تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٧٤

وقال ابن عطاء : الجبار الذي لا ينصح والشقي الذي لا يقبل النصيحة.

وقوله تعالى : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)) أي : عليّ السلامة يوم دخلت في الدنيا ، حيث بلغت مقام الامتحان في العبودية بعد أن كنت في مقام المشاهدة ، وهذا السلام دوام محل انبساط الحق عليّ بشرط العصمة والرعاية (وَيَوْمَ أَمُوتُ) سلام الأمن والرضا (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)) سلام الشرف واللقاء والفرق بين سلام الحق على يحيى وسلامه على عيسى أن سلام يحيى بلا واسطة ، وسلام عيسى بواسطة وأصل الإشارة أن سلام يحيى سلام تخصيص الربوبية على العبودية ، وبيان الشرف والكرم عليه من الحق ، وسلام عيسى محل الانبساط ثم محل الاتصاف ، ثم محل الاتحاد فإذا كان متصفا متحدا من حيث المعرفة والتوحيد والمحبة والشوق صار لسانه لسان الحق من حيث عين الجمع فسلامه على نفسه سلام الحق عليه على مزية ظهور الربوبية في معدن العبودية ، وأرفع المقامين سلام الحق على سيد المرسلين كفاحا في وصاله وكشف جماله ، فهو سلم عليه بلسانه كان السلام مقصودا ؛ إذ جرى بلسان الحدث عليه ، ولا يبلغ ذلك السلام إلى كمال رتبته لكن سلّم عليه بأوصاف قدمه حتى شمل على شرفه كله.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠))

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ) إن الله سبحانه حثّ حبيبه على ذكر خليله ـ عليهما‌السلام ـ وما جرى عليه من أحكام الخلة من الوجد والحال والزفرة والغيرة وكسر أصنام الطبيعة ، والخروج مما دون الحقيقة ، وعن الصديقية في خلته ، والصديق من تواتر أنوار المشاهدة ، واليقين ، وإحاطة نور العصمة عليه بالسرمدية.

قال ابن عطاء : الصديق القائم مع ربه على حدّ الصدق في جميع الأوقات لا يعارضه

٤٦١

في صدقه معارض بحال.

قال أبو سعيد الخرّاز : الصديق الأخذ بأتم الحظوظ من كلّ مقام سني حتى يقارب من درجات الأنبياء.

وقال الجنيد : الصديق القائم مع الحق بلا واسطة.

قوله تعالى : (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) هذا سلام الإعراض عن الأغيار ، وتلطف الأبرار بالجهال ، قال تعالى : (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) [المزمل : ١٠].

قال أبو بكر بن طاهر : لما بد منه كلام الجهال من الدعوة إلى آلهته والوعيد على ذلك أن خالقه جعل جوابه جواب الجهّال بالسلام ؛ لأن الله قال : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣)) [الفرقان : ٦٣].

ثم إن الله سبحانه أخبر عن صديقية إبراهيم من تبرئه عما دون الله بقوله : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) العيش الهني صحبة الأبرار مع ترك مصاحبة الأشرار.

قال أبو تراب النخشبي : صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار.

قوله تعالى : (وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨)) تكلم من حقائق يقينه أنه عند الله على شرف كامل ، وأنه مجاب الدعوة ؛ فطمع في الحق ما طمع من نظره إلى علومه المجهولة الغيبية.

قال عبد العزيز المكي : كان الخليل عليه‌السلام يهاب به أن يدعوه ويذكره ويعظمه ألا يكون يدعوه بلسان لا يصلح لدعائه على استحياء وحشمة وخيفة وهيبة بعد معرفته بجلاله ، فلما ترك صحبة المنكرين رزق الله من نفسه أنبياء بقوله : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) من ترك الخليقة فالله خليقته في كل مراد جعل سبحانه إسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمد ـ صلى الله عليه وعليهم وسلم أجمعين ـ وموسى ويحيى وجميع الأنبياء والرسل بعده عوضا له من أبيه آزر ، كان عليه‌السلام ضيق الصدر من هجران أبيه عنه ، وعن دينه فجعل أخلافه من الأنبياء والمرسلين والأولياء والصديقين عوضا لأبيه ؛ حتى لا يضيق صدره.

قال الواسطي : عوض الأكابر على مقدار الحدث جعل فهم التلاوة للأحكام ، وجعل لهم الحقيقة للأسقام قال الله : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ) ، وقال لموسى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣)) ، ولما اعتزل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأكوان أجمع ، ولم يزغ البصر في وقت النظر وما طغى قيل (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)) [القلم : ٤] ، حيث لم يزاغ غيره حلّاه بصفته ؛ فقال :

٤٦٢

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠].

قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠)) رحمته : نبوته ورسالته وقربته ومشاهدته ، ولسان الصدق العلي ثناؤه عليهم ، وأي لسان أعلى من لسان مدح الحق عليهم ، وأنطق لسان جميع الصديقين بثنائهم إلى الأبد ، وأيضا أعطاهم لسان صدق بيان جلال ذاته وصفاته للخلق.

قال ابن عطاء : أصدق الألسنة هي المعبرة عن الحق بالصواب ، والذاكرة على الدوام لنعمائه والناشرة لالائه.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣))

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) أي : اذكر ما بيني وبين كليمي من سماع الكلام ومشاهدة التجلي وشوقه ومحبته وإخلاصه في عبوديته ، وإخلاصه كان في البحر عند وقوع الامتحان ، قوله : (كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي) [الشعراء : ٦٢].

قال الترمذي : المخلص على الحقيقة مثل موسى ذهب إلى الخضر ليتأدب به ، ولم يسامحه في شيء ، فظهر له منه ، وما كان يفعله حتى أوقفه على العذر فيه ، وهذا من تمام إخلاصه.

ثم أخبر سبحانه عما بينه وبين كليمه من الأسرار والمناجاة بقوله : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢)) ناداه بوسائط الطور والشجرة في البداية ، وقربه نجيّا من رؤية جلاله ، وأسمعه كلام الصرف بلا واسطة ، وكان التجلي أيضا في الابتداء بواسطة الشجرة والطور ، فلما قربه من بساط المجد والكبرياء أرى وجهه جل جلاله وروحه وقلبه وسره وجميع وجوده بنعت الشهود والمكاشفة ، النداء بداية والنجوى نهاية ، النداء مقام الشوق والنجوى مقام كشف السر.

وقال الجنيد في قوله : (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢)) : جعلناه من العالمين بنا والمخبرين عنا بالصدق والحقيقة.

وقال رويم : كشفنا عن سرّه ما كان مغطى عليه من أنواع القرب والزلف وأذنا له في الإخبار عنا.

وقال بعضهم : ناديناه للمحادثة والمكالمة والمناجاة.

وقال الأستاذ : للنجوى مزية على النداء ؛ فجمع له الوصفين النداء في بدايته وقت السماع ، والنجوى في نهايته فوقفه الحق ، وناداه ثم قربه ، وناجاه في جميع الحالتين تولاه.

٤٦٣

ثم من كمال كرمه وهب لموسى أخاه هارون بقوله : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣)) علم الحق سبحانه أن جميع الخلق لم يحتملوا ما في صدر موسى من عظيم أسرار صفاته وذاته وملكه وملكوته ، فجعل هارون موضع سر موسى حتى لا يكون ذائبا تحت أثقال تلك الأسرار ، وهذا رحمة من الله عليه.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥))

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) أي : اذكر ظرافة إسماعيل وشمائله وموقع شرفه عندنا ؛ فمن خلقه الرضا بالقضاء ، والصبر في البلاء والكمال في السخاء ، وصدق الوعد بنعت الوفاء.

قال الحسين : الصادق هو المتكلف في حاله يجري بين استقامة وزلة ، والصديق هو المستقيم في جميع أحواله.

وقال ابن عطاء : وعد لأبيه من نفسه الصبر فوفى به في قوله : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢)) [الصافات : ١٠٢].

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١))

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦)) أي : اذكر ما كشفت لإدريس من أسرار الملكوت ، وأنوار الجبروت وطيرانه في الجنان ، وشهوده مشاهدة الرحمن.

قال أبو بكر الطمستاني : الصديق الذي لا يطلب طريق من غيره ، ويكون له أن يطالب غيره بحقيقة الصدق.

ثم وصفهم جميعا بأنهم منعم عليهم بالمعجزات الرفيعة ، والكرامات الشريفة ،

٤٦٤

والقربات المداناة بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ).

ثم وصفهم مع ما أنعم عليهم بالخشوع والخضوع والبكاء والوجد في السجود بعد ما أعطاهم الاصطفائية والاجتبائية والمعرفة والإصابة والحكمة والمشاهدة والشوق والمحبة ، انظر إلى ذكر هيجانهم وشوقهم إلى لقائه ، ووجدهم بقربه ، وحركاتهم في إجلاله عند نزول الايات عليهم بقوله تعالى : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨)) ما أطيب ذلك البكاء ، وما أحلى ذلك السجود ، بكاؤهم من رؤية عظمته ، وسجودهم من كشف عزته ، وحركاتهم من شدة شوقهم إلى معادن المشاهدات وأسرار المداناة.

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد

فقد زادني مسراك وجدا على وجدي

بكلّ تداوينا فلم يشف ما بنا

على أنّ قرب الدّار خير من البعد

ثم إن الله سبحانه ذكر المخالفين عقب ذكر الأنبياء والمرسلين ، وذمهم بزوغانهم عن سبل أهل السعادة ، واقتحامهم غيابات أهل الضلاله بقوله : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) لما استكبروا عن متابعة أهل الحق ، وادعوا بالدعاوى الباطلة ، سقطوا عن أعين القوم ، واحتجبوا بما رأوا من أنفسهم من الترهات والطامات والمزخرفات والأباطيل من الخيالات والمحالات عن لطائف الطاعات ، ومقام المناجاة ، وحسن المراقبات ، ووقعوا في ورطات الشهوات ، وصاروا أئمة الضلالات.

قال محمد بن حامد : أولئك قوم حرموا تعظيم الأنبياء والأولياء والصديقين ، فحجبهم الله من معرفته ، وأصابتهم شقاوة تلك الحال ؛ فأضاعوا الصلاة التي هي محل وصلة العبد مع سيده ترسموا بها ، ولم يتحققوا فيها ، واتبعوا آراءهم وأهواءهم فأصابهم الخذلان حرموا بذلك السعادة ، وأثر الشقاوة على العبيد هو حرمان الخدمة ، وتصغير من عظم الله حرمته.

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦))

قوله تعالى : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) الرزق هناك حقيقة كشف مشاهدة الحق ورؤية جماله ووجدان وصاله ، فكل وقت ينكشف جماله لهم ، فذلك الوقت بكرتهم ،

٤٦٥

وإذا حان وقت إرخاء الحجب يرونه قبل ذلك ، وهذا لعموم المريدين والمؤمنين.

فأما العارفون والمحبون والمشتاقون والموحدون فهم في منازل وصاله وكشف جماله بالسرمدية ، ولا ينقطعون عنه لمحة ، ولو احتجبوا لحظة لماتوا في الجنة من فوت ذلك الحال ، ولو بقي أهل الجنة في مشاهدة الحق على الدوام لذابوا من صولة سطوات جلاله وجماله.

قال أبو يزيد ـ قدس الله روحه : «لو احتجبت في الجنة عن لقائه لمحة أنغص العيش على أهل الجنة».

قال محمد بن عيسى الهاشمي : ردّ الأشباح إلى قيمتها عن المطعم والمشرب بكرة وعشيّا ، وتزاد الأرواح والأسرار عن ذلك بقوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) [الدخان : ٥١] ، وهو مقام لا ينزله إلا من كان ظاهر الأمانة سرّا وعلنا.

ثم بيّن سبحانه أن تلك الجنة ، والمشاهدة الكريمة الأزلية لمن كان متبرئا بهمته عن الكونين ، وبسره عن الدارين ، وبعقله عن العالمين ، وبحقيقته عن نفسه ، وعن جميع الخلائق بقوله : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) الجنات هي منازل شتى جنة المحبة ، وجنة المعرفة ، وجنة التوحيد ، وجنة رؤية أنوار الفعل ، وحكم الغيب فيها ، وأسرار المقادير ، وجنة منها رؤية أنوار الصفات ، ومشاهدة كل صفة للعارفين جنة وعيان الذات جنان ، وهو أصل كل جنة ، فأهل الحق في كل لحظة في جنة من هذه الجنان ، وأوصافهم التبري من غير الله ، فإذا خرج عن الأكوان والحدثان فأورثه الحق تلك الجنان ، وحاشا أنها مقرونة باكتساب الحدث ، بل اصطفاهم في الأزل بتلك الخاصية ، ووقاهم من محن الامتحان والحرمان ، وأعطاهم حسن وصاله ، وكشف لهم من جلاله وجماله.

قال بعضهم في هذه الاية : نجعلها لم يطلبها بفضلنا لا بعمله ؛ فإن الجنة ميراث سعادات الأزل لا ميراث الأعمال والعمل سمة ربما يتحقق ، وربما لا يتحقق والتقوى نتيجة تلك السعادة.

قال الواسطي : إذا بلغت العقول الغاية ، وبلغ بها النهاية ؛ فحاصلها يرجع إلى حدث يليق بحدث ، وحسبك من ذلك قوله : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) لما كان التقوى وصفك قابلك بما يليق بك ، وأعلمك أنه غاية ما يليق بتقواك ، ونهايتك في نجواك.

ثم إن الله سبحانه ذكر وصفه وربوبيته وسلطته وكبريائه وإحاطته بجميع الأشياء علما وقدرة وحكما وإثباتا لحقوق الربوبية على أهل العبودية بقوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) وصف ارتسام السماوات والأرض ، وانتظام ما بينهما باصطناع قدرته ، وإحاطة

٤٦٦

علمه ثم ألزم حقه على عبده وحبيبه ، وعلى جميع الخلائق من العرش إلى الثرى بعد بيانه أنه هو القادر بذلك لا غير وأمره بالصبر في عبادته ، وأوضح الحجة بأن لا شريك له في ملكه ولا ضد له في سلطانه ولا ندب له في كبريائه بقوله : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) أي : ما تعلم إلها غيري ووجود ألوهية الغير مستحيل من كل الوجوه أي : اصبر معي في عبادتي ومعرفتي ، واستغن بي في خدمتي ومعرفتك بي ، وسل مني ما تريد ، ولا تظهر حوائجك لغيري ، فإن ما تريد لا يقدر بذلك أحد سواي.

قال محمد بن الفضل : هل تعلم أحدا يجيبك في أي وقت دعوته ، ويقبلك في أي أوان قصدته؟

وقال الحسين بن الفضل : هل يستحق أحد أن يسمى باسم من أسمائه على الحقيقة ، وقال أهل التفسير : هل تعلم أحدا يسمي الله إلا الله؟

ومن أوضح النكت في أسرار الحقيقة من الاية نفي الحق الربوبية عن كل متصف مستمد ، وإن كانوا مستغرقين في جمال ألوهيته ، وردهم إلى قيمتهم من العبودية أي : مادامت تلك الكسوة النورية الأزلية عليكم عارية تذهب بذهاب الكشوف وغيبة للمواجيد والصحو بعد السكر ، ينبغي ألا تبرجوا من أصل قيمتكم ؛ فإن القدم قائم بالقدم ، وبقي الحدث على نعته.

كنت أنت إذ غبت فينا بل أنا كنت

إذا غبت عنا أنا أنا وأنت أنت

هل تعلم له سميّا بحقيقة اسم الألوهية التي أنوارها تزيل الحدثان ، وتهلك جميع الأكوان بقهر سلطانها ، وتصديق هذه الإشارات.

(أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥))

٤٦٧

قوله تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) أي : من أنتم ، ومن أين أنتم ، والعدم في العدم معدوم والقد في القدم معروف ، لو يعرف العارف أوائل كونه فني في لحظته في حياء الحق من دعوى معرفته إذ كونه في علم الأزل كعدمه بالحقيقة إذ قوامه بالحق لا بنفسه.

قال الواسطي : المقادير صرحت بمعاينتها ، وكشفت عن أوقاتها ، فالأول : أخبر أنه مأخوذ عن شاهده ، واكتسابه نفسه حين لم يكن شيئا ، والثاني : أخذوا من النطفة ، والثالث : أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ذكر الطين للعبادات ، وذكر النطفة للإشارات ، والباقي لفقد النعوت والصفات.

قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١)) هذا القسم من وجوب حق صفة القدم ، إذ نعته قهر الجبروت ، فأورد الكل عليها لمباشرة ذلك فيهم ليعرفوه بجميع معاني صفاته ، وذلك رحمة كافية إذ لم يعزلهم من رؤية جلال أزليته في لباس قهره ، فكم كشف من الجبروت هناك ، وكم مشاهدة من عين الملكوت هناك ، وكم ظهور سر في دروبهم هناك أين أنت من قول سباح قاموس الكبرياء وعنقاء مغرب ؛ فإن البقاء حيث قال : وضع الجبار قدمه في جهنم ، هل ترى هذا القدم إلا كشف جلال القدم ، وإذا كان جمال قدمه مصحوبهم ، فلا بأس بالوقوف في النيران ؛ فإن هناك أصل الجنان.

إذا نزلت سلمى بواد فماؤها

زلال وسلسال وشيخانها ورد

(كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١)) إذ كان وصفه في الأزل أنه عرف نفسه بجميع الصفات لكونهم عارفين ، فإذا تم ذلك الكشف وصلوا بالحق مع الحق إلى جواره ووصاله الأزلي ولطفه الأبدي ولقائه السرمدي الذي بغير امتحان ، وهذا معنى قوله : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) اتقوا من أليم القطيعة ، وعذاب الفرقة ، ومرارة المخالفة.

قال الواسطي : ما أحد إلا ويورده النار ملاحظات أفعاله ثم ينجي الله منها من أسقط عنه ذلك أو أزالها عنه بملازمة التوفيق.

وقال في قوله : (كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً) : بالرجاء يطلب المحتوم ، وبالخوف يدفع المقضي.

وقال الجنيد في قوله : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) : ما نجا من نجا إلا بصدق اللجا.

قال الجريري : ما نجا من نجا إلا بصدق التقى.

وقال ابن عطاء : ما نجا من نجا إلا بتصحيح العهد بالوفاء.

٤٦٨

وقال هذا العارف الفارسي العباد الرباني الشطاح الملكوتي : ما نجا من نجا إلا بالاصطفائية الأزلية ، والعناية الأبدية ، والرسم والوسم ، والاسم عوارضات زائلة وامتحانات عاطلة.

قال جعفر الصادق : لو لا مقارنة النفوس ما دخل أحد النار فلما قارنهم نفوسهم أوردهم النار بأجمعهم فمن كان أشد إعراضا عن خبث النفس كان أسرع نجاة من النار ألا ترى الله يقول : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا).

(وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤))

قوله تعالى : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) إذا أراد الله هداية العبد إلى محل الإيمان شرح صدره بنور الإسلام ، فلما ثبت في إيمانه بنعت السّنة والمتابعة عرّفه منازل قربه ووصاله وحقائق العبودية فيقع في بحر الألوهية ؛ فلا يجري عليه بعد ذلك طوارق الزيادة والنقصان.

قال سهل : يزيد الله الذين اهتدوا بصبرهم في إيمانهم بالله والاقتداء لسنة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو زيادة الهدى النور المبين.

قوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١)) كل ما دون الله إذا أقبلت إليه بنعت الحاجة والافتقار فهو إلهك ، وطلب العز في غير الله غير ممكن لأن الأكوان تحت قهرة ذليلة ، وإذا أردت العز قبل إلى الله (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً).

قال بعضهم : كيف تظفر بالعز ، وأنت تطلبه من محل الذل.

(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩))

٤٦٩

قوله تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥)) افهم أن المتقي من يتقى مما دون الحق ولا يتقي إلا بأن وقاه الله من طريان النفس والهوى على قلبه وآنسه بأنسه فالمتقون الخارجون بنور مشاهدة الله عن ظلمات الأكوان إذا كان وقت حشرهم أركبهم الله على مراكب أنوار تقواه ودعاهم إلى مشاهدته ووصاله وأنزلهم عيون الرحمانية وأعطاهم من بحار رحمته جميع مأمو لهم لذلك ذكر اسم الرحمانية أي : لم يكن هناك وحشة قطع الامال إذا نزلوا موارد الجلال والجمال ، وهذا وصف المتقين الذين هم أهل بنايات المقامات فأما العارفون فهو بنفسه يحملهم في ميادين الازال والاباد ويبقيهم في معارج أنوار الذات والصفات ، ولو لا حمله إياهم كيف يقطعون براري الديمومية وقفار الأزلية والحدثان ساقطة في أودية قهر الربوبية.

قال ابن عطاء : بلغني عن الصادق أنه قال أي : ركبانا على متون المعرفة.

وقال جعفر : المتقي الذي اتقى كل شيء سوى الله والمتقي الذي اتقى متابعة هواه فمن كان بهذا الوصف ؛ فإن الله يحمله إلى حضرة المشاهدة على نجائب النور ليعرف أهل المشهد محله فيهم.

وقال الواسطي : أي : ركبانا وذلك حجابهم ؛ لأنه من جذبته زينته عن الحق حتى ينسيه ولا يجذبه ذكر الحق عن الأعراض جذب الزينة فهو الكاذب في دعواه.

وقال أيضا : لما لم يوافقه صفة ولا نعتا في الدنيا حشرهم في الاخرة إلى الله باسم الرحمانية يسوقهم سوقا أرفق ما كان بهم وأكثر شفقة لا يعرجون إلى غيره ولا يلتفتون سواه.

وقال الأستاذ : قيل : ركبانا على نجائب طاعاتهم وهم مختلفون فمن راكب على صور طاعاتهم ومن راكبي على مراكب هممهم ومن راكب على نجائب أنوارهم ومن محمول يحمله الحق في عقباه لكما يحمله اليوم في دنياه وليس محمول الحق كمحمول الخلق.

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢))

قوله تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) إن الله سبحانه أخبر عن عظيم افتراء الكفرة عليه لما في قلوبهم من مخائيل الشيطانية وهواجسهم النفسانية ، قالوا في حق الحق سبحانه ما يليق بالحدث لا ما يليق بالقدم فلم يقع وصف الحدث على القدم ، ولم ير مقالتهم في الحق موضعا في البرية لمكانها فقصدت السماوات والأرض والجبال ؛ لأنها منصرفة عن جناب الربوبية قهرا وغيرة ، فنزلت على السماوات والأرض والجبال ، فلم يحتمل بها السماوات والأرض والجبال من عظمها فتكاد السماوات

٤٧٠

يتفطرن والأرض تنشق والجبال تخر ؛ لأن الكلمة خرجت من مصدر القهر ممزوجا بالغيرة ، وذلك بأنهن عقلن بروج إشراق نور صفة الأزل عليهن ، فكادت أن تفنى من عظم ثقل روح لطفه بروح قهره.

(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥))

قوله تعالى : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣)) كل مزين بأنوار الربوبية فهو تحته بنعت العبودية فمن شاهد أنوار الربوبية عرف محل الربوبية والعبودية فإذا فنى العبودية في الربوبية بقى الربوبية وصف المتصف بها فيرى نفسه بزينة نور الحق فيدعى من مباشرة شكر التوحيد ونور الأزلية بدعوى الأنائية ، فإذا كان يوم القيامة رجعت أنوار الربوبية إلى معدنها ، وبقي الكل عريانا منها ملبسين بذل العبودية حتى يجري عليهم طوارق غيرة الحق هذا إذا يمضي حكم الغيرة ، ويدل عليه قوله : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) أي : فردا عن دعوى الأنائية والمعرفة وبقي فردا في حقيقة القهر عند فردانية الحق فانفرد بالحق حتى اتصف بالفردانية واتحد بالوحدانية فيرجع إلى ما كان فيه من إظهار الربوبية والألوهية فيشهد العارف مشاهد الوصلة فيحويه أنوار الدنو فيسكر بجمال الحق فيدعى هناك بلسان الأزل والأبد دعوى الأزل والأبد ، ويا صادق كلهم في حجاب ها هنا عنه ماداموا في الحجاب يميلون إلى مأمول سوى الله من الثواب والنجاة من العقاب ، فإذا شهدوا مشاهدة جماله سقط عنهم مراداتهم ، ويخلصوا عن علة رق النفوسية ، وصاروا عبيدا له محققين مخلصين في محبته ومشاهدته حيث لا يبقى إلا وجهه قال تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨].

قال جعفر في قوله : (آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) فقيرا ذليلا بأوصافه دالّا بأوصاف الحق.

قال أبو بكر الوراق : ما تقرب أحد إلى ربه بشيء أزين عليه من ملازمة العبودية وإظهار الافتقار ؛ لأن ملازمة العبودية تورث دوام الخدمة ، وإظهار الافتقار إليه يوجب دوام الالتجاء والتضرع.

قال رجل لإبراهيم بن أدهم : أنت عبد؟ قال : نعم ، فقال له : عبد من؟ فأراد أن يقول عبد من فغشي عليه فلما أفاق قال : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ

٤٧١

مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨))

قوله سبحانه وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) في هذه الاية عجيب من أن الله سبحانه قرن الود بالعمل الصالح ، وذكر العمل الصالح قبل الود كان الود جزاء العمل الصالح ، والإشارة فيه أن وده لهم قديم في الأزل ، وبذلك الود عملوا العمل الصالح فإذا اصطفى بذلك الود وقفهم للأعمال الصالحة والأعمال الصالحة من ميراث ذلك الاصطفائية والود فإذا وقع العمل الصالح يزيد كشف ذلك الود في قلوبهم ، والحق سبحانه منزه عن الزيادة والبدء ، فإذا ألبسهم نوره وكسا أسرارهم سنا وده فيكونون مزينين ظاهرا وباطنا ، ويصيرون مرآة جمال الحق ، وكل من يراهم يحبهم فالله أحبهم وهم يحبونه بمحبته ، والخلق يحبونهم بمحبة الله إياهم ، وما يرون من أنوار جمال الحق منهم.

قال ابن عطاء : الذين أخلصوا بسريرتهم لي ، واتعبوا ظاهرهم في خدمتي سأجعل لهم وجها في عبادي لا يراهم أحد إلا أحبهم وأكرمهم وفي محبتهم وكرامتهم كرامتي ومحبتي.

وسئل بعضهم عن قوله : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) قال : يعني لذة وحلاوة في الطاعة.

سورة طه

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤))

(طه (١)) ذكرنا أن حروف المعجم صناديق أسرار الحق مع حبيبه ولا يطلع عليها بالحقيقة أحد غيره وكل لسان عبر عنها بقدر ما فتح في قلبه من قلبه من علوم السرّية الإلهية وما قال فيه أهل الرسوم والحقائق يكفي لمسترشدي طرق الحقائق ، وما وقع بغير تكلف بالبديهة لهذا العارف أن الله سبحانه أخبر عن مقدم حبيبه من العدم إلى القدم بروحه فالطاء طواف روحه وطوف سره في صحاري هويته قبل القبل حين خرج روحه من نور الغيب وطار في هواء الهوية لطلب الذات السرمدي ومشاهدة الصفات الأزلية حتى وصل بالحق إلى الحق ، وطار في دائرة هوية الغيب فوجد الحق بالحق وعلم من الحق بالحق ما في الحق فصار مقدسا بقدس الحق مطهرا بطهارة الصفة ، وهو بذاته تعالى جعله معرفا لخلقه صفاته وذاته هاديا يهدي به عباده إليه بنعت المحبة والأسوة ، كأنه قال يا طواف قفار الهوية في غيب الأزل

٤٧٢

ويا مطهرا من الأكوان والمحدثان ، يا هاديا بنوري خلقي إلىّ ما وطئ أحد على بساط هويتي أفضل منك ، طويت لك تحت أقدام همتك صحارى الأزليات والأبديات حتى بلغ سرك سر هويتي بهوائي تهوى وتلطفت بلطفي هوى نجم همتك بعد ارتفاعها بي في هواء وحدانيتي على بساط ملكي وملكوتي فطاب بطيب وصالي يا طه ، لأجل ذلك قسمت به بقولي : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١)) [النجم : ١] طوبى لمن اهتدى بهديك وطاب عيش من هوى طريقتك يا بدار أفق سماوات القدم ويا غواص قاموس الكرم طاشت العقول في إدراك مقاماتك ، وهامت القلوب في أودية محبتك ، وطارت الأرواح من حقائق إشاراتك.

قال ابن عطاء في قوله (طه (١)) : «طا» هديت لبساط القربة والأنس.

وقال الواسطي : هو مستخرج من الطاهر الهادي أي : أنت طاهر بنا هادي إلينا.

وقال محمد بن عيسى الهاشمي : طوى عن سر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأكوان بما فيها وهدى إلى الاشتغال بمكونها.

وقال محمد بن علي الترمذي : طوبى لمن اهتدى بك وجعلك السبيل إلينا.

وقال الأستاذ : «الطاء» إشارة إلى طهارة قلبه عن غيره ، و «الهاء» إشارة إلى اهتداء قلبه إلى الله.

ثم إن الله سبحانه تلطف على نبيه وخفف عليه أثقال العبودية ؛ لأنه كان تحت أثقال سطوات الربوبية التي لا تحملها الأكوان بقوله : (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) قام جميع الليل بالتهجد كأنه قال سبحانه : يا أول طا القدم على بساط حضرتنا لطلب المقام المحمود لا تشق على نفسك لأجل زيادة الهداية ؛ فإنك هديت في الأزل واصطفيناك لمشاهدتنا وقربتنا والرسالة والمحبة لا تحتاج إلى كثرة المجاهدة ، فإنك في المشاهدة أنزلنا عليك القرآن ليعرفك أسرار ذاتنا وصفاتنا وتعرّف عبادنا أسرار العبودية وأحكام المعرفة وعزة الربوبية ، أنزلنا عليك القرآن ليقرن عنانه بعنان همتك ويبلغك إلى منازلنا فتدلى فإذا وصلت إلينا فأؤنسك بنفسي بعد أن جعلت القرآن مستأنسك ؛ فإذا رأيتني رأيت ذاتي وصفاتي وسمعت القرآن مني بلا واسطة فتعرف أن صفاتنا تضيئ الأكوان ولا تفارق الرحمن.

قال الواسطي : سمي القرآن قرآنا لأنه يقارن لمتكلمه لا يباينه تعظيما لشأن القرآن كما وصل إلينا شعاع الشمس وحرارتها ولم يباين القرص.

قال بعضهم : أنزلناه إليك لتستروح إلى كلام خالقك ؛ فإن المحب يستروح إلى كلام حبيبه ولا يلحقه فيه التعب.

وقال الأستاذ : ليس المقصود من إيحائنا إليك تعبك إنما هو استفتاح باب الوصلة

٤٧٣

والتمهيد لبساطا القربة.

ثم بيّن سبحانه لم أنزل القرآن عليه قال : (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣)) معناه بالحقيقة أن أرواح أهل الخشية قد استغرقت في بحر القدم حين خرجت من العدم فعرفت منازل شهودها من مشاهدة الذات والصفات ، وعلمت اصطفائيتها وخاصيتها على بساط القرب وتلطف الحق بها وانبساطه معها بمحبته إياها ، فلما دخلت الأشباح بقيت معها خشية العظمة وصولة الهيبة فزاد خشيتها بعلمها بالله بالوصلة والفرقة ، وطرأت عليها وحشة الفراق عن معادلها ، فأنزل الله تعالى القرآن على حبيبه ليذكرهم أيام الوصال في مقام الفراق ليذهب عنهم الظنون والحسبان ، ومعارضة النفوس وتخويف الشياطين بأنهم لا يصلون إلى تلك المناهل والموارد.

سقى الله أياما لنا وليالي مضت

فجرت من ذكرهن دموع

فيا هل لنا يوما من الدّهر أوبة

وهل لي إلى أرض الحبيب رجوع

وأيضا أهل الخشية هم العلماء بالله وبصفاته ، قال الله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] ، والخشية صدرت من رؤية عظمة الحق إلى قلوبهم فإذا دخلوا في منازل الامتحان بالحجاب ، فأنزل الحق القرآن ليذكرهم عظائم عظمة جبروته وسلطان قهر كبرياء ملكوته لئلا يتداخل أسرارهم غبار الأغيار ولا وحشة الاستكبار ولئلا يفتروا عن ملاحظة عزته وقهر كبريائه.

قال ابن عطاء : قيل له محمد أنت إمام أهل الخشية وسيدهم أنزلناه تذكرة لك لتسكن عليه وتزول به الخشية عن قلبك ، فإن المحب : يأنس بكتاب حبيبه وكلامه.

وقال جعفر : أنزل الله القرآن موعظة للخائفين ورحمة للمذنبين.

وقال الأستاذ : القرآن تبصرة لذوي العقول تذكرة لأولي الوصول ، فهؤلاء به يستبصرون ، فسألوا راحة اليقين في أجلهم وهؤلاء به يذكرون فيجدون روح أنس في عاجلهم.

(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨) وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ

٤٧٤

طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦))

قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) ذكر سبحانه قبل هذه الاية خلق السماوات والأرض ، ولم يقل أنه خلق العرش ، وفيه إشارة إلى أن قوله سبحانه عن إحاطة الحدثان به (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) (١) يشير إلى أن عرشه جلال قدمه وأزلية ذاته وصفاته استوى بنفسه في علم العلم وغيب الغيب وهذا الاستواء قديم وهذا خبر عن تجبره وتكبره بنفسه في نفسه حين لا حين ولا حيث ولا أين ولا غير ، وهكذا جميع الإحايين قبل الأكوان وبعد الأكوان وفي الأكوان إذا لأكوان والحدثان قاصرة عن حمل ذرة من كبرياء عظمته والأزمان مضمحلة عن حصر صفاته وأزليته وديموميته ، وأيضا إن الله سبحانه لما أراد إيجاد الكون خلق بظهور نور قدرته عالما وسماه العرش من نور شعشعاني وجعله موضع نور العقل البسيط وجعل العقل البسيط موضع فعله الذي يصدر من القدرة ومن ذلك الفعل عالم طلوع أنوار القدم عليه فإذا تجلى بذاته لصفاته ومن صفاته لفعله ، ومن فعله للعقل البسيط ومن عقل البسيط لعالم العرش فصار كل ذرة من العرش مرآة يتجلى الحق منها للعالم والعالمين فتدر قطرات ديم الفعل من فيض أنوار الصفة والذات من عالم العرش إلى العالم والعالمين على النظام والتسرمد واتسام صبح الأزلية من إشراق شمس الألوهية على عالم العرش بهذه المثابة ، وانتشر بركنها في الأكوان والحدثان وهذا تحصيل علوم سر الاستواء ، ويا عاقل أين العرش ، وإن كان ألف ألف عرش من سطوات كبريائه التي لو برزت ذرة منها بنعت القهر في العالم لفنيت كلها قبل أن يرتد إليك طرفك فهو مستو بغير علة اعوجاج الحدثية بوصف قهر القدم على كل مخلوق والكل تحت قهر جبروته وإن كان عالم العرش أعظم ميادين تجلي استوائه هو خاص بتجلي الاستواء ، والاستواء صفة خاصة لله منزه عن إدراك الأوهام ومقاييس العقول تعالى الله عن مماسة الحدثان وملاصقة الأكوان.

وسئل مالك بن أنس : كيف الاستواء؟ قال : الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.

وقال فارس : ليس على الكون من الله أثر ولا من الكون على الله أثر.

__________________

(١) مبتدأ وخبر ، وجعل الرحمة عنوان الموضوع الذي من شأنه أن يكون معلوم الثبوت للموضوع عند المخاطب ؛ للإيذان بأن ذلك أمر بيّن لا خفاء فيه ، غني عن الإخبار صريحا. البحر المديد (٣ / ٤٩٦).

٤٧٥

وقال ابن عطاء : الاستواء إظهار المقدرة لا مكان الذات فإذا جاوزنا من هذه المقالة فجرم العرش أعظم من كل جرم ولكن إذا استولى عليه قهر الربوبية كاد أن يذوب من صولته فأمسكه يد اللطف لتكون رفارف أرواح القدسية وبساتين عقول الملكوتية فسكن بلطف الله من الاضطراب من قهر الله ، ثم صرف الحق عنه تلك الصولة لما علم ضعفه عن وارد الألوهية فطلب في ملكه وسلطانه عرشا معنويّا روحانيّا ملكوتيّا رحمانيّا جبروتيّا ، وذلك قلب العارف الصادق الذي خلقه الله من نور بهي صدر من تجلي صفة بهائه ، وذلك عرش المعنى الذي من وسعه ببسط نور الأزلية فيه على مثابة من قدرة الحق أن لو كان العرش ما تحته يقع فيه يكون أقل من خردلة في فلاة ، وذلك مشرق طلوع شمس الذات وقمر الصفات ، فإذا غلب سلطانها عليه ظهر ضعفه تحت أثقال الألوهية فيبرز نور اللطف في قضائه فيبسطه بسطا لا نهاية له ويصير مبسوطا يبسط التجلي حتى يكون مستقيما متمكنا في رؤية تجلي الحق فإذا صارت أنوار التجلي عليه بنعت الاستدامة ظهر علم سر الاستواء منه ، وحاشا أن القلب حامل الذات والصفات هو بجلاله متنزه عن الورود على الحدثان لكن هو طور التجلي يحمل أثقال تجلي الحق بالحق لا بنفسه.

انظر إلى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف قال حكاية عن الله عزوجل : «لم يسعني السماوات والأرض ويسعني قلب عبدي المؤمن» (١).

ويا عاقل كيف يحمله الحدث ، وهو منزه عن الحلول الله ، الله هو منزه أيضا أن يكون هو محل الحوادث للقلب يحمله به ؛ لأنه هو بذاته حامل القلب بالوصف والصفة.

ألا ترى إلى قوله عليه‌السلام : «القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء» (٢) هو مع الكل بالعلم والكل معه بالعلم والقدرة وهو منزه قائم بذاته تعالى الله عن كل وهم وخاطر.

وقال ابن عطاء : استوى لكل شيء ؛ فليس شيء أقرب إليه من شيء.

وقال بعضهم : استوى له السماوات والأرض وما فيهن بشرط العبودية.

قال الأستاذ : عرشه في السماء معلوم وعرشه في الأرض قلوب أهل التوحيد فعرش السماء مطاف الملائكة ، وعرش الأرض مطاف اللطائف ، فأما عرش السماء ، فالرحمن عليه استوى ، وعرش القلوب ؛ فالرحمن عليه استولى ، وعرش السماء قبلة دعاء الخلق وعرش

__________________

(١) ذكره المناوي في «فيض القدير» (٢ / ٤٩٦) ، والعجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ١٢٩).

(٢) رواه مسلم (٢٦٥٤) ، وابن ماجه (١ / ٢٣١) ، وأحمد في مسنده (١٣ / ٣١٩) ، وابن حبان في صحيحه (٣ / ١٨٤).

٤٧٦

الأرض محل نظر الحق فشتان بين عرش وبين عرش ، ثم مع هذه الاية وعقيبها جمع الله سبحانه علومه القديمة المحيطة بالحدثان من فوق العرش إلى ما في تحت الثرى ، وذلك قوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦)) أخبر عن علمه وملكته معا بما فوق العرش ، وما تحت الثرى وما بين العرش والثرى من أطباق السماوات ، وما بينهن وأطباق الأرضيين ، وما بينهن فذكره تعالى استوى على العرش إخبار عن قهر سلطانه وبنعت الاستيلاء على أعظم خلقه وعن علمه بما فوق العرش من علم الغيب غيب الغيب وما تحت العرش إلى الثرى من علومه الغيبية في بطون أفعاله ، وما تحت تحت الثرى من أسرار ربوبيته أي : أن الكون استغرق في بحار علمه وقدرته وإرادته بالمثل كخردلة في البوادي ، أو كحلقة في البحار والسلطان ، كبرياؤه محيط بجميع ذراته فالكون كالكرة في ميادين عظمته عند صولجان قدرته ، يضرب بها تلك الكرة في كل لمحة ألف مرة ويذهب بها من الازال إلى الاباد ، ومن الاباد إلى الازال ، والله إن من وقت ما خلق الله الكون يتحرك الكون في طلب ما يتعلق به من نور فعلمه ، وما أدركه فكيف يدرك أنوار الصفة وإذا لم يكن مدرك أنوار الصفة كيف يدرك عزة الذات وأين الكون من إدراك وحدانية القديمة ولحوقه بجلال مجد ذاته ، بل هو صاغر حقير في قبض جبروته لا مصرف له ينصرف إليه منه ، ولا مخرج له منه فيخرج من تحت قهره بل كذرة تبن على جناح الرياح العواصف والصرصر القهار تذهب بها ، ولا تعرف أين تذهب.

ألا ترى إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الكون في يمين الرحمن أقل من خردلة» (١).

ثم اعلم الخلق أن الكل له ؛ فلا ينبغي العالم به أن يطمع في غيره حتى لا يشوب قلبه بالشرك الخفي ، قيل له : الملك كله فمن طلب البعض من الكلى من غيره فقد أخطأ الطلب.

ثم أخبر عن عظيم جلال علمه بمكنون الأسرار وخفي الإضمار بقوله : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) افهم أن للطبيعة سرّا والملك السر سر وللنفس سرّا ، ولذلك السر سر ، وللقلب سرّا ، ولذلك السر سر ، وللعقل سرّا ، ولذلك السر سرّا ، وللروح سرّا ، ولذلك السر سر ، وللسر سرّا ، وذلك السر سر ، ولسر السر سرّا ، ولذلك السر سرّا ، أما سر الطبيعة إضمار الميل إلى طلب ما تقوم به من فيض العناصر ، وسر ذلك السر نداء فعل الحق إلى الطبيعة بنعت جذبها إلى طلب حظها ، وهو أخفى من ذلك السر.

وأما سر النفس ؛ فهو حديثها الخفي الذي يصدر منها في غيب الخواطر بقلب هواها

__________________

(١) ذكره ابن عجيبة في البحر المديد (٣ / ٣١٥).

٤٧٧

وسر ذلك السر نداء القهر إياها بنعت جذبهما إلى طلب الهوى ، وهو أخفى من سرها.

وأما سر القلب فهو حديثه الخفي الذي يصدر منه لطلب مزيد الصفاء من فيض الذكر ، وسر ذلك السر فرع الملك باب سره بنعت تحريكه إلى طلب مزيد الذكر وذلك إلهام خفي وأخفى من سر الأول.

وأما سر العقل فهو حديثه مع القلب والروح بما يبدو له من حقائق أحكام الربوبية في الشواهد ، وسر ذلك السر بحجة نور فعل الخاص التي هي داعية العقل إلى مشاهدة حقائق الأشياء ، وذلك السر أخفى من سر الأول.

وأما سر الروح ؛ فهو حديثها مع العقل بما يسمع من إلهام الخاص الإلهي لزيادة شوقها إلى معادنها ، وسر ذلك السر ما يبدو لسر الأول من برق سنا الصفة بنعت الكشف مع تعريف أمر العبودية والربوبية ، وذلك أخفى من سر الأول.

وأما سر السر ؛ فهو حديثه الخفي في بطنان غيب الخاطر في مشهد الملكوت مع الحق حيث يكون محتجبا عنه بنعت المتضرع لطلب مشاهدته ، وسر ذلك السر وقوع كلام الحق على مجاري الصفة له في الغيب وهو يسمع ولا يبصر ، وذلك أخفى من سر الأول.

وأما سر سر السر ما يكون وراء الحجاب فوق الملك والملكوت مشاهد الجبروت ومعاين الذات يرى عجائب أنواره وحقائق أسرار صفاته وذاته فيعرف منه به ويسمع منه بلا واسطة ، ويقول معه يطلب منه بلسان الافتقار مزيد قرب القرب ودنو الدنو حتى يقع في بحار الألوهية فلا يرى ولا يعرف فهو أسر الأسرار ، وأخفى الخفيات فالطبيعة لا تطلع على سر النفس ، والنفس لا تطلع على سر القلب ، والقلب لا يطلع على بعض سر العقل ، والعقل لا يطلع على بعض سر الروح ، والروح لا يطلع على سر السر والسر ، لا يطلع على سر سر السر ؛ لأنه مقام ما أخفي من السر ، ولا يطّلع على جميعها إلا الله سبحانه من الخلق والخليقة لا الملائكة لا المقربون ولا الأنبياء المرسلون إلا ما يكشف الحق لهم من ظاهر الأسرار قال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦)) [الجن : ٢٦] إلا من ارتضى من رسول ، وباطن هذه الأسرار لا ينكشف لأحد غير الله ؛ لأنه مما استأثره لنفسه ولا يطلع عليه غيره وحاصل الحقيقة من معنى الاية أن السر ما في صفاته ، وما أخفى ما في ذاته.

قال الصبيحي : السرّ ما طالعه الحق ولا يطالعه الملك ولا الشيطان ولا يحس به النفس ولا يشاهده العقل ، وهو في الإضمار لم تحوه الهمم ، ولم تدبره الفطن ، وهي في لباب لب القالب من حقائق المحض من خطرات الإلهام كشرر النار الكامن في الشجر الرطب حتى تمثله الإرادة والمشيئة والأحكام ؛ فيتنقل في الأحوال ، فهذا هو السر ، وما هو أخفى فما لم تحس

٤٧٨

ولم لطالع لا يعلمه إلا الله ؛ فهو أخفى من الحقائق ، فإذا ظهر معلومه أبدى علمه.

قال الواسطي : السرّ ما خفي على العباد ، والذي هو أخفى ما لم يقل له كن.

قال الجنيد : يعلم سره فيك ، وأخفى سره عنك.

وقال جعفر الصادق : السرّ موضع الإرادة ، وأخفى موضع الخطرة والمشاهدة.

وقال الأستاذ : فالنفس ما تقف على ما في القلب ، والقلب لا يقف على أسرار الروح ، والروح لا سبيل له إلى حقائق السر ، والذي هو أخفى من السر فما لا يطلع عليه إلا الحق ، ويقال : الذي هو أخفى من السر لا يفسده الشيطان ، ولا يكتبه الملكان ، ويستأثر بعلمه الجبار ، ولا يقف عليه الأغيار ، ولما تفرد بنفسه بالإطلاع على السر والخفيات نفى عن ساحة كبريائه من لم يستحق للفردانية الأزلية ، والعلم الشامل بأسرار الحوادث وخفيات الضمائر ، ووصف نفسه بذلك.

وقال : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨)) فمعاني الأسماء بالحقيقة سر من حيث يعبر حقائق الصفات ، وما في الذات من علوم القدمية وأسرار الأزلية وهو أخفى من سر الأسماء أخبر سبحانه حبيبه من أسراره التي بينه وبين كليمه موسى وتلك الأسرار أعجب العجائب.

أما غرب الغرائب من علوم أسراره وحقائق أنواره بقوله : (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩)) ما أطيب ذكر قصة الكليم للحبيب خص أن الحبيب الأكبر ذكر حال الكليم للحبيب ؛ لأن الحبيب يستأنس بسميه من الأحياء ، لذلك قصّ الله قصة الأنبياء لحبيبه ثم بيّن يد وحال كليمه بقوله : (إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً).

لما كمل كليم الله كمل في الإرادة ودخل في الإرادة ودخل من الإرادة إلى مقام المحبة ترك الوسيلة الصغرى وهي خدمة شعيب ، ووقع في الوسيلة الكبرى ، هي رؤية النار في الشجرة وتلك بداية مكاشفته وسماع خطاب الحق سبحانه ، فوقعت مكاشفته قبل الخطاب وهو مقام الكبراء في المعرفة ، ثم وقع بعد ذلك في بحر الخطاب ، وذلك قوله : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى) ؛ فإذا أراد الله أن يعرفه مقام رؤية الصفات في الأفعال تجلى بجلاله لكسوة النار ، ثم تجلى من كسوة النار لكسوة الشجرة ثم تجلى من الشجرة لموسى ، وذلك مقام أسرار الالتباس الذي يجذب بالحق عشاقه إلى معادن الألوهية ليصيروا بعد ذلك موحدين ؛ فرباهم في البداية في مقام العشق برؤية أنوار الصفات في الأفعال حتى لا يفنوا بالبديهة في سطوات عظمته ، ولو يريهم صرف عيان الذات يصيرون مضمحلين في أنوار قدسه جعل الشجرة مرآة للنار ، وجعل النار مرآة للنور ، وتجلى منهما لموسى فرأى موسى نيران الكبرياء ، وأنوار البقاء

٤٧٩

من شجرة القدم فانجذب إلى قرب مغناطيس الصفات ورأى لطائف مشاهدات الذات ، كأنه هو في رؤية المعاني ، وظن أنه في صورة الأماني فأتاها بنعت الشوق وتحير في شأن الأمر وطلب نفسه أين هو وما علم أنه في كنف الوصلة وبساط القربة فدار حول الشجرة برسوم العلم ، وهكذا حال من كوشف له حقائق الحقيقة بالبديهة ؛ فلما غاب في الغيب في طلب الرب ناداه الحق وقال : أيش تطلب؟ أنا ربك ، أي : ما ترى يسرك وروحك وعقلك فهو جمال ربك وإن كنت في تلبيس الفعل والصفة لو تريد أن تراني صرفا ، فاخلع نعليك أي : نعلي الكونين فإنك بالواد المقدس وادي الأزل المقدس عن غيار الظنون والحسبان وأنفاس النفس والشيطان ، ولا ينبغي أن تأتي قدس القدم باثار أهل العدم حتى يطوى لك وادي الازال والاباد ، وينكشف سرها لهمتك وقلبك وروحك وسرك ، وأيضا أي : اخرج أنت منك حتى تصل بي فأنا لمن لم يكن لنفسه.

قال الواسطى في قوله : (إِذْ رَأى ناراً) موسى خطرات به حسه الحظوظ في أخذ نار فنال النور ، فلا ينبغي لأحد أن ييأس من نفسه ، وقد حوله من شاهد الحط إلى شاهد الحق.

قال جعفر : قيل لموسى : كيف عرفت أن النداء هو نداء الحق؟ فقال : لأنه أفنتني وشملتني ، فكان كل شعرة مني كان مخاطبا بنداء من جميع الجهات ، وكأنها تعبر من نفسها بجواب ، قلما أشملتني أنوار الهيبة ، وأحاطت بي أنوار العزة والجبروت علمت أنه تخاطب من جهة الحق ولما كان أول الخطاب (إِنِّي) ثم بعده (أَنَا) علمت أنه ليس لأحد أن يخبر عن نفسه باللفظتين جميعا متتابعا إلا الحق فأدهشت ، وهو كان محل الفناء ، فقلت : أنت أنت الذي لم يزل ولا تزال ليس لموسى معك مقام ولا له جرأة الكلام إلا بأن تبقيه ببقائك وتنعته بنعوتك ، فتكون أنت المخاطب والمخاطب جميعا ؛ فقال : لا يحمل خطابي غيري ، ولا يحييني سواي أنا المتكلم ، وأنا المكلم وأنت في الوسط شبح تبع بك محل الخطاب.

وقال الشبلي في قوله : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) : اخلع الكل منك تصل إلينا بالكلية فنكون ، ولا تكون فيتحقق في عين الجمع يكون إخبارك عنا وفعلك فعلنا.

قال ابن عطاء : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) (١) أعرض بقلبك عن الكون ؛ فلا تنظر إليه بعد هذا الخطاب قيل : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) ؛ فإنك بعين موجدك.

وقال جعفر : اقطع عنك العلائق (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا).

__________________

(١) كما يفعل بحضرات الملوك أدبا ، ولتنالك بركتها ولتكون مهيأ للإقامة غير ملتفت إلى ما وراءك من الأهل والولد ، ولهذا قال أهل العبارة : النعل يدل على الولد. نظم الدرر (٥ / ٢٣٨).

٤٨٠