تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٧٤

ورد إلى حظ الحق فيه.

وقال الواسطي : الواقفون مع العارف على مقدار تأثير أنوار الحق فيهم لا على قدر حركتهم وسعيهم ؛ لأنه ليس أحد يصل إلى معروفه بجهد ولا اجتهاد ، ومن ظن أن شيئا من أفعاله يوصله إلى مولاه ؛ فقد ظن باطلا فسبق العناية بصون الأشباح والأرواح وبوصل أهل معرفته إليه ، فمن اعتمد غير ذلك ؛ فقد سكن إلى غرور وفرح بالأماني وهو قوله : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣)) كيف يفرح بما لديه ، وليس يعلم ما سبق له في محتوم العلم (١).

(أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠))

قوله تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ)

__________________

(١) واعلم أن الإلقاء من الله ، ومن الملك ، ومن الخضر ، ومن المشايخ أمر واحد في المعنى ؛ لأن الشيخ إذا كان خليفة الرسول في المعنى ، والرسول خليفة الله في الحقيقة ؛ فإلقاؤه عين إلقائه ، ولا يلقى المحل إلا بقدره ، اللهم إلا أن يقال : إن نفخ خاتم الأولياء أقوى من نفخ المشايخ ؛ لأنه ملك ملوك المشايخ ؛ فهو أغنى منهم ؛ كالسلطان فإنه أغنى من الوزير ، وهو ممن دونه ، ولا شك أن الأخذ من الأغنى لا سيما إذا علّق ذلك به ؛ كان أنفع ، وقد يجتمع الإلقاءات ، فيلقى الشيخ في بداية الأمر ، ثم خاتم الأولياء في وسط الحال ، ثم الروح المطهّر النبوي في نهايته ، ثم الله تعالى في نهاية النهايات.

٥٦١

إن الله سبحانه امتحن الممتحنين بزينة الدنيا ولذاتها وجاهها ومالها وخيراتها ليقطعوا طرق الامتحان ، وحرموا إلى مشاهدة الرحمن فاستلذوها ، واحتجبوا بها ظنوا أنها مال جميع الراحات ، وأنهم مقبولون حين أعطوا هذه المقامات ، ولم يعلموا أنها استدراج لا منهاج ، قال الله تعالى : (بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦)).

قال عبد العزيز المكي : من تزين بزينة فانية ؛ فتلك الزينة تكون وبالا عليه إلا من تزين بما يبقى من الطاعات والموافقات والمجاهدات ، فإن الأنفس فانية والأموال عوار ، والأولاد فتنة ، فمن يسارع في جمعها وحظها ، وتعلق القلب بها قطعه عن الخيرات أجمع ، وما عند الله بطاعة أفضل من مخالفة النفس ، والتقلل من الدنيا ، وقطع القلب عنها ؛ لأن المسارعة في الخيرات هو اجتناب الشرور ، وأول الشرور حب الدنيا ؛ لأنها مزرعة الشيطان فمن طلبها وعمرها ؛ فهو حراثه وعبده وشر من الشيطان من يقين الشيطان على عمارة دار ، وقال الله : (أَيَحْسَبُونَ).

ثم إن الله سبحانه وصف الصادقين بالخشية والخوف والإيمان والتوحيد واليقين بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧)) الذين هم متعظمون عظمته وجلاله بعد كونهم معاينين رؤيته ومشاهدته خائفين من الهجران والاحتجاب بشيء من الحدثان ، ثم قال تعالى في وصفهم : (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨)) يوقنون أنها مشاهد مشاهدة قدسية وظهور صفاته وذاته.

ثم وصفهم بأنهم لا يؤثرون عليه شيئا من الحوادث بقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩)) لا يلتفتون في طاعته إلى غيره ، ولا ينظرون منه إلى أنفسهم ، وحظها من الكونين.

ثم زاد في وصفهم بقوله : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠)) أي : الذين سافروا سفر العبودية بحقائقها ، وشاهدوا جمال الربوبية وأنوارها بنعت الخجل والوجل لعلمهم بأن ما أتوا من الطاعات وبذل المهج والموجودات في رؤية كبريائه وجلاله مع طاعات جميع المخلوقات أقل من ذرة ، ووجل قلوبهم من صوله تجلى العظمة لها قلوبهم في الغيوب جوالة وأرواحهم في الملكوت والجبروت طيّارة ، وأسرارهم في ميادين تجلي الصفات والذات فانية.

٥٦٢

ثم وصفهم بالتسارع إلى الخيرات بقوله : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١)) لطلب مرضاته ووصولهم إلى مشاهداته ، وهم في ذلك سابقون في الأزل من الله بالسعادات الأولية والاخرية.

قال بعضهم : في قوله : (وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١)) : الإشفاق والخشية اسمان باطنان وهما عملان من أعمال القلب والخشية سر في القلب خفي والإشفاق من الخشية أخفى.

قيل : الخشية انكسار القلب من دوام الانتصاب بين يديه ، ومن بعد هذه المرتبة الإشفاق ، والإشفاق أرق من الخشية وألطف ، والخشية أرق من الخوف ، والخوف أرق من الرهبة ، ولكل منها صفة ومكان وأدب.

قال ابن عطاء في قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨)) : مطالعة الكون بأبصار القلوب ، فتعلم أنها في حدّ الفناء ، وما كان بين طرفي فناء ؛ فهو فان فيؤمنون بالحق يفتح أبصار قلوبهم بالنظر إلى المغيبات.

وقال الجنيد في قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩)) : من فتش سره فرأى فيه شيئا أعظم من ربه أو أجل منه ؛ فقد أشرك به ، إذ جعل له مثلا.

قال الواسطي : الخائف الرجل من لا يشهد حظه بحال.

قال بعضهم : وجل العارف من طاعته أكثر من وجله من مخالفته ؛ لأن المخالفة تمحوها التوبة ، والطاعة تطلب تصحيحها ، والإخلاص والصدق فيها ؛ لذلك قال الله : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا ...) الاية.

وقال أبو الحسن الوراق في قوله تعالى : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١)) : ذلك بما تقدم من الايات بالمسارعة إلى الخيرات يبتغي درجة السابقين ، ويطلب مكارم الواصلين لا بالدعاوى والإمهال ، وتضييع الأوقات ، من أراد الوصول على المقامات من غير آداب ورياضات ومجاهدات ؛ فقد خاب وخسر وحرم الوصول إليها بحال.

وقال يحيى بن معاذ في قوله : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) : الراغبون في رضا المولى.

حكي عن الشبلي أنه قال : وصفهم بالإشفاق والخشية ، وذلك حين رفعهم مولاهم إلى منازل اليقين حتى وصلوا من علم اليقين إلى عين اليقين ، وشربوا من عين اليقين بكأس

٥٦٣

اليقين ؛ فشاهدوا في مقام عين اليقين ، وارتفع عن قلوبهم كل شكّ ، وريب ثم نقلهم من تلك المقامات كلها إلى منازل الخوف ، فنازلوا الإشفاق والحذر والخشية ، فوجلت قلوبهم من تلوين الأحوال عليهم ، وهم من خشية ربهم مشفقون.

وقال النهر جوري : هم القائمون مع الله من حيث قام لهم ، ومن حيث يرون قيام الله لهم ؛ فهم في أحوالهم مشفقون.

وفي قوله تعالى : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أن الله سبحانه خلق النفوس الروحانية من عالم الملكوت ، وهي صدرت من فيض لطف صفاته ؛ فهي تحمل أمانات معرفة ربوبيته ، وهي تطيق حمل ما رد تجلي الذات والصفات إذ هي محمولة بمطايا أنوار العناية والكفاية ، وخلق النفوس الإنسانية من عالم أنوار الفعل ، وهي صدرت من تواثير سلطان قهر القدم ، وهي مجبولة لحمل أثقال العبودية إذ هي محمولة بمطية ذلك القهر ؛ فكانت النفوس مطايا حمل الربوبية والعبودية ، وهي تسعها به لا بها.

لذلك قال عليه‌السلام حاكيا عن الله تعالى : «لم يسعني السماوات والأرض ويسعني قلب عبدي المؤمن» (١) ؛ فإذا جاءت بنعت الإشفاق إلى مشاهدة الذات والصفات ، وبنعت العجز عن مقابلة الجبروت ، وعجزها عن حمل عزة الملكوت ، خرست عن الأعذار يعتذر صانعها بنطق أزلي بأنها صادرة من الحدثان غير مخلوقة لحمل أصل القدم ، قال تعالى : (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ) يشهد لها لا عليها (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢)) بأن القدم بوصف القدم يكون حملها بل يكون حملها على قدر وسعها.

قال الجريري : لم يكلف الله العباد بمعرفته على قدره ، وإنما كلفهم على أقدارهم ، فقال : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ، ولو كلفهم على قدره ومقداره لجهلوه وما عرفوه ؛ لأنه لا يعرف قدره أحد سواه ، ولا يعرفه على الحقيقة سواه ، وإنما ألقي إلى الخلق منها اسما ورسما إكراما منه لهم بذلك ، وأما المعرفة ؛ فإنها التحير والتّيهوية.

(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ

__________________

(١) ذكره المناوي في «فيض القدير» (٢ / ٤٩٦) ، والعجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ٢٥٥).

٥٦٤

الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠))

قوله تعالى : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) افهم أن الله سبحانه ألبس وصف قهره النفوس الأبية فاستكبرت عند مباشرتها القهر الجبروتي ، وخرجت بنعت الكبرياء إلى ميادين الربوبية فألقى الحق سلطان عزمة قدمه عليها وكسر قرونها بطاعته ، ولو لا أنه تعالى حبسها في ملازمة قهره لخربت الأرض بفسادها وتكبرها ، ولم يرتفع طاعة المطيعين إلى السماء ، وكيف يكون الصانع القديم بمراد النفوس الحديثة إذ جلاله كان منزها عن محل إرادة كل مريد وحلول كل حادث ، أعطاها شرف مباشرة ربوبيته فأبت بحظوظها عن رؤيتها ، لذلك قال سبحانه : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١)) بذكره الأزلي ذكرهم بالعبودية وشرّفهم بالطاعة ، فهم عن شرف الطاعة معرضون ، وأيضا تجلى الحق في لباس القرآن لأهل العرفان ، ولم تبصره أبصار أهل الطغيان.

قال الواسطي : أول ما كاشف الله خلقه كاشفهم بالمعارف ثم بالوسائل ثم بالسكينة ثم بالبصائر ؛ فلما عاينوا الحق بالحق فنوا عن كل همة وإرادة.

٥٦٥

قال بعضهم : لو لا أن الله تعالى أمر بمخالفة النفوس ومباينتها لا تبع الخلق هواهم في شهوات النفوس ، ولو فعلوا ذلك لضلوا عن طريق العبودية ، وتركوا أوامر الله ، وأعرضوا عن طاعته ، ولزموا مخالفتها ، ألا ترى الله يقول : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ).

ثم بيّن سبحانه أن حبيبه صلوات الله عليه يدعوهم إلى تلك المشاهدة بقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣)) الصراط المستقيم ما أوضحه أنوار جماله ومشاهدته ، وهو طريق معرفته في قلوب الصديقين لأرواح القدسية ، وتلك الطريقة منتهاها المحبة ، وبدايتها الأسوة والمتابعة لقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران : ٣١].

قال ابن عطاء : إنك لتحملهم على مسالك الوصول ، وليس كل أحد يصلح لذلك السلوك ، ولا يوفق له إلا أهل الاستقامة ، وهم الذين استقاموا لله مع الله ، ولم يطلبوا منه سواه ، ولم يروا لأنفسهم درجة ولا مقاما.

قال بعضهم : لي الإقبال على الله ، والإعراض عمن سواه ، ثم بيّن سبحانه حال المحرومين عن هذه الطريقة المباركة والإيمان بالغيب والاخرة ، ووصفهم بالضلالة عن طريق الصواب بقوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤)) أي : الذين لا يشاهدون بقلوبهم أنوار الغيب لناكبون عن متابعتك يا محمد.

قال أبو بكر الوراق : من لم يهتم لأمر معاده ومنقلبه ، وما يظهر عليه في الملأ الأعلى والمشهد الأعظم ؛ فهو ضال عن طريقته غير متبع لرشده ، وآخر منه حالا من يهتم لما جرى له في السبق من ربه ؛ لأن هذا المصدر فرع لتلك السابقة ، قال الله : (إِنَّ الَّذِينَ ...) الاية.

ثم بيّن أن لو كشف لهم حجاب الهجران ، ورأوا جمال الرحمن لادعوا من سكرهم في جمال الأنانية بقوله تعالى :

(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥)) لو خلصهم عن درك الامتحان ، وكشف عنهم ضر الحرمان للجوا في دعاويهم العظيمة التي تفسد الرسوم ، وبقوا في طغيان دعاويهم.

قال ابن عطاء : الرحمة من الله على الأرواح المشاهدة ، ورحمته على الأسرار المراقبة ، ورحمته على القلوب المعرفة ، ورحمته على الأبدان آثار الخدمة عليها على سبيل السنة.

وقال أبو بكر بن طاهر : كشف الضر هو الخلاص من أماني النفس ، وطول الأمل ،

٥٦٦

وطلب الرياسة والعلو ، وحب الدنيا ؛ فإن هذا كله مما يضر بالمؤمن.

قال الواسطي : للعلم طغيان ، وهو تفاخر به ، وللمال طغيان ، وهو البخل ، وللعمل والعادة طغيان ، وهو الرياء والسمعة ، وللنفس طغيان ، وهو اتباع شهواتها.

ثم بيّن أنه تعالى ابتلاهم بعذاب الفرقة ، ولم يتحسروا بذلك ، وما أرادوا الرجوع إليه بنعت التصريح بقوله : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦)) أفرد أرواحهم في مبادئ العهد بشهود نور جماله لها وخطابه معها ، فلما وصلت الأشباح ابتلاها بحجاب النفوس والشياطين ، ولم ترجع إلى طلب معادنها ؛ فشكا الله سبحانه عنها ، ومن حق معرفتها أنها تفنى براءة الحجاب والخطاب بالعتاب ، وهذا وصف بعض العارفين الذين هاموا في أودية الكبرياء والعظمة ، ولا يجدون لذة الوصال والجمال من صولة التوحيد ؛ فوقعوا في بحار الأولية ، وباشروا بالجرأة ما يوجب العتاب ، فلم يلتفتوا إلى مراعاة الرجوع لاستكبارهم بمقاماتهم العظيمة ، ولا يهتمون على فوائت حظوظ المشاهدة يا ليت لو علموا خفايا مكره لتضرعوا واستكانوا حتى يكشف ما وراء أحوالهم من عظائم غيوبات الصفات ، وعجائب كشوف الذات ، التي لو شاهدوها لذابوا ساعة بنعت الفناء في القدم ، ولتاهوا ساعة بنعت البقاء مع السكر والصحو في الأبد.

وافهم أن الله سبحانه وقع المريدين في موت الفوت ؛ فجاهدوا أنفسهم بأنواع العبادات والرياضات ، ولو استعاذوا به ، واستعانوا لسهل عليهم طريق الرجوع إليه ، فأين هم من التضرع والبكاء ، وتعفير الوجوه بالتراب على فناء وحدانيته وجناب ديموميته؟ وبهذا وصل الواصلون إلى الله.

قال سهل : ما أخلصوا لربهم في العبودية ، ولا ذلوا له بالوحدانية.

(مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥))

قوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) نزه نفسه سبحانه عن مخايل الزنادقة ، وكان منزها عن أباطيل إشارة المشبهة ، وذاته ممتنع بكمال أحديته عن زعم الثنوية ، كيف يجوز أن يكون القدم محل الحوادث إذ القدم المنزه إذا تجلى بنعت القدم

٥٦٧

للحدثان صار معدوما كالعدم تعالى الله عن كل وهم وإشارة.

قال الحسين : الصمدية ممتنعة من قبول ما لا يليق بها ؛ لأن الصمدية تنافي أضدادها على الأبد ، وهي ممتنعة عن درك معانيها ؛ فكيف تبقى مع أضدادها ، وما لا يليق بها (١).

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨))

قوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) دعا حبيبه إلى استعمال خلقه العظيم وظرفه الكريم الذي مستفاد من خلقه حين ألبسه إياه حين اصطفاه على العالمين أي : احتمل بحلمك جفاء الجافين ، وراعهم بطيب الكلام ، وحسن السلام ، وإعراض الجميل.

قال القاسم : استعمل معهم ما جبلناك عليه من الأخلاق الكريمة والشفقة والرحمة ؛ فإنك أعظم خطرا من أن يؤثر فيك ما يظهرونه من أنواع المخالفات.

قال بعضهم : ادفع عنك بأخلاقك جهلهم.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠))

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) بيّن سبحانه أن من كان ساقطا عن مركب الطاعات لم يصل إلى الدرجات ، ومن كان محروما عن المراقبات في البدايات كان محجوبا عن المشاهدات والمعاينات في النهايات ، وإن أهل المزخرفات والدعاوى والترهات تمنوا في وقت النزع إن لم يمض عليهم أوقاتهم بالغفلة عن الطاعات ، ولم يتكلفوا بالدعاوى والمحالات.

قال أبو عثمان في كتاب له إلى أهل «جرجان» : لو عمل أهل النار عملا أنجى لهم من طاعة الله وصلاح لما فرغوا في وقت العيان إلا إليه بقولهم : (رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) ؛ فأقبل على طاعة مولاك ، واجتنب الدعاوي ، وإطلاق القول في الأحوال فإن ذلك فتنة عظيمة ، هلك في ذلك طائفة من المريدين ، وما فرغ أحد إلى تصحيح المعاملات إلا أداه بركة ذلك إلى سني الرتب ، ولا ترك أحد هذه الطريقة إلا تعطل.

__________________

(١) واعلم إن الأحدية ينافيها الازدواج ؛ لتأدّيته إلى التكثّر ، والصمدية ينافيها الاحتياج ؛ لتأدّيته إلى الذلّة المنافية للألوهية.

٥٦٨

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥))

قوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) أخبر عن أوائل كشف جلاله وجماله ؛ فإذا قاموا على بساط الهيبة ، وسرادق الكبرياء والعزة ، وعاينوا الذات القديم ، ولهوا في مشاهدته مستغرقين في بحار أنوار جماله وجلاله ، واشتغلوا بذوقهم في وصاله من وصاله عن مرافقة كل رفيق ، ومصادقة كل صديق ، وانتسابهم إلى الأخوة والمصاحبة ، ولا يتساءلون عند سطوات عظمته حالهم بعضهم بعضا لشغلهم بمعاينة وجوده ونثر جوده ؛ فإنهم غائبون في شهودهم مشاهدة قربه ومعاينة قدمه وبقائه فنسبهم هناك نسب المعرفة والمحبة الأزلية واصطفائية القدمية ، لا يفتخرون بشيء دونه من العرش إلى الثرى.

قال فارس : الأنساب رؤية الأعمال ، ورجاء الخلاص بها ، (وَلا يَتَساءَلُونَ) لا يتذاكرون مما جرى عليهم في الدنيا من نعيمها وبؤسها شغلا بما هم فيه.

قال محمد بن علي الترمذي : الأنساب كلها منقطعة إلا من كانت نسبته صحيحة في عبودية ربه ؛ فإن تلك نسبة لا تنقطع أبدا ، وتلك النسبة المفتخر بها لا نسبة الأجناس من الاباء والأمهات والأولاد (١).

(قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠))

قوله تعالى : (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦)) أي : غلبت علينا الدعاوى الباطلة ، والخوض في الطّامات والترهات.

قال أبو تراب : الشقوة : حسن الظن بالنفس ، وسوء الظن بالخلق.

__________________

(١) (فلا أنساب بينهم يومئذ) تنفعهم ، لزوال التراحم والتعاطف بينهم ؛ من فرط الحيرة واستيلاء الدهشة ، بحيث يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه. البحر المديد ـ (٤ / ٢٠٦).

٥٦٩

(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤))

قوله تعالى : (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١)) جزيتهم بمشاهدتي بما صبروا في طاعتي ، واحتمالهم جفاء أعدائي ؛ فإنهم فائزون من فراقي أبدا ، خارجون من عناء الفرقة ، وطعن الطاعنين في زمان المحبة.

قال أبو عثمان : ما صبروا حتى أكرموا بالصبر ، والصبر حبس النفس عن الشهوات.

قال ابن عطاء : صبروا عن الخلق ، وصبروا مع الله.

وقال أبو بكر بن طاهر : الفائزون : الامنون من أهوال القيامة.

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨))

قوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥)) غيرهم بما سكنوا إليه مما وجدوا منه حيث ظنوا أن ما وجدوا منه على حدّ الكمال فوقفوا ؛ فقال : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ) للوقفة عني بشيء مما وجدتم مني (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) بنعت الفناء عما وجدتم ، وعما سكنتم به عني ، ثم عظم جلاله وكبرياءه عن إدراكهم ، وإن رجعوا إليه به بقوله : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) تعالى جلاله عن أن يدركه المدركون ، ويلحق بعزته اللاحقون ، هو الحق بحقيقته ، وحقيقته لا يطلع عليها إلا هو ، تلاشت الحدثان في سطوات جلاله حتى أن العرش الكريم مع عظمه صغر في عين نملة من قهر عزته ، ومن نظر إلى شيء سواه ، وإن كان منه رتبة عظيمة في المعرفة ؛ فهو محجوب به عنه بقوله : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ).

ثم أمر صفي المملكة بعذر عجزه ، وتحيره عن درك نعوته الأزلية ، وصفاته الأبدية بقوله : (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ) اغفر تقصيري في معرفتك ، وارحمني بكشف زيادة المقام

٥٧٠

في مشاهدتك (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)) إذ كل رحمة في الكونين قطرة مستفادة من بحار رحمتك القديمة.

حكى يوسف بن الحسين عن أحمد بن أبي الحواري في قوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ) : لا يصل إلى قلبك روح التوحيد ، وله عندك حق لم تؤده.

وقال الواسطي : أظهر الأكوان ليظهر آثار الولاية على الأولياء ، وآثار الشقاء على الأعداء.

وقال في قوله : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) : لا يحتمله إلا الحق حجب الكون بالصفات والنعوت ، ثم حجب النعوت بالحقيقة.

وقال : الحق عجز الخلق أن يدركوه بإدراكهم ، وإنما يدرك بإدراكه.

قال ابن عطاء : تعالى أن يغيره الدهور أو يجري عليه قوادح الأمور ، نفى الأشكال عن نفسه بتعاليه ، ونفى الأضداد والنظراء عن نفسه بتمام ملكه عز وعلا.

وقال الأستاذ : الحق بنعوت جلاله متوحد ، وفي عز أزاله ، وعلو أوصافه متفرد فذاته حق ، وصفاته حق ، وقوله صدق ، ولا يتوجب لمخلوق عليه حق.

تم الجزء الثاني

ويليه الجزء الثالث ، وأوله :

سورة النور

***

٥٧١
٥٧٢

فهرس المحتويات

سورة التوبة...................................................................... ٣

سورة يونس.................................................................... ٦١

سورة هود.................................................................... ١٠٤

سورة يوسف عليه‌السلام............................................................ ١٤٥

سورة الرعد................................................................... ٢١٥

سورة إبراهيم................................................................. ٢٥١

سورة الحجر.................................................................. ٢٧٣

سورة النحل.................................................................. ٣٠٧

سورة بني إسرائيل.............................................................. ٣٤٦

سورة الكهف................................................................. ٣٩٢

سورة مريم.................................................................... ٤٤٩

سورة طه..................................................................... ٤٧٢

سورة الأنبياء................................................................. ٥٠٩

٥٧٣

سورة الحج................................................................... ٥٣٠

سورة المؤمنون................................................................. ٥٤٩

فهرس المحتويات............................................................... ٥٧٣

٥٧٤