تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٤٤

١
٢

سورة النور

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١))

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١)) أنزل الله القرآن من سماء القدم على سيد أهل الكرم ، وجعله سرجا أسرجها من نوار الذات في مشكاة الآيات لألباء الحقيقة ، وأدلاء الطريقة لينوروا بأنوارها طرق المعارف ، وسبل الكواشف ، وأوجب ما فيها من أحكام العبودية على العباد ، وأنزل في هذه السورة آيات دالة على أسرار القدوسية ، وأنوار السبوحية بينات واضحات لأولي النهي من العارفين ، وأهل الفطنة من الموقنين ليتعظ بمواعظها المريدون ، ويقتبس أنوارها العارفون ، ويدرك حقائقها الموحدون.

قال سهل : جمعناها وبيناها حلالها وحرامها.

وقال بعضهم : لو لم يكن من آيات هذه السورة إلا براءة الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله لكان كثيرا ؛ فكيف وقد جمعت من الأحكام والبراهين ما لم يجمعه غيرها؟

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩))

قوله تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ) أي : إن كنتم تشاهدون عظمتي وجلالي ؛ فلا تداهنوا في ديني ، وكونوا موافقين لأمري حيث أؤاخذ أحدا بقهري فلا تلاطفوهم في حدّ من حدودي.

٣

قال بعضهم : إن كنتم من أهل مودتي ، ومحبتي فخالفوا من خالف أمري ، أو يتركب نهيي ؛ فلا يكون محبّا من يصير على مخالفة حبيبه.

وقال الجنيد : الشفقة على المخالفين كالإعراض عن الموافقين.

وقال الواسطي : للمؤمن في كل خطوة فائدة ؛ فمن يتعظ استفاد ، ومن غفل حجب وخاب (١).

وقوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) زجرا لنفوسهم الأمارة لتتعظ برؤية عذاب الله وتنزجر عن معصية الله ، وتعرف الله قطع أنساب الخليقة من جلال الحقيقة ، فإن العبودية حقوق الربوبية.

قال أبو بكر بن طاهر : لا يشهد مواضع التأديب إلا من لا يستحق التأديب ، وهم طائفة من المؤمنين لا المؤمنون أجمع.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤))

قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (١٠) أي : لولا فضل الله لصرح بأسراركم ، ولم يستر على أحوالكم ، ولكن سبقت رحمته وتفضله لكم بأن ستر عوراتكم بحكمته البالغة ، وشريعته الجامعة ، وجعل رحمته موضع توبتكم بعد مباشرتكم مخالفته.

قال ابن عطاء : لولا فضل الله عليكم في قبول طاعتكم لخسرتم بما ضمن لكم في آخرتكم ، ولكن برحمته نجاكم من خسرانكم ، وتفضل عليكم.

(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا

__________________

(١) قال الغزالي في «الإحياء» في الحديث : «خيار أمتي أحدّاؤها» يعني : في الدين.

٤

سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩))

قوله تعالى : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) زجر المدعين الذين يتكلمون بلسان الصديقين ، ويخبرون بالتقليد عن أحوال المقربين ، ويعتقدون أن ما يقولون حالهم ، ويكذبون على الله ، ويظنون أن ذلك ليس بعظيم ، حاشا أن يقع الزور والبهتان موقع الحقائق والعرفان ، وأن يكون محالهم وبهتانهم ليس بعظيم عند الله إذ عظمة الله بقوله : (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) (١٦) (١) ثم أخبر أنه عظّمه ، فهم يصغرونه من جهلهم بغيرة الله بقوله : (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) يا ليت لو يعلم المدعي الجاهل أن الكل مع شرائف أحوالهم ، وفصاحة لسانهم في التوحيد ، واطلاع قلوبهم على مراتب الحقيقة مندرجون تحت هذه الآية التي أخبرت عن غيرته بوصف جلاله وعزة عظمته بأنه ممتنع بذاته عن مقالة كل واصف صفته ، وكل عارف بقلبه نعته ؛ إذ نعته ووصفه لا يدخلان تحت عبارة أهل الحدثان.

قال الحسين في بعض مناجاته : إلهي أنزّهك عما يقول فيك أولياؤك وأعداؤك جميعا.

وقال عبد الله بن المبارك : ما أرى هذه الآية نزلت إلا فيمن اعتاد الدعاوى العظيمة ، ويجترئ على ربه في الإخبار عن أحوال الأنبياء والأكابر ، ولا يمنعه من ذلك هيبة ربه ولا حياؤه.

وقال الترمذي : من تهاون بما يجري عليه من الدعاوي ؛ فقد صغّر ما عظّم الله إن الله سبحانه وتعالى يقول : (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) (١٥).

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١))

__________________

(١) لعظمة المبهوت عليه ، واستحالة صدقه ، فإنّ حقارة الذنوب وعظمتها باعتبار متعلقاتها ، البحر المديد (٤ / ٢٢٤).

٥

قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) بيّن أن تطهير العباد من الذنوب لا يكون إلا بفضله السابق ، وعنايته الأزلية ، كيف يزكي العلل ما يكون عللا ، فالمعلول لا يظهر المعلول ، والمعلول أفعال الحدثان على كل صنف ، ولطف القديم غير معلول له استحقاق ذهاب العلل بوصوله.

قال السياري : قال الله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) ، ولم يقل : لولا عبادتكم وصلاتكم وجهادكم ، وحسن قيامكم بأمر الله ما نجا منكم من أحد ؛ ليعلم أن العبادات ، وإن كثرت ؛ فإنها من نتائج الفضل.

(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥))

قوله تعالى : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) فيه بيان تأديب الله للشيوخ والأكابر ألا يهجروا صاحب العثرات ، وأهل الزلات من المريدين ، ويتخلقوا بخلق الله حيث يغفر الذنوب العظام ، ولا يبالي ، وأعلمهم ألا يكفوا أعطافهم عنهم ، ويخبرونهم ما وقع لهم من أحكام الغيب ؛ فإن من له استعداد لا يحتجب بعوارض البشرية عن أحكام الطريقة أبدا ، والعفو والصفح حالان شريفان ، فأما العفو الإعراض عما جرى من الزلة ، والصفح : الستر على ما يقع بعد الزلة في وقت الامتحان من المحنة ، فلا يذكر حال الماضي ، ولا يأخذ بما يأتي.

قال بعضهم : العفو هو الستر على ما مضى ، وترك التأديب فيما بقي.

وقال الجرجاني : الصفح هو الإغماض عن المكروه.

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨)

٦

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩))

قوله تعالى : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) خبائث هواجس النفوس ، ووساوس الشياطين ، ومزخرفاتها للبطالين من المرائين والمغالطين ، وهم لها وطيبات إلهام الله بوسائط الملائكة لأصحاب القلوب والأرواح ، والقول من العارفين ، وهم لها وأيضا الترهات والطامات للسالوسين ، والحقائق والدقائق من المعارف ، وشرح الكواشف للعارفين والمحبين ، وأيضا الأوصاف المذمومة للنفوس ، والأخلاق المحمودة للأرواح والقلوب.

وقال عبد العزيز المكي : الدنيا وخبائثها للخبيثين من الرجال المحبين لها ولهم تصلح الدنيا.

والمحبون للدنيا للخبيثات أي : للدنيا ولها يصلحون.

وقال : (الطَّيِّباتُ) هي الآخرة وكرامتها ، (لِلطَّيِّبِينَ) المحبين لها ولهم تصلح الآخرة ، (الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) المحبون للآخرة ، وإكرامتها ولها يصلحون.

وقال الأستاذ : (الطَّيِّباتُ) من الأعمال هي الطاعات والقرب ، (الطَّيِّباتُ) وهم المؤثرون لها المسارعون في تحصيلها ، و (الطَّيِّباتُ) من الأحوال هي تحقيق الموصلات بما هو حق الحق مجردا عنه الحظوظ ، (لِلطَّيِّبِينَ) من الرجال وهم الذين سمت هممهم عن كل مبتذل خسيس ، ولهم نفوس تسمو إلى المعاني ، وهي التحمل بالتذلل لمن له العزة.

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١))

قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) أي : يغضوا أبصار أسرارهم

٧

عن الحدثان أجمع ، وعن نفوسهم ومعاملاتهم وأحوالهم وأشخاصهم بنعت التلاشي في وجود الحق وظهور ذاته وصفاته ليكونوا بوصف ما وصف الله حبيبه عند قربه ومداناته بقوله : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) (١٧) [النجم : ١٧].

قال ابن عطاء : أبصار الرءوس عن المحارم ، وأبصار القلوب عما سواه ، وقوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) فيه استشهاد على أن لا يجوز للعارفين أن يبدوا زينة حقائق معرفتهم ، وما يكشف الله لهم من عالم الملكوت ، وأنوار الذات والصفات ، ولا المواجيد إلا ما ظهر منهم بالغلبات من الشهقات والزعقات والاصفرار والاحمرار ، وما يجري على ألسنتهم بغير اختيارهم من كلمات الشطح والإشارات المشكلة ، وهذه الأحوال أشرف زينة للعارفين.

قال بعضهم : أزين ما تزين به العبد الطاعة ، فإذا أظهرها فقد ذهبت زينتها.

وقال بعضهم : الحكمة في هذه الآية لأهل المعرفة أنه من أظهر شيئا من أفعاله إلا ما ظهر عليه من غير قصد له فيه ، فقد سقط به عن رؤية الحق ؛ لأن ما وقع عليه رؤية الخلق ساقط عن رؤية الحق ، قوله تعالى :

(وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣١) قرن التوبة بالإيمان ثم قرنهما بالفلاح ، معناه من رجع إلى الله من نفسه والأكوان وشاهد مشاهد الربوبية فاز من عذاب الفرقة ، وظهر بالمشاهدة والوصلة.

قال الواسطي : التوبة عدم المألوفات أجمع.

قال يوسف : من طلب الفلاح والسلامة والنجاة والاستقامة ؛ فليطلبه في تصحيح توبته ودوام تضرعه وإنابته ؛ فإن تصحيح التوبة تحقيق الإيمان والوصول إلى حقيقة المعرفة قال الله : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً) ، وقد وقع لي هنا إشارة لطيفة أن الله سبحانه طالب المؤمنين جميعا بالتوبة ، ومن آمن بالله ، وترك الشرك ؛ فقد تاب وصح توبته ورجوعه إلى الله ، وإن خطر عليه خاطر أو جرى عليه معصية ؛ فهو في حيز التوبة ، فإن المؤمن إذا جرى عليه معصية ضاق صدره واهتم قلبه ، وقدم روحه ورجع سره ، هذا لعموم والإشارة في الخصوص أن الجميع محجوبون أصل النكرة ، وما وجدوا به من القربة ، وسكنوا بمقاماتهم ومشاهداتهم ومعرفتهم وتوحيدهم أي : أنتم بعد في حجاب هذه المقامات توبوا منها إليّ فإن رؤيتها أعظم الشرك في المعرفة ؛ لأن من ظن أنه واصل ، وليس له حاصل من معرفة وجوده وكنه جلال عزته ؛ فمن هذا وجب التوبة عليهم في جميع الأنفاس ؛ لذلك هجم حبيب الله في

٨

بحر الفناء ، وقال : «إنه ليغان على قلبي ، وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة» (١).

وسمعت أن الخضروية قال لأبي يزيد : أريد أن أتوب ولا أقدر ، فقال : ويحك العزة لله وأنت تطلب العزة ويا فهم أن عقيب كل توبة توبة ، حتى تتوب من التوبة ، وتقع في بحر الفناء من غلبة رؤية القدم والبقاء.

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢))

قوله تعالى : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) فضله هاهنا معرفته ، ومعرفته الخروج من نعت الفقر والغنى ؛ لأنهما علتان موجبتان الشغل عن الله ، والعزيز في المعرفة من غنى بالله ، وبالاتصاف بصفته ، والاتحاد بنعت المعرفة بذاته تعالى عن كل علة ؛ فإن موارد شرائع جود مشاهدته مصاهر كل وارد بنعت الفناء في لقائه.

قال بعضهم : من صحّ افتقاره إلى الله صح استغناؤه بالله.

(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤))

قوله تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) الخير هاهنا : التوحيد والمعرفة والتوكل والرضا والقناعة ، وصدق العمل والوفاء بالعهد والإشارة فيه أن الشيوخ إذا رأوا مريدا بهذه المثابة جاز لهم أن يجوزه له الخلوة والانفراد والإسفار والاستقلال بنفسه.

وقال الجنيد في قوله : (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) : علما بالحق وعملا به.

وقال بعضهم : محبة لأهل الصلاح وميل إليهم.

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ

__________________

(١) رواه البخاري (٥٩٤٨) ، ومسلم (٢٧٠١).

٩

وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢))

قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ) إن الله سبحانه أوجد الكون من العرش إلى الثرى بالكاف والنون وكان بين الكاف والنون مظلما بظلمة العدم محجوبا عن نور القدم ؛ لأنه معلولة بعلة الحدث ، ولم ينكشف الكون هناك نور الكاف ، والنون فبقي كمشكاة بلا سراج ، فجعل الكاف قنديلا ، والنون فتيلة ، وجعل في القنديل دهن زيت فعله الخاص ، وأبقاه بهيئته ما شاء ثم أسرج القنديل عند ظهور أنوار صفاته بنور الصفة ، فأضاء الكون بنور الصفة ، ثم وضع القنديل في زجاجة فعله العلم ، ووضع زجاجة الفعل في الكون ، ثم نوّر الكون بعد تنويره بنور الصفات بأنوار الذات حتى يكون الكون كمشكاة منورة بمصباح الصفة التي معدنها الذات ؛ فأضاء نور الذات في الصفة ، وأضاء نور الصفة في نور فعله الخاص ، وأضاء نور فعله الخاص في قنديل الكاف والنون ، وأضاء نور الكاف والنون زجاجة فعله العام ، وأضاء نور فعله العام في مشكاة الكون ؛ فإذا رأيت المشكاة رأيت نور الكاف والنون ، وإذا رأيت نور الكاف والنون رأيت نور فعله الخاص الذي هو غني بقوله : (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) مباركة إذ هي أصلها مصدر الصفة التي أصلها الذات المنزه عن البداية والنهاية : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) لا من شرق ظهور الكون من العدم ، ولا من غرب عدم الكون عند القدم : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) قبل أن يصل إليه نور الصفات ؛ لأنها صدرت من الصفات ، فوصل نور الصفات إلى نور الفعل الخاص ، وصار نورا كقوله : (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى

١٠

نُورُ) ، وإذا رأيت نور هذه الشجرة رأيت نور الصفة ، وإذا رأيت نور الصفة رأيت نور الذات ، وإذا رأيت نور الذات رأيت عين العين ، وإذا رأيت الصفات رأيت العين ، وإذا رأيت الفعل رأيت عين الجمع ، وإذا رأيت عين الجمع رأيت الكون مرآة الفعل يظهر منها أنوار الذات والصفات لمن له استعداد النظر إلى مشاهدة القدم بنعت الاصطفائية الأزلية (١) ، وذلك قوله سبحانه وتعالى :

(يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) حتى تعرف بهذا المثال ظهور نعوت القدم في مرآة الكون لأهل الكرم من العارفين ، قال الله : (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) وهو باختصاصهم عليهم بقوله : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣٥) عليم بكلّ مثل وعبر وبرهان وسلطان.

وأيضا فيه إشارة أخرى في قوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أراد بالسماوات والأرض صورة المؤمن رأسه السماوات وبدنه الأرض ، وهو بجلاله وقدره نور هذه السماوات والأرض ، إذ زين الرأس بنور السمع والبصر والشم والذوق والبيان في اللسان ؛ فنور العين كنور الشمس والقمر ، ونور الأذنين كنور الزهرة والمشتري ، ونور الفم والأنف كنور المريخ وزحل ونور اللسان كنور العطارد ، وهذه السيارات النيرات تسري في بروج الرأس ، ونور أرض البدن الجوارح والأعضاء والعضلات واللحم والدم والشعرات وعظامها الجبال ، وترى أنور الله لهذه السماوات والأرضين منورة بنور فعله ، وفعله منّور بنور أسمائه ، وأسماؤه منورة بنور صفاته ، ونور صفاته منور بنور ذاته ، وذاته نور الكل إذا الكل قائم بذاته ، فنور ذاته ونور صفاته لا يضاهى الأنوار ؛ لأن نوره منزه عن المشابهة بالأنوار ؛ فمن نوره الشجر والثمر ، ومن نوره الصدف والجوهر ، ومن نوره الذهب والفضة ، ومن نوره الدر والياقوت ، ومن نوره العرش والكرسي والجنة وما فيها ، ومن نوره السماوات

__________________

(١) قال المصنف : وذلك النّور في مشكاة القلب ، ولهو مصباح يزيد نوره بدهن العقل في قنديل الفؤاد ، يتلألأ من صورة الإنسان ، ويبرز منها أنوار الربوبية ، وذلك الدّهن لا من شرق ملكوت الأرض ، ولا من غرب ملكوت السماء ، إنما هو يخرج من برق سنا شجرة قدس القدم ، يكاد أن يضيء بنفسه قبل تجلي القدم ؛ لأنه نور صدر من الفعل الخاص ، ولو لم تمسسه نيران أنوار الكبرياء ، لكن غلب نور القدم على نور الحدث ، نور على نور وما وهب الحق ذلك النور إلا من اصطفاه الله بما اصطفى آدم ونوحا وموسى وعيسى وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وزكريا ويحيى ومحمدا ـ صلى الله عليهم أجمعين ـ يهدي الله لنوره من يشاء. فبان لك بهذا البيان الشافي سبب وجود الإنسان ، وشرفه على جميع البرية. انظر : تقسيم الخواطر : (ص ١٢١) تحت الطبع بتحقيقنا.

١١

والأرض ، ومن نوره الأرواح والأشباح ، ومن نوره العقل والقلوب ، ومن نوره تنورت هذه النيرات ، وأضاءت هذه الآيات نور قدرته زينها بالتركيب ، ونور علمه نوّرها بالانتظام ، ونور سمعه نوّرها بالقيام ، ونور بصره زينها بأنوار العجائب ، ونور إرادته زينها بالارتسام والبقاء ، ونور كلامه زينها بالنماء والبركات ، ونور حياته زينها بالحياة ، ونور قدمه زينها بغرائب الألطاف ، ونور بقائه زينها بالأرواح الفعلية والقدسية الفطرية ، ونور ذاته زينها بالوجود سبحانه المنزه بجلاله أوجد الكون بنور القدم وأنوره عن ظلمة العدم.

(مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) صدر العارف كوة فعله ومشكاة أمره ، وروح العارف قنديل قدرته ، وفتيلة قنديله عقله الغريزي ، وفطرته الفعلي ، واستعداده الروحاني ، ودهنه المعرفة ، وقلبه زجاجة المشيئة ، ومصباحه أنوار الصفة القديمة المنزهة عن مباشرة الأكوان والحدثان والحلول في الزمان والمكان ، أسرج بمصباح صفاته قنديل الروح وفتيلة العقل ، وزاد نور المصباح من نور الذات ؛ إذ الذات والصفات مكشوفان لها في جميع الأوقات بنعت السرمدية ، ولو امتنع أنوارها عنها انطفأ مصباحها ، ولم يكن ناظرة إلى الغيب ، وأمد المصباح بدهن معرفته ذلك ، وتلك الشجرة المباركة منابتها العقل الملكوتي ، وصباغها الحكمة الجبروتية ، وهي في جميع الأنفاس على مقابلة شمس الألوهية لا يقع عليها ظلال غدوة شرق القدم ، ولا ظلال عشية غرب الفناء في أرض مشرق المشاهدة منورة بجمال شمس القدم والبقاء ؛ لذلك نفى علة الحجاب بالحدثان بقوله : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) ، وتلك المعرفة التي هي الشجرة المباركة يكاد دهن نورها يضيء بنور الفعل.

قيل : إن يصل إليها نور الصفة ، قال تعالى : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) ، فلما وصل نور الصفة إلى نور المعرفة والعقل الملكوتي ، ونور الفعل يضيء بنور الله ، وببصر الله بالله لا بغير الله ؛ قال الله تعالى : (نُورٌ عَلى نُورٍ) مثل نور صفاته بالمصباح ، وشبّه الروح بالقنديل ، وشبّه القلب بالمشكاة ؛ لأن الروح في القلب والنور في الروح ، والمعرفة دهن قنديل الروح ، وتلك الكوة هي القلب ، والقلب في الصدر لا منفذ إليها لرياح القهر والشقاوة ، إذ القلب في أصبع الصفة يقلبها كيف يشاء ، والروح في يمين القدرة.

قال عليه‌السلام : «القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن ، يقلبهما كيف يشاء» (١).

وقال : «الأرواح في يمين الرحمن» (٢) ؛ فكيف ينطفئ هذا المصباح الذي نوره من نور

__________________

(١) رواه مسلم (٢٦٥٤) ، وابن حبان (٣ / ١٨٤) ، والحاكم في «المستدرك» (١ / ٧٠٦).

(٢) ذكره المصنف في مشرب الأرواح له (ص ١٤).

١٢

الأزل ، وضياؤه من ضياء الأبد؟

ثم وصف الروح ، وشبّه الزجاجة قنديلها في مشكاة القلب بالكوكب الدري الذي قال تعالى : (كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) إذ هي انقدحت من درر الجلال والجمال ، وأعلمنا أن ذلك المصباح في تلك الزجاجة لا ينطفئ أبدا ؛ لأن المصباح إذا كان في تحت زجاجة لا تؤثر فيه الرياح لعواصف إذ لا سبيل إلى نور المشاهدة في نور المعرفة والعقل ، ولا يزول بتغاير الحدثان ، ولا بالزلة والعصيان ، فهذان النوران ينفدان في روازن أبراج الدماغ فينوران تلك السيارات المذكورة ، ويتلألأن من مرآة سماء وجه العارف.

ألا ترى كيف قال أبو يزيد ـ قدس الله روحه : يظهر نور الصمدية من بشرة وجه العارف ، ومن هاهنا قال الحكماء : الأول صياحة الوجود من عكس الروح الناطقة هذا يفهم مما سنح لقلبي في إشارة الآية ما يوافق أقوال أئمتي وشيوخي.

قال ابن عطاء : زين الله السماوات باثني عشر برجا ، وهي : الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت ، وزين قلوب المؤمنين باثني عشرة خصلة الذهن والانتباه والشرح والعقل والمعرفة واليقين والفهم والبصيرة وحياة القلب والرجاء والخوف والحياء ، فما دامت هذه البروج قائمة يكون العالم على النظام والسعة ، وكذلك ما دامت هذه الخصال في قلب العارف يكون فيه نور العارف ، وحلاوة العبادة.

وقال ابن مسعود : مثل نور المؤمن كمشكاة في كوة ، وهي التي لا منفذ لها أشار إلى صدر المؤمن (فِيها مِصْباحٌ) ، وهو نور قلب المؤمن ، و (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) ، والزجاجة سر المؤمن.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله أوان فأحبها إليه ما صفا ورق» (١) ، (كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ).

قال ابن عطاء : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) : لا قرب فيها ولا بعد فيها ؛ فالله من البعد قريب ومن القرب بعيد.

قال الواسطي : لا دنيائية ولا آخرة جذبها الله إلى قربه ، وأكرمها بضيائها ، (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) يكاد ضياء روحها يتوقد ، (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) أي : ولو لم يدعه نبي ، ولا يسمع كتابا (نُورٌ عَلى نُورٍ) نور الهداية وافق نور الروح ، (اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) اجتهاد

__________________

(١) لم أقف عليه.

١٣

المجتهدين ، وطلب الطالبين ، وهرب الهاربين.

وقال الجنيد : لا هي مائلة إلى الدنيا ، ولا راغبة في الآخرة ، ولكنها فانية الحظ من الأكوان.

قال أبو علي الجوزجاني : في قوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بدأ بالنور والنور البيان ، فالله نور السماوات ، ومن نور اليقين سراج يضيئ في قلب المؤمن كما قال الله : (مَثَلُ نُورِهِ) يضيئ في قلب المؤمن ؛ لأن قلب المؤمن منور بالإيمان ، فنور قلبه من نور الله بيانا مبينا ؛ فهو ينظر بنور ربه إلى جميع ملكه ، فيرى فيها بدائع صنعه ، ويرى بنور المعرفة قدرة الله وسلطانه وأمره وملكه فيفتح له ذلك النور علم ما في السماوات السبع وما في الأرضين علما يقينا ، فيخضع له الملك ، ومن نبّه فيجب به كل شيء على ما يحب ويهوى مثل ذلك النور (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ) ، فنفس المؤمن بيت ، وقلبه مثل قنديل ، ومعرفته مثل السراج ، وفوه مثل الكوة ، ولسانه مثل باب الكوة والقنديل معلق بباب الكوة إذا افتتح اللسان بما في القلب من الذكر استضاء المصباح من كونه إلى العرش ، فالزجاجة هي التوفيق ، وفتيلتها من الزهد ، ودهنها من الرضا ، وعلائقها من العقل ، وهو قوله : (نُورٌ عَلى نُورٍ).

وقال جعفر بن محمد : الأنوار تختلف أولها نور حفظ القلب ، ثم نور الخوف ، ثم نور الرجاء ، ثم نور الحب ، ثم نور التفكر ، ثم نور اليقين ، ثم نور التذكر ، ثم النظر بنور العلم ، ثم نور الحياء ، ثم نور حلاوة الإيمان ، ثم نور الإسلام ، ثم نور الإحسان ، ثم نور النعماء ، ثم نور الفضل ، ثم نور الآلاء ، ثم نور الكرم ، ثم نور العطف ، ثم نور القلب ، ثم نور الإحاطة ، ثم نور الهيبة ثم نور الحيرة ، ثم نور الحياة ثم نور الأنس ، ثم نور الاستقامة ، ثم نور الاستكانة ، ثم نور الطمأنينة ثم نور العظمة ، ثم نور الجلال ، ثم نور القدوة ، ثم نور الحول ، ثم نور القوة ، ثم نور الألوهية ، ثم نور الوحدانية ، ثم نور الفردانية ، ثم نور الأبدية ، ثم نور السرمدية ، ثم نور الديمومية ، ثم نور الأزلية ، ثم نور البقائية ، ثم نور الكلية ، ثم نور الهوية ، ولكل واحد من هذه الأنوار أهل وله حال ومحل كلها من أنوار الحق التي ذكر الله في قوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، ولكل عبد من عبيده مشرب من نور هذه الأنوار ، وربما كان حظه من نورين ومن ثلاث ، ولا يتم هذه الأنوار لأحد إلا للمصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فإنه القائم مع الله بشروط تصحيح العبودية والمحبة فهو نور ، وهو من ربه على نور.

قال بعضهم : (نُورُ السَّماواتِ) الملائكة ونور الأرض الأولياء.

١٤

وقيل في قوله : (نُورٌ عَلى نُورٍ) : نور المشاهدة يغلب نور المتابعة ، وقيل : نور الجمع يعلو أنوار التفرقة ، وقيل : نور الروح يهدي إلى السر شعاع الفردانية ، ونور السر يهدي إلى القلب ضياء الوحدانية ، ونور القلب يهدي إلى الصدر حقيقة الإيمان ، ونور السر يهدي إلى الصدر آداب الإسلام ؛ فإذا جاء نور الحقيقة غلب هذه الأنوار ، وأفرد العارف عنها وأفناه فيها ، وحصله في محل البقاء مع الحق متسما بسمته مترسما برسمه لا يكون للحدث عليها أثر بحال ؛ لأن محل أنوار الأحوال هو القيام معها ورؤيتها ، والسكون إليها ، فإذا جاء نور الحقيقة أفناه عن الحظوظ والمشاهدات ، وإذا غلب نور الحق خمدت الأنوار لها ، وصارت الأحوال دهشا في فناء ، وفناء في دهش ؛ فهو بحصول اسم ورسم ، وذهاب الحقيقة في عين الحق (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) يخص الله بهذه الأنوار من سبقت له المشيئة فيه بالخصوصية ، (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ).

قال : العقلاء الألباء الذين خصوا بالفهم عنه ، والرجوع إليه ، (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) في أن الذي خصهم بهذه الأنوار والمراتب من غير سابقة لا يتقرب إليه إلا بفضله وكرمه دون عدّ التسبيح والصلاة عليه (١).

وقال الحسين في قوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : منور قلوبكم حتى عرفتم ووجدتم ، وختم بقوله : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) فكان أول ابتدائه (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : مبتدأ النعم ومنبعها والآخر خاتمته ، فالأول فضل ، والآخر مشيئة ؛ فهو المجتبي لأوليائه الهادي لأصفيائه.

__________________

(١) قال المصنف : فالإنسان من حيث المناسبة الروحانية والقوة الملكية يقبل الوحي من الغيب ، ومن حيث المناسبة البشرية يلقى الوحي إليهم ، وهم يواسون الخلق ويربونهم بواضحات الشرع ، وهم بالإضافة إلى الناس كالناس إلى الحيوانات ، وهم في الناس كالشموس والأقمار في سائر الكواكب ، وكما أن نور القمر عكس نور الشمس ، فإن نور الناس من أنوار الأولياء والأنبياء ، وإن نور العقل وإن كان منورا لا يتم إلا بنور الشرع والعقل كالبصر ، والشرع كالنور ، ولا يتم البصر إلا بالنور ، قال الله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) [الأنعام : ١٠٤] ، ولولا العقل ما جاء الشرع ، ولولا الإنسان لم يأت العقل ، والشرع من الحضرة والإنسان بالحقيقة من له عقل وعلم ويعرف الشرع ويستدين به حتى يكون كاملا في الجمال الظاهر والباطن ؛ لأن العقل نور الباطن والشرع نور الظاهر ، قال تعالى : (نُورٌ عَلى نُورٍ) ، والنور الثالث معرفة الله التي هي مستفادة من تعريفه إياهم ، وإشهادهم مشاهدة ذاته وصفاته وهو مقام النبوة والولاية والمخصوصية ، من اصطفاه الله في الأزل به ، قال تعالى : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ١٠٥] ، وقال : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ).

١٥

قال الحسين : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : هو نور النور ، يهدي من يشاء بنوره إلى قدرته وبقدرته إلى غيبه ، وبغيبه إلى قدمه وبقدمه إلى أزله وأبده ، وبأزله وأبده إلى وحدانيته لا إله إلا هو المشهود شأنه بقدرته ، تقدس وتعالى يزيد من يشاء علما بتوحيده ووحدانيته وتنزيهه وإجلال مقامه وتعظيم ربوبيته.

وقال الواسطي : إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد نوّرها بصفاته وخاطبها بذاته فاستضاءت واستنارت بنور قدسه ؛ فأخبر عنها بقوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ؛ لأنه منور الأرواح بكمال نوره.

قال الخراز : من خلقه من نوره ثم أخرجه بنوره ثم أعاده في أكبر كبريائه من نور إذا تجلى له لم يحترق ؛ لأنه يكون هو نورا من نوره على نوره في نوره.

قال الله تعالى : (نُورٌ عَلى نُورٍ).

قال الحسين : في الرأس نور الوحي ، وفي العينين نور المناجاة ، وفي السمع نور اليقين ، وفي اللسان نور البيان ، وفي الصدر نور الإيمان ، وفي الطبائع نور التسبيح فإذا التهب شيء من هذه الأنوار غلب على النور الآخر فأدخله في سلطانه ، فإذا سكن عاد سلطان ذلك النور أوفر وأتم مما كان ، فإذا التهبوا جميعا صار نورا على نور (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ).

قال الأستاذ : في قوله : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) : كذلك هممهم لا تسكن شرقيّا ، ولا غربيّا ، ولا علويّا ، ولا سفليّا ، ولا جنيّا ، ولا إنسيّا ، ولا عرشيّا ، ولا كرسيّا ، شطحت عن الأكوان ، ولم تجد له سبيلا إلى الحقيقة ؛ لأن الحق منزه عن اللحوق والدرك ، فبقيت عن الخلق منفصلة ، وبالحق غير متصلة ، ويقال : نور المطالبة يحصل في القلب بدءا فيحمل صاحبه على المحاسبة ؛ فإذا نظر في ديوانه ، وما أسلفه من عصيانه يحصل نور المعاينة فيعود على نفسه باللائمة ، ويتجرع كاسات ندمه فيرتقي عن هذا باستدامة قصده ، والتنقي عما كان عليه في أوقات فترته ، فإذا استقام فيه كوشف بنور المراقبة فيعلم دائما أنه سبحانه مطلع عليه ، وبعد هذا نور المحاصرة ، وهو لوائح تبدو في السرائر ، ثم بعد ذلك نور المكاشفة ، وذلك بتجلي الصفات ، ثم بعده أنوار المشاهدة ؛ فيصير ليله نهارا ، ونجومه أقمارا ، وأقماره بدورا ، وبدوره شموسا ، ليس في سماء أسرارهم سحاب ، ولا في هوائها ضباب ، ثم بعد هذا أنوار التوحيد ، وعند ذلك يتحقق التجريد بخصائص التفريد ثم ما لا يتناوله عبارة ولا يدركه إشارة في البيان عند ذلك خرس ، والشواهد طمس ، وشهود الغير عند ذلك محال ؛ فعند ذلك (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) (٢) [التكوير : ١ ، ٢] ، (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) (٤) [التكوير : ٤] (إِذَا

١٦

السَّماءُ انْشَقَّتْ (١)) [الانشقاق : ١] (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١)) [الانفطار : ١] ، هذه كلها أقسام الكون ، وما من العدم لهم صار إلى العدم القائم عنهم غيرهم ، والكائن عنهم سواهم جلت الأحدية ، وعزت الصمدية ، وتقدست الديمومية ، وتنزهت الألوهية.

ثم بيّن سبحانه أن ذلك المصباح والمشكاة في بيت صورة العبد العارف ، وذلك البيت صدره يتنور بنور الله ، ونور قربه ليبصر سواكنه بنوره ما ينفتح فيه من أنوار ملكوته وجبروته بقوله : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) أن يرفع همها إلى مشاهدة الذات ، وصرف الصفات ، ولا ينزل على غيره من الآيات والكرامات والعقل ، يذكر اسم الله هناك ، والقلب يذكر وصفه ، والروح يذكر ذاته وصفاته تعالى ، وأيضا ترفع الأسرار بنعت الاشتياق حوائج الوصال إليه بنعت المداناة والمناجاة.

وقال بعضهم : ترفع الحوائج من القلوب ، وتشغل القلوب بالذكر ؛ فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول حاكيّا عن ربه : «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين» (١).

ويقال : «القلوب بيوت المعرفة ، والأرواح مشاهد المحبة ، والأسرار محال المشاهدة».

ثم وصف سبحانه أهل خالصة تلك البيوت بشهود الحضرة والمراقبة في القربة بنعت التجريد عن غير المشاهدة بقوله : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) وصف الله العارفين بالرجولية حين أقبلوا عليه بأسرار طاهرة عن الحدثان ، وبسرهم في صحاري الآزال والآباد بالأرواح القدسية والعقول الملكوتية بين سباع القهر وحيات الامتحان ، وآساد الغيرة لا تشغلهم المستحسنات والمستقبحات عن بلوغهم إلى معالي الدرجات في رؤية الذات والصفات ، ومثالهم كالبحار لا تتغير بالجيف كذلك أحوالهم تجري عليهم أحكام الكونين بنعت المباشرة والمعاملة ، ولا تتغير أسرارهم عن شهود الوصال والنظر إلى الجمال.

قال ابن عطاء : هم خزائن الودائع ومواضع الأسرار.

قال النصرآبادي : أسقط عنهم المكون ذكر المكونات ، فلا تشغلهم الأسباب عن المسبب بحال.

قال جعفر : هم الرجال من بين الرجال على الحقيقة ؛ لأن الله حفظ سرائرهم عن الرجوع إلى ما سواه ، وملاحظة غيره فلا تشغلهم تجارات الدنيا ونعمتها وزهراتها والآخرة ،

__________________

(١) رواه البيهقي في «شعب الإيمان» (٢ / ١٣٩) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (٧ / ٤٠) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (٧ / ٣١٣).

١٧

وثوابها عن الله ؛ لأنهم في بساتين الأنس ، ورياض الذكر ، قال الله : (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) [النور : ٣٧].

قال بعضهم : أسقط الله اسم الرجولية عن الغافل إلا من عامل الله على المشاهدة ، ولم يؤثر عليه الأكوان ؛ فقال : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ.)

قال بعضهم : من أسقط عن سره ذكر ما لم يكن لكان سمي رجلا حقيقة ، ومن شغله عن ربه من ذلك شيء ، فليس هو من الرجال المتحققين.

ثم زاد سبحانه في وصفهم بالخوف الدائم ، والوجل القائم من صرف القلوب والأبصار من مشاهدة الجبّار بقوله : (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) (٣٧) يفزعون من يوم الشهود حيث تتقلب القلوب عن مشاهدة صرف القدم في الجنان والأبصار في النظر إلى الحور والغلمان والروح والريحان ، وأيضا يخافون من مقلب القلوب في أنوار الصفات ، والأبصار في أنوار الذات لئلا يقف في منازل الشهود ومشاهد الحقيقة ، وينقطع عن السير في ألوهية الأولية ، والسرمدية الأبدية ، بل يطمعون أن يبقوا بحسن المعرفة ، وكمال الأدب في زمان العبودية مع مشاهدة الأبد بنعت الدنو ، ودنو الدنو ، وكشف ما كان مكتوما عنهم بقوله : (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) ذلك الرزق كشف جمال القدم بغير حجاب.

قال النصرآبادي : النفوس في التنقيل ، والقلوب في التقليب.

وقال الحسين : خلق الله القلوب والأبصار على التقليب ، وجعل عليها أغطية وستورا وأكنة وأقفالا ، فتهتك الستور بالأنوار ، وترفع الحجب بالذكر ، وتفتح الأقفال بالقرب.

وقال الحسين : إذا علمت أنه مقلب القلوب والأبصار ؛ فليكن شغلك في النظر إلى أفعاله فيك ، وتوقى الخلاف والغفلة.

ثم وصف سبحانه أهل الغرة به الذين معولهم على الرسوم ، وما عملوا من المعاملات على رؤية النفس والخلق بقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) أي : إن الذين نسوا عهد الله الأزلي الذي أوجب عليه فيه الإقبال عليه بالكلية من الكون ، وباشروا صورة العمل رياء وسمعة ، شبّه أعمالهم بسراب القيعان ؛ لأنهم في الرياء والشرك من أهل الخسران والحرمان ، فإذا احتاجوا إلى جزاء الأعمال ، وهم في حسبانه لم يجدوا في الحضرة شيئا من وصول المراد حيث جازى الله أصفياءه بأعمالهم التي وقعت على حسن القبول إذ كانت قيمتها من حسن اليقين والصدق والإخلاص ، (وَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) بنعت الإعراض عنه يجازيهم

١٨

بالفرقة ، والانقطاع عن المأمول ، وهكذا شأن من رجع إلى الخلق ، وسكن إلى الأسباب من المسبب.

قال ابن عطاء في قوله : (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) قلب ليس فيه شيء من أنوار الله ، فقير بما فيه رجوعه إلى الأسباب ، والفقير من يكون رجوعه إلى غير الحق ، يحسب أن الرجوع إلى غيره يغني ، وهو كسراب (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) إذا تبيّن له أن الرجوع إلى الأسباب شرك يظهر إذ ذاك له أن الرجوع إلى الحق هو الإيمان.

قال الله : (وَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) أي : وجد الطريق إليه ، وقال أيضا : كل منا دون الله فهو فقير ، وكل قلب فيه محبة ما سوى الله ؛ فهو فقير ، وفقير عن الحق ، وعن معرفته ، ويعلم أنه تاه قوم في ميدان الجهد فتخلفوا عن واجبات الحق ، وظنوا أنهم يصلون بجهدهم إلى الله ، وما وصل أحد إليه إلا من سبق له من الله العناية ، والمجتهد في مجاهدته ، كما قال الله عزوجل : (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٣٩).

ثم بيّن سبحانه أن هؤلاء المحجوبين عن الله مترددون في ظلمات طبائعهم لم يصحبهم نور العناية ، فيبقون في ظلمة عقولهم على ما عملوا لغير وجه الله بقوله : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٤٠) أي : من لم يصحبه نور معرفة الله الذي صدر من كشف مشاهدة الله في بدور روحه إلى منتهى سيره ، فما له هناك من نور المعرفة ، ونور المشاهدة ، ونور الوصال ، والعارف الصادق في مشاهدة الحق يحتاج إلى ألف ألف نور في كل لمحة من نور الأزل والأبد ينظر بها إلى جمال القدم ، ويعرف بها طرق الصفات ، ويرى بها عجائب الذات.

قال القاسم : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً) في وقت القسمة فما له من نور في وقت الخلقة.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ

١٩

اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧))

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) خاطب الحق سبحانه أهل التوحيد والمعرفة بأنه سبحانه ينشئ في سماء صحو القلب سحائب أنوار فعله على مقادير مشيئته ، وقوة حملها واردات الغيوب ، ويسريها برياح الكرم ، ويجمعها بقوة القدم ثم يجعلها متكاثفات بأثقال أنوار الصفات ، وذلك قوله : (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) ثم ينزل منها قطرات زلال بحر الصفة إلى صحاري القلوب بقوله : (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) فإذا كمل الحال ينكشف جبال أنوار الذات ، وينزل منها برد جواهر حقائق علوم القدم ، فيقع على بحار عقول العارفين ، ويتلقاها أصدف الأرواح فيربيها في حواصل الأفئدة والأسرار (١).

ثم بيّن خاصية من سبق له الحسنى في الأزل في وصول تلك الجواهر القدوسية بقوله : (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ.)

ثم بيّن أن سنا بروق تجلى الصفات ليغلب على أبصار الأرواح والقلوب حين عاينت الحق ، بقوله : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ.)

ثم بيّن مقام المحو والصحو ، والقبض والبسط ، وأوقات الاستناد والتجلي بقوله : (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يقلب ليالي الهجران ، ونهار كشف العيان لأهل البيان والامتحان.

ثم بيّن أن هذه الإشارات لذوي البصائر من العارفين بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : بصيرة ومعرفة ، وما بان من فحوى الخطاب من قوله : (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) ، وحقائق غلبة مشيئة الأزل على كل مشيئة إذ كل مشيئة قائمة بمشيئته ، وكل إرادة صدرت من إرادته ، فإذا انسلخ الكون وأهله من محل التصرف والإرادة في نفاذ مشيئة تعالى الله من كل كائن يقع بخلاف إرادته.

قال الواسطي : ما خالفه أحد ولا وافقه ، وكلهم مستعملون بمشيئته وقدرته أنى يكون

__________________

(١) (الودق) : المطر ، يخرج من فتوقه ووسطه ، وقال القشيري : ترتفع بقدرته بخارات البحر ، فيتصعد ، بتسييره وتقديره إلى الهواء ، وهو السحاب ، ثم يديره إلى سمت يريد أن ينزل به المطر ، ثم ينزل ما في السحاب من ماء البحر ، قطرة قطرة ، ويكون الماء ، حين حصوله في بخارات البحر ، غير عذب ، فيقلبه عذبا ، ويسحّه السحاب سكبا ، فيوصل إلى كلّ موضع قدرا يكون له مرادا معلوما ، لا بالجهد من المخلوقين يمسك عن المواضع الذي عليه ينزله ، ولا بالحيلة يستنزل على المكان الذي لا يمطره.

٢٠