوت يفعل الخبير ما يشاء ، وليس لهم هناك لهجة سؤال ، ولا لهم حجة مقال إذ لا وسمة على فعاله وعزة كماله ، وهم معاتبون عما فعلوا ؛ لأن أفعالهم وقعت ناقصة عن سنن نظام سنة الأزلية بمشيئة القدمية.

سئل ابن حماد المصري عن قوله : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) لم لا يسأل؟ قال : لأن أفعاله من غير علة.

(لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤))

قوله تعالى : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧)) عزة سرمديته قطع لسان المسبحين من الكروبيين عن حقيقة الثناء ووقعت الاستحالة أن يحيط بجلال قدمه قول كل قائل ، ووصف كل واصف ولا يطيقون أن يقولوا شيئا من تلقاء نفوسهم أو يفعلوا شيئا بإرادتهم ، بل هم في قبضة عزته أذلاء تحت جلال جبروته يتبعون أمره كما أراد منهم.

قال القاسم : لا يسبقونه قصدا ولا فعلا ؛ لأنهم مربوطون بما ذكرهم مقموعون بما عرفهم لئلا يفتري عليه أحد ثم وصف لهؤلاء الكرام بالخشية منه والشفقة عنه بقوله تعالى : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨)) أي : هم من معرفة جلال قهره خائفون من فرقته يعلمهم بأنه منزه عن وجودهم وعدمهم ، وهذه الخشية حقيقة العلم بالله يتولد منها الخوف والحياء والتعظيم والإجلال.

قال الواسطي : الخوف للجهّال ، والخشية للعلماء ، والرهبة للأنبياء ، وقد ذكر الله الملائكة وقال : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨)).

٥١٣

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦))

قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) ذكر النفوس لا القلوب ولا الأرواح ؛ لأنها باقية يتجلى حياة الحق لها فإذا انسلخت الأرواح من الأشباح انهدمت جنابذ (١) الهياكل ، ورجعت الأرواح على معادن الغيب لشهودها مشاهدة الرب.

قال الجنيد : من كان بين طرفي فناء فهو فان.

وقال أيضا : من كان حياته بنفسه يكون مماته بذهاب روحه ، ومن كان حياته بربه فإنه ينقل من حياة الطبع إلى حياة الأصل ، وهي الحياة على حقيقة ، وافهم أن الموت بالحقيقة موت الفراق وفوت الوصال ، كما قيل : «الفوت أشد من الموت ، والموت الجهل ، والحياة حياة العلم» ، والموت عبارة عن الفناء والحدثان ، وإن كان موجودا ؛ فهو بالحقيقة فإن ؛ لأن حقيقة البقاء لا تقع عليه ؛ لأنه محدث والمحدث لا يستحق له حقيقة البقاء إذ بقاؤه بالحق لا بنفسه ، والموت قهر غيرة الأزلي يطري بالحدثان يدمر وجودها حتى لا يبقى اسم المرسومات ونعت الموجودات في ظهور الذات والصفات ، ثم ذكر ابتلاء الخلق بالخير والشر بقوله : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) بالقهر واللطف والفراق والوصال والإقبال والإدباد والمحنة والعافية والجهل والعلم والنكرة والمعرفة.

قال سهل : نبلوكم بالشر ، وهو متابعة النفس في الهوى بغير هدى ، والخير العصمة من المعصية والمعونة على الطاعة.

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩))

قوله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) هذا والله أمر عجيب خلقهم من العجلة وزجرهم عن التعجيل إظهارا لقاهريته على كل مخلوق وعجزهم عن الخروج من ملكه وسلطانه وحقيقة العجلة يتولد من الجهل برؤية المقاصد السابقة.

__________________

(١) الجنبذة : القبّة ، عن ابن الأعرابي ، وفي الحديث في صفة الجنة : «وسطها جنابذ من ذهب وفضة يسكنها قوم من أهل الجنة كالأعراب في البادية». حكى ذلك الهروي في الغريبين (بتحقيقنا).

٥١٤

قال الواسطي في قوله : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) قال : لا يستعجلون إظهارا لعجزهم وتعريفا لقدره.

(بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١))

قوله تعالى : (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ) أظهر الحق سبحانه جلال عظمته يوم القيامة ؛ فلما رأوا سطوات عظمته تلاشوا في جلال هيبته ، وكيف يقوم الحدثان عند ظهور جلال الرحمن حيث يتجلى لها بوصف العزة والعظمة والكبرياء ، وأهل شهود القدم على نعت السرمدية لا يفزعون من طريان أفعاله وجريان قهره ولطفه ؛ لأنها امتحانات عارية لا يفزع عنها إلا كل مشغول عنه.

قال بعضهم : من يبهته شيء من الكون ؛ فهو لمحله عنده وغفلته عن مكنونه ، ومن كان في قبضة الحق وحضرته لا يبهته شيء ؛ لأنه قد حصل في محل الهيبة من منازل القدس.

(قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩))

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أخبر عن كمال إحاطته بكل مخلوق وتنزيهه عن العجلة بمؤاخذتهم أي : أنا بذاتي تعاليت أدفع بلطفي القديم عنكم قهر القديم ، ولولا فضلي السابق ، وعنايتي القديمة بالرحمة عليكم من يدفعه بالعلة الحدثانية ، وهذا من كمال لطفي عليكم ، وأنتم بعد معرضون عني يا أهل الجفاء ، وذلك (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ

٥١٥

رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢)).

قال الواسطي : أي : من يحفظكم بالليل والنهار من الرحمن ، أي : يظهر عليكم ما سبق فيكم (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) ، أي : ذكرهم إياه في الأزلية بالنجاة والهلاك.

قال ابن عطاء : من يكلؤكم من أمر الرحمن سوى الرحمن ، وهل يقدر أحد على الكلاءة سواه.

قوله : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) إن الله موازين عدله القديم لا تتغير بتغير الحدثان ولا برسوم الزمان والمكان ، وكل ميزان له موضع ومقام فمنها للعاشقين ، ومنها للعارفين ومنهما للمحبين ، ومنها للمشتاقين ، ومنها للمستأنسين ، ومنها للخاضعين ، ومنها للأواهين من غلبة قهر المواجيد ، ومنها للواجدين ، ومنها للعالمين ، ومنها للباكين عليه منه فيزن بها معالي هممهم ومقادير محنهم في زمان هجرانه وأوان امتحانه فيبقيهم بجلال قدره ما لا يحصى عدده من قرب مشاهدته وحسن وصاله فيفتح لهم خزائن وجود الأزل ، وله ميزان للعارفين يزن أنفاسهم به يضع نفسا من أنفاسهم المعجونة بنفس صبح روح الأزل في كفه ، ويضع جميع الجنان في أخرى ، فيرجح ما فيه نفس العارف بحيث لا يبقى في جنبه الحدثان ؛ لأنه خرج من غيب الرحمن منورا بنوره.

قال القاسم : الأعمال والموازين شتى ، والعدل ميزان الله في الأرض ؛ فمن وزن أعماله بميزان العدل ؛ فهو من العابدين ، ومن وزن حركاته بميزان العدل ؛ فهو من المحبين ، ومن وزن خطراته وأنفاسه بميزان العدل ؛ فهو من العارفين.

وميزان العدل في الدنيا ثلاثة : ميزان للنفس والروح ، وميزان للقلب والعقل ، وميزان للمعرفة والسر ؛ فميزان النفس والروح الأمر والنهي ، وكفتاه الوعد والوعيد ، وميزان القلب والعقل الإيمان والتوحيد وكفتاه الثواب والعقاب وميزان المعرفة والسر الرضا والسخط ، وكفتاه الهرب والطلب ؛ فمن وزن أفعال النفس والروح بميزان الأمر والنهي بكفة الكتاب والسنة ، ينال الدرجات في الجنان ، ومن وزن حركات القلب والعقل بميزان الثواب والعقاب بكفة الوعد والوعيد أصاب الدرجات ونجا من جميع المشقات ومن وزن خطرات المعرفة والسر بميزان الرضا والسخط بكفة الهرب والطلب نجا من الذي هرب ، ووصل إلى ما طلب فيصير عيشه في الدنيا على الهرب ، وخروجه منها على الطلب وعاقبته إلى غاية الطرب ؛ فمن أراد الوصول إلى المسبب فعليه بالهرب من السبب ؛ فإن السبب حجاب كل طالب.

(وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠))

قوله تعالى : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) كلام الله سبحانه في نفسه مبارك وإن لم يسمعه الجاهل ، ولكن مبارك على من يسمعه بأسماع المحبة والشوق إلى لقاء المتكلم القديم

٥١٦

ويعمل بمضمونه ، ويعرف إشارته ويجد حلاوته في قلبه ، فإذا كان كذلك يبلغه بركته إلى مشاهدة معدنه ، وهو رؤية الذات القديم ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [القصص : ٨٥].

قال ابن عطاء : مبارك على من يسمعه ، مبارك على من يتعظ به ، مبارك على من ينزل بهمته وقلبه عليه ، مبارك على من آمن به وصدق بما فيه ومن لم ير على سره وقلبه ونفسه آثار بركات القرآن ؛ فليعلم ببعده عن مصدر الخواص ودخوله في ميادين العوام من الأشقياء.

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ) هذا خبر اصطفائية الخليل في الأزل بخلته ورسالته قبل إيجاده وإيجاد الكون وما فيه فإذا أوجد وجه من العدم كاشف لها جمال العدم وعرفها نفسه بنعت إعلامه أسماءه ونعوته وأسرار صفاته فعرفت الله بالله وعرفت سبل شهود الصفات ومشاهدة الذات ، فلما التبست بصورته جاءت بعقل القدسي من الملكوت والعلم الإشاراتي من عالم الجبروت ؛ فتعرف القلب طرق المحبة والخلة وتعرف النفس طرق الطاعة والخدمة ، فلما أخرجه الحق من مجال أنسه ألبسه أنوار قدسه فنظر بالعين المكحولة بنور المعرفة إلى عالم الكون ، ورأى عجائب الملك وغرائب المملكة فأرادت نفسه أن يسكن إلى الدليل عن المدلول من حيث لها منه لذة مشاهدة اصطناع المالك القديم فغلبت عليها روحه الملكوتية وأغارت ما دون الحق عن ساحة كبريائه بقوله : (أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا

٥١٧

تُشْرِكُونَ (٥٤)) [هود : ٥٤].

سئل الجنيد : متى أتاه رشده؟ فقال : حين أتاه.

وقال أيضا : آثار سوابق الأزل وإظهاره كما أظهر على الخليل في السخاء والبذل والأخلاق في بذل النفس والولد والمال في رضا الحق ؛ فلا يشتغل إلا به ولا يفرح إلا عليه ولا يلتفت إلا إليه ، فقال الله : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ) ، ويقال : ذلك ما أضاء عليه من أنوار التوحيد قبل ما حصل منه من النظر في المخلوق ، ويقال : هو مكاشفة روحه قبل إيداعها قالبه من تجلي الحقيقة (١).

(قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨))

قوله تعالى : (قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ) طلب الحاجة من المحتاج وهن في المعرفة وشين في الحقيقة والمحقق في المعرفة يعرف الأشياء بالله بأنها مجاري أقدار الأزل ، ولا تقوم بذاتها بل تصاغرت في قبضة تصرف جلاله ، ومن كان همته بهذه الصفة كيف يعتمد من الخالق إلى المخلوق.

قال حمدون القصار : استعانة الخلق بالخلق كاستعانة المسجون باستعانة المسجون.

(قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ

__________________

(١) أي صلاحه وإصابته وجه الأمر واهتداءه إلى عين الصواب وأدل الدلالة وأعرف العرف وأشرف القصد الذي جلبناه عليه ؛ وقال الرازي في اللوامع : والرشد قوة بعد الهداية ـ انتهى.

٥١٨

سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨))

قوله تعالى : (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩)) كان الخليل منورا بنور الله وكان النار من فعل الله ؛ فغلب نور الصفة على نار الفعل ، ولو بقيت النار حتى وصل الخليل صارت مضمحلة ، فعلم الحق ذلك فقال : (كُونِي بَرْداً وَسَلاماً) حتى تبقى لظهور معجزته وبيان كراماته ، وفي الإشارة لنا إشارة ، وفي إشارتنا سر أن الخليل طالب خليله في مرآة مشاهدة الشمس والقمر والنجوم وأراه الله مطلوبه من وسط النار كما أرى موسى من وسط النار ، والشجرة كأن نيران الكبرياء تكاد بصولة القدم أن تفنى وتحرق إبراهيم ، فقال سبحانه بنفسه مع نفسه لنفسه : (وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩)) فأسلمه من قهر نفسه بلطف نفسه.

قال ابن عطاء : سلم إبراهيم من النار بسلامة صدره ، ولما حكى الله عنه بقوله : (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤)) [الصفات : ٨٤] خال من جميع الأسباب والعوارض وبرد عليه النار لصحة توكله ويقينه وثقته حيث ناداه جبريل ألك بي حاجة؟ فقال : أما إليك فلا.

(فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢))

بفضله ، لا يتعلق بالصغر والكبر والشيخوخية والاكتساب والتعلم ، إنما الفهم تعريف الله تسيل أحكام ربوبيته بنور هدايته ، وإبراز لطائف علومه الغيبية ؛ فحيث يظهر ذلك فهناك مواضع الفهوم والعلوم ، فهو سبحانه منّ على سليمان بعلمه ، ولم يمن عليه بشيء خارج من نفسه من الملك والحدثان ، فإن العلم صفة من صفاته ، فلما جعله متصفا بصفاته منّ عليه بجلال كبريائه.

قال الجنيد : أفهم الله سليمان مسألة من العلم فمنّ عليه بذلك ، وأعطاه الملك فلم يمن عليه ، وقال : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ).

قال الواسطي : في قوله : ففهّمناها بسلامته عن شواهد اللذات في الطاعات.

قال أبو بكر : لبره بأبيه ثم بيّن فضل أبيه داود بما أعطاه من الحكمة والعلم والشرف

٥١٩

والفضل ، وإن شذّ عنه فهم تلك المسألة فأراه الله ما منّ على سليمان ليكون قرة عينه بقوله تعالى : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) معرفة بالربوبية وعلما بالعبودية.

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦))

قوله تعالى : (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ).

لما أخبر الله سبحانه أيوب عليه‌السلام أنه حان وقت خروجه من البلاء علم أيوب أن ما رأى من رؤية المبلى في بلائه يكون منقطعا عنه إذا انقطع البلاء قال : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) إذ فات عني مشاهدتك في بلائي ، وأيضا إذا كان مبتلى كان في محل رؤية قهر القدم الذي شاهده الحق بوصف جلاله وجماله تربية بقهره لعرفانه ، وجميع صفاته بطريق القهر واللطف ؛ فلما انهزم عساكر قهر سلطانه من جنود ألطاف ألوهية خاف أن يفوت ما حصل له من رؤية القهر ومباشرته ، قال : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ، ولأنه ادعى الصبر فجربه الحق بالبلاء فإذا خرج من مكائده طوفان قهر القدم وجد نفسه خارجا من مقابلة بلائه الذي هو دأب فتيان الخضرة ؛ فقال : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ، وأيضا مقام العافية حظ العاشق من المعشوق ، والبلاء حظ المعشوق من العاشق ، فلما انعزل من حظ معشوقه عنه وبقي مع حظه منه قال : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ، وأيضا البلاء مقام الفناء في القدم والعافية مقام البقاء والعارف الصادق يؤثر فناء نفسه على بقائه ؛ لأن تنزيه القدم يقتضي فناء الغير فمن حجة كونه في مشاهدة الحق قال : (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) كون وجودي في وجودك ؛ لأن حق الغيرة في الوحدانية لا يقتضي كون الوجود في وجود الحق ، وأيضا كان روحه من مقام الأنس صدرت فطار صورته شبيه روحه باللطافة ، وهو كان في هواء الأنس طيارا ، وفي ميادين الحسن والجمال سيارا ، فلما لحقه البلاء صار في البلاء وثقله ومرارته محجوبا عن لذة الأنس به ؛ فقال الله :

(مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ، ويا فهم العارف الصادق إذا كان متحققا في معرفته فشكواه حقيقة الانبساط ، ومناداته تحقيق المناجاة وأنينه في بلاء حبيبه حقيقة المباهاة ، وفيما ذكرنا أنشدت يوما في حق بلاء عشي في أيام امتحاني وشوقي إلى أيام وصالي ورؤية منابي فقلت :

هوائي يا منابي في لقاك

وعيشي يا رجائي في هواك

نزلت حظوظ نفسي من حياتي

وآثرت الممات بأن أراكا

٥٢٠