تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٧٤

ثم بيّن أنه تعالى إذا أراد أن يكرم عبدا ألهمه الصبر في بلائه والتقوى في عباده بقوله : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) أي : من يتق في الخلوة عن متابعة الشهوة والوقوع في النهمة وصبر عن انقياد هوى النفس بعد جريان الهمة.

قال ابن عطاء : من يتق ارتكاب المحارم ، ويصبر على أداء الفرائض ؛ فإن الله لا يضيع سعي من أحسن في هذين المقامين ، واعتمد على الله ، ولم يعتمد سعيه ولا علمه.

ولما رجع يوسف عليه‌السلام إلى ذكره تفضل الله عليه وعلى أخيه ، وذكر توحيده أوقعهم الله ذلك إلى رؤية توحيد الله بقوله : (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) رجعوا إلى الله في أول مقالتهم ، وذكروا فضله عليه ، ثم أتوا إلى مذمة أنفسهم أي : آثرك الله علينا بالخلق والخلق والحسن والجمال والملك والشرف والمكاشفة والعلم (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) أي : جاهلين بجاهك.

قال بعضهم : اختارك وقدمك علينا بحسن التوفيق والعصمة ، وترك المكافأة على الإشارة (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) لمسيئين إليك ، فلما سمع يوسف عليه‌السلام اعتذارهم أرجع نفسه ونفوسهم إلى مقادير السابق ، ثم استعمل الكرم والظرافة في الخلق بقوله : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) أي : هذا يوم الوصال وكشف الجمال ، يرفع العذاب ، لا يوم التعيير والتثريب ، وفي هذه الحالة إشارة إلى أن الأولين والاخرين إذا دخلوا في سابقة الكبرياء وسكت لهم ألسنة العذر ، يبسط الله سبحانه أوراق الأقدار والتي جرت في سبق السابق بما كان ، وما سيكون وتحمل أعمالهم جميعا على مطية القدر ، ويبرئهم عن الجرائم ، ويقول : من أفضاله وكرمه : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) فإن أفعالهم جرت بمقاديري ، وكيف كنتم تدفعون مقاديري كأنه تعالى يضع العذر على القدر ، ويغفر لهم جميعا بقوله : (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) بيّن الجرم وغلب العفو والكرم على العتاب والمؤاخذة.

قال جعفر عليه‌السلام : لا عيب عليكم فيما عملتم ، لأنكم كنتم مجبورين عليه ، وذلك في سابق القضاء عليكم.

قال أبو عثمان : ليس لمن أذنب أن يعاتب مذنبا ، وكيف أعييكم ، وقد سبق مني الهم والاختيار للسجن ، وقولي : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) وكيف ألومكم فيما عملتم وأنسى ما عملت؟

قال شاه الكرماني رحمة الله عليه : من نظر إلى الخلق بعين الحق سلم من مخالفاتهم ، ومن نظر إليهم بعينه أفنى أيامه في مخاصماتهم ، ألا ترى إلى يوسف عليه‌السلام لما علم مجاري القضاء كيف

٢٠١

عذر إخوته ، وقال : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ).

قال أبو بكر : اعتذروا إليه ، وأقروا بالجناية بقولهم : (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) ، قال : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) ، وهذا من شرط الكرم أن يعفو إذا قدر ، ويقبل عذر من اعتذر.

وقال الأستاذ : أسرع يوسف عليه‌السلام التجاوز عنهم ، ووعد يعقوب عليه‌السلام لهم بالاستغفار بقوله : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) ؛ لأنه كان أشد حبّا لهم فعاتبهم ، وأما يوسف عليه‌السلام فلم يرهم أهلا للعتاب ، فتجاوز عنهم على الوهلة.

ويقال : ما أصابهم في الحال من الخجلة قام مقام كل عقوبة عليه‌السلام ، ولهذا قيل في المثل : «كفى للمقصر حياء يوم اللقاء».

ولما فرغ يوسف عليه‌السلام من كشف حاله مع إخوته ووصاله معهم ، رتب شغل وصال يعقوب عليه‌السلام ، ومن كرمه وجلاله أعطى وصاله أولا للخاطئين ، ثم للعاشقين ؛ لأن الخاطئ ضعيف لا يحتمل البلاء ، والعاشق قوي يحتمل البلاء ؛ لأن يعقوب عليه‌السلام يرى يوسف عليه‌السلام كل وقت بعين سره ، فاحتمل بلاءه بذلك.

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤))

قوله تعالى : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) الحكمة في إرسال القميص أنه علم أن يعقوب عليه‌السلام لا يحتمل الوصال الكل بالبديهة ؛ فجعل وصاله بالتدريج لئلا يهلك في أول الملاقاة من فرح الوجدان ، فأرسل القميص ليقويه بريحه وطيب روحه ، ولأن عيني يعقوب عليه‌السلام ابيضتا لم تكونا عمياوين إنما ضعف نورهما ؛ فأرسل القميص لذهاب بياضهما ، فإنه لو يشم يوسف عليه‌السلام بعينه احترق بقية نورهما من فورة الهيجان ، فخاف على عينيه ، وأيضا إن قميص يوسف عليه‌السلام كان من نسج الجنة ؛ فرأى يوسف عليه‌السلام غيرة الحق فأرسل القميص إليه ليشم أولا رائحة بساط القرب ، وأيضا كان قميص يوسف عليه‌السلام علامة بينه وبين أبيه ، فأشار إليه بالقميص ، أي : إذا كان بالقميص السلامة من حرق الذنب فأنا أيضا بالسلامة.

وعن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر رضي الله عنه قال : كان المراد في القميص أنه أتاه الهم من قبل القميص بقوله : (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) فأحب أن يدخل السرور من جهته التي دخل الهم به عليه.

٢٠٢

ويقال : كان العمى في العين ؛ فأمر بإلقاء القميص عليه ليجد الشفاء من العمى.

ويقال : لما كان البكاء بالعين التي في الوجه كان الشفاء في اللقاء للعين التي في الوجه ، وفي معناه أنشدوا :

وما بات مطويّا على أريحيّة

بعقب النّوى إلّا فتى بات مغرما

وقوله تعالى : (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) كان كرم يوسف عليه‌السلام يقتضي أن يذهب إلى أبيه ولا يستحضره ؛ ولكن أبى نازع العشق إلا أن يزيد البلاء على العاشق ، ومن يرى معشوقا في الكونين رحيما بعاشقه ؛ فإن اقتضى الظاهر الأدب غلب العشق على الرسوم حتى يزيد عشقه على عشقه ، وشوقه على شوقه ، ويرى يوسف عليه‌السلام فتوته ؛ فاثر أجر السعي على أبيه ، كان سخيّا بدينه لا بدنياه ، وذلك من عزة أبيه عنده ، وشارك الأهل ؛ لأنهم أيضا قاسوا أيضا مقاساة الفراق أراد أن يشتركوا في الفرح.

ويقال : علم يوسف عليه‌السلام أن يعقوب عليه‌السلام لا يطيق القيام بكفاية أمر يوسف عليه‌السلام فاستحضره إبقاء على حاله لا إذلالا بقدره ، وما عليه من إجلاله.

قوله تعالى : (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) لما خرج من مصر هبت ريح الصبا على القميص ، وجاءت إلى يعقوب عليه‌السلام وهبت على وجهه ، ونشقته ريح يوسف عليه‌السلام فقال : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) وجد ريح يوسف عليه‌السلام من مسافة ثلاثين فرسخا ؛ لأنه كان في كل أنفاسه ، مستنشقا لريح يوسف عليه‌السلام ، وهكذا شأن كل عاشق يتعرضون لنفحات ريح وصال الأزل ، ويستنشقون نسائم ورد مشاهدة الأبد ، بقلوب حاضرة ، وعيون باكية في الخلوات والصحاري والفلوات كأنهم ينشدون هذين البيتين كل وقت شوقا إلى تلك المعادن :

أيا جبلي نعمان بالله خليّا

طريق الصّبا يخلص إليّ نسيمها

فإنّ الصّبا ريح إذا ما تنسّمت

على نفس مهموم تجلّت همومها

ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لربكم في أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لنفحات الرحمن» (١) ، ما أطيب حال المحبين حيث راقبوا روائح كشف الصفات من معدن الذات ، وطلبتهم عرائس القدم في قميص الالتباس كأنهم ينشدون من غاية الشوق إلى تلك المعاهد هذين البيتين :

__________________

(١) رواه الطبراني في «المعجم الأوسط» (٣ / ١٨٠) ، و «المعجم الكبير» (١٩ / ٢٣٣) ، وذكره المناوي في «فيض القدير» (٢ / ٤٦٣) ، والعجلوني في «كشف الخفاء» (١ / ٢٦٩).

٢٠٣

سلام على تلك المعاهد إنّها

شريعة وردي أو مهب شمالي

فقد صرت أرضى من سواكن أرضها

بخلب برق أو بطيف خيال

فديت لهذه القضية الحسنة الإلهية ، ما أحسن شمائلها ، وما أطيب لطائفها ، وما أنور روائها ، انظر كيف أخبر سبحانه من حسن أحوال العاشقين والمعشوقين ، قال : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) علم يوسف عليه‌السلام مواساة ريح الصّبا ، وأودعه ريحه حتى أسرع البشير في إيصال الخبر إلى يعقوب عليه‌السلام شوقا منه إلى وصال يعقوب عليه‌السلام.

أذكر في هذا المعنى أبيات لطيفة :

نسيم الصبا بلّغ سلامي إليهم

وأرفق بفضلك بالهبوب عليهم

وقل لهم إني وإن كنت نازحا

فروحي وقلبي حاضران لديهم

نسيم الصّبا إن جئت أرض أحبّتي

فخصّهم منّي بكلّ سلام

وبلغهم أنّي رهين صبابة

وأنّ غرامي فوق كلّ غرام

ومعنى قوله : (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) علم أن من لم يكن في بلاء المعشوق لم يستنشق ريح المعشوق ؛ فيريب المخبر بما كوشف له.

قال جعفر : يقال : إن ريح الصبا سأل الله ، فقال : خصني بأن أبشره بابنه ، فأذن الله له في ذلك فكان يعقوب عليه‌السلام ساجدا فرفع رأسه ، وقال : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) فقال له أولاده : (إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) أي : محبتك القديمة ، وكان الريح ممزوجة بالعناية والشفقة والرحمة والأخبار بزوال المحنة ، وكذلك المؤمن المتحقق يجد نسيم الإيمان في قلبه ، وروح المعرفة من العناية التي سبقت له من الله في سره.

قال الأستاذ : كان أمر يوسف عليه‌السلام وحديثه على يعقوب عليه‌السلام مشكلا ، فلما زالت المحنة تغيرت بكل وجه الحالة.

قيل : كان من يوسف عليه‌السلام على يعقوب عليه‌السلام أقل من مرحلة حيث ألقوه في الجب ؛ فاستتر عليه خبره ، وحاله ولما زال البلاء وجد ريحه ، وبينهما مسافة ثمانين فرسخا من مصر إلى كنعان.

ويقال : لا يعرف ريح الأحباب إلا الأحباب ، فأما على الأجانب فهذا حديث مشكل أن يكون الإنسان ريح.

وقال الأستاذ في قوله : (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) تفرس فيهم أنهم يبسطون لسان الملامة ، فنبّههم على ترك الملامة ؛ فلم ينجح فيهم قوله ، فزادوا في الملامة بأن قرنوا كلا منهم بالقسم

٢٠٤

وقالوا : (قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) لم يحتشموا أباهم ، ولم يراعوا حقه في المخاطبة ، فوصفوه بالضلال في المحبة.

ويقال : إن يعقوب عليه‌السلام قد يعرف من الرياح نسيم يوسف عليه‌السلام ، وخبر يوسف عليه‌السلام كثيرا حتى جاء الأذان للرياح ، وهذا سنة الأحباب مساءلة الديار ومخاطبة الأطلال.

وفي معناه أنشدوا :

وإنّي لأستهدي الرّياح سلامكم

إذا أقبلت من نحوكم بهبوب

وأسألها حمل السّلام إليكم

فإن هي يوما بلّغت فأجيبي

(قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩))

قوله تعالى : (قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) أي : أنت غائب بسرك في وادي العظمة ، وبروحك هائم في فقاد الأزلية ، وبعقلك تائه في شوامخ القدرة ، وبقلبك مستغرق في بحار الشوق والعشق والمحبة ؛ فترى من كل ناحية جمال معشوقك ، وتستنشق من جميع الرياح نسيم محبوبك ، وأنت واله لا يعتبر قولك بهذا ، فأنت تخبر بخبر العاشقين وهيجان المحبين.

قال جعفر : سئل بعضهم : ما العشق؟ قال : ضلال ، ألا ترى إلى قوله : (إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ).

ثم أظهر أنه برهان صدقه وصفاته بالمعجزة الظاهرة بقوله : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) الإشارة فيه أن العاشق الهائم المنتظر لقاء الحق سبحانه ، وذهب عينه من طول البكاء يجيء إليه بشير تجليه ؛ فيلقي على وجهه عهد أنسه ورد قدسه ، فينفتح عينه بنسيم شمال وصاله ، فإذا يرى الحق بالحق لما وصل قميص الحبيب إلى وجه المحب رجع إليه نور عينه ؛ لأنه وجد لذة نفحة الحق من قميص يوسف عليه‌السلام محل تجلي الحق ، وقلبه مهب شمال جلاله ، وجد منه ريح جنان قدسه ياسمين أنسه ، ومحال أن من وصل إليه شمال جلاله يبقى علة غيرة الفراق ، وظلمة العمر ؛ لأن نسيمه طبيب أسقام العاشقين ، وآلام المحبين ، ألا تري إلى قول القائل :

٢٠٥

ألا يا نسيم الريح ما لك كلما

تقربت منا زاد نشرك طيبا

أظن سليمي أخبرت بسقامنا

فأعطتك رياها فجئت طبيبا

وحكمة إلقاء القميص على الوجه أن قميص الحبيب لم يكن له موضع إلا وجه العاشق ؛ لذلك قال : (فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي) ، وفي موضع يضع العشاق تراب قدام المعشوقين على عيونهم ؛ كيف لا يضعون قميص الأحباب على وجوههم؟

وفي الحديث المروي : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رأى وردا أو باكورة قبّلها ، ووضعها على عينيه ، وقال : «هذا حديث عهد بربه» (١).

قال النهر جوري : ألقى على وجهه نور الرضا ؛ فارتد يبصر مواقع القضاء.

وقال بعضهم : لما جاء البشير من الله بالصلح منه في بكائه ، والتأسف على غيره ورد يوسف عليه‌السلام إليه.

وقال سفيان : لما جاء البشير إلى يعقوب عليه‌السلام قال له يعقوب عليه‌السلام : على أي دين تركت يوسف عليه‌السلام؟ قال : على الإسلام ، قال : الان تمت النعمة.

ولما عاينوا معجزة أبيهم ، وعرفوا مواضع الخطأ في فراستهم اعتذروا بقوله : (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) أي : استغفر لنا ما قصرنا في واجب حقوقك ، وما بدا منا من إعلام عقوقك ، وقلة معرفتنا بنور فراستك ، وما يئول عواقب أمور يوسف عليه‌السلام من شرف المنازلات والمقامات والنبوات والرسالات ، وأيضا استغفر لنا تضييع أوقاتنا في متابعة هوائنا ، واحتجابنا من رؤية ذنبنا ، وما أطيب حال الندامة ؛ لأن منها يتولد أنوار الكرامة.

قال بعضهم : أزل عنا اسم العقوق بإظهار الرضا عنا.

قال بعضهم : استغفر لنا ذنوبنا إليك وإلى يوسف عليه‌السلام.

وقال بعضهم : في قوله : (إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) : جاهلين بأن الله يحفظ أولياءه في المحن.

قوله تعالى : (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) إن يعقوب عليه‌السلام كان عالما بالله وأخلاقه العظيمة ، وبصفاته المنزهة ، وبالأوقات التي هو تعالى يقبل توبة المذنبين ، ويغفر ذنوب الخاطئين ، ويستجيب دعوة المضطرين ، وهو وقت تضوع مسك نفحات شمال وصلته في أرواح المقربين ، وفؤاد الصادقين ، وقلوب العارفين ، وأسرار الموحدين ، وعقول المحبين ، ونفوس المريدين ، وهم يعرفون منه مكان قبول التوبة ، واستجابة

__________________

(١) رواه البيهقي في «الدعوات الكبرى» (٢ / ١٩) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (٢ / ٣١) بنحوه.

٢٠٦

الدعوة ، وعلامتها اقشعرار جلودهم ، ووجل قلوبهم ، واضطراب صدورهم ، وفوران عبراتهم ، وهيجان أسرارهم ، ووقوع نور التجلي في صميم أفئدتهم ، وطيران أرواحهم في رياض الملكوت ، وأنوار الجبروت ، وهي ترى نسيم صبح الوصال بنعت الرضا عند منازل الثناء ، وكشف نقاب النقاب ، وأكثر ذلك وقت الأسحار عند تجافي جنوب الأبرار عن مضاجعهم ، وانتباههم بركضات عساكر التجلي ، وعرائس التدلي حين ينزل بجلاله من هواء القدم إلى عروش البقاء تعالى الله عما أشار إليه أهل الخيال.

قيل في التفسير : أخر على السحر من ليلة الجمعة.

قال ابن عطاء : إن يعقوب عليه‌السلام قال : ارجعوا على يوسف عليه‌السلام ، واسألوه أن يجعلكم في حل ، ثم أستغفر لكم إن الذنب بينكم وبينه.

قال بعضهم : سوف أسأل ربي أن يأذن لي في الاستغفار لكم لئلا يكون مردودا فيه ، كما ردّ نوح عليه‌السلام في ولده بقوله : (لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ).

قال الأستاذ : وعدهم الاستغفار ؛ لأنه لم يتفرغ من استبشاره إلى استغفاره.

قوله تعالى : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) آوى إليه أبويه ؛ لأنهما ذاقا طعم مرارة الفراق ؛ فخصهما من بينهم بوصاله وتدانيه يوم التلاقي ، هناك يتبين تباين منازل الصديقين في المحبة ، ومراتب المحبين في الوصلة.

قال الأستاذ : اشتركوا في الدخول ، ولكن تباينوا في الإيواء ؛ فانفرد الأبوان به لبعدهما من الجفاء ، كذلك غدا إذا وصلوا إلى الغفران يشتركون فيه ، وفي وجود الجنان ؛ ولكن يتباينون في بساطة القربة ؛ فيخص به أصل الصفاء دون من اتصف اليوم بالالتواء ، ولما بان حالهما في الإيواء ظهر قدرهما في بساط المؤانسة ، ومجلس القربة بقوله : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ).

قال ابن عطاء : رفع من محلهم بمقدار حزنهم كان عليه وأسفهم ، ولم يرفع من أخوته لسرورهم بإتلافه وكذبهم عليه بأنه (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ).

قال محمد بن علي : من دفع من مريد فوق ما يستحقه أفسد عليه بذلك إرادته ؛ لأن بعض الصحابة ذكر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أمرنا أن ننزل الناس منازلهم» (١).

ورفع يوسف عليه‌السلام أبويه على العرش ، ولم يرفع إخوته ، أنزل كل واحد منهم حيث يستحق من منزلته.

__________________

(١) رواه مسلم (١ / ٦) ، وأبو داود (٤ / ٢٦١) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٧ / ٤٦٢).

٢٠٧

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤))

قوله تعالى : (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) صحت ها هنا بيان المكاشفة ، وأوائل المشاهدة التي جرت ذكرها بقوله : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) لما بان سطوع أنوار عزة الله على الصديق العزير علا هيبته عليهم ، وعاينوا ما عاينت الملائكة في آدم عليه‌السلام ؛ فخروا له سجدا بغير اختيارهم ؛ لأنه كان كعبة الله التي فيه آيات بينات أنوار مشاهداته وسنا تجليه ، وظهور جلاله من إلباس قدرته مقام إبراهيم عليه‌السلام حين قال : (هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٦] رأى ذلك في آيات ملكوت السماء ، ورأوا ذلك في آيات ملكوت الأرض ، لو رأى الملك وأهل مصر فيه ما رأى يعقوب عليه‌السلام وبنوه لخروا له سجدا كما قال القائل :

لو يسمعون كما سمعت كلامها

خرّوا لعزّة ركّعا وسجودا

فلما اقترنت المكاشفة بالمعاينة ، قال تعالى (وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ) أظهر على يعقوب عليه‌السلام كمال علمه بتأويل أحاديث المكاشفات ، والايات المنامات ، قال تعالى : (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) أي : بيانا بينا ليس فيه معارضة النفس.

ثم أثنى على الله سبحانه لما أولاه من نعمه الرفيعة ، وكراماته الساطعة بقوله : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) أي : أخرجني من سجن بلاء النفس وخطوات الشيطان ، وأيضا أطلقني من أسرار الإرادة والمجاهدة والرياضة والامتحان إلى سعة بساط الرضوان والمعرفة والمشاهدة والإيقان ، ذكر السجن لأن هناك موضع التهمة ، أي : أخرجني بكونه من سجن التهمة بأن أظهر طهارتي من الذلة ، وأيضا بدأ بذكر السجن وما جرى لأجله لئلا يحزن قلوب إخوته ، وهذا من شرائط كرم المكرمين ، أسقط خجلهم حين أظهر ما جري عليه من الهمة ، وطول لبثه في السجن من التفاته إلى غير الله من وقت امتحان ، ثم ذكر منازلهم ، وما فضل على أبويه وإخوته بقوله تعالى : (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) أي : من بوادي

٢٠٨

الفراق إلى منازل الوصال جاء بكم من منازل التفرقة إلى عين الجمع ، ومن محل التلوين إلى محل التمكين ، ثم رفع بكرمه الجرم عن إخوته واستعمل الأدب حين لم يذكر ذكر القدر تنزيها لقدر الله وقدره من مباشرة العلة بقوله : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أي : ليس من طبائع الأولياء حركات الأعداء ، إنما كان شيئا طارئا بغير اختيارنا ، أغرى الشيطان بالنزغات بيننا لزيادة درجتنا ، وصفاء مودتنا.

ثم وصف الله سبحانه باللطف والرحمة والعلم والحكمة بقوله : (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) لطيف حيث جعلني لطيفا في حسن وجهي ، عليم بنيتي في عفو أخوتي وقبول عذرهم ، وأيضا عليم بخلق صورتي ، حكيم حيث خصني بحكمة النبوة والرسالة.

قال السيد جعفر الصادق عليه‌السلام : قال : قال يوسف عليه‌السلام : (أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) ولم يقل أخرجني من الجب وهو أصعب.

قال : لأنه لم يرد مواجهة إخوته بأنكم جفوتموني وألقيتموني في الجب بعد أن قال تعالى : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ).

وقال ابن عطاء : الحكمة أن السجن كان اختياره بقوله : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) ، والحب موضع اضطرار ولم يكن له فيه شيء ، وفي الاختيار أفاق شكرانه حين خلصه من فتنة اختياره لنفسه ، وعلم أن ما اختياره الحق كان فيه الخيرة ، وخاف من اختياره لنفسه لما نجاه الله من ذلك شكره.

وقال الواسطي : قد أحسن بي إذ أخرجني من السجن بعد أن عمدت فيه سواء بقوله لصاحب السجن : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ).

وقال جعفر رضي الله عنه : في قوله ربي لطيف لما يشاء أوقف عباده تحت مشيئته ، إن شاء عذبهم ، وإن شاء عفا عنهم ، وإن شاء قربهم ، وإن شاء بعدهم ، فيكون المشيئة والقدرة له لا لغيره ، ثم أظهر لطفه بعباده الذين خصهم بفضله بالمحبة والمعرفة.

وقال الأستاذ : ذكر حديث السجن دون البئر لطول مدة السجن ، وقلة مدة البئر.

وقال في قول الله تعالى : (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) إشارة إلى أنه كما سر برؤية إخوته وإن كانوا أهل الجفاء ؛ لأن الأخوة سبقت الحفرة ، ثم رجع إلى الحق بالكلية ووصف بما نال من كرمه بقوله : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) من ملك النبوة والعلم بحقائق المخاطبة ، وأيضا أعطيتني من ملكك ملك الربوبية حيث ألبستني شواهد

٢٠٩

جودك وأنوار جودك حتى أملك بحسني وجمال قلوب العالمين ، وأيضا آتيتني من ملك شاهدتك وعلمتني من حقائق معرفتك.

ثم وصف الله سبحانه بالقدرة القديمة والعظمة الأزلية بقوله : (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وبيّن مكانته في قربه وساحة كبريائه بقوله : (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) حيث كاشف جمالك لي في الدنيا ، وعرفتني صفاتك ، وتكشف أيضا نقاب عزتك لي من وجهك الكريم في الاخرة ، ثم حاج شوقه إلى جمال الأزل ، ورأى تمام نعمة الله عليه فقال تعالى : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي : توفني حين أخرجتني من رؤية الحدثان ، وتدبير الأكوان وما سوي من العرفان والإيقان مما يبدوا إلى من كشف قدمك وجلال أبدك وأنوار ألوهيتك ، غيبتني مني فيك حتى لا أبقي أنا فيك وتبقى لي ، وألحقني بمن كان حاله بهذه الصفة.

قال سهل : في قوله توفني مسلما فيه ثلاثة أشياء ، سؤال ضرورة ، وإظهار فقر ، واكتساب فرض.

وقال أيضا : أمتّني فإنما مسلم إليك أمرك ، مفوض إليك شافي ، لا يكون لي إلى نفسي رجوع بحال ولا تدبير في سبب من الأسباب.

قال الدينوري : وألحقني بالصالحين من أصلحتهم مجالستك وحضرتك ، وأسقطت عنهم سمات الخلق ، وأزلت عنهم رعونات الطبع.

قال أبو سعيد القرشي في قوله : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) قال : هذا كلام مشتاق لم أجانس إلا بالله.

وقال الأستاذ : قدم الثناء على الدعاء كذلك صفة أهل الولاء ، ثم قال : (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أقول بقطع الأسرار عن الأغيار.

قال الأستاذ في قوله : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) علم أنه ليس بعد الكمال إلا الزوال ، فسأل الوفاة.

ويقال : من أمارات الاشتياق تمني الموت على بساط العوافي مثل يوسف عليه‌السلام ألقي في الجب وحبس في السجن فلم يقل توفني مسلما.

ولمّا تم له الملك واستقام له الأمر ولقي الأخوة سجدا له ، ولقي أبويه معه على العرش ، قال : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) فعلم أنه يشتاق إلى لقائه.

ثم بيّن سبحانه أن هذه القصص العجيبة والأنباء الغريبة الأزلية على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢١٠

الأمي أمرا سماوي عرفه الله بالوحي الصادق والكلام الناطق بقوله : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) لتخبر العاشقين والمحبين والمؤمنين لتسلي بها ألم فؤادهم وتعرفهم بها الصبر في بلائه ، والشكر في آلائه ، والشوق إلى لقائه.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧))

قوله سبحانه وتعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) أخبر سبحانه أنه جماله وقدرته ألبس أنوار قدرته وهيبته على آيات السموات والأرض ، وجعل كل ذرة من العرش إلى الثرى مرآة يتجلى منها لذوي البصائر من العارفين ، وذوي العقول من الموحدين ، ولا يريها إلا لمن كان له بصير منور بنور الإيقان والعرفان ، وأعلمنا أن أهل الجهل والغباوة محتجبون عنها حيث يرون ظاهرها ولا يرون حقائقها ، وأيضا آيات السموات شواهد الملكوت وآيات الأرض سلاسل بيداء الجبروت من العارفين والمحبين.

قال ابن عطاء : نظروا إليها بأعينهم ولم يلاحظوها بأبصارهم ، فلا يكشف الأبصار لهم.

وقال : بعضهم لعلمهم من مواضع المكرمات والايات من الله ، وإلا تكاد على من ظهر ذلك عليهم ، ثم شدد الأمر سبحانه ودقق على المجهور في أمر التوحيد وإفراد القدم على الحدوث بقوله : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) وصف الكل في التوحيد بالإشارة إلى غيره في مقاماتهم ، وذلك وصف من نظر إلى الوسائط والشواهد في معرفته وما بدأ من لطيف صنائعه بأهل معرفته حتى بلغ الشرك إلى نهاية أن من أحب الله تعالى لذوق قلبه من مشاهدته ؛ فإنه مشرك في حقيقة التوحيد ؛ لأن من أحب حقيقة التوحيد حبه لربوبيته ولوجوده لا بجوده ، ومن نظر في رؤية الحق إلى نفسه أو إلى غيره من العرش إلى الثرى لم يكن موحدا محققا ، وهذا مذهب الجمهور من العارفين.

قال الواسطي : إلا وهم مشركون في ملاحظة الخواطر والحركات.

وقال بعضهم : إلا وهم مشركون في رؤية التقصير عن نفسه والملازمة عليها.

قال الواسطي : رؤية التقصير من النفس شرك ؛ لأن من لاحظ نفسا من نفسه ، فقد جحد الأزلية للحق ، ومن لام نفسه في شيء من أموره فقد أشرك.

٢١١

قال الحسين : المقال منوط بالعلل ، والأفعال مقرونة بالشرك ، والحق بائنا لجميع ذلك ، قال الله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ).

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩))

قوله تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) أي : معرفة الله ومحبته ، وبذل الروح في طريقة ، وانقياد النفس بوصف خنوعها لأمره طريقة ، ادعوا من سبقت له الحسنى نبعث العناية في الأزل إلى مشاهدة الله ومحبته وبذل الوجود له ، وهذه الدعوة مني على بصيرة ويقين وصدق وذوق وكشف وبيان من الله الذي لا معارضة فيه للنفس والشيطان ، وهكذا من اتبعني بوصف المحبة ، وطلب المشاهدة والرضوان في الوصال ، وكشف الجمال على بيان من معرفتهم ، وبيقين بلا شبهة ولا شك ولا تردد.

ثم وصف نفسه بلسان تنبيه وأمره أنه منزه من كل خيال وعلل بقوله : (وَسُبْحانَ اللهِ) أي : هو منزّه عن إدراك الخليفة (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي : ما أنا من الملتفتين إلى غير يوسف عليه‌السلام المحبة وطلب الربوبية منه تعالى عن كل خاطر إلا يشوب فيه شوب الحدثان ؛ لأن من كان في حيز الحدثان فتوحيده يليق بقدر الحدثان لا يقر قدم الرحمن.

قال ابن عطاء : أدعوكم إلى من تعودتم منه الفضل والأفضال والبر والنوال على دوام الأحوال ، وهو الله الذي لم يزل ولا يزال جلّ وتعالى.

قال القرشي : من دعي الخلق إلى الله يحتاج أن يكون له صولة وقبول ، ويكون هذه الالات مندرجة في دعوته ، كما قال الله تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا) ففرق بين من دعي إلى الله وبين من دعي إلى سبيل الله.

وقال بعضهم : الداعي إلى الله وبين من دعي إلى سبيل الله.

وقال بعضهم : الداعي إلى الله يدعوا الخلق إليه به لا يكون لنفسه فيه حظ ، والداعي إلى سبيل الله يدعوهم بنفسه إليه ؛ لذلك كثرت الإجابة إلى سبيله لمشاكله الطبع ، وقل من يجيب الداعي إلى الحق ؛ لأن فيه مفارقة الطبع والنفس.

وقال الواسطي في قوله : (عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) عمل الفوادح على بصيرة ، فلا سموا ولا نموا له في حقيقته ؛ فإن الناس كلهم مفاليس من صحة البصيرة والنخيرة ، ولو

٢١٢

لقيت الأنبياء بهاتين الخصلتين لأفلستهم أجمعين ، وإني بالبصيرة والعالم كلهم مرتبطون تحت الجناح بها يقومون إليها يؤمرون ، والأصل بصورة قاطعة ، ونخيرة فائقة لضعف البصائر أطلق من أطلق الثناء من الملأ الأعلى كمن أبصر البحر أخرسه ذكره ، فكيف إذا تجاذبته الأمواج وأخذته اللجج ، وحقيقة بصيرة الناس هو مشاهدة رؤية الشيء ، وهو قوله : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) إذ بالله صحت البصائر ، والبصيرة أعلى من النور ؛ لأنه لا يصح البصيرة لأحد وهو تحقق رق ملك ومادام للشواهد والأعراض عليه أثر كانت بصيرته واهية.

قال بعضهم : الدعاء من البصيرة ، والنفاق من ضعف النخيرة.

وقال : البصيرة من لباس الأرواح ليس لها من الأجسام حظ.

وقال الواسطي : على بصيرة أيقن أنه ليس إليه من الهداية شيء ، وقوله : (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) على ذلك ، وعلمهم بالتفويض ، والتسليم إمرتهم ، (وَسُبْحانَ اللهِ) أنزه الحق عن أن يروم أحد السبيل إليه إلا به (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، ادعى لنفسي مع الحق شامل الكل لمن له الكل.

وقال ابن عطاء : البصيرة أحرقت المعلوم والموعظة المحجوبة بظلم الأطماع ، أما علمت أنه لا يصح بصيرة لأحد وهو تحت رق الملك وأدام الشواهد والأعراض عليه أثر كانت بصيرته واهية ، والبصيرة إذا صحت سلم صاحبها من كل آفة.

وقال ابن عطاء : الفرق بين البصيرة والسكينة أن البصيرة مكشوفة ، والسكينة مستورة.

ويقال : البصيرة أن يطلع شموس العرفان ؛ فيندرج فيها أنوار العقول.

ولي ها هنا دقيقة فيها مشابهة كلام الكبراء في هذه الاية أدق مما ذكرت من الأول ، أي : قل يا محمد هذه التي رأيتم مني من سنن الإلهية التي اختار لي في الأزل هي الشريعة ، ووراء الشريعة الطريقة ، ووراء الطريقة الحقيقة ، ووراء الحقيقة حقيقة الحقيقة ، وهي البصيرة وتلك البصيرة إشراق جمال القدم لبصر الروح المطمئنة الساكنة بالله ، الطائرة في الله ، الهائمة لله التي طارت من قفص العدم في أنوار القدرة ، ولا يسكن من طيرانها في أنوار الكبرياء والبقاء إلى الأبد ، فموضع البصيرة إدراك نظر تلك الروح ، وموضع الإدراك بصر الروح ، فتلك البصيرة نور كشف صفات الحق المتصل على السرمدية بذلك الأمور ، ويزيد ذلك النور حتى يضمحل فيه ذلك الإدراك ، ويغلب سطواته حتى ينطمس تلك العين في ذلك النور ، فلا يبقى هناك إلا نور الحق ، وكيف يبقى الحدث في القدرة وعز السرمدية بسطواتها ، يذهب آثار الحدثين في أوائل ظهور العرفان ، أي في هذه حالتي وسبيلي مع الله ، وأنا لا أدعوكم إلى هذه فإنها قاصرة

٢١٣

مضمحلة من الحق بل أدعوكم إلى الله حتى تعرفونه أنكم لا تعرفونه ولا تبصرونه بالحقيقة ، فإنه أعز من أن يدرك بالأبصار والبصيرة ، وهكذا من سلك سبيلي فأنا يفني في حقيقتي ، يعلم أن إدراكه بالحقيقة محال ، وسبحان الله هو منزّه عن إدراك المدركين ـ وإن كان نبيا مرسلا ، وملكا مقربا (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) إنهم يظنون أنه تعالى مدركهم.

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١))

قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) أخبر سبحانه من سنته القائمة ، ومشيئته الثابتة القديمة التي أجراها على أهل العناية من الأنبياء والمرسلين والعارفين والمحبين ؛ حيث حبسهم في أسبحان انتظار كشوف الغيب حتى بلغ قلوبهم إلى محل القنوط من وضوح جلاله وبرهان شمائله وقدسه وعزته ، وخافوا من سوابق قهرياته وتنزيه ربوبيته عن كون الخلق وعدمه ، فلمّا ذابت قلوبهم ، واضمحلت أسرارهم ، ومنيت عقولهم ، وتحيرت أشباحهم ، تطلع بكرمه من مشارق أسرارهم شموس أنور ذاته ، وأنوار أقمار صفاته ، حتى لا يبقى من ظلمة الالتباس وغبار الوسواس أثر ، وهذا حتى قوله سبحانه : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) خافوا على الغير لا على أنفسهم لئلا يهلكوا ، فإنهم في رؤية مشاهدة القدم بأسراره نبعت السرمدية ، هذا معنى الانتظار واضطرابهم وشوقهم إلى وضوح الأنوار.

لا من الشك في خصوصية الولاية وسبق العناية في النبوة والرسالة ، وفي القراءة قرئ (قَدْ كُذِبُوا) بالتخفيف ؛ فعذره أنهم استغرقوا في قلزم (١) الأزلية ، وغابوا تحت بحار الديمومية ، ولم يروا الحق من كمال استغراقهم في الحق ، فلمّا لم يروه ناداهم بلسان عبرة قهر القديم ، أين أنتم؟ غبتم عنه وعن الحقيقة ، فيطلع أنوار الحقيقة عليهم ، ويأخذ لطفها عن شبكات امتحان القهر ، وهذا دأب (٢) الحق مع الأولياء حتى لا يسكنوا إلى ما وجدوا منه ، بل يفنوا به من كل ماله.

يقال : حكم الله بأنه لا يفتح للمريدين شيئا من الأحوال إلا بعد يأسهم منها.

وقال : وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته ، فكما أنه ينزل المطر بعد

__________________

(١) القلزمة : ابتلاع الشّيء ، وبه سمّي البحر قلزما.

(٢) في المخطوط : أداب.

٢١٤

الإياس ؛ فكذلك يفتح الأحوال بعد اليأس منها ، والرضا بالإفلاس عنها.

قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي : لزوم الأحوال من العارفين والمحبين والصادقين والمتقين والصابرين والعاشقين ؛ لأن فيها من مقلوبات أهل الولاية ما يليق بشأنهم من الفراق والوصال والبلاء والامتحان والعشق والمحبة ، وتحمل الجفاء والمكاشفة والبراهين الساطعة ، اقتداء بهم وطلبا لما وصل إليهم من الدرجات الرفيعة والمقامات الشريفة.

قال جعفر الصادق رضي الله عنه : أولى الأسرار مع الله.

قال ابن عطاء : عبرة لمن اعتبر وموعظة لمن اتعظ في أن النفس ليس هي بمحل أمن ولا اعتماد عليها.

قال الأستاذ : منها للملوك في بسط العدل كما بسط يوسف عليه‌السلام وفي المن على الرغبة والإحسان إليهم كما فعل يوسف عليه‌السلام لما ملكهم أعتقهم كلهم ، ومن العبرة في قصصهم لأرباب التقوى أن يوسف عليه‌السلام ل ما ترك هواه رقى الله إلى ما دقاه ، ومن ذلك العبرة لأهل التقوى في اتباع الهوى من شدة البلاء ، كامرأة العزيز لما تبعت هواها لقيت ما ليقت من الضرر والفقر ، ومن ذلك العبر للمماليك في حفظ حرمة السادة كيوسف عليه‌السلام لما حفظ حرمته في زليخا ملك منك بالعزيز وصارت زليخا امرأته حلالا ، ومن ذلك العفو عند القدرة كيوسف عليه‌السلام حيث تجاوز عن إخوته ، ومنها ثمرة الصبر كيعقوب عليه‌السلام لما صبر على مقاسات حزنه ، ظفر يوما بلقاء يوسف عليه‌السلام ، إلى غير ذلك من الإشارات في قصة يوسف عليه‌السلام.

وقال تعالى : (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فيه بيان جميع المقامات والمعاملات والمكاشفات والمشاهدات والايات والكرامات والمنجيات والمهلكات ولطائف الإشارات إلى علوم اللدنية ، والأسرار العجيبة ، وهدى أي هاديا لمن له استعداد هذه الواقعات في طريق الله ، وما يبدوا منه نعم مشاهدته ، وكرائم ألطافه ورحمة ، أي : هاديا لقلوب المحزونين ، وباكورة لفؤاد المحبين ، وشمومة لأرواح العارفين ، الذين يؤمنون بالله لا بأنفسهم ، يعرفون ربه لا بما منه ، فإن ما منه محل الامتحان ، وهو تعالى بجلاله معادن العرفان ، والله أعلم.

***

سورة الرعد

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ

٢١٥

النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥))

(المر) إن الله سبحانه تجلي من فعله الخاص لفعله العام ؛ فأجاد من بين الفعلين حروفا جعلها صادق أسرار الصفات والذات ، وأخبار الغيب ، وغيب الغيب ؛ فوضع في الألف سر الألوهية لنفسه ، وسر الأنانية لصفوة توحيده ، ووضع في اللام سر أزليته لنفسه ، وسر لطفه وفي ظهوره بوصف الأزل لأهل التباسه من أهل عشقه وشوقه ، ووضع في الميم سر محبته في هواء أزليته لطلب ألوهيته ، ووضع في الراء أنور ربوبيته ، وجعلها مرآة لعبوديته عبادة ؛ فيرون منها لطائف صفاته وروح ملكوت قدسه ؛ فلمّا انحسرت الأرواح من طلب الألوهية وجعلت إلى معادن أنوار الربوبية ، وسكنت جمادات من مرآة حرف الراء من رحمته الكافية ورأفة الشافية من كل شيء دون الله ؛ فالألف صندوق الألوهية لا ينفتح إلا لأهل الأنائية في التوحيد ، واللام صندوق نور الأزلية والجمال ولا ينفتح إلا لأهل الوله في شوقه ، والميم صندوق محبته الأزلية ولا ينفتح إلا لأهل محبته ؛ فالراء صندوق نور ربوبيته ولا ينفتح إلا لسلاك عبوديته الذين مرادهم منه نفسه لا غير.

قال الشبلي : ما من حرف من الحروف إلا وهو يسبح الله بلسان ويذكره بلغة بكل لسان منها حروف ، ولكل حرف لسان وهو سر الله في خلقه الذي يقع زوائد المفهوم وزيادة الأذكار.

وقال الحارث المحاسبي : إن الله لما خلق الأحرف دعاها إلى الطاعة ؛ فأجابت على حسب ما حلاها الخطاب وألبسها ، وكانت الحروف كلها على صورة الألف إلا أن ألف بقيت على صورته وحليتها التي بها ابتدأت ، ثم من سنّة الله سبحانه أن وضع ما تكلم به من الأسرار في لباس الحروف على رأس كل صورة ، وأشار مما عقيبها من القول إليها وإلى أسرار

٢١٦

ما فيها بقوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) أي : ما أشرنا في الحروف أسرار الكتاب وعلامات الخطاب ، ولم يكن معوجا معلولا بقوله تعالى : (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) أي : بيان وصدق واضح لمن له أهلية سر الكتاب ، ولا يفهم ما فيها من الأسرار ذو فترة غافل ، وذو غباوة جاهل بقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي : لا يعرفون حقائقها ، ثم وصف نفسه سبحانه بالقدرة القديمة من الصفات وبالحكمة الأزلية من الأفعال بقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) خاطب العموم بخطاب العام ، أي : أنا رافع السماء بلا علة من العلل ، ونفي العمد إذا كان معلولا ، وخاطب الخواص بخطاب الخاص ، أي : دفعها بغير عمد يرونها بالأبصار ؛ ولكن رفعها بعمد ترونها بالبصائر حيث ينكشف بوصف تجليها لها ، وتلك العمد القدرة القديمة الأزلية الباقية ، وهي الصفات قامت الأكوان والحدثان بها ، ورؤية الصفة حيث تجلت حق كما أن رؤية الذات حق ، ثم بين أن قدرته شملت الملك الأعظم بقوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) (١) وأيضا خلق سموات الأرواح بغير عمد بانت للخلق ؛ لأنها مخزونة بسلاسل أنوار الأزل إلى عالم القدم والبقاء ، ثم استوي أنوار تجليه على عرش القلوب.

قال تعالى : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) شمس المعرفة ، وقمر العلم ، أجراهما بين سموات الأرواح عروش القلب تزيينا لملكة كواشفها ومعارفها ، يجريان في عالم العقول بأنوار المشاهدة من رؤية الذات ، وكشف الصفات تطلع في سماء الأرواح شموس الذات وفي عروش القلوب أقمار الصفات لانتظام أمور الربوبية وتفصيل حقائق العبودية بقوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ) يدبر أمر هموم المحبة ويفصل آيات المعرفة لوقوع أنوار اليقين وحقائق التمكين بقوله : (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) أي : بهذه الأنوار تعاينون تلك الأسرار ، ويرون بقلوبكم مشاهدة الملك الغفار.

قال ابن عطاء : يدبر الأمر بالقضاء السابق ، ويفصل الايات بالأحكام الظاهرة لعلكم تتيقنون أن الله يجري عليكم هذه الأحوال ولا بد لكم من الرجوع إليه ، ثم وصف سبحانه عجائب الملك والملكوت ، وحكمة الغالبة في مصنوعاته بقوله : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ

__________________

(١) أي توحّد بجلال الكبرياء بوصف الملكوت وملوكنا إذا أرادوا التجلّي والظهور للحشم والرعية برزوا لهم على سرير ملكهم في ألوان مشاهدهم فأخبر الحقّ ـ سبحانه ـ بما يقرب من فهم الخلق ما ألقى إليهم من هذه الجملة : استوى على العرش ، ومعناه اتصافه بعز الصمدية وجلال الأحدية ، وانفراده بنعت الجبروت وعلاء الربوبية ، تقدّس الجبّار عن الأقطار ، والمعبود عن الحدود ، تفسير القشيري (٣ / ١٩١).

٢١٧

وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً) بسط أراضي قلوب أوليائه ببسط نور المحبة ، وجعل فيها رواسي المعرفة ؛ لئلا يتزلزل بغلبات هيجان المواجيد ، وأجرى فيها أنهار علوم الحقائق ، وأنبتت فيها أنواع أزهار الحكم وأشجار الفطن ، وأثمرها بثمرات المقامات والحالات بقوله : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ، وقرن بكل مقام حالا بقوله تعالى : (جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ثم يمد عليها أطلال المشاهدة ، ويطلع عليها شمس العناية بدوام الكفاية بقوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) ثم وصفها ووصف أصحاب هذه القلوب الذين هم رواسي الأرضين ، وأنفاسهم أعمدة السماوات ، ورؤيتهم مشكاة أنوار الايات إنهم علامات شمائله وسرج مشكاة قدرته لأهل التفكر في الإرادة والتذكر في المحبة بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

قال بعضهم : هو الذي بسط الأرض وجعل فيها أوتادا من أوليائه وسادة من عبيده فإليهم الملجأ وبهم الغياث ، فمن ضرب في الأرض بقصدهم فاز ونجا ، ومن كان سعيه لغيهم خاب.

قال الجريري : كان في جوار الجنيد إنسان مصاب في خربة ، فلمّا مات الجنيد وحملنا جنازته حضر الجنازة ، فلما رجعنا بقدم خطوات وعلا موضعا عليّا من الأرض واستقبلني بوجهه ، وقال : يا أبا محمد تراني أرجع إلى تلك الخربة ، وقد فقدت ذلك السيد ثم أنشد بقوله :

وا أسفي من فراق قوم

هم المصابيح والحصون

والأسد والمزن والرّواسي

والخير والأمن والسّكون

لم تتغير لنا الليالي

حتى طوّقهم المنون

فكلّ جمر لنا قلوب

وكلّ ماء لنا عيون

قال بعضهم : الفكرة تصفية القلوب لموارد الفوائد.

قال أبو عثمان : الفكرة استرواح القلب من وساوس التدبير.

ثم وصف أراضي القلوب وما فيها من أشكال العيوب بقوله : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) قلوب المحبين متجاورات لقلوب المشتاقين ، وقلوب المشتاقين متجاورات قلوب العاشقين ، وقلوب العاشقين متجاورات قلوب الوالهين ، وقلوب الوالهين متجاورات قلوب الهائمين ، وقلوب الهائمين متجاورات قلوب العارفين ، وقلوب العارفين متجاورات قلوب الموحدين ، وفي أرض قلوب العارفين قطع متجاورات قطع النفوس الأمّارة متجاورات بعضها بعضا ، وقطع العقول متجاورات بعضها بعضا ، وقطع الأرواح

٢١٨

متجاورات بعضها بعضا ، وقطع الأسرار متجاورات بعضها بعضا ؛ فقطع النفوس مالحة ملحها الهوى ، وقطع العقول عذبة بعذب العلم ، وقطع الأرواح طيبة بطيب المعرفة ، وقطع الأسرار لطيفة بلطف الأنوار متقاربة بعضها بعضا ؛ فقطعة النفوس تنبت شوك الشهوات ، وقطعة العقول تنبت نورة العلوم ، وقطعة الأرواح تنبت زهر المعارف ، وقطعة الأسرار تنبت كواشف الأنوار (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ) العشق يسكر منها الأرواح ، وفيها زرع دقائق المعرفة تأكل من حبها العقول ؛ فترى بها أنواع المعاملات ، وفيها يحيل الإيمان ثمرها الإيقان يأكل منها أطيار الأسرار.

قال الله تعالى : (صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) إيمان مع يقين وعرفان من غير علة الاستدلال ، ورؤية الايات سقي هذه البساتين من زلال قاموس الكبرياء لقوله : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) أصل سقيها من عيون الإلوهية بوصف تجليها ، وهو واحد منزه عن الأكوان والتغاير لسقيها من سواقي الصفات في جداول الأفعال ، فلما وصل مياه التجلي ، وأنوار الصفة إلى عالم الفعل ، يورث كل صفة الفعل نوعا من هذه الأشجار والأزهار ، ففرع الفعل يتلون بألوان الأحوال ، وإن كان أصل منزها عن العلل وتغاير الحدثان ، وبعض المقام أشرف من بعض لقوله : (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) ورد المعرفة أنور من نرجس المحبة ، ونرجس المحبة من ياسمين الإرادة ، وثمر المشاهدة أطيب من ثمرة المراقبة ، وهذه الإشارات من الله سبحانه لا يعرفها إلا العالمون بالله بعقول صافية من الأكدار ، وقلوب حاضرة مشغولة بالله عن الأغيار لقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فالعقل ربق الربوبية في مواطن الفطنة والفطرة يزم بها الحق قلوب الخلق ويجريها إلى العبودية لوجدان المعرفة والقربة ؛ فمن وافق حاله مع الله في معرفته حال واحد من أوليائه ؛ فهما من أصل واحد من غير تباين وتفرق.

كما روى جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعلي رضي الله عنه : «الناس من شجر شتى ، وأنا وأنت من شجرة واحدة» ، ثم قرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ...) حتى بلغ : (... يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ).

وقال الحسن البصري : هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم كانت الأرض في يد الرحمن طينة واحدة فسطحها وبطحها ؛ فصارت الأرض قطعا متجاورة ؛ فينزل عليها الماء من السماء فيخرج هذه زهرتها وثمرتها وشجرها ، ويخرج نباتها ويحي موتاه ، ويخرج هذه شجرها وملحها وخبثها وكلتاهما يسقى بماء واحد ؛ فلو كان الماء ملحا ، قيل : إنما هذه من قبل الماء

٢١٩

كذلك الناس خلقوا من آدم عليه‌السلام فتنزل عليهم من السماء تذكرة ؛ فترق قلوبهم فتخشع وتخضع ، وتقسوا قلوب وتلهوا وتسهوا وتجفوا.

عن الجنيد قال : خلق الله الخلق وأظهر آثارها وأحي منبتها متحرفة إلى كل فج عميق وبلد سحيق ، وجعلها قطعا متجاورات ، قيعانا متقاربات ، وألوانا متشابهات ، جميعها في النظر وفرقها في المواطن ؛ فسقاها بماء واحد وفضل بعضها على بعض في الأكل ؛ فجلّ ربنا ـ عزوجل ـ من قادر قاهر ، جعل ذلك سببا إلى معرفته ودلالة لربوبيته.

قال الواسطي في قوله : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) لم يتلون الإرادات ، وتلونت المرادات كما تلونت الأشجار والثمار ، ولم يتلون المياه التي سبقت الأشياء المختلفات ، كذلك العلم بالأشياء لا يتلون ، وتتلون المعلومات ؛ فمن قال : كيف فهو؟ لضيق القدرة عنده وعلل تكوين الحدثات لعلة إثبات الربوبية وامتدادها ، ولئلا يسبق إلى الأوهام شيئا من الكون بغير إرادته ، فأراد الموت والحياة والظلمة والضياء ـ لم يتلون الإرادة ، كذلك ما أراد من الكفر والإيمان ، قال الله : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) الاية.

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «العاقل من عقل عن الله أمره» (١).

وقال الواسطي : العقل ما عقلك عن المجازي.

ثم بيّن سبحانه إنما وصف من ذكر آلائه ونعمائه وصنعائه ومصنوعاته لا ينفع بمن لا سعادة سابقة له مساعده ، ولا ينفتح له عين غير العقل ، بحيث يعجب المخاطب الكريم إنكارهم بقوله : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ) من غاية استغراقه في بحر الكمال التوحيد ، وغلبة صدق الرسالة عليه‌السلام يعجب ممن لا يعرفه بالصدق في رسالته ، حيث أطلع من جماله وشمائله شمس آيات القدم ونور قمر الكرم ، وأي شيء أعجب من ذلك أن من له عقل ونظر لا يبصر فيه شواهد الملكوت وأنوار الجبروت ، إذ الجمادات نطقت بصدق رسالته ؛ فتسلاه الحق سبحانه بقوله : (فَعَجَبٌ) أي : عجب من ذلك العجب أن من يظهر في نفسه آيات الله في كل لمحة ألف مرة ولم يرها بعين البصيرة ويموت ويحي في كل ساعة ألف مرة ، ولا يعرف وجوده من عدم ، ولا عدمه من وجوده ؛ فإن عند كل نفسين للإنسان موتا وحياة فعند صعود النفس له موت ، وعند دخول النفس في جوفه من طريق الحس حياة ؛ ولكن ليس من الحق عجب ؛ فإنه تعالى يضل به من يشاء ويهدي من يشاء ؛ فإذا ذهب العجب إذ ليس شيء منه عجب.

__________________

(١) رواه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (٨ / ٣٧٠) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٤ / ١٦٦).

٢٢٠