تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٧٤

قال بعضهم في قوله : (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي : على هدايتكم لو كانت الهداية إليه ، مشفق على من اتّبعه أن يأتيه نزغة من نزغات الشيطان ، رحيم يستجلب برحمته له رحمة الله إيّاه.

وقال : (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) : أن تبلغوا محل أهل المعرفة.

قال جعفر الصادق : علم الله عجز خلقه عن طاعته ، فعرّفهم ذلك ؛ لكي يعلموا أنّهم لا ينالون الصفو من خدمته ، فأقام بينه وبينهم مخلوقا من جنسهم في الصورة ، فقال :

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ، فألبسه من نعته الرأفة والرحمة ، وأخرجه إلى الخلق سفيرا صادقا ، وجعل طاعته طاعته ، وموافقته موافقته ، فقال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) ، ثم أفرده عليه‌السلام لنفسه خاصة بعد أن كان من جنسهم بالصورة ، فاواه إلى نفسه بشهوده عليه في جميع أنفاسه ، وسلّى قلبه بإعراضهم عن متابعته ، بقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) في أمر النبوّة ، وشرف الرسالة وجماله ، حسبي عن الجملة ، وقربه ووصاله يكفيني عن جميع مراتب الثقلين ؛ لأنه بوحدانيته منزّه عن الأضداد ، فنزّهني عن صحبة الأغيار بمشاهدة الأنوار بوصفه لنفسه : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي : لا غير في البين من العرش إلى الثرى.

(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) لا على نفسي وغيري ، فإنه عماد المتوكّلين ، وبه ثبتت قلوب الصادقين.

(وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) حيث ألبس العرش أنوار عظمته بعظمته ، ولو لا ذلك لذاب العرش في سبحات وجهه بأقلّ لمحة.

سورة يونس

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣))

٦١

(الر) : الألف عين الوحدانية ، واللام عين الأزلية ، والراء عن الربوبية من عين الوحدانية ، تجلّى بالألف لقلوب الموحدين والمنفردين من الحدثان ، ليفنوا في سبحات الألوهية ، وتجلّى من عين الأزلية باللام لأرواح العارفين لتطيره بأجنحة أنوار القدم في القدم ، وتجلّى من عين الربوبية بالراء ؛ لأسرار المحبين ليستأنسوا بحسن الصفات ، ويشتاقوا إلى مشاهدات الذات ، سقى الموحدين رحيق الأنائية بأقداح الألف من بحار الوحدانية ، فخرجوا بنعت الاتحاد ، وسقى العارفين عقار العشق بأقداح اللام من أنهار الجمال ، فخرجوا بنعت الاتصاف والهين ، وسقى المحبين عروق الوداد بأقداح الراء من عيون أنوار الربوبية ، فخرجوا بنعت الحيرة هائمين.

وأيضا : الألف آلاؤه للصادقين ، واللام ألطافه للمقربين ، والراء رحمته على التائبين.

قال الحسين : في القرآن علم كل شيء ، وعلم القرآن في الأحرف التي في أوائل السور ، وقد وقع لي إنما يكون في سورة يونس من الغرائب والعجائب والقصص والأمثال جمعها في ثلاثة أحرف في الألف واللام والراء ، ونبّه بها قلب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بإشارة الأحرف الثلاثة فكفى له ذلك ؛ لأن بينه وبين الله رموزا وإشارات ، لا يطّلع عليها جميع الخلائق ، فلذلك يحتاجون إلى نزول سورة كاملة.

وأيضا : خاطبه بأحسن الأسماء مواساة وتربية ، أشار بالألف : يا آدم الثاني ؛ لأن الألف أول الحروف من آدم ، وأشار باللام : يا لطيف ، وأشار بالراء : يا رحيم ، كما قال : يا (طه (١)) ، يا (يس (١) يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١)) ، (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (٢)) أي : هذه الأبناء آيات صفاتية أزلية التي كنت حكيما ، وعالما بما في القدم والأزل ، أيضا أي : تلك علامات ما ألهمنا روحك في الأزل ، فنعرفك بها مكان خطاب الأول ، إن القرآن محكم بحكم الأزلية ، وحججه البالغة بأمر الربوبية ، والدعاء إلى العبودية من فهمه صار حكيما بحكمته.

وقيل : أي فيه علامات قبول الحكماء لهذا الخطاب.

وقيل : الكتاب الحكيم العهد الناطق عليك بأحكام الظاهر والباطن.

قال الأستاذ : إن هذا الكتاب هو الموعود لكم يوم الميثاق ، والإشارة فيه أن الصفر نسيج الشعر وغيره.

والعناج : الخيط الذي يشد من أسفل الدلو ، حققنا لكم الميعاد وصفرنا لكم عناج الوداد ، وانقضى زمان البعاد ، فالعصاة ملقاة ، والأيام بالسرور متلقاة ، فبادروا إلى شرب كاسات المحاب ، واستقيموا على نصيح الأحباب ، خلقه لم يعرفوا موقع عناية الله وفضله واختياره لنبيه نبوته ورسالته بقوله : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ).

٦٢

وأخبر أن هذه الخاصية من الله سبحانه له ؛ بأن ينبه النوامين عن مشاهدة عظمته بعظيم بطشه وجلال قدره بقوله : (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) ، ويبشر الصادقين في إيمانهم ؛ بأن وصاله لهم بنعت السرمدية بقوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

أخبر عن أوائل كرمه وسوابق نعمه الصادقين في إرادتهم ، والمخلصين في مقاصدهم أن لهم وصالا بغير حجاب ، وكشف جمال بغير عتاب.

وأيضا أي : بشّر العارفين أن لأرواحهم في مقام قدس جلالي وأزلي قدم المحبة وصدق اليقين بمشاهدة ، حين كشف جمال وجهي لها في ميثاق الأول ، وصدق تلك الأقدام بوصف المحبة أنها لا تزول عن محل الاستقامة في العبودية ، وعرفان الربوبية.

وأيضا : ما وصفت قدم الربوبية في إيجاد الكونين إلا بصدق محبتي لهم في الأزل.

وأيضا : معنى الاية أولها تخويف بقوله : (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) أي : خوف من نسيني طرفة عين بفوت حظ مشاهدتي وفراقي ووله وصالي ، ثم بشر بلسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كان جميع قلبه مملوءا من حبه وصفاء ذكره.

وأيضا أي : بشر المريدين الذين أيقنوا قربتي لهم وعنايتي لهم أنهم وإن أخطأوا بمباشرة هوى نفوسهم في زمان فترتهم ألا يقنطوا من فضلي ولطفي القديم بهم في سابق حكمي ، فإن لهم عندي قدم صدق الإرادة في البداية ، ولا يحذر من كرمي أن أهدم صدق أقدامهم في الإرادات بل آويهم بعناياتي إلى قربي ووصالي ، وأراعي عواقب أمورهم ؛ حتى تكون أقدام الأواخر مستويات بأقدام الأوائل.

قال أبو سعيد الخراز : تفرق الطالبون عند قوله : «من طلبني وجدني» (١) على سبيل شيء ، أولهم أهل الإشارات طلبوه على ما سبق من قوة الإشارة ، وهم أهل قدم الصدق عند ربهم ، فبالقدم أشار إليهم ، فهم أهل الطوالع والإشارات ، حظهم منه ذلك.

وقال سهل : سابقة رحمة أودعها في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال الترمذي : قدم صدق هو إمام الصادقين والصديقين ، وهو الشفيع المطاع وسائل المجاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل في قوله : (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) أي : مما يذهل قلوب الصادقين المنتبهين.

وقال النصر آبادي في قوله : (بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ) : القدم الصدق لم يبق له مقام إلا وقد سلكه بحسن الأدب ، لذلك إن قدم الصدق هو موضع

__________________

(١) رواه أبو نعيم في الحلية (١٠ / ١٩٣).

٦٣

الشفاعة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال الأستاذ : قدم صدق ما قدموه لأنفسهم من طاعات أخلصوا فيها ، وفنون عبادات صدقوا في القيام بنقصها (١).

ويقال : هو ما قدم الحق سبحانه لهم يوم القيامة من مقتضى عنايته بشأنهم ، وما حكم لهم من فنون إحسانه وصنوف ما أفردهم به من امتنانه ، ثم وصف نفسه تعالى بالربوبية والألوهية ؛ تنزيها لتربية أسرار العارفين ، وتقديسا لقلوب الموحدين بقوله : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) ، ثم بيّن أعلام الألوهية لترفيه فؤاد الموقنين بقوله : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، أخبر عن ترضيته الملكوت بأنوار الجبروت لاستبصار العاقلين ، وجعل أيام بقائهما معدودة لإطفاء نيران عجلة الإنسان ، وإلا هو مقتدر بقوة القدم ، أن يوجد ألف ألف سماء وألف ألف أرض بأقل من لمحة ، ثم جعل العرش مرآة قدسه ، ومأوى أرواح أحبائه بقوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) ، خامر أنوار عظمة العرش ، وجعله مأوى أنفاس الصديقين ، ومنتهى مسالك المريدين.

ثم أخبر أنه تعالى يستهل طريقه إليه لطالبيه بقوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) : يقدس للأرواح العاشقة الصادقة طرق مشاهدته ووصاله من علة الحدثان ، ويصطفي قلوب العارفين بكشوف عجائب صفاته وأنوار ذاته ، ثمّ بيّن أنه مختار لولاية الأولياء بنفسه لانتقاص من جهة الخلق ، وعلة الخليفة بقوله : (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) : من يعطيه لسان الانبساط يسأل ويشفع بعد انبساطه إليه ، وإلا كيف يكون للحادث عند القديم وزن؟!

ثم عرف نفسه بما وصف به نفسه لفهماء المعرفة والمربين بأنوار المحبة بقوله : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ).

ثم دعاهم إلى عبادته بعد معرفته بقوله : (فَاعْبُدُوهُ) : أي : اعبدوه بالمعرفة ؛ لأنه خلق الخلق لعرفانه.

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ

__________________

(١) أي أعمالا حقة ثابتة قدموها لأنفسهم صدقوا فيها وأخلصوا فيما يسّروا له لأنهم خلقوا له وكان مما يسعى إليه بالأقدام ، وزاد في البشارة بقوله : (عند ربهم) ففي إضافة القدم تنبيه على أنه يجب أن يخلص له الطاعة كإخلاص الصدق من شوائب الكذب ، وفي التعبير بصفة الإحسان إشارة إلى المضاعفة. نظم الدرر (٤ / ٤٢).

٦٤

وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١))

قال : «كنت كنزا مخفيّا ، وأحببت أن أعرف» (١).

ثم حثّهم بالتفكر والتذكر بقوله : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) : أي : أفلا تخوضون في بحار الأفكار لتدركوا حقائق الأذكار ، وتبصروا بها حقائق الأنوار ، وتنكشف لكم لطائف الأسرار.

قال بعضهم في قوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) : يختار العبد ما هو خير له من اختياره لنفسه.

ثم بيّن سبحانه أن نفسه تعالى مرجع كل غريق فيه ، ومنجى كل خائف منه ، ومأوى كل هائم له ، وماب كل أواب إليه ، ومقصد كل قاصد إليه ، ومطلب كل طالب له ، ومنتهى همة كل سيّار في أسفار آزاله وآباده بقلبه وروحه وسره إليه بقوله : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) ، كل صفة منه تعالى مراد كل مجذوب بنورها إليه من القدم إلى الأبد ، فمرجع العاشقين جماله ، ومرجع العارفين جلاله ، ومرجع الموحدين كبرياؤه ، ومرجع الخائفين عظمته ، ومرجع المشتاقين وصاله ، ومرجع المحبين دنوه ، ومرجع أهل الفناء ذاته ، أنوار ذاته أوطان أرواح القدسية ، وأنوار صفاته مزار قلوب الوالهة ، وأنوار أفعاله مقرّ عقول الهائمة ، تعالى جلاله عن علة الحدثان والأكوان ، والحدثان يرجع إلى مصرف وجود القدم ؛ لأنها بدت منه ، وإليه تعود ، هو مقدّس بعظمته عن أن يكون محلا للحادث ، وتصديق ذلك بيانه في آخر الاية : (وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) : أبدأهم من العدم بتجلي القدم.

__________________

(١) ذكره العجلوني في كشف الخفاء (٢ / ١٧٣).

٦٥

ثم يفنيهم بقهر سلطان غيرته ، ومرجعهم إلى معدن الأول ، ثم يعيدهم رحمة وشفقة ليجازي العارفين بكشف جماله بقوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) : أي : يجزي الذين شاهدوا بقلوبهم مشاهد الملكوت بكشف جمال الجبروت ، ويجازي الذين أصلحوا سرائرهم لنزول أنواره يجازيهم بمداناة وصاله.

يا أخي من رجع من سفر البعاد إلى قرب محبوبه يفرح المحبوب بمقدمه ، ويعطي نفسه لمريده وزائره ؛ فإنه سبحانه يكشف نقاب الغيرة عن جمال مشاهدته لكل أواب إليه.

أيا قادما من سفرة الهجر مرحبا

أيا ذاك لا أنساك ما هبّت الصّبا

قال الجنيد : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) : منه الابتداء وإليه الانتهاء ، وما بين ذلك مراتع فضله وتواتر نعمه ، فمن سبق له في الابتداء سعادة أظهر عليه في مراتعه وثقلته في نعمه بإظهار لسان الشكر وحال الرضا ومشاهدة المنعم ، ومن لم يجر له سعادة الابتداء أبطل أيامه في سياسة نفسه ، وجمع الحطام الفانية ليرده إلى ما سبق له في الابتداء من الشقاوة.

قال الله : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) : فالراجع بالحقيقة إليه هو الراجع مما سواه إليه ، فيكون متحققا في الرجوع إليه.

قال الأستاذ : الرجوع يقتضي ابتداء الأرواح قبل حصولها في الأشباح كان لها في مواطن التسبيح والتقديس إقامة ، والغائب إذا رجع إلى وطنه من سفره فلقدومه أثر عند محبيه وذويه.

ويقال : المطيع إذا رجع إلى ربه فله الحسنى والثواب والزلفى ، والعاصي إذا رجع إلى ربه بنعت الإخلاص وخسران الطريق فيلقى لباس الغفران ، وحلة الصفح والأمان ورحمة مولاه خير له من نسكه وتقواه.

قال تعالى : (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) : فموعود المطيع الفراديس الأعلى ، وموعود العاصي الرحمة والرضا والجنة لطف الحق ، والرحمة وصف الحق ، فاللطف فعل لم يكن ثم حصل ، والوصل نعت لم يزل.

وقال الأستاذ في قوله : (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) : من كان له في جميع عمره نفس على وصف ما ابتدأ الحق به ففي الإشارة يكون له إعادة.

ولقد أنشد قائلهم :

كلّ نهر فيه ماء قد جرى

فإليه الماء يوما سيعود

ثم وصف الله تعالى نفسه بالقدرة الكاملة والإرادة القائمة بتنوير العالم بنوره.

٦٦

ومنّ بذلك على عباده بقوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) : جعل شمس الذات ضياء للأرواح العارفة ، فبصرت بها عيون الازال والاباد ، وجعل قمر الصفات نورا للقلوب العاشقة ، فنظرت به شمائل أخلاق الجمال والجلال ، فالأرواح فنيت بصولة الذات في عين الذات ، والقلوب بقيت المشاهدة الصفات في عين الصفات ، فشمس الذات غير محجوبة في جميع الأوقات عن بصائر الأرواح ؛ لذلك عاينتها ؛ ولا غابت عنها ؛ لأنها مقام التوحيد والمعرفة ، إن الشمس النهار تغرب بالليل ، وشمس القلوب ليست تغيب ، وقمر الصفات يبدو للقلوب في أوقات بسطها ، ويخفى في أوقات قبضها ، ولذلك صارت القلوب في التقلب في أنوار الصفات ، فكما خفي القمر في شعاع الشمس ويزيد وينقص كذلك حالات القلوب في خفايا الصفات وظهورها ، فلقمر الصفات في قلوب المحبين منازل من المداناة ؛ لظهور المواجيد والحالات ، ولبيان أعداد الأنفاس التي لا ينبغي لها أن تجري إلا باجتماع همم المعرفة ، وصفاء المحبة والإحاطة بأوقات الواردات العينية ، وهذا معنى إشارة قوله : (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) (١).

قال بعضهم : الشموس مختلفة ؛ فشمس المعرفة يظهر ضياؤها على الجوارح ، فتزينها باداب الخدمة ، وأقمار الأنس تقدس الأسرار بنور الوحدانية والفردانية ، فتدخلها في مقامات التوحيد والتفريد.

وقال بعضهم : جعل الله شمس التوفيق ضياء الطاعات للعباد ، وقمر التوحيد نورا في أسرارهم ، فهم ينقلبون في ضياء التوفيق ، ونور التوحيد إلى منازل الصديقين ، ثم زاد سبحانه ذكر أعلام شواهد ملكوته ، وأنوار جبروته للمؤمنين بقوله : (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) ، جعل الليل مأوى أنس العارفين ، وجعل النهار مواضع نزهة الصديقين ، أظهر في لباس الليل أنوار العظمة ، وأبرز من مرآة النهار أنوار مشاهدة الجمال والجلال ، وجميع ما خلق من العرش إلى الثرى مرائي لطغيانه ، تبرز منها لأهل الهيبة والوجل أنوار صفاته ، ليله قبض قلوب العارفين ، ونهاره بسط فؤاد المحبين ، وما بينهما بين سماء الأرواح وأرض القلوب أشكال الأحوال من المكاشفات ، ولا يراها إلا المتقي عما دونه من الحدثان.

__________________

(١) أي : حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي والساعات لصلاح معاشكم ودينكم من فرض الحج والصوم والفطر والصلاة وغيرها من الفروض ، تفسير حقي (٥ / ٢٢٩).

٦٧

قال الأستاذ : النهار وقت حضور أهل الغفلة في أوطان كسبهم ، والليل وقت أرباب الوصلة بانفرادهم شهود ربهم.

قال قائلهم :

هي الشمس إلّا أنّ للشمس غيبة

وهذا الذي تعنيه ليس يغيب

وقال : الليل لأحد شخصين : إما للمحبين فوقت النجوى ، وإما للعاصين فلبث الشكوى.

ثم وصف الله من لا نصيب له مما ذكرنا من رؤية شواهد الغيب ، ولاحظ له من رؤية الايات بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) ، أي : لا يخافون فراقنا ، ولا يرجون وصالنا.

ثم ذكر علة قلة رجائهم وخوفهم بقوله : (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) : أي : لإيثارهم يوم الفانية على حياة الباقية ، ثم ذكر سبب ذلك ؛ لأنهم غفلوا عن رؤية أنوار الصفات في مرآة الايات بقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ).

قيل : لا تخافون الموقف الأعظم يوم تبلى السرائر ، وتظهر الخفايا ، (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) ركنوا إلى مذموم عيشهم ، (وَاطْمَأَنُّوا بِها) نسوا مفاجات الموت ، (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) ، تقليب القلوب وعقوبات الجوارح.

ثم وصف أهل خالصته من الصادقين الذين سبقت لهم منه الحسنى في الأزل بالعناية إلى الأبد بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) : أي : الذين عاينوا الحق في عهد الأول بعيون المحبة ، وكنسوا غبار الحوادث من طريق المعرفة ، (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ) بذاته إلى صفاته ، وبأنوار صفاته إلى جلال ذاته بإيمانهم ، يعني : بما سبق لهم في الأزل من هداية الله في علم الله ، ثم بيّن أنهم في جوار جماله ومعاينة لقائه ، حيث أفاض عنهم بركات شهودهم إلى أهل القربات بقوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ، هم في جنات المشاهدات تجري من تحت عيون أرواحهم أنهار المعارف وأسرار الكواشف.

قوله تعالى : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠)).

تظهر عليهم بركات اقتدارهم عند إيجاد الذر بقولهم : بل فمن بركاتها لزوم الفرائض واتباع السنن وتحقيق الإيمان وتصحيح الأعمال.

٦٨

ثم إن الله سبحانه وصف المشاهدين جماله أنهم إذا رأوه هيّجتهم نعم المشاهدة ، وراحة الوصلة وثناء جلاله ، فأغارهم أنوار سطوات العزة وسبحات العظمة ، ولا يتهيأ لهم في ثنائه إلا العجز عن ثنائه ، فيؤول حالهم في الثناء إلى أنهم جمعوا خصائص صفاته في نعت التنزيه بقوله : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ) ، وهذا حال سيد المرسلين صلوات الله عليه حين عاين الحق ، وقال : «لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك» (١).

ثم عرفهم مكاره نعمه عليهم من تعريف نفسه فيقولون : (اللهُمَ) أي : أنت إلهنا وبك عرفناك ونزهناك سبحانك اللهم.

ثم وصف تحيتهم بأنهم يبدأون باسم السلام بقوله : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) : بأن سلموا من خوف حجابه وأليم فراقه ، يبرئ بعضهم بعضا من وصمات النفسانية والشيطانية ، بتبري الحق وتنزيهه عن الحوادث بأنه تعالى سمى نفسه بالسلام ، والسلام المبرئ من الحوادث ، فتحيتهم هناك تنزيهه ، فلما عرفوا حقائق نعمه التي أدركوها بغير علة الاكتساب أثنوا على ربهم ومدحوه به لا بهم بقوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) : آخر ذكرهم مدحه تعالى ؛ حيث صرحوا أن ما نالوا منه نالوا بفضله الأزلي واصطفائيته القديمة.

قال ذو النون في قوله : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) : مقام المحققين من العارفين التنزيه والتبري من جميع ما لهم من أنواع الأقوال والأفعال وغير ذلك ، والرجوع إلى الحق على حد التنزيه له أن يقصده أحد بسبب أو يتحبب إليه بطاعة أو يعمل كلا إلا لإظهار سعادة الأزل على السعداء ، وسمات الشقاوات على الأشقياء.

وقال الشبلي في قوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) : لو ألهموا حمد الحق في أوائل الأنفاس لسقطت عنهم الدعاوى ، لكنهم لم يزالوا يركضون في ميادين الجهل إلى أن فتح لهم طريق الحمد ، فلما فتح لهم طريق الحمد سقطت عنهم الدعاوى ، فرجعوا إلى رؤية المنة ، فكانت آخر دعواهم أن قالوا : الحمد لله رب العالمين فرضّوا الكل به ، ورجعوا بالكلية ، فأنطقهم لما أنطقهم به من المنطق المحمود.

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا

__________________

(١) رواه مسلم (١ / ٣٥٢).

٦٩

كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١))

وقد وقع لي بعد قول شاه العارفين ـ رحمة الله عليه ، وقدّس الله روحه : إن القوم لما خرجوا من رؤية علل الحوادث ، وغرقوا في بحار الذات والصفات أرادوا أن يثنوا عليه بما رأوا منه من عجائب أنوار الصفات ، وأسرار الذات ، فما وجدوا ثناءه عليه إلا من تعريفه إليهم ، فوجدوه المنعم عليهم في جميع ما وصفوه به ، فلا يكون لهم موضع من ثنائه إلا الحمد لتأييده لهم ؛ فإن منتهى قول الوصافين صفاته العجز عن البلوغ إلى حقائق ثنائه ، ولا يتعرض لهم بعد ذلك إلا الحمد ، ثم العجز عن الحمد عن الخجل في المحمود القديم.

قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) : إن الله تعالى وصف المتحيرين بين القضاء والقدر والإرادة والمشيئة ، فإذا أظلم عليهم سجوف ليالي البليات ، وأذهب عنهم مباشرة القهر أثر الراحات حرك يد اللطف الأزلي سلاسل عقود قلوبهم إلى إقبال الحضرة ، وأضاء تنفس صباح لوائح الغيب في أسرارهم ، فصرفهم بنعت الاضطرار إلى باب الربوبية ، فرأوا هنالك أعلام قهر الجبروت ، وخرجت عقولهم من مكمن جنس الامتحان ، وحثهم إلى التضرع في ميادين السلطنة ، فخلصوا من ورطة الامتحان بدعائهم على باب الرحمن ، فما سكنوا عن تواتر البلاء ، فاشتهت عقولهم بقاءهم في الاستقامة ،

٧٠

فتصول عليهم عساكر القصريات ، وأغرقتهم في بحار الشهوات ، وأعمتهم أنظار المشاهدات ، ويفعلون قبائح الأعمال ، وينسون عهود الأفضال ، وأيام النوال :

عن كأنّ الفتى لم يعربوا ماذا اكتسى

ولم يك صعلوكا إذا ما تحولا

يا ليتهم لو كانوا صادقين في اللجوء إليه ، والتضرع بين يديه ، فإن من بلغ إلى مقام الدعاء وعرف مقاماته ؛ فهو في منزل الانبساط ، والمنبسط شاهد رضوانه ، وموضع نظره وإحسانه ، ومن وصف هذا الداعي أن يكون مستأنسا بربه ، ويدعوه في جميع حالاته ، وإذا دعاه بنية صادقة وعقيدة صافية فدعاه في زمان البلاء الصبر ، وفي زمان النعمة الشكر.

قال أبو حفص : الدعاء باب الله الأعظم ، وهو سلاح المؤمن عند النوائب.

وقال أيضا : يرجع العبد إلى ربه بالحقيقة عند الفاقات ، ونزول المصائب بالرضا ، ولكنه لما لم يكن له في أوقات الرفاهية رجوع إليه رد في حال المصائب ، والضروريات إلى الدعاء واللجوء.

وقال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي : سمعت جدي يقول : الدعاء على العادة جناية ، وعلى اليقين نجاة وعبادة كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدعاء هو العبادة» (١).

ولكن للدعاء أوقات وآداب وشروط ، فمن لم يطالب نفسه بأوقات الدعاء وآدابه وشروطه كان محروما ، وآداب الدعاء وشروطه ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه» (٢).

ثم زاد في وصف هؤلاء الذين لم يدركوا حقائق العبودية في مشاهد الربوبية ، بأنهم هلكوا بانصرافهم عن باب الله ، ومحل الإخلاص إلى متابعة الشهوات والاقتداء بالوسواس بقوله : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) : الظلم ها هنا الإنكار بعد الاعتراف والإعجاب بالرأي بعد ترك السنة ، والأسوة لما عتوا على أسماء الله بعد علمهم بصدق كراماته ، أهلكهم الله بأن تركهم في حجاب الشهوة والنفس ، ولم يعرفهم طريق الخطأ ، ولم يشدهم إلى طريق أهل قربه ووصاله.

قال ابن عطاء في قوله : (لَمَّا ظَلَمُوا) لما اعتمدوا سوانا.

وقال أبو عثمان : لما ظلموا لما لم يعرفوا حقوق أكابرهم ، ولما يتأدبوا بادابهم ، ثم خوف الله سبحانه خلفاء الأنبياء من الصديقين والمقربين لا يلتفتوا في طريق الله إلى شيء غير الله ،

__________________

(١) رواه الترمذي (٥ / ٢١١) ، وأبو داود (٢ / ٧٦).

(٢) رواه الترمذي (٥ / ٥١٧).

٧١

ولن يروا عزّا من طريق السنن إلى سبيل أهل اليقين بقوله : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) : خلفاء الأرض نواب الأنبياء وورثة الرسل ، وهم أهل الاستقامة والتمكين والجمعية ، الذين يخاطبهم الله في كل نفس بلسان الولاية ، ويورثهم خطابه الاداب السنية ، والأعمال الزكية والأخلاق الكرامية ، والأسوة الحسنة ، ثم يورثهم هذه الأحكام بالأنس بالذكر ، والخوض في الفكر ، والسير بالقلوب في أنوار الغيوب ، والطيران بالأرواح في عالم الأفراح ، وإيواء الأسرار إلى سرادق المجد ، فيرون بعد ذلك في حضرة القدس مجالس الأنس ، ويشربون من بحار محبته ، ويشتاقون إلى لقائه ، ويعشقون بوجهه ، ويرونه لظهور الصفات وكشوف الذات كفاحا ، ويسمعون منه تعالى كلاما صرفا ، فيرجعون بعد ذلك إلى دعوة الخلق إلى الله بألسنة الموعظة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وحفظ حدود الله عليهم.

قال بعضهم : لم يزل الأنبياء لهم خلفاء ، والأولياء لهم خلفاء ، أبدلهم الله مكانهم ؛ ليروا السباقين سنتهم ، ويمسكوا على طريقتهم ، قال الله : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢))

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) : ذكر الله سبحانه عجائب أحوال العارفين في هذه الاية ، أي : يسير نفوسكم في بر المجاهدات ، ويسير قلوبكم في بحر المشاهدات.

وأيضا : يسير عقولكم في بر الايات ، ويسير قلوبكم وأرواحكم في بحر الصفات والذات ، ثم وصف سير القلوب والأرواح في بحار الذات والصفات بقوله : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) : أي : في كنف الرعاية الأزلية ، ولولا ذلك الفلك كيف يجري الحدث في أنوار بحار القدم جرت القلوب في بحار الصفات بعناية الذات لا بها ؛ إذ هي في قبضة ملكة وملكوته ، وأصابع أنوار جبروته يقلبها بسفن قبضه في أنوار صفته ، وذلك قوله : (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) : ريح الكرم والعناية لسيرها بريح لطفه في بحار الازال والاباد ، وما أطيب مهب صبا وصاله في قلوب العاشقين والوامقين ، فأنشد :

ألا يا نسيم الريح مالك

كلما تقربت منّا زاد نشرك طنينا

٧٢

أظنّ سليمى خبرت بسقامنا

فأعطتك رياها فجئت طبيبنا

ففرحت القلوب بسيرها في الوصال بطيب ريح الجمال ، وذلك قوله تعالى : (وَفَرِحُوا بِها) : نشطوا بالله على الله ، فلما سكنوا في مجالس الوصال وتمتعوا بحسن الجمال عادت عليهم غيرة القدم ، وأرادت أن يخرجها من ساحة القدم وبساطين الكرم إلى معادنها من العدم ، وهكذا عادة العشق يذيق العاشق من الفراق بعد ذوق الوصال ، وذلك قوله : (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) ، فتذروها عواصفات قهر الأزل ، وتحيطها أمواج بحار الأبد ، وفارقها طيب ريح الوصال وحسن لطائف الجمال ، وبقيت في أمواج عظمة الكمال.

قال قائلهم :

وبتنا على رغم الحسود وبيننا

حديث كريح المسك شيب به الخمر

فوسّدته كفّي وبتّ ضجيعه

وقلت لليلى طلّي فقد رقد البدر

فلمّا أضاء الصبح فرّق بيننا

وأيّ نعيم لا يكدره الدهر

وأنشد أيضا :

أقمنا زمانا والعيون قريرة

وأصبحت يوما والجفون سواكب

فلما وصلت القلوب إلى قاموس الكبرياء وكادت تفنى بأمواج البهاء فرّت منه إليه ، واستعاذت من قهره بلطفه بقوله تعالى : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) : دعوا الله بعد استماع مناداة الله بعد التبري من غير الله ، وبذل الموجود لله : (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) : أي : لئن تخلصنا من قهر غيرتك والغرق في بحار ألوهيتك لأننا نحن الحدث والحدث لا يوازي القدم فوفقنا برؤية جمال بقائك لنبقى ببقائك معك في بقائك ، ونشكرك بك لا بنا ، فلو أردت فناءنا كيف نبقى معك؟!

فإذا وجب علينا شكر البقاء مع بقائك وشكرنا معرفة عجزنا عن حمل شكرك ؛ حيث شكرت نفسك بشكرك القديم المنزه عن شكر الشاكرين.

قيل : يسيركم في بوادي الشوق ، وبحار القربة.

(حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) : يعني في القبضة والأسر وهبت رياح الكرم على المريدين الذين هم في الطريق وفرحوا بما يلحقهم من العناية والرعاية جاءتها ريح عاصف أتت عليهم من موارد القدرة ما أفناهم عن صفاتهم ، وحيرهم في طريقهم ، وجاءتهم أمواج القهر ، وقهرهم عملهم.

٧٣

(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) : توهموا أنهم من الهالكين في أمواج ، وهم المطهرين الأخيار عن الله ، مخلصين له الدين ، تركوا ما لهم وبهم وعليهم من الاختيار والتدبير ، ورجعوا إلى حل التفويض والتسليم فنجوا.

وقال بعضهم : سير العباد والزهّاد بالأنفس في البر ، وهو الدرجات والمنازل ، وسير العارفين بالقلوب في البحر ، وفيها الأمواج والأخطار ، ولكن سير شهر في يوم :

كدراجة البيوت لهنّ ريش

ولكن لا يطرن مع الحمامة

وقال بعضهم : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ) هو الصفات ، (وَالْبَحْرِ) استغراقا في الذات (١).

وقال بعضهم : (يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ) الاستدلالات بالوسائط ، (وَالْبَحْرِ) غلبات الحق بلا واسطة.

وقال النوري في قوله : (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) : المخلص في دعائه من لا يصحبه من نفسه شيء سوى رؤية من يدعوه.

(فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣))

(فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

ثم وصف الله سبحانه أهل بحار السكر الذين دعوا بالسكر بعد نجاتهم منه به ؛ لأنهم رجعوا إلى ما لم يكن لهم من كشف الأسرار ، وهتك الأستار بقوله : (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) : فلما نجوا من طوفان الفناء في سطوات الأزل بقوا بنعت السكر في مقام البقاء ، ادعوا الأنائية ، تجاوزوا عن حد العبودية بسكرهم في جمال الربوبية ، ثم خوفهم سبحانه عن ملازمة إحاطة أنوار عظمته عليهم بعد رجوعهم من السكر إلى الظلمة بقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي : يرجع إليكم ما ادعيتم لا إلى القديم ؛ فإنه منزّه عن النظر ، والاتحاد بالخليقة ، وكل ما ذكرتهم من ذكري ودعواكم بقربي في أتم معانيه ، فهو مردود عليكم ؛ فإن ساحة الكبرياء مقدسة عن إدراك الفهوم جلال قدر الأزل ، تعالى الله مما خطر على قلب بشر.

__________________

(١) فيه إشارة إلى أن المسير في الحقيقة هو الله تعالى لا الريح فإن الريح لا يتحرك بنفسه بل له محرك إلى أن ينتهي إلى المحرك الأول الذي لا محرك له ولا يتحرك هو في نفسه أيضا بل هو منزه عن ذلك وعما يضاهيه سبحانه وتعالى ومن عرف ذلك وقطع الاعتماد على الريح في استواء السفينة وسيرها تحقق بحقائق توحيد الأفعال وإلا بقى في الشرك الخفي ، تفسير حقي (٥ / ٢٥٠).

٧٤

قال الواسطي : البغي يحدث عن ملاحظة النفس ورؤية ما خدع به.

كما قيل لذي النون : ما أخفى ما يخدع به العبد؟ قال : الألطاف والكرامات ، ورؤية الايات.

قال ابن عطاء في قوله : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) : حتى إذا ركبوا مراكب المعرفة ، وجرت بهم رياح العناية ، وطابت نفوسهم وقلوبهم بذلك ، (وَفَرِحُوا) بقصدهم إلى مقصودهم (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) : أفنتهم عن أحوالهم وإراداتهم ، (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) ، فزالت عنهم أخطار سعيهم ، (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) : تيقنوا أنهم مأخوذون عنهم ، ولم يبق لهم ولا عليهم صفة يرجعون إليها ، وأن الحق خصهم من بين عباده بأن سلبهم عن إياهم ؛ ولأنه لا شيء لهم ولا صفة ، دعوا الله مخلصين له الدين ، صفّى الحق أسرارهم له حتى أخلصوا الدعاء ، وخلصوا له سرّا وعلنا ، فلما نجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق.

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠))

فلما ردهم إلى أوصافهم وأشباحهم رجعوا إلى ما عليه عوام الخلق من طلب ما يصلح للنفوس ، ثم إن الله ضرب مثلا لمن سلك الطريق بالجهل ، وغير الاقتداء بأهل المعرفة أن جميع سعيه يكون هباء منثورا بقوله : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ).

٧٥

أول رغبة السالك مثل الماء الذي وصل إلى البذر في الأرض عند شروعه في المجاهدات والرياضات ؛ لقوله : (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) ، فكثرت عليه الأعمال الوافرة المتنوعة من تصفية القلب (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ) ، ورياضة النفس مما يأكل الأنعام ، فتمكن في العبادات وصفاء الأوقات ، وفرح بما تسهل إليه من شمائل ألطافه ، (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) : بهجة العبادات وزينة الطاعات ، وظنّ أنها تجري بمراده إلى المال ، (وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) فيخرج عليه عساكر القهريات من مكمن الافات مع مفاداته ، والعجب والرياء منه ، (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً) ، فلما تعجب بنفسه ورأى أعماله تجيء عليه النفس والشيطان ويغريانه بالعجب والرياء والسمعة ، فجاء قهر الله بفصاحته من عند ليالي قبائحه أو نهار طاعاته ، فجعلها هباء منثورا كقوله : (فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) ، وهذا المثل لا يعرفه إلا من له نظر الاعتبار ونور الاستبصار ؛ لقوله : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، نعوذ بالله من قهر الله ، ما أطيب زمان الإرادة والرقة والصفاء ، يا ليت لو يبقى المريد في شأنه ، لكن يغرقه قهر الغيرة في بحر الوساوس والمخائيل والرياء والسمعة حتى لا يجد من زمان الصفاء في قلبه ذرة :

فقدناه لّما تمّ واعتمّ بالعلا كذاك

خسوف البدر عند تمامه

ويقال : كما أن الربيع تتورد أشجاره ، وتظهر أزهاره ، وتخضر رباعه ، وتتزين بالنبات ألوانه وطلاعه ، ثم لا يؤمن أن تصيبه آفة من غير ارتقاب ، وينقلب الحال بما لم يكن في حساب كذلك من الناس من يكون أحواله صافية وأعماله بشرط الجلوس زاكية ، وغصون أنسه متدلية ورياض قربه مونقة ، ثم تصيبه عين فيذبل عود وصاله ، وينسد أبواب عقائد إقباله كما قيل :

عين أصابتك إنّ العين صائبة

والعين تسرع أحيانا إلى الحسن

قال رجل لأبي محمد الجريري ـ رحمة الله عليه : كنت على بساط الأنس ، وفتح لي طريق إلى البسط فزللت زلة ، وحجبت عن مقامي فكيف السبيل إليه ، دلني على الوصول إلى ما كنت عليه؟ فبكى أبو محمد ، وقال : يا أخي الكل في قهر هذه اللحظة ، لكني أنشدك أبياتا لبعضهم.

فأنشد يقول :

قف بالديار فهذه آثارهم

تبكي الأحبة حسرة وتشوّقا

كم قد وقفت بها أسائل

مخبرا عن أهلها أو صادقا أو مشفقا

٧٦

فأجابني داعي الهوى في رسمها

فارقت من تهوى فعزّ الملتقى

ثم إن الله سبحانه يدعو العباد من هذه الدار الفانية إلى الدار الباقية ؛ لئلا يفتتنوا بزخرفها وغرورها ، ويصلوا إلى جواره ونعيم مشاهدته بقوله : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) السالكين إلى الجنة ، ويهدي المجذوبين إلى المشاهدة.

وأيضا : يدعو الجميع إلى داره ، ويهدي خواص العارفين إلى وصاله ، والجوار للعموم من الفرقة ، والفوز والوصال للخصوص ، داره في الدنيا قلوب العارفين ؛ لأن فيها سلامة القربة وأنوار المشاهدة ، وفيها صراط الله المستقيم الذي تسري فيه عساكر تجلي جماله إلى قلوب العارفين ، وتسري هممهم فيه إلى مصاعد قرب رب العالمين ، ولكن لا يهدي إليها إلا من يشاء من خواص المريدين والصادقين.

والإشارة في الدعاء إلى دار السلام أن السلام هو الله المنزه عن علل الحدثان ، يدعو إلى جواره المتبرئ من الأكوان ، المتصف بصفة الرحمن ، وأهل هذه الدعوة على ثلاث مراتب : أهل الدار ، وأهل المشاهدة ، وأهل الوصال الدار لأهل الإيمان ، والمشاهدة لأهل الإيقان ، والوصال لأهل العرفان ، يدعو أهل الإيمان إلى داره ، وينادي أهل الإيقان بتقربهم من مشاهدته ، ويهدي أهل معرفته بعد إدراكهم وصاله إلى معرفة شمائل صفاته ولطائف أنوار ذاته ؛ لأن هناك الطريق المستقيم حيث عرف نفسه لعارفيه.

قال أبو سعيد القرشي : خرجت هداية المريد من الاجتهاد في قوله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)) ، وخرجت هداية المراد من المشيئة ، وهو قوله : (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ، وهو الفرق بين المريد والمراد.

وقال القاسم : الدعوة عامة ، والهداية خاصة ، بل الهداية عامة ، والصحبة خاصة ، بل الصحبة خاصة ، والاتصال خاص.

وقال بعضهم : لات الدعوة لمن لم يسبق له من الله الهداية.

وقال جعفر : عملت الدعوة في السر فتجللت بها وركنت إليها.

وقال أيضا : ما طلبت الجنة إلا بالسلام ، وإنما اختارك بهذه الخصائص لكيلا تختار عليه أحدا.

وقال بعضهم : يدعو إلى دار السلام بالاداب ، ويهدي من يشاء للحقائق والمعارف.

وقال بعضهم : الدعوة لله ، والهدى من الله.

وقال الأستاذ : الدعاء تكليف ، والهداية تعريف ، فالتكليف على العموم ، والتعريف على الخصوص.

٧٧

ويقال : الصراط المستقيم طريق المسلمين ، وهذا للعوام بشرط اليقين ، ثم طريق المؤمنين وهو طريق الخواص بشرط عين اليقين ، ثم طريق المحسنين ، وهو طريق خاص الخاص بشرط حق اليقين ، فهؤلاء ذوو العقل أصحاب البرهان ، وهؤلاء بكشف العلم أصحاب البيان ، وهؤلاء بضياء المعرفة بالوصف كالعيان ، وهم الذين قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» (١).

قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦)).

ثم زاد الله في وصف هؤلاء بالقربة الرفيعة والدرجة السنية ، ومشاهدته الكريمة بقوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) : حسانهم شهود قلوبهم مشاهد قربه تعالى في مراقباتهم وخلواتهم بنعت بذل وجودهم ، والأكوان كلها لأول بوادي حسن تجلي الحق سبحانه ، وما ذكر الله سبحانه من جزائهم بهذه النعوت الحسنى ، وهي إدراكهم إياه كشف نور جماله ؛ لأنهم لو أدركوه بنعوت العظمة هلكوا ، إحسانهم من حسن جمال أرواحهم الناطقة بالكلمات القدوسية ، وحسن الحق من حسن جماله القديم ، يجازيهم بكشف حسنه وجماله ، ثم ذكر زيادة النعم عليهم بقوله : وزيادة الحسنى مشاهدته ، والزيادة وصاله والبقاء معه في مشاهدته.

وأيضا : (الْحُسْنى) النظر إلى جماله ، والزيادة : الاتصاف بصفاته.

وأيضا : (الْحُسْنى) محبته ، (وَزِيادَةٌ) معرفته.

قال الواسطي : معاملة الله على مشاهدة الحسنى الالتذاذ في معاملاتهم ، والزيادة هو النظر إلى الله.

قال الأستاذ : يحتمل أن يكون الحسنى الرؤية ، والزيادة دوامها ، ويحتمل أن يكون الحسنى اللقاء ، والزيادة البقاء في حال اللقاء.

ثم زاد الله ذكر شرفهم بأن غبار العبد لا يلحق جمال وجوههم بقوله : (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ) : لا يغشى وجوههم قتر الخجالة ، ولا يلحق وجوههم ذل الفرقة.

ثم زاد في وصف عيشهم بقوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) : باقون في أنواع القربات في مشاهدة الذات والصفات.

__________________

(١) رواه البخاري (٤ / ١٧٩٣).

٧٨

قال بعضهم : كيف تذل وجوه بلقائها الحق منه بالحسنى والإحسان ، وكيف تذل شواهد من شاهد الحق على الدوام ، بل هي على زيادة الأوقات تزيد نورا وضياء وعزّا.

قوله تعالى : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ).

وقال الأستاذ : لا يقع عليها غبار الحجاب وبعكسه حديث الكفار ، حيث قال : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠)) ، فالذلة التي لا تصيبهم هي أنهم لا يردون من عز شهوده إلى رؤية غير.

قوله تعالى : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) : أخبر الله سبحانه عن مواطن امتحانه وتمييزه بغيرته القديمة بين الصادق في دعوى محبته وبين الكاذب ؛ لأن الصادق في محبته هناك لا يفرغ من النيران ، ولا يطمع في الجنان ؛ لغلبة شوقه إلى جمال الرحمن ، والكاذب تبدو سرائر ضلاله ، وتنكشف فساد ضمائره بين جميع الخلائق ، فيرد الصادق إلى لطف مولاهم ، ويرد الكاذبون إلى قهر جبارهم بقوله : (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) ، فيبقى للصادقين خصوصية درجاتهم في المحبة والوصال مع حقائق معناهم ، ويضل سعي المرائين الذين يراءون الناس بأعمال الصادقين.

قوله تعالى : (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)).

وأيضا : يمتحن نفوس الحدثان عند بوادي سطوات سبحات جلال الرحمن ، حيث يضمحل الحادث في القديم ، ويبقى القدم للقدم ، ويكون الحدث مقدما في القدم ، قال تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ).

قوله تعالى : (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢)).

قيل : يطالب كل مدّع بحقيقة ما أدعاه.

قوله تعالى : (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ) : بيّن سبحانه أن ما يبدو من نور شهوده هو وصف رؤيته وإعلام صفته ، وكشف ذاته بلا شك ولا شبهة ، وذلك قوله : (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ) : أي : هو الحق بلا شبه ولا تشبيه ولا تعطيل.

ثم بيّن أن من لم يعرف الأشياء والشواهد بهذه المثابة فهو ضالّ من طريق مشاهدته ، وطريقه عمياء لا يكون الرشد فيها ؛ لأن من احتجب بالكون عن المكون فهو يغيبه في مهمة

٧٩

القهر ، ولا يهتدي من كان مرهونا بالأشياء عن خالق الأشياء ، وهذا معنى قوله : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ).

ثم بيّن أن البعد لا يقتضي إلا البعد ، وليس للعبد حدّ ، فأين يذهب البعيد في البعد ، ولا يجد في البعد إليه سبيلا.

قال تعالى : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) : أي : إلى من ترجعون إذا فات وصاله عنكم.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣))

وليس للحدثان مصرف الفرار ، فأنى أين وإنهم؟! إن هذه الاية إشارة سابق قوله : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) : أي : من يرزق الأرواح من الملكوت غذاء قربه ووصاله ، ومن يرزق القلوب من ملكوت الأرض صفاء عبوديته ، (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) : من يملك إسماع العارفين بلذيذ جلاله ، ومن يملك أبصار الصديقين بكشف جماله والنظر إلى جلاله؟ ومن يخرج الحي من الميت؟ أي : من يخرج الأرواح العارفة الأحياء بحياته ومعرفة ذاته وصفاته من العدم بنور القدم ، ويخرج الميت من الحي ، من يخرج الأنفاس الفانية في عظمته الباقية من القلوب الحاضرة في مشاهد القربة ، ومن يدبر الأمر ، من يسهل قطع صفات مفاوز النكرات للعارفين ، ومن يعرف أمور العبودية والربوبية قلوب الموحدين؟!

ثمّ بيّن أن من شاهد هذه المراتب يعترف بها صدقا وعدلا بقوله : (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) ، فإذا اعترفوا بذلك ، وصاروا شاهدين معاني شهوده لا خوّفهم من نفسه إلا أن يلتفتوا إلى سواه في طريق بقوله : (فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) أي : فلا تخافوا من فراقه ، (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ) : أي : هو منعم هذه النعماء ، يربيكم بهذه السعادات لا غير ، فأين تصرفون منه إلى غيره؟

(فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) : أخصّ الإشارة فيه أي : إذا وقعتهم في أنوار معرفتي بعد كشوف صفاتي وذاتي لا تطلبوا كنه القدم ؛ فإنه معادن الملكوت ونكراتها بلا نهاية ؛ لأن القدم ممتنع عن إحاطة القلوب به ، وعن إدراك الأرواح والبصائر حقائقه

٨٠