تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٧٤

وشوارق الهواجس ، يأتي عليه رزق المعرفة والمحبة ، وبرد الأنس والمشاهدة من كشف الذات وجميع الصفات رزق أرغد ؛ بحيث لا كدر فيه ولا كدورة عليه من قتام الهجران ، وظلمة الحرمان ، فإذا أراد الحق سبحانه إتمام النعمة عليه ، رفع عنه الخطأ والنسيان ، والظن والحسبان ، حتى لا يشتغل إلا بمراعاة أسراره ، وبمداركة لطائف أنواره ، وإذا أراد به الامتحان وضعوا عليه النسيان ، وأغلق عليه أبواب فتوح المشاهدة حتى يذوق طعم وبال الهجران ، ويسقط في ورطة الحرمان ، ويكون خائفا بعد أن يكون آمنا ، وفائزا بعد أن يكون ساكنا ، بقوله : (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ).

قال الأستاذ : فراغ القلب عن الشهوات نعمة عظيمة ، إذا كفر عبد هذه النعمة بأن فتح على نفسه باب الهوى ، وأنجز في قياد الشهوات شوّش الله عليه نعمة قلبه ، وسلبه ما كان يجده من صفاء وقته ، فإن طوارق النفس أوجب غروب شوارق القلب.

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤))

قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) أي : باشروا مراد الهوى بجهلهم على صفات ربهم الأعلى من قهر ولطف ، ثم تابوا من بعد ما رأوا مكائد الشيطان ، وعيوب النفس ، وعرفوا موضع خطأهم ، وندموا على ما فات عنهم من أوقات سنية ، وحالات شريفة ، وأصلحوا ما أفسدوا بالورع التام ، والزهد على الدوام ، والندم على فوت الأيام ، وغفلتهم في المنام ، يوفقهم بالاستقامة في طاعته ، وبقائهم بنعمتها في رعايتها ، لذلك قال : (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

قال سهل : ما عصى الله أحد إلا بجهل ، وربّ جهل أورث علما ، والعلم مفتاح التوبة ، وفي الصلاح صحة التوبة ، من لم يصلح في توبته عن قريب يفسد عليه توبته ؛ لأن الله يقول : (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا).

قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) إنّ إبراهيم كان آدم الثاني ،

٣٤١

خلقه الله على رؤية جمال جميع صفاته ، واستيلاء أنوار ذاته في إيجاده على كونه ، فتجلى بقدمه من حيث الذات ، وبالبقاء من حيث الصفات ، ومن الأسماء والنعوت برسم الأفعال لروحه وقلبه وعقله وسره ، فصار موجودا بوجوده ، مشكاة لأنواره ، نورا من تجليه متخلقا بخلقه ، موجودا بلطفه ، مقدسا بقدسه ، خليلا بخلته ، حبيبا بمحبته ، صفيّا باصطفائيته ، ملكا بملكه ، بصيرا ببصره ، سميعا بسمعه ، متكلما بكلامه ، عينا من عيون الحق في العالم ، وشقائقا من منابت لطف آدم ما اجتمع في كل ، اجتمع في وجوده ، مطيعا في عبوديته ، حرّا في حنيفيته ، غير مائل من جمال الحق إلى غيره ، قال تعالى : (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

وليس الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

ثم زاد وصفه بمعرفة منعمه ونعمه لاجتبائيبته بخلته ، وتعريفه إياه طريق محبتهن بقوله : (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) شاكرا لأنعمه حيث بذل نفسه لأمره ولمراده ، وأسلم نفسه في ذبح ابنه ، والصبر في بلائه ، والرضا بقضائه ، اجتباه في الأزل بالخلة ، وهذا إلى المعرفة ، وكمله بكمال الاستقامة ، والقانت الذي سكن قلبه مع الله في مقام الأنس الحنيف الذي قلبه مربوط بنعت القدس.

قال بعضهم : أمّة أي : معلما للخير ، عاملا به.

وقيل : القانت الذي لا يفتر عن الذكر ، والحنيف الذي لا يشوب شيئا من أعماله بشرك.

وقيل في قوله : (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) : لم يك يرى المنع والعطاء والضر والنفع إلا من موضع واحد.

قال الواسطي في قوله : (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) : قابلا لقضائه وقسمته قبول رضا لا قبول كراهية.

قال أبو عثمان : الشاكر لنعمه ألا يرى شكره إلا ابتداء نعمة من الله عليه ؛ حيث أهلّه لشكره ، واجتباه من بين خلقه ، وكتب عليه الهداية إلى صراط مستقيم ، عالما أن الهداية سبقت له من الله ابتداء فضل لا باكتساب وجهد وكدّ.

قيل : القنوت القيام بالحق على الدوام والحنيف المستقيم في الدين ، ثم وصف كرامته عليه وشرفه بقوله : (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) آتيناه في الدنيا حسنة النبوة ، والرسالة ، والخلة ، والمحبة ، والمعرفة ، وإنّه في الاخرة لمن الشاهدين لقائه أبدا بلا حجاب ، فإنه بوصف ما ذكرنا يصلح لقربه وجواز وصاله أبدا.

قال بعضهم : آتيناه في الدنيا المعرفة حتى صلح في الاخرة لبساط المجاورة.

٣٤٢

قال بعضهم : أصلح الله قلوب المؤمنين للمعاملة ، وأصلح قلوب الأنبياء والأولياء للمجاورة والمطالعة.

وقال الواسطي : هي الخلة لا غيرها تولي الأنبياء بخلقه خلقهم على ذلك جذبا منهم إليه.

قال الأستاذ : آتيناه في الدنيا حسنة حتى كان لنا بالكلية ، ولم يكن لغيرنا ، ثم جعله إماما لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمّته بقوله : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) ملة إبراهيم الخلة والمحبة والرضا والتسليم والسخاء والوفاء والكرم ، أوحى إلى رسوله بمتابعته ، إذ اختاره بما اختار خليله وأجل وأفضل بدايته متابعة الخليل ، ونهايته انفراده في تجريد التوحيد عن غير الحق بالحق ، ويقتضي هذا التأدب باداب المشايخ ، والتواضع للأكابر ، كما قال الدينوري : أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم باتباع الخليل لئلا يأنف أحد من الاتباع ، وملة إبراهيم كانت سخاء ، والخلق الحسن ، فزاد عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى جاد بالكونين عوضا عن الخلق ؛ فقيل له : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

ومن جملة ما أمره الله باستعمال الخلق.

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨))

قوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) أي : خاطب الجمهور بلسان الشريعة لا بلسان الحقيقة ، فإن تكلمت معهم بالحقيقة طاشت العقول فيها ، وبقيت الخلق بلا فهم ، ولا علم ، والموعظة الحسنة التي لا حظ للنفس فيها ، ويكون على قدر عقول الخلق وطاقتهم.

قال بعضهم : خاطب كلّا على قدره ، والموعظة الحسنة فيها ترغيب وترهيب.

سئل بعضهم : لم قدم الله الحكمة؟ فقال : لأن الحكمة إصابة القول باللسان وإصابة الفكرة بالجنان ، وإصابة الحركة بالأركان ، إن تكلم ، تكلم بحكمة ، وإن تفكر ، تفكر بحكمة ، وإن تحرك ، تحرك بحكمة.

وقال جعفر : الدعاء بالحكمة أن تدعو من الله إلى الله ، بالله ، والموعظة الحسنة أن ترى

٣٤٣

الخلق في أمر القدرة ، فتشكر من أجاب ، وتعذر من أبى وفي قوله : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الجدال الحسن أن تدلّهم إلى الله بالله ، تعرف ذاته وصفاته ، بما وجدت من كرمه ولطفه ، شفقة ورحمة على خلقه.

قال بعضهم : هي التي فيها من حظوظ النفس شيء ، ولا يرى أنه الممتنع من قبول الموعظة ، فيغضب عليه (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) فلا ينجح فيه قولك (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) الموفقين الذين شرحت صدورهم لقبول ما أتيت به.

قال سهل : السبيل الذي أمر الله تعالى نبيه عليه‌السلام أن يدعو إليه ، هو الإيمان بالله ، فإنه طريق ممدود من الدنيا إلى الاخرة.

وزاد تعالى تأكيدا باستعمال الكرم والخلق ، والعفو والصبر ، بقوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) دفع الانتقام لحظ النفوس ، وأجاز الانتقام له لا لغيره ، والصبر في المكاره ، والامتحان منتهى مقام المجتهدين ، الأول يتعلق بمقام المبتدئين ، والصبر يتعلق بمقام الراضين ، والمريد منغمس في أنوار الشريعة ، والعارف مستغرق في بحر الربوبية ، الأدب شعار المريدين ، والرضا مقام المختارين.

قال الجنيد في قوله : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) : ولم تعاقبوا لها خير للصابرين التاركين العقوبة ، التي أباح العلم فعلها بالأدب الذي يتبعه بالأمر ، ويلزمه بالترغيب ، أنه خير للصابرين ، ثم بيّن سبحانه أن ذلك الصبر الذي هو خير للصابرين لا يكون إلا بالله بقوله : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) أي : صبرك في بلائه لا يكون إلا بكشف جماله لك ، وأيضا أي : ما صبرك إلا بعد تخلقك بصبره ، وأيضا (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) أي : الله عوض صبرك ، وأيضا صبرك بالله ، لا بنفسك ، فإن بلاءه لا يحتمله إلا هو.

وقال الواسطي في هذه الاية : أخبر بأنه هو الذي تولاهم بحجبهم عند المعاينة في الحضرة عن الحضرة ، وهم ثلاث طوائف عند اللقاء ، طائفة تسر مدت بقيومية دوامه وأزليته ، فلم تجر عند اللقاء عليها آفة باتصال أنوار السرمدية بأنوار الأبدية ، وطائفة لقيته في زينته ، وحسن نظره واختياره ، فغمزهم في نعمته وحجبهم بكرامته ، فهي متلذذة بنعمة محجوبة عن حقيقته ، وطائفة يثبت شواهد طاعاتها وزهدها ؛ فقال لهم مرحبا بمقدمكم فحجبهم في نفس ما خاطبهم.

وقال ابن عطاء : يأمره ويبرئه.

وقال جعفر : أمر الله أنبياءه بالصبر ، وجعل الحظ الأعلى منه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث جعل أمر

٣٤٤

صبره بالله لا بنفسه ؛ فقال : (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ).

قال النوري : في هذه الاية هو الصبر على الله بالله.

قال الأستاذ : (وَاصْبِرْ) تكليف ، و (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) تعريف.

ويقال : (وَاصْبِرْ) تعنيف ، و (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) تخفيف ، (وَاصْبِرْ) أمر بالعبودية ، (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) إخبار عن حق الربوبية ، ثم أخبر سبحانه بألا تنظره إلا إلى سوابق التقدير ، حتى لا تحزن على موارد التدبير ، بقوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي : انظر إلى مرادنا منهم ، ولا تنظر إلى مرادك منهم ، فإن أمر الربوبية سابق على أمر العبودية.

قال ابن عطاء : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يضيق بهم صدرا ، ولكنّ الله تعالى حذّره ما هو موهوم في البشرية ، وإن كان هو منزّها عنه.

قال الأستاذ : طالع التقدير فيما لا تجعله حظرا عندنا ، لا ينبغي أن يوجب أثرا فيك ، ومن أسقطنا قدره فاستصغر قدره وأمره ، ثم تسلّى قلب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه تعالى مع متّق صادق شاهد محسن بقوله : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) أي : مع الذين عظّموا الله برؤية عظمته ، وأجلوه بإجلاله ، وتبرؤا به عن غيره ، وهم في حال الإحسان في جمال مشاهدته ، هائمون في بهاء وجهه ، وأنوار قدسه ، فهو معهم من حيث لا هم ، أفناهم به عن وجودهم ، ثم أبقى نفسه لهم بعد فنائهم عنه فيه له.

قال ممشاد الدينوري : رأيت ملكا من الملائكة يقول لي : كل من كان مع الله فهو هالك ، إلا رجل قلت : ومن هو ، قال : من كان الله معه ، وهو قوله : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ).

قال بعضهم : من اتقى الله في أفعاله أحسن الله إليه في أحواله.

وعن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر قال : التقوى مع الله ، والإحسان إلى خلق الله.

قال الواسطي : التقوى : كيف اتقى؟ وماذا يتقي؟ ولماذا يتقى؟

وقال الأستاذ : (الَّذِينَ اتَّقَوْا) رؤية البصيرة من غيره والذين هم أصحاب التبرّؤ من الحول والقوة ، والمحسن الذي يعبد الله كأنه يراه ، وهو حال المشاهدة.

***

٣٤٥

سورة بني إسرائيل

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢))

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) : في هذه الآية أربع إشارات : إشارة التقديس ، وإشارة الغيرة ، وإشارة الغيب ، وإشارة السرّ ، فأما إشارة التقديس فقوله : (سُبْحانَ) أي : منزّه عن إشارة الجهات والأماكن في الفوقية ، وما يتوهم إليه الخلق أنّه إذا وصل عبده إلى وراء الوراء إنه كان في مكان ، أي : لا تتوهموا برفع عبده إلى ملكوت السماوات إنه رفع إلى مكان ، أو هو في مكان ، فإنّ الأكوان والمكان أقل من خردلة في وادي قدرته.

ألا ترى إلى قوله عليه‌السلام : «الكون في يمين الرحمن أقل من خردلة» (١) ، فالعندية والفوقية منزّهة عن أوهام المشبهة ؛ حيث توهّموا أنه أسري به إلى المكان ، أي : سبحان من تقدّس هذه التهمة.

وأما إشارة الغيرة فقوله : (الَّذِي) ، ولم يذكر من اسم الظاهر مثل الله والرحمن ؛ لأنّه غار بنفسه أن يراه أحد سوى عبده ، وما سمى النبي باسمه الظاهر أيضا غيرة عليه ، فرفع الاسمين من البين ؛ لئلا يطلع عليهما من العرش إلى الثرى.

وأما إشارة الغيب قوله : (أَسْرى) : سرّا على ما بين العبد والرب ، وقوله : (لَيْلاً) محل السر والنجوى ، فبان من التقديس إفراد القدم عن الحدوث ، وسقوط الاكتساب عن محل التفضل ، وكون الاختصاص له من البرية ، وطهارة القدم عن إحاطة الحدث به ، وبقاء العزة بوصفه عن محمدة العارفين وعرفان الموحدين ، وبان عن اسم المبهم حقائق المحبة ، وامتناع الصمدية عن إدراك الخليقة ، وبان من إشارة الغيب ظهور أنوار الربوبية وسطوع أنوار علم المجهول ، وبان من إشارة السر خطاب المتشابهات ، وغوامض علوم المشكلات ، والإشارة إلى وقائع أشراط الساعة أسرى بعبده من محل الإرادة إلى محل المحبة ، ومن محل المحبة إلى محل المعرفة ، ومن محل المعرفة إلى محل التوحيد ، ومن محل التوحيد إلى محل التفريد ، ومن محل التفريد إلى محل الفناء ، ومن محل الفناء إلى محل البقاء ، ومن محل البقاء إلى محل

__________________

(١) ذكره ابن عجيبة في «البحر المديد» (٣ / ٣١٥).

٣٤٦

الاتصاف ، ومن محل الاتصاف إلى محل الاتحاد ، فلم يبق منه شيء من رسوم الحدوثية من استيلاء القدم على الحدث ، فدنا منه ثم تدلى عنه ، ثم فني فيه ، فكان بين فنائه قاب قوسين ، قوس الأزل وقوس الأبد ، فبين القوسين غاب في الغيبة ، فبقي غيبه ، فاستوى أو أدنى فأزال بالغيرة غيب غيبه ، كأنّه كان في فناء الفناء ، والفناء عن فناء الفناء ، فبقي اسمه مع اسم الإشارة بقوله : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) أي : هو مع مكانته في مقام الاتحاد على وصف العبودية ، وسبحان الذي سبحان عن أن يكون محلا للحوادث ، أو امتزجت اللاهوتية بالناسوتية ، قوله سبحانه كان أزليّا سرمديّا ، كان سبحانه قبل إيجاد العبد والتعبد عن القريب والبعيد هو هو بذاته وصفاته له ، لغيره امتنع عن القرب والبعد من جهة الخليقة بحال من الأحوال أبد الابدين ، أسرى من رؤية فعله وآياته إلى رؤية صفاته ، ومن رؤية صفاته إلى رؤية ذاته ، وأشهده مشاهدة جماله فرأى الحق بالحق ، وصار هناك موصوفا بوصف الحق ، فكان صورته روحه ، وروحه عقله ، وعقله قلبه ، وقلبه سره ، فرأى الحق بجميع وجوده ؛ لأن وجوده صار بجميعه عينا من عيون الحق ، فرأى الحق بجميع العيون ، وسمع خطابه بجميع الأسماع ، وعرف الحق بجميع القلوب ؛ حتى فنيت عيونه وأسماعه وقلوبه وأرواحه وعقوله في الحق ، فنظر الحق إلى الحق لأجله نيابة عنه ؛ لأنّ عيون الحدوثية فنيت في عيون الحق ، وعيون الحق رجعت إلى الحق ، فرأى الحق الحق ، وعرف الحق الحق ، وسمع الحق من الحق رحمة منه إليه ، وتلطفا به ؛ لأنه يسمع ويرى.

ألا ترى إلى آخر الاية قوله : (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) : سمع كلامه من نفسه ، وأبصر نفسه بنفسه ، كان في الأزل سميعا بصيرا ، لكن ها هنا يسمع ويبصر بسمع عبده وبصر عبده.

قال الواسطي : نزّه نفسه أن يكون لأحد في تسيير نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حركة أو خطوة ، فيكون شريكا في الإسراء والتسرية.

وقال أبو يزيد : نزّهه عما أبدى ، ولا تعرفه بما أخفى.

وقال ابن عطاء : طهّر مكان القربة وموقف الدنو عن أن يكون فيه تأثير لمخلوق بحال ، فسرى بنفسه ، وسرى بروحه ، وسرى بسره ، فلا السر علم ما فيه الروح ، ولا الروح علم ما يشاهده السر ، ولا النفس عندها شيء من خبرهما وما هما فيه ، وكلّ واقف مع حده ، مشاهدا للحق ، متلقفا عنه بلا واسطة ولا بقاء بشرية ، بل تحقق بعبده فحققه وأقامه ؛ حيث لا مقام ، وخاطبه وأوحى إليه ما أوحى جلّ ربنا وتعالى.

وقال : جاء رجل إلى جعفر بن محمد ، وقال : صف لي المعراج. فقال : كيف أصف لك

٣٤٧

مقاما لم يسمع فيه جبرائيل مع عظيم محله.

وسبب بداية المعراج الذهاب إلى المسجد الأقصى ؛ لأن هناك الايات الكبرى من بركة أنوار تجليه لأرواح الأنبياء وأشباحهم ، وهناك بقربه طور سيناء ، وطور زيتا ، والمصيصة ، ومقام إبراهيم عليه‌السلام وموسى عليه‌السلام وعيسى عليه‌السلام في تلك الجبال مواضع كشوف الحق لذلك قال : (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) : علامات شواهد مشاهدتنا ؛ حتى يتعود برؤية شهودنا في الايات ، وليقوى برؤيتها ؛ حتى يطيق أن يرى آيات عظام الملكوت ، وسبب عروجه إلى الملكوت ؛ ليرى جمال الجبروت في أنوارها ؛ لأنه سأل عن الحق رؤية ظهور صفاته في مرآة آياته بقوله : أرنا الأشياء كما هي ، فأراه الحق ما سأل بقوله : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) : هو يريه وهو قادر بذلك ، وهو منزّه عن الحلول في الايات.

ألا ترى إلى أول الاية كيف قال : (سُبْحانَ الَّذِي) ، والحكمة في ذلك أنه إذا قوي في رؤية الصفات في الملكوت الأعلى والملكوت السفلي يطيق أن يرى صرف ذاته بلا حجاب ، ولا حسبان ، ولا قتام ، ولا ضباب ، ولا علة ، ولا آيات ، ولا شواهد ، بل يراه به لا بشيء ولا بإياه.

قال بعضهم : قال الله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ٧٥] ، وقال لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) ، فغمض عينه عن الايات شغلا منه بالحق ، ولم يلتفت إلى شيء من الايات والكرامات فقيل له : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم : ٤] ، حيث لم يشغلك ما لنا عنا.

ويقال : أرسله الحق سبحانه ليتعلم منه أهل الأرض العبادة ، ثم رقّاه إلى السماء ؛ ليتعلم الملائكة منه أدب العبادة ، قال الله : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم : ١٧] ما التفت يمينا ، ولا شمالا ما طمع في مقام ، ولا في إكرام ، وتحرز عن كل طلب وإرب.

قال الأستاذ في قوله : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) : كان تعريفا بالايات ، ثم تعريفا بالصفات ، ثم كشفا بالذات.

(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦))

٣٤٨

قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) : عبدا من حيث العبودية ، ومحبّا من حيث المعرفة ، وعاشقا من حيث الحرية ، ومنفردا بالأنس من حيث الغيرة.

ألا ترى كيف قال : (لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦] : شكورا من حيث أن يرى المنعم بالمنعم لا بالنعمة بنعت العجز عن أداء حق نعمة جلاله وكشف جماله ، كأنّه تعالى علم نبيه عليه‌السلام مقام معرفة أبيه نوح عليه‌السلام كيف كان معرفته بالله ؛ حيث احتمل بلاءه به ، وشكر في موضع الصبر ، كأنّه علّمه الشكر في مقام البلاء ؛ لأنّ العارف لا يتم ؛ حتى يعرف الحق في رؤية البلاء ورؤية النعمة ، فيأخذ من مقام البلاء الصبر المقرون بالرضا ، ومن مقام النعمة الشكر المقرون بالصفاء والوفاء والسخاء والتّقى ، وإن كان متحليا بهاتين الحلتين صار مزينا بجميع زينة العبودية ؛ لذلك قال : (عَبْداً شَكُوراً) (١).

قال الجنيد في قوله : (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) : العبودية هي : ترك هذين الشيئين : السكون إلى اللذة ، والاعتماد على الحركة ، فإذا فقد عنك هذان فقد أديت حق العبودية ، يستعظم قليل فضلنا عنده ، ويستصغر كثير خدمته لنا ، ليس له إلى غيرنا التفات ، ولا يشغله تواتر النعم عليه عن المنعم بحال.

وقال أيضا : قائلا بالحق ، ناطقا به ، قابلا له ، مقبلا عليه.

(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠))

قوله تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) : حكى الله سبحانه عن العباد بأنهم يعملون بالأعواض لحظّ نفوسهم ، لا لحقيقة العبودية التي وجبت عليهم في الأزل ، لحق الربوبية التي هي مستحقة لها ، فمن عمل للنجاة عمل لنفسه ، ومن عمل للثواب فقد عمل لنفسه ، ومن عمل لحظ المحبة وكذا الأنس فقد عمل لنفسه ، ومن عمل لغير هذه العلل وقام على شرط العبودية بنعت إسقاط رؤية الأعواض وكل علة على وصف الخجل والحياء والفناء فقد عمل لله ، ولكنّ أعماله راجعة إليه بسببين : أحدهما أن عبودية الخليقة لا تليق

__________________

(١) وفى التأويلات النجمية يشير إلى شكر داود الروح وسليمان القلب من آله السر والخفى والنفس والبدن فإن هؤلاء كلهم من مولدات الروح قال اعملوا ...

٣٤٩

بالأزلية ، والاخر أنه منزّه عن عبودية الخلق وعصيانهم ؛ لأنّه قائم بنفسه ، ليس له أنس بطاعة المطيعين ، ولا وحشة بمعصية العاصين.

قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [العنكبوت : ٦] ، وفيه نكتة عجيبة ، أي : إن شاهدتم مشاهدتي شاهدتم لحظوظ أنفسكم لا لحق شهودي ، وإن شاهدتم مشاهدتي كما ينبغي وفنيت مشاهدتكم فنيتم في مشاهدتكم في مشاهدتي ؛ لأنّ سطوات العظمة مهلك كل شاهد من شهوده.

قال أبو سليمان الداراني : العمّال في الدنيا يعملون على وجوه ، كلّ فيه يطلب حظه ، فجاهل عمل على الغفلة ، وعامل عمل على العادة ، ومتوكل عمل على الفراغة ، وزاهد عمل على الحلاوة ، وخائف عمل على الرهبة ، وصديق عمل على المحبة ، وعمّال الله أقل من القليل.

قوله تعالى : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) : ذكر الرجاء ، وقدّم الرحمة ، وتكلّم من نفس التربية ، كأنّه تعالى دعاهم إلى مقام الرجاء من مقام الخوف ، ومن رؤية الوحشة إلى رؤية تربية الربّ ، ومن رؤية العذاب إلى رؤية الرحمة ، أي : أنا أستعمل كرمي القديم على كل حال إن تطيعون وإن تعصون على عواقب الأمور ، لأنّ وصفي غالب على كل وصف ، وأنا غالب على أمري ، ثم أنبت الأكساب القائمة بالمشيئة بقوله : (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) : إن عدتم إلى عالم القهريات عدنا معكم ، فننجيكم منها ، فإنّ سوابق الكرم والرحمة غالبة على الغضب ، كما قال : «سبقت رحمتي غضبي» (١) ، وإن عدتم إلى عالم اللطف عدنا معكم إلى عالم اللطف ، فأريكم جلالي في لباس لطفي ، وإن عدتم إلى المعصية عدتم إلى معادلكم التي خليقتها الجهل والعصيان عدنا إلى ما كنّا في الأزل من اللطف والكرم ؛ لأنّ اللطف والكرم من نهارير القدم ، وإن عدتم إلى الهجران عدنا إلى الوصال ، وإن عدتم إلى المجاهدة عدنا إلى كشف المشاهدة ، وإن عدتم إلى النكرة عدنا إلى المعرفة.

قال ابن عطاء : يتعطّف عليكم ، فيخرجكم من ظلمات المعاصي إلى أنوار الطاعات ، فمن طلب الرحمة من غير الله فهو في طلبه مخطئ.

وقال سهل : إن عدتم إلى المعصية عدنا إلى المغفرة ، وإن عدتم إلى الإعراض عنا عدنا إلى الإقبال عليكم ، وإن عدتم إلى الفرار منا عدنا إلى أخذ الطرق عليكم ، لترجعوا إلينا.

وقال الورّاق : إن عدتم إلى الطاعة عدنا إلى التيسير والقبول.

قال الأستاذ : إن استقمتم في التوبة عدنا في إدامة الفضل والمثوبة.

__________________

(١) رواه البخاري (٦ / ٢٧٤٥) ، وأحمد (٢ / ٢٤٢).

٣٥٠

وقيل : إن عدتم إلى الخطأ عدنا إلى الوفاء ، ثم بيّن سبحانه أن الفراق يعرف العارفين أصوب الطرق وأقومها في مسالكهم إلى الله بقوله سبحانه وتعالى :

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) أي : أنّ القرآن يعرف أهله بنوره أصوب الطريق إلى الله ، وتلك الطريقة طريق طاعته التي في سلوكها لسالكيها مقام كشف وصاله وظهور جماله ، وأنه يهدي للطريقة الصائبة في نفسه من حقائقه بأن يرشدهم بظاهره إلى معاني باطنه ، ومن معاني باطنه إلى نور حقيقته ، ومن نور حقيقته إلى أصل الصفة ، ومن الصفة إلى الذات ، فالقرآن أسماء ونعوت وأوصاف وصفات ، يعرف للعارف الصادق عيون الذات والصفات والأسماء والنعوت والأوصاف وهي أقوم الطريقة ؛ لأنّ العوام يسلكون إليه بأوصافهم ، وأهل القرآن يسلكون إليه بصفاته.

إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا

كفى لمطايانا بريّاك هاديا

ويبشر أهله من الذين يتبعونه بمراد الحق أن لهم أجر المشاهدة وكشفها بلا حجاب أبدا.

قال ابن عطاء : القرآن دليل ، ولا يدال إلا على الحق ، فمن اتبعه قاده إلى الحق ، ومن أعرض عنه قاده الجهل إلى الهلاك.

وقال أبو عثمان في كتابه إلى محمد بن الفضل : من تمسّك بالقرآن وفّق للزوم الاستقامة ؛ لأن الله يقول : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢))

قوله تعالى : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) : من لم يبلغ أعالي درجات القوم لم يعرف مقامات الدعاء ، ومن لم يعرف مقام الدعاء ففي كل وقت يستعمل سوء الأدب ؛ لأنّه في رسوم الصورة يسأل شيئا بجهله ، وهو سبب خطره قرب مراد لا ينجح له المقصود ؛ لأنّه عجول لا يصبر حتى يبلغ ، ويعرف ما يليق بحاله فيسأل.

قال سهل : أسلم الدعوات الذكر وترك الاختيار في السؤال والدعاء ؛ لأنّ في الذكر الكفاية ، وربما يدعو الإنسان ، ويسأل ما فيه هلاكه ، وهو لا يشعر.

ألا ترى الله يقول : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) والذاكر على الدوام التارك للاختيار في الدعاء والسؤال ، مبذول له أفضل الرغائب ، وساقط عنه آيات السؤال

٣٥١

والاختيار.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله عزوجل : من شغله ذكري عن مسألتي أعطيه أفضل ما أعطي السائلين» (١).

قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) : الليل والنهار ها هنا مقام المجاهدة والمشاهدة ، فالمجاهدة ليل العارفين ، والمشاهدة نهار الصدّيقين ، ففي مقام المشاهدة كشف شمس الذات آية نهار المشاهدة ، وكشف قمر الصفات آية ليل المجاهدة ، فأهل المشاهدة في رؤية شموس الذات ، وأهل المجاهدة من الصادقين في رؤية أقمار الصفات ؛ لأنهم في ضعف الأحوال من حمل وارد العظمة ، ولولا غيبة أنوار الذات عنهم لهلكوا في أول سطوتها ، ولو كان إتيان أحدهما كالاخر لهلك العارفون لبقائهم في مشاهدة الذات صرفا على السرمدية ، ولم يصلوا إلى معادن الصفات.

كما قال سبحانه : (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) ، وفضل الحق ها هنا معرفة الصفات ، والعيش في مشاهدة الذات ، والوقوف على مقامات الدنو ، وأوقات الحالات ، بقوله سبحانه : (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي : لتعلموا في محاق أقمار الكواشف ، وزيادة كمالها بفيض نور الأولية والأخروية أعداد زمان الوصال والفراق ، وحساب المقامات والحالات ، وتقعوا في دور أدهار الأزال والاباد ، وتعرفوا منازل سيارات الأرواح وحركاتها في أبراج أفلاك الوحدانية والفردانية بقوله : (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) ، وها هنا منازل انقطعت الأوهام في مداركها ، وذهب الحسبان عند شوارق أنوارها ، وانصرمت العقول عن تقلب أسرارها ، وفنيت القلوب في حقائق أنوارها ، كان لسان القدر ينطق بنطق الأبد على لسان عندليب سكران موردات ورد العشق شطاح فارس روزبهان البقلي ، هذه الأسرار المباركة الممتنعة عرائسها بحجب الغيرة عن غيره أو غير مثله.

واستشهد ببيت النوري في هذا المعنى :

لا زلت أنزل من ودادك منزلا

يتحير الألباب عند نزوله

قال بعضهم : جعلنا الليل والنهار ظرفين لإقامة العبودية ، جعل أحدهم خلفا عن الاخر وخليفة عنه ، فمن أنفق أوقاته في أناء ليله بما هو مستعبد به فهو زمرة الموفقين ، ومن أمهل ساعاته ولم يطالب نفسه ، ولم يراع أوقاته مع كل خاطر أو نفس فإنه من المخذولين.

قال الله : (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) في تصحيح العبودية وإخلاص العمل والمعونة

__________________

(١) رواه البخاري في «خلق أفعال العباد» (١ / ١٠٩).

٣٥٢

على ذلك من الله عزوجل.

ثم إنّ الله سبحانه أخبر عن سوابق أحوال الواردين إلى مناهل العبودية والربوبية بقوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) ، اختار بعضا في الأزل بالإرادات ، واختار بعضا بالمعاملات ، وبعضا بالحالات ، وبعضا بالمشاهدات ، وبعضا بالمكاشفات ، وبعضا بالمعرفة ، وبعضا بالمحبة ، وبعضا بالشوق ، وبعضا بالرغائب ، وبعضا بالعزائم ، وفي كل مقام طائر أحد من السالكين وسمته ألزمته نعوت الربوبية على عنق العبودية ، يخرج من مربع عهد الأزل بهذه السمات ، ويخرج إلى معاهد الأبد لا يتغير بتلون الملون ، ولا بظهور الايات والبرهان ، ولا بطوارق الطاعات والعصيان.

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧))

قال تعالى : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) ، فما بدت للأرواح من معالم الرد والقبول بيد ، ولصاحبه غدا في الحضرة ، فيرى أوله موافقا للاخر والاخر للأول لا ينقص السوابق من الأواخر ، ولا ترتد الأواخر على السوابق.

قال تعالى : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) هذا مقام الستر والغيرة على أحبائه ؛ حتى لا يطلع عليهم الأغيار من الملائكة والجن والإنس ، بل هو من مقامات النجوى وسرائرات تخفى ، وحقائقات البلوى ، وعجائبات الشكوى.

قال النصر آبادي : ألزمت نفسك أحوالا ، وألزمت أحوالا ، وما ألزمته أشد مما ألزمت نفسك.

قال الله تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) من سعادة وشقاوة ، ومنهم من ألزم الصبر على مقام المشاهدة ، ومنهم من ألزم التمسك بالأدب على بساط القرب ، وهذا أشد وأشد.

قال بعضهم : كتابا تكتبه على نفسك في أيامك وساعاتك ، وكتاب يكتب عليك في الأزل ، ولا يخالف هذا ذاك ولا ذاك هذا.

٣٥٣

قال بعضهم : الكتاب الذي يخرج إليك هو كتاب لسانك قلمه ، وريقك مداده وأعضاؤك ومفاصلك قرطاسه ، أنت كنت المملي على حفظتك ما زيد فيه ولا نقص منه ، ومتى أنكرت من ذلك شيئا يكون الشاهد فيه منك عليك ، قال الله : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ).

وقال يحيى بن معاذ : اقرأ كتابك ؛ فإنك كنت المملي له.

وقال بعض السلف : محاسبة الأبرار في الدنيا ، ومحاسبة الفجّار في الاخرة.

قوله تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) : إذا أراد الله سبحانه خراب الدنيا يأخذ أولياءه منها ، ويبقي أعداءه فيها ، فإذا ذهب منها الصدّيقون الذي يندفع العذاب بدعائهم وتدفع البلايا ببركاتهم يسقط عليهم بعد ذلك قوله الحق بالغضب وهلاكهم ، وأيضا إذا أراد الله أن يخرب قلب المريد سلّط عليه عساكر هوى نفسه ، وجنود شياطينه ؛ حتى يدوروا في أرض القلب ، ويخربوها بسنابك خيول الشهوات ، وآفات الطبيعيات والخطرات ، نعوذ بالله منها.

قال بعضهم : أهلكنا خيارها ، وأبقينا شرارها.

وقال أبو عثمان : إذا أخرج الله أمر المعاصي من القلوب فإنه يخاف على الخلق إذ ذاك الهلاك (١).

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ

__________________

(١) المراد من تدمير القرية : تدميرها ، وتدمير أهلها ؛ لأن تدميرهم تابع لتدميرها ؛ ألا ترى أن الله أمر جبريل بقلب قرى قوم لوط ، فقلّبها ، وهم فيها ؛ فهلك ، وهلكوا جميعا ، وكذا أصحاب القرية المذكورة في سورة يس ، وأطلق التدمير ؛ لكون كل منها مدمّرة مخصوصة حسبما اقتضتها أعمال أهلها ؛ كالطوفان بالنسبة إلى قوم نوح ، وكالقلب بالنسبة إلى قوم لوط ، وكالريح بالنسبة إلى قوم هود ، وخصّ المترفين : أي المنعّمين ؛ لأن الفقراء تبع لهم ، والناس على دين ملوكهم ، والسمك يتغيّر من الرأس كما هو المشهور ، فإذا عصى رؤساء القوم ؛ لا يبقى لهم ، ولأتباعهم حرمة أصلا على أن الأتباع إن كانوا عصاة أيضا ؛ فهم أسوة لهم في الهلاك ، والأسرى الهلاك إليهم بحكم الجوار ، وبحكم المداهنة ، أو السكوت عن الحق ، وفيه إشارة إلى قرية القالب ومترفوها هي : أشراف الأعضاء ، والقوى ؛ كالسمع والبصر ، والقلب ، فإن الجسد تابع لها ، فإن صلحت ؛ صلح الجسد ، وإن هلكت ؛ هلك ؛ وهذا هو الهلاك المعنوي ، والفساد الحقيقي.

٣٥٤

رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠))

قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) : من مال إلى الدنيا أراد حظ الأدنى ؛ كأنّه استعجل لطلب العاجلة عن الاجلة من خسّة طبعه ودناءة همته ؛ وذلك من قلة معرفته بزوالها وبلائها والعذاب والحساب من أجلها ، فعجّل الله بعض مراده له في الدنيا لحرمانه عن الاخرة والدرجات العلى ، ولم يكن مظفرا بمراده أيضا من مأموله ؛ لأنّ الله سبحانه قال : (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ).

قال الواسطي : في ترك الدنيا مشاهدة الاخرة ، وفي مشاهدة الاخرة رفض الدنيا ، كما أن في مشاهدة التأييد زوال عزة النفس ، وفي مطالعة صفات الحق سقوط صفات العبد.

ثم وصف مريد الاخرة بعد تركه للدنيا ولذاتها بأن سعيه مشكور وعمله مبرور بقوله سبحانه وتعالى : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) ، فجعل ها هنا شرطين في إرادة الاخرة : شرط السعي ، وشرط الإيمان أي : ينبغي له أن يكون سعيه على نعت مشاهدة الاخرة ، ورؤية الغيب واليقين الصادق ؛ حتى يكون سعيه مقرونا برؤية ما وعد الله له من الدرجات الرفيعة والمقامات الشريفة ؛ حتى يكون عمله وسعيه على وصف حظ القلب والروح.

وأيضا معنى قوله : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) عارف بالله وبصفاته ، عالم بعمله لله ، لا يعمل إلا بالعلم ، ولا يسعى إلا بالشوق إلى الله وإلى جواره والبقاء في المشاهدة ، والسعي المشكور أن ينكشف لصاحبه مشاهدة الحق في سعيه نقدا في الدنيا ، فإنّ تأثير القبول ظهور أوائل الكرامات ، وبروز لطائف أنوار المشاهدات.

قال القاسم : شرط الإرادة بحسن السعاية ؛ لأنّ لكل طائفة إرادة الاخرة وسعيها ، وهو الذي يسعى على الاستقامة وما توجبه عليه الشريعة ، وشرط السعي بالاستقامة ، وشرط الاستقامة بالإيمان ؛ لأنّ كل من أراد الاخرة وقصد قصدها فليستقم عليها ، ربّ قاصد مستقيم في الظاهر خلعة الإيمان عارية عنده ، وكم من ساع حسن السعي غير مقبول فيه سعيه.

وقال بعضهم : السعي في الدنيا بالأبدان ، والسعي إلى الاخرة بالقلوب ، والسعي إلى الله بالهمم.

وقال أبو حفص : السعي المشكور ما لم يكن مشوبا برياء ولا سمعة ولا رؤية نفس ولا طلب ثواب ، بل يكون خالصا لوجهه لا يشاركه في ذلك شيء سواه ، فذلك السعي المشكور ،

٣٥٥

ثمّ بيّن أنّ ساعي الدنيا وساعي الاخرة كل واحد على جزاء سعيه بقدر همته بقوله : (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) : وصف عدله سبحانه وتعالى ألا يخيب رجاء كل مؤمن ؛ لأن عطاءه غير ممنوع ، فجازى الكل بقدر الهمم ، فعطاء الدنيا حظ النفوس ، وعطاء الاخرة حظ القلوب.

قال علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد ـ عليهم‌السلام ـ : عطايا الدنيا غفلة من الله ، وعطايا الاخرة القربة من الله.

ثم بيّن سبحانه تفاضل الفريقين بقوله : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) : فضّل العابدين بعضهم على بعض في الدنيا بالطاعات ، وفضل العارفين بعضهم على بعض في الدنيا بالمعارف والمشاهدات ، فالعباد في الاخرة في درجات الجنان متفاوتون ، والعارفون في درجات وصال الرحمن متفاوتون.

(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨))

قال تعالى : (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) : صفو الوصال التفات بلا عتاب حصول المراد بلا حساب.

قال ابن عطاء : من تولّاه الله بضرب من العناية وتوالت أعماله كلها لله فله فضل الولاية على من دونه.

قال الله : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) : فالفضيلة تقع فيما بين الخلق والخلق ، لا تكبر عنده الطاعات ، ولا تغضبه المخالفات.

قال الواسطي : (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) بالمعرفة والإخلاص والتوكل.

وقال في قوله : (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ) : بدرجات السوابق يصل العبد إلى

٣٥٦

الدرجات العلى ، وأعظم درجة في الاخرة التخطي إلى بساط القرب ومشاهدة أعلى وأجل.

قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) : وجب في الأزل للربوبية القديمة العبودية على نعت تجريدها عن رؤية غير الله ؛ لأنه كان تعالى في الأزل موصوفا بالربوبية والأحدية ، وحق العبودية لغيره مستحيل بالحقيقة ؛ لأن عبودية الحدث للحدث على نعت المجاز ، ولا تقع العبودية الخالصة إلا للأزلي الأبدي ، والعبودية إفراد القدم عن الحدوث بنعت الإذعان لتصرفه والخضوع بنعت الفناء لعزته ، وحديث الوالدين بالإحسان ؛ لأنها فعله الخاص ، وحرمة فعله في إيجاد خلقه من حرمة صفته ، وحرمة صفته كحرمة ذاته ، والإحسان للوالدين احترامهما وإجلالهما باحترام الله وإجلاله ، وأشياخ الطريقة وآباء أهل الإرادة والإحسان لهم متابعة أمرهم لمحبة الله.

قال بعضهم : العبودية قطع الأرباب وخلع الأسباب ، والرجوع إلى الحق بالحقيقة.

قال أبو عثمان المغربي : من تحقق في العبودية ظهر سره لمشاهدة الغيوب ، وأجابته القدرة إلى كل ما يريد.

قوله تعالى : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) : بما في نفوسكم من إجلال الله وتعظيم كبريائه ، وشهود النعمة على بساط قربه ، ورؤية العقل مشاهدا أنوار آياته ، ومشاهدة الروح ضياء صبح صفاته ، وسكون السر بنعت الأنس إلى عظيم سبحات ذاته ، ونية بذل الوجود لرضاه والصبر والتمكين في قضائه أن يكونوا صالحين مصلحين للخطرات النفسانية بالأنفاس الروحانية ، وتقديس الخليقة بقدس المعرفة ، والفرار منه إليه بنعت الفناء فيه ، وذلك قوله : (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ) : راجعين منه إليه بنعت الخجل بين يديه وطلب مزيد القربة منه ؛ فإنه غفور لمن أتى إليه بنعت التضرع والبكاء والخشوع والتواضع في جلال قدره وعظيم كبريائه.

وفيه نكتة : أن سبحانه ذكر النفوس لا القلوب ولا الأرواح ولا الأسرار ولا العقول ، أي : هو أعلم بما في نفوسكم من شرها وسجيتها المائلة إلى الاستكبار والإنكار ، والفرار من الطاعة ، وهواها إلى المعصية ، لذلك قال : إن تكونوا صالحين مائلين عن متابعتها راجعين منها إلى الله.

(غَفُوراً) أي : غفورا لمن أتى إليه بتلك الصفة بنعت الندم على ما سلف من الذنوب طلبا لمشاهدة الغيوب.

قال ابن عطاء : فيها إيمان لها أو ليس فيها إيمان ، إيمان جحود أو إيمان قبول ، إيمان تقليد أو إيمان حقيقة ومشاهدة.

٣٥٧

قال سهل : أي الذنوب من رجع إليه من عبيده غافرا ولهم راحما.

قال أبو عثمان : الأوب الدعاء.

قال بعضهم : الأوّاب المتبرئ من حوله وقوته ، المعتمد على الله في كل نازلة.

ثم ذكر سبحانه بعد بر الوالدين بر أقرباء المعرفة بالحقيقة بعد ما في الاية من رسوم الظواهر ، ومساكين المريدين ، وأبناء السبيل بقوله : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) ، حقوق هؤلاء تربيتهم في الطريقة بذكر الحقائق من المعاملات والأحوال والمعارف والكواشف والعلوم الغيبة لهم ، فذوو القربى إخوان المعرفة الذين وصلوا معالي المقامات ، والمسكين المريد الصادق الذي سكنه لطف الله عن طلب غير الله ، وابن السبيل المحب الصادق ، فحق العارف نشر الأسرار ، وحق المسكين ذكر الأنوار ، وحق المحب ذكر شمائل المحبوب ، زيادة لتمكين العارفين ، وشوق المحبين ، ورغبة المريدين.

وأيضا : ذو القربى الروح ، والمسكين العقل ، وابن السبيل القلب ، فحق الروح السماع الطيب ، والجمال الحسن والطيب والريحان ، وحق العقل الفكر والتفكر ، وحق القلب الذكر والتذكر.

وأيضا : حق الروح الفراغة ، وحق العقل الطاعة ، وحق القلب الاستئناس بالخلوة لطلب المشاهدة ، والروح ذو القربى ؛ لأنّه كان في بدء الأول في القربة والمشاهدة قبل خلق الخلق ، والمسكين العقل ؛ لأنّه فقير من إدراك حقيقة الوحدانية ، والقلب ابن السبيل ؛ لأنه ينقلب في سبيل الصفات لطلب عرفان الذات.

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣))

قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) الإشارة في الحقيقة أنه تعالى أدّب حبيبه في القبض والبسط والمنع والعطاء ، أن القبض والبسط أن يكونا على وفاق الأمر في الخاطرة لا على صورة الرسوم من حيث الظاهر ، فربما يقبض من رسم وهو غير مأمور به ، وربما يبسط وهو غير مأمور به ، فالعارف الصادق خازن الله في أرضه ، يقبض ويبسط لأمره فيه ، إشارة أن العارف الصادق أحقّ ما حضر من غيره إذا كان محتاجا

٣٥٨

كأنه في سفر الأزل والأبد ، ولو أعيي مركبه للبث بلجة عن سير ألف عام ، وغيره ليس يساويه في مقام العبودية والمجاهدة ، فهو أولى ، وهذا كلام ليس من قبيل السخاء والبخل ، وليس من سجية الأنبياء والصدّيقين ؛ فإن مذهبهم الإيثار والبذل ، وما أشرنا إليه حقيقة حكمة المعرفة.

ألا ترى إلى قوله سبحانه كيف أدّب حبيبه : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً) نفسك بالندم محسورا منقطعا عن السير في عالمك.

وفيه إشارة أخرى ، أي : لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك بألا تنشر عند السالكين فضائل المعرفة وحقائق القربة ، ولا تبسطها بأن تذكر شيئا لا يحتملون فيهلكون.

قال أبو سعيد القرشي : أراد الله عزوجل من نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الأمة ألا يكون قائما بشرف البسط والسخاء ، ولا قائما بنقض المنع والإمساك ، وأن يكون قائما به في جميع الأحوال.

قال بعضهم : لا تبخل بما ليس لك ، ولا تمن بالعطاء ، فإنّ الملك لنا على الحقيقة ، وأنت القاسم تقسم فيهم حقوقهم ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله يعطي وأنا قاسم» (١).

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤))

قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) : العهد عهد الأزل وقع بين كينونة الأرواح في عالم الأفراح ، قبل كون الأشباح بينهما ، وبين الحق العهد صدر من الحق

__________________

(١) رواه الطبراني في «الأوسط» (٦ / ٢١٦) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (١ / ١٤).

٣٥٩

معها بألا يشتغل بغير الله أبدا.

قال : أوفوا بمعاهد الأول ؛ فإن ذلك مسئول عند كل نفس ، ومطالب عند كل حركة ، فعهد المحب المحبة ، وعهد العارف المعرفة ، وعهد الموحد التوحيد ، وعهد المريد الإرادة ، ولكل عهد رعاية ، فعهد المريد بذل الوجود ، وعهد المحب الصبر في المفقود ، وعهد العارف تبرؤ الهمة عن الدارين ، وعهد الموحد إفراد القدم عن الحدوث والفناء في بقاء الحق.

قال حمدون القصّار : من ضيع عهود الله عنده فهو لاداب شريعته أضيع ؛ لأن الله يقول : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً).

وقال يحيى بن معاذ : لربك عليك عهود ظاهرا وباطنا ، فعهد على الأسرار ألا يشاهد سواه ، وعهد على الروح ألا يفارق مقام القربة ، وعهد على القلب ألا يفارق الخوف ، وعهد على النفس في أداء الفرائض ، وعهد على الجوارح في ملازمة الأدب ، وترك ركوب المخالفات ، والله يقول : (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً).

ثم ذكر سبحانه بعد العهد الوفاء في صدق الأعمال والأقوال بقوله : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) الإشارة فيه إلى أشباح المعرفة ألا ينقصوا ما عندهم من ذخائر العلوم على المريدين بما يوافق حالهم ، وألا يملّوا من نصيحتهم وتأديبهم ، ثم يحذر أوساطهم أن يزنوا دعواهم بالقسطاس المستقيم من المعاملات ؛ حتى لا تكون دعواهم خالية عن الأعمال والكيل الوافي ، الإخلاص والقسطاس المستقيم الصدق من كان في وزن الأعمال وكيل الأحوال مخلصا صادقا يعطيه الله لطائف كرمه وجوده ما لا يحصى عددها ، ويصف له جميع الخلائق ؛ لأنه منصف ينصف مع الله.

قال بعضهم : أوف الكيل ؛ فإن وزنك موزون وكيلك مكيل ، إن وفيت وفّى لك ، وإن نقصت نقص عنك (١).

ثم أدّب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بألا يحكم بما لم ينكشف له بالحقيقة بقوله : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) العارف معاتب مأخوذ من حيث الظاهر والباطن ، فالظاهر المعاملات ، والباطن الحالات ، مطالب بالصدق فيها ، لم

__________________

(١) قال ابن عجيبة : أمر بالعدل في الميزان المعنوي ، وهو وزن الخواطر بالقسطاس الشرعي ، فكل خاطر يخطر بالقلب يريد أن يفعله أو يتكلم به ، لا يخرجه ، حتى يزنه بميزان الشرع ، فإن كان فيه نفع أخرجه كما كان ، أو غيّره ، وإن كان فيه ضرر بادر إلى محوه من قلبه ، قبل أن يصير هما أو عزما ، فيعسر رده. البحر المديد (٤ / ٣٤٩).

٣٦٠