تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٧٤

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤))

قال بعضهم : لا يظهر الإيمان على أحد إلا لسعادة سابقة له في الأزل ونور متقدم ، ثم زيّن السماوات والأرضين بأنوار ملكوته وجبروته ، وأظهر منها سبحات جلاله وشهود عظمته لنظار المعارف وألباء الكواشف ، ودعاء الأحباء والأعداء إلى النظر إليهما بقوله : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : ما يبرز من نوره من جبين الشمس وسناه من عارض القمر وضيائه من مرآة الكواكب ، الذي انكشف لخليله ، وسليبه من الحدثان إلى رؤية القدم بالنظر إلى هذه الوسائل ، حين قال : (هذا رَبِّي) ، ثم أخبر عن خروجه منها إلى أنوار السرمدية والفردانية بقوله : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨)) : أي : لو أن لكم بصائر الصفاتية وأبصار الذاتية انظروا ؛ فإن جمال القدم ظاهر للعاشقين ، عيان للمشتاقين ، وبيان للمحبين ، ثم بيّن أن من لم يكن له عين من تلك العيون ، ونور من تلك الأنوار ، ألا ترى جماله وجلاله ثم بينّ أن من لم يكن له عين من تلكم العيون ، ونور من تلك الأنوار ، ألا ترى جماله وجلاله تعالى يقول : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) أي : كيف يفعل الايات بمن خلق محروما عن الإيمان بمكون الايات.

قال بعضهم : لا تصل العقول الخالية عن التوفيق إلى سبيل النجاة ولما يفنى ضياء العقل مع ظلمة الخذلان ، إنما ينفع أنوار العقل من كان مؤيدا بأنوار التوفيق وعناية الأزل ، وإلا فإنه متخبط في هلاكه بعقله.

قوله تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) : إن الرسل وأتباعهم من المؤمنين محفوظون بنور عنايته عن اقتحام قهره عليهم ، نجّا الأنبياء والمرسلين من حجاب الخطرات ، ونجّا العارفين من حجاب الشهوات ، ونجّا المؤمنين من غارات إبليس وسلب الشياطين إيمانهم برعايته القديمة المقرونة بمحبته الأزلية إياهم ؛ لأن من أحبّ أحدا حفظه عن مهالك البعد منه.

(نُنَجِّي رُسُلَنا) منا ، وننجي المؤمنين من قهرنا الأنبياء في عين الجمع ، وهم في عين التفرقة ، هم في الذات ، وهم في الصفات ، وكان (حَقًّا عَلَيْنا) نجاة العارفين ؛ لأنا

١٠١

اصطفيناهم في الأزل بالكرامات والولايات ، ومن اصطفيناه حقّا علينا الوفاء بما أخبرنا عن نفسنا في حقه.

قال بعضهم : (نُنَجِّي رُسُلَنا) من مراد النفس ، وغلبة الشهوة ، وغفلة الوقت وسطوات العدو وشتات السر ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالرسل نجريهم على مناهج الرسل ، (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا) نجاة من صدق في عبوديته.

(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩))

قوله تعالى : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) ، (لِلدِّينِ) ها هنا : محبة الله والشوق إلى لقائه ، ومعرفة صفاته أي : أقبل بوجهك إلى هذه الصفات الحنيفة الخليلة المبرأة عن محبة كل مخلوق سوانا ، ثم أقبل بهذه الصفات جميعا وجهك الاستقامة إلى مشاهدة وجهنا الأزلي المنزه عن المخاييل والتصاوير حتى تراني بي ، وتصل إليك أنوار وجهي الذي لو أشاط ذرة منها على جميع الأكوان والحدثان من العرش إلى الثرى يضمحل جميعا تحت أنوار سلطان بهائي وجلالي ، قال عليه‌السلام : «حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (١) : أي : يستقيم لي في ذلك المقام حتى تطيق أن تحمل أثقال أنوار مشاهدتي ، ثم خوّفه من الالتفات إلى غيره في إقباله عليه بقوله : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) : من الطالبين من غيري ، والاسرين على حبال مشاهدتي ما لا يليق به من الحدثان.

قال ابن عطاء : صحح معرفتك ، ولا تكونن من الناظرين إلى شيء سوى الحق ، فيمقتك الله ، وإقامة الملة الحنيفية ، هو تصحيح المعرفة.

ثم زاد تأكيد الإقبال عليه والإعراض عما سواه بقوله : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) : شدد أمر التوكل والاعتماد عليه بقطعه طريق الإعراض عما سوى وصاله ، وبيّن أن من نظر إلى غيره عند امتحان الله بالسراء

__________________

(١) رواه مسلم (١ / ١٦١).

١٠٢

والضراء يكون مغلوب قهره ، متروك حظه ، محروما من مراده ، محجوبا عن الله بغير الله ، باقيا في فوات المراد ، ومن كان بهذه الصفة فهو ظالم ؛ حيث وضع الربوبية عند من لا يستقيم في العبودية.

قال شقيق : الظالم من طلب نفعه ممن لا يملك نفع نفسه الضر ممن لا يملك الدفاع عن نفسه ، ومن عجز عن إقامة نفسه كيف يقيم غيره! قال الله : (فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ).

ثم زاد تأكيدا إليه في رجوع عباده بالكلية وإعراضهم عما سواه بقوله : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) : عرّف حبيبه أن كل حركة من العرش إلى الثرى فهو تعالى محركها ، وكل روح وجسد وقلب ونفس وهمة وعقل وكفاية مستغرقة في بحار مقاديره لا يجري عليهم إلا موارد القضاء والقدر ، وكل مشيئة في الامتحان بالضر وإيصال النفع تصدر من حكمة السابق ، فينبغي ألا يرى الغير في البين ، (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) الحجاب (فَلا كاشِفَ) لذلك (إِلَّا) ظهور أنوار وصاله ، (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) كشف جماله ، (فَلا رَادَّ) لفضل وصاله من سبب ، وعلة من الألوان والأعمال ، فإن المختص في الأزل بوصالنا لا يحتجب بشيء من الأشياء ؛ لأنه في الفضل السابق مصون عن جريان القهر.

ثم علق ذلك بمشيئته السابقة ، وأخرجه عن اكتساب البشر بقوله : (يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) من عرفانه ؛ لأنه ساتر الأولياء في قباب عصمته عن طوفان قهره رحيم بهم ؛ حيث ربّاهم بجماله ، وآواهم إلى وصاله.

قال ابن عطاء : قطع الحق على عباده طريق الرغبة والرهبة إلا إليه بإعلامه أنه الضار النافع.

قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) : الحق هو القرآن في ظاهر التفسير وحقائقه وتجلي ذاته في صفاته ، وصفاته في فعله ، فوصل بركة تجليه إلى كل مبارك ، وانصرف نوره عن كل محروم ، ثم بيّن سبحانه أن عروس القدم قد انكشف لأهل العدم ، فمن رآه رآه بحظه الوافر ، ومن أخطأه أخطأ طريق النجاة بقوله : (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) : أي : من عرفني فمعرفته راجعة إليه ، ومن جهلني فجهله راجع عليه ، فإن ساحة الكبرياء منزّهة عن معرفة العارفين وجهل الجاهلين ؛ حيث ما استوحش حين جهلوه ، وما استأنس حين عرفوه ، ثم بيّن أن المتولي تعالى

١٠٣

هو بنفسه في الهداية والضلالة بقوله : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ).

قال الواسطي : لو وقع التفاضل بالنعوت والصفات كان الذات معلوما ما أظهر ، فإنما أظهره لك إن أجرى الإحسان عليكم فلكم بقوله : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) ، إن أجرى الاهتداء فلكم بقوله : (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) ، وإن أجرى الشكر فلكم بقوله : (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ).

ثم إن الله سبحانه أمر نبيه بمتابعة مراده ، واستقامته في العبودية ، والصبر في بلائه ، والرضا بقضائه بقوله : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) أي : اتبع ما يحل في قلبك من خطاب الأزل ، وطيب روحك بطيبه ، واصبر إذا شممت رائحة وصلتي ، ولا تضطرب ؛ فإنك في امتحان الرسالة ، حتى يحكم الله برفع الحجاب عن مشاهدته ، ويريح العارفين والمحبين والمشتاقين عن بلية الحجاب أبدا ، (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) بأن يفرّق بين أوليائه وأعدائه ، ويخلّص أهل العرفان من أذية أهل الحرمان ، والله أعلم.

قال سهل : أجرى الله في الخلق أحكامه ، وأيّدهم على اتباعها بقدرته وفضله ، ودلهم على رشدهم بقوله : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ) ، والصبر على الاتباع ، وترك تدبير النفس فيه النجاة عاجلا من رعونات النفس ، وآجلا من حياء المخالفة ، والله أعلم.

***

سورة هود

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣))

(الر) : الألف إشارة جميع التأويلات التي جرت في سوابق الأزل الألوهية ، واللام إشارة جميع لوازمات العبودية التي وجبت أحكامها في الأزل على أهل العبودية ، والراء إشارة إلى راحات مشاهدة الذات ، والصفات للأرواح والأشباح.

قوله تعالى : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) : مخبرات الكتاب من عيون الصفات ، والذات نزهت عن تغاير الحدثان ؛ لأن أصلها صفة القدم ، وليس في القدم تبديل وتغيير ،

١٠٤

(ثُمَّ فُصِّلَتْ) : أي : بينت للأرواح العارفة والقلوب الشائقة مصارفها وحقائقها ، وتلك الايات معرفة الصفات والذات لأهل المشاهدات والمكاشفات تعرف لهم أحكام الربوبية والعبودية ؛ ليشهدوا بأنوارها شهود أنوار الحق ، ويعلموا ما يجري من أحكام الغيب القدري على الخلق.

قوله تعالى : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) : هو من كلام أزلي حكيم ؛ إذ حكم باصطفائية عرفانه بمعرفته (خَبِيرٌ) باستعدادهم وقبولهم بوصف محبة عبوديته.

قال بعضهم : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) في قلوب العارفين ، (ثُمَّ فُصِّلَتْ) أحكامه على أبدان العاملين.

قيل : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) بالكرامات وفصلت بالبينات.

قال الأستاذ في قوله : (أُحْكِمَتْ) : حفظت عن التغيير التبديل ، ثم فصلت تبيان نعوت الحق فيما يتصف به من جلال الصمدية ، وما يعبد به الخلق من أحكام العبودية.

ثم بيّن سبب نزول الكتب بهذه الأوصاف ؛ ألا يكون العباد إلا لمولاهم ، لما كان بينهم من مواصلة المحبة ووجوب الربوبية والعبودية بقوله : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) أي : لا يلتفتوا إلى ما الله في عباده الله ، ثم بيّن أنه عليه‌السلام نذير بعظائم قهره وبشير بلطائف وصله.

قال الأستاذ : نذير من الله بالفرقة ، بشير بدوام الوصلة.

ثم أمرهم بالافتقار إلى مشاهدته والافتخار بوصاله والاستغفار عن ملاحظة غيره في طلبه إدراك جماله ، والرجوع من قهره إلى لطفه ، ومن النفوس وحظها وهواها إلى مراده ومتابعة أمره بقوله : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) : استغفروا من جنايات الأسرار ، وتوبوا إليه لطلب الأنوار ترك النظر إلى الأغيار قدم الاستغفار على التوبة ؛ لأن الاستغفار تقديس ، والتوبة تخليص ، الاستغفار من الزلل ، والتوبة من الغفل.

سئل سهل بن عبد الله عن الاستغفار؟ فقال : هو الإجابة ، ثم الإنابة ، ثم التوبة ، ثم الاستغفار ، والاستغفار بالظاهر ، والإنابة بالقلب ، والتوبة مداومة الاستغفار من تقصيره فيها.

وقال بعضهم : استغفروا ربكم عن الدعاوى ، وتوبوا إليه من الخطرات المذمومة.

وقال يوسف : استغفار العام من الذنوب ، واستغفار الخاص من رؤية الأفعال دون رؤية المنة والفضل ، واستغفار الأكابر من رؤية كل شيء سوى الحق لما بلغت في ذكر التفسير ، إلى ها هنا سألني بعض أهل الصحبة عن حقائق استغفار العارفين؟ فقلت : استغفارهم عن

١٠٥

كون وجودهم مع كون الحق ، وعن تقصيرهم في المعرفة عن إدراك حقائق صفات معروفهم ، وعن دعوى الأنائية في السكر في مقام صحوهم ، وعن غاشية عين العبودية في مشاهدة الربوبية.

ألا ترى إلى قوله عليه‌السلام : «إنه ليغان على قلبي ، وإني لأستغفر الله في كل يوم سبعين مرة» (١) ، ومن جملة استغفاره عليه‌السلام في هذا المقام استغفار من رؤية وجوده الحق ، وعن رؤية مشاهدة الالتباس في رؤية مشاهدة صرف الوحدانية ، وعن خواطر الأنائية.

ثم بيّن أنه تعالى يجازيهم بعد رجوعهم مما سوى الحق إلى الحق بالتمتع بلقائه ووصاله والفرح بجماله أبد الابدين بقوله : (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) : المتاع الحسن أنوار المواجيد على الدوام ، وصفاء الأحوال على السرمدية ، وسنا الأذكار وحلاوة الأفكار ، ونزول حقائق الكواشف ، وظهور لطائف المعارف ، والفرح برضوان الله ، ولين العيش في مشاهدة الله ، ما أحسن هذا المتاع منا في منّ الدنيا لقاؤك مرة! فإن نلتها استوفيت كل منائيا.

قوله تعالى : (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) : يؤتي فضل مشاهدته لمن له فضل المعرفة ، ويؤتي فضل وصاله لمن له فضل الشوق إلى جماله ، ويؤتي فضل الكرامات لمن له فضل العبادات ، ويؤتي فضل التحقيق لمن له فضل التوفيق ، ويؤتي فضل كفاية الأبد لمن له فضل عناية الأزل ، ويؤتي كل ذي فضل الندامة على ما سلف من ذنوبه ، والاستغفار من الله والرجوع من نفسه إلى خالقه فضل طمأنينة القلب بالذكر ، وفضل رؤية منه الحق بنعت نسيان الخلق ، ووصل المؤانسة بروح الوصال ، ولذة نور الجمال.

قال الواسطي في قوله : (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) : طيب النفس ، وسعة الرزق ، والرضا بالمقدور.

وقال سهل : هو ترك الخلق والإقبال على الحق.

قال أبو الحسن الوراق : يرزقكم صحبة الفقراء الصادقين.

وقال الجنيد : لا شيء أحسن على العبيد من ملازمة الحقيقة ، وحفظ السر مع الله ، وهو تفسير قوله : (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً).

قال الحسين : (مَتاعاً حَسَناً) : الرضا بالميسور ، والصبر على كرمه المقدور.

وقال الواسطي : (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) : ذو الفضل من رزق بعد الاستغفار ، والتوبة حسن الإنابة والإخبات مع دوام الخشوع.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

١٠٦

قال النصر آبادي : رؤية الفصل يقطع عن المنفصل ، كما أن رؤية المنة يحجب عن المنان.

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥))

قال بعضهم : يوصل كل متحقق إلى ما يستحقه من مجالس القربة وسمو المنزلة.

قال الجوزجاني : من ندر عليه الفضل في السبق يوصله إلى ذلك عند إيجاده.

سئل أبو عثمان عن قوله : (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ)؟ قال : يحقق أماني من أحسن ظنه به.

قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) : (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) من الخطرات ، (وَما يُعْلِنُونَ) من النظرات ، يعلم ما يسرون من أذكار القلوب ، وما يعلنون من الإخبار عن الغيوب ، يعلم ما يسرون من الحالات ، وما يعلنون من المعاملات ، وهو تعالى كسا أنوار جلاله فؤاد الصديقين ، فيرون بأبصار قلوبهم ما يجري في صدور الخلائق من المضمرات والخطرات ، كما يرون الظواهرات بعيون الظاهرة ، قال تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) ، وقال عليه‌السلام : «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» (١).

قال قائلهم :

أبعيني أراك أم بفؤادي

كلّ ما في الفؤاد بالعين باد

قال فارس : (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) من أحوالكم ، (وَما يُعْلِنُونَ) من أفعالكم ، وهو عالم بكم قبل أن خلقكم وأبدعكم.

وقال أيضا : الحركات على الجوارح ، والمشاهدة على الأسرار.

وقال بعضهم : ما يسرون من الإخلاص ، وما يعلنون من العبادات.

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨))

__________________

(١) رواه الترمذي (٥ / ٢٩٨).

١٠٧

قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) : دعا الجمهور بلسان التوحيد إلى منازل التفريد ؛ ليدخلوا إلى مرابع الرضا ، ويجلسوا على مساند الصفا ، وينظروا في مرآة الأقدار مباصر الأنوار ، لتطمئن أسرارهم في جريان التقدير ، بما رأوا من سوابق القسمة ، وأوائل الحكمة لكل دابة رزق عليه بقدر حوصلتها ، فرزق الظاهر للأشباح ، ورزق المشاهدة للأرواح ، ورزق الوصلة للأسرار ، ورزق الرهبة للنفوس ، ورزق الرغبة للعقول ، ورزق القربة للقلوب ، ورزق الملائكة الخوف والذكر ، ورزق الجن الزجر والوعيد ، ورزق الحيوان روح العنصر ، ورزق الحشرات خطرات التسبيح ، ورزق السباع اقتحام ظلام عظمة الأفعال ، ورزق الطيور الفرح والتهليل ، ورزق الإنسان الذي تعيش به هو فيض الفعل وروح الفعل ، ونور الصفة وشهود سنا الذات على الأسرار ، وهو تعالى بلطفه يعلم مصارف الجميع من أفعاله وصفاته وذاته لمّا قال : (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) : مستقر الأرواح أنوار ذاته ، ومستقر القلوب أنوار صفاته ، ومستقر العقول أنوار أفعاله ، مستودع العقول العبادات ، ومستودع القلوب المشاهدات ، ومستودع الأرواح المكاشفات ، ومستقر الأشباح أكناف الايات ، (وَمُسْتَوْدَعَها) قبور المجاهدات ، ومستقر العقول الأذكار ومستودعها الأفكار ، ومستقر القلوب المحبة ، (وَمُسْتَوْدَعَها) المعرفة ، ومستقر الأرواح التوحيد ، (وَمُسْتَوْدَعَها) الفناء في الموحد مستقر الجميع أصلاب العدم ، (وَمُسْتَوْدَعَها) أنوار القدم.

قيل : قرأ يوسف بن الحسين هذه الاية ، ثم قال : ندب الله عباده جميعا إلى التوكل والاعتماد ، فأبوا بأجمعهم إلا اعتماد على عواري ما ملكوا إلا فقراء المهاجرين ، ثم جرت تلك البركة في الفقراء الصادقين إلى من ترسم بهم من الصوفية ، فالخلق أبو الاعتماد على الأسباب ، وأبت هذه الطائفة أن تعتمد على غير المسبب ، وهو من أشد المناهج.

قيل : (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها) ظاهر إسلامه ، (وَمُسْتَوْدَعَها) باطن إيمانه.

وقيل : (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها) من الخلق ، (وَمُسْتَوْدَعَها) من الحق.

وقيل : (مُسْتَقَرَّها) في الطاعات ، (وَمُسْتَوْدَعَها) في الأحوال.

يقال : مستقر العابدين المساجد ، ومستقر العارفين المشاهد.

ويقال : النفوس مستودع التوفيق من الله ، والقلوب مستودع التحقيق من قبل الله.

قيل : القلوب مستودع المعرفة ، والمعرفة وديعة فيها ، والأرواح مستودع المحبة ، فالمحاب ودائع فيها ، والأسرار مستودع المشاهدات ، فالمشاهدات ودائع الله (١).

__________________

(١) قال ابن عجيبة : أي : يعلم مستقرها في العلم ، ومستودعها في العمل ، أو مستقرها في الحال ، ومستودعها ـ

١٠٨

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤))

قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ) : إنّ الله سبحانه وصف الممتحن الذي ذاق من طعم أحوال العارفين والمحبين والمريدين ، واقتحم في حظوظ النفس وظلمات هواها ، واحتجب بها عن مذاق مراتب الذاكرين والصالحين ، ولم يتدارك ما فاته من عمارة الأوقات ، وحراسة الأنفاس بقي في حجابه ، وألبس عن مدارك إخوانه ، وزاد خوضه في متابعة النفس ، ويكون هالكا مع الهالكين ، وكم من طائفة هلكوا في هذه الورطة ، ولم ينتعشوا.

قال قائلهم :

وكان لي مشرب يصفوا برؤيتكم

فكدّرته الأيام حين صفا

قال أبو سعيد الخراز : من أذيق حلاوة الذكر وصفاء السر ثم نزع منه من سنا المقامات والأحوال فليحكم لقلبه بالموت ، ولسره بالعمى عن طريق الهدي ؛ لذلك قال الله : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها) ، وهو محل القربة ، (ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ) ، وهو حجاب النعمة.

ثم ذكر سبحانه وصف المتخلص من محن الفراق والناقة من مرض سم أفاعي القهر بمفرح الترياق إذا أدرك ما فاته ، وطلع عليه شمس العناية مشرق الكفاية ، وأقبل عليه أيام السعادة بعد ذهاب أيام الشقاوة بقوله : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ

__________________

ـ في المقام ، أو مستقرها في الفناء ، ومستودعها في البقاء ، أو مستقرها في التلوين ومستودعها في التمكين ، أو مستقرها في عالم الأشباح ، ومستودعها في عالم الأرواح.

١٠٩

السَّيِّئاتُ عَنِّي) : أذقناه نعماء الوصال بعد ضراء الفراق ، أذقناه من شراب الوداد بعد رجوعه إلى المراد ، يطربه المواجيد ، فيسكره أنوار شراب الوصلة ، فيهيج نفسه بهيجان قلبه ، ويضطرب ويفرح بذهاب ظلمة الهجران عنه ، ويظن أن الأوقات باقيات عليه ، فيدّعى بدعاوي البشرية بالمقامات والأحوال عند الخلق ، وذلك غلط عظيم يفرح بغلطه ، ولا يعلم مزلة قدمه فيكون بعد ذهاب الوقت كما كان ، وذلك معنى قوله : (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ).

ثم استثنى الله سبحانه أهل الاستقامة والثبات في موازات تجلي أنوار قدمه بنعت الخنوع والفناء حتى يجري عليهم بديهة المكاشفة وصولات الوقت بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : أي : صبروا فيما وجدوا من أعلى الزلفى ، وأرفع القربة ، ولا يفشون تلك الأسرار عند الخلق بنعت الدعوى.

قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠)).

ومعنى قوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : استقامتهم على تدارك الأوقات بوصف وضع أقدام الصدق على هواهم ؛ حيث يراعون أنفاسهم ، ويقدّسونها عن شربها مع الخطرات ، ثم وعد الله لهم بصبرهم واستقامتهم ، وتدارك أحوالهم غفران ما مضى من الفترة والغفلة ، وأنه تعالى يسترهم عن نفوسهم ، وهواجسها ، وشياطينهم ، ووساوسها بقوله : (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) : المغفرة : إقبال الله عليهم بوصف قبولهم ، والأجر الكبير دوام الأوقات على السرمدية وتواتر المواجيد ، وبلوغهم إلى انبساطات الأول بوصف رفع الاحتشام ، وتذكير ما سلف من الفرقة.

وقال الأستاذ في تفسير قوله : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) : من استمسك بعروة التضرع ، واعتكف بقوة التذلل ، وتحسا كاسات الحسرة ، علا بعد نهل طالعه الحق بنعت الرحمة ، وجدد له ما اندرس من أحوال القربة ، وأطلع عليه شمس الإقبال بعد الأفول والغيبة ، كما قيل :

تقشّع غيم الهجر عن قمر الحبّ

وأشرق نور الصبح في ظلمة الغيب

وليس لأحوال الدنيوية كبير خطر في التحقيق ، ولا بعد نوالها وتكدّرها من جملة المحن عند أرباب التحصيل ؛ لكن المحبة الكبرى ، والوزنة العظمى تذبل غصن الوصال ، وتكدّر مشرب القرب ، وأفول شوارق الأنس ، ومد بصائر أرباب الشهود ، فعند ذلك تقوم قيامتهم ،

١١٠

وهنالك تسلب العبرات ، وهي أرواح ، فتقطر من العيون بتصاعدها ، فإذا نعق في ساحات هؤلاء غراب البين ارتفع إلى السماء نواح أسرارها بالويل.

ومن جملة ما قالوا في ذلك :

قولا لمن سلب الفؤاد فراقه

ولقد عهدنا والمناح عناقه

تفد الغراء فبالذي هو بيننا

إلا وثبت لزدنا إزهاقه

عهدي لمن جحد الهوى أرمان ما

نور الصبابة لا يضيق نطاقه

فالان مدخل الزمان يوصلنا

ضاق البسيط فشأنه فعراقه

هل ترتجي من وصل عزة رجعة

تخفوا على قمر يدوم محاقه

إن كان ذاك كما تريد فخازما

فجر المسرّة أن يرى إشراقه

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧))

قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) : أخبر الله سبحانه أهل الرياء والسمعة الذين لا يريدون من أعمالهم إلا الترفع والجاه والزينة والمال ، وهم عن الاخرة بها محجوبون ، ولو ذاقوا طعم رؤية الاخرة وجاء أهل المعرفة التفتوا إلى حظوظ أنفسهم ، ومع ذلك أعطاهم الله ما يحجبهم عنه في الدنيا والاخرة ، ولا تظن يا أخي أن العارف المتمكن إذا باشر الدنيا وزينتها هو من جملتهم ، إنه يريد الله برغبة المعرفة والشوق ، ويريد الدنيا للكفاف ، والعقاب يرزقه الله حياة حسنة طيبة بأنه يجعل الدنيا خادمة له ، فيجله في عين الخلق ، ويرفع هيبته في قلوب الناس ، قال الله : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً).

وقال عليه‌السلام : «من أحسن فقد وقع أجره على الله في عاجل الدنيا وآجل الاخرة» (١) ، وليس كالمرائين الذين جعلهم الله محرومين من شرف الاخرة بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا).

__________________

(١) هو من الأحاديث التي تفرد المصنف بذكرها في كتبه.

١١١

قال أبو بكر الوراق : الحياة الدنيا هي ارتكاب الأماني ، واتباع الشهوات والجولان في ميادين الامال والغفلة عن بغتة الاجال ، وجمع ما فيها من الأموال من وجوه الحرام والحلال في زينة الدنيا هي ما أظهر الله فيها من أنواع العلائق التي أخبر الله عنها بقوله : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)).

وتصديق ما ذكرنا من وصف العارفين والمرائين قوله سبحانه : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) ، تقدير الاية على وجه الاستفهام ، (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) كمن هو في الضلالة والجهالة ، أفمن كان معرفة من ربه وولاية وعلامة من كراماته وكل عارف إذا شهد الحق سبحانه بقلبه وروحه عقله وسره ، وأدرك فيض أنوار جماله وقربه يؤثر ذلك في هياكله ، حتى يبرز من وجهه نور الله الساطع ، ويراه كل صاحب نظر ، قال تعالى : (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) : فالبينة بصيرة المعرفة ، والشاهد بروز نور المشاهدة منه.

وأيضا : البينة كلام المعرفة وشاهده الكتاب والسنة ، ومن كان بهذه المثابة يرى بعين الحق مكنون الغيوب وأسرار القلوب ، ومشاهدته غالبة على يقينه ، ويقينه غالب على بصيرته ، وبصيرته غالبة على عقله ، وعقله غالب على نفسه بحيث لا يزاحم هواجسها على مناطق الغيب ، وظلمتها لا تغشى أنوار القرب ، بل هي فانية بحياتها تحت وارد الحق من الكشف والعيان والبيان ، ويبين ما قلنا ويصدقه قوله تعالى : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) : كل وارد من الحق فهو الحق حين زالت عنده معارضة النفس ، فإن خطر معارضة في أول نزول الوارد فهي امتحان الحق فيرد عليها واردات حقيقة فتزيلها أصلا ، قال الله : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) حين بقيت الواردات وزالت المعارضات.

قال أبو عثمان : من كان على البينة لا يخفى عليه سرّ.

وقال رويم : البينة هي الإشراف على القلوب ، والحكم على الغيوب.

قال الجنيد : البينة حقيقة يؤيدها ظاهر العلم.

قال أبو بكر بن طاهر : من كان من ربه على بينة كانت جوارحه وقف على الطاعات والموافقات ، ولسانه مزمورا بالذكر ونشر الالاء والنعماء ، وقلبه منورا بأنوار التوفيق وضياء التحقيق ، وسره وروحه مشاهد للحق في جميع الأوقات ، عالما بما يبدو من مكنون الغيوب ومستورها ، ورؤيته للأشياء رؤية يقين لا شكّ فيه ، وحكمه على الخلق كحكم الحق ، لا ينطق

١١٢

إلا بحقّ ، ولا يرى إلا بحق ؛ لأنه مستغرق في الحق ، فأنى له مرجع إلا إلى الحق ، ولا إخبار له إلا عنه.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢))

ولما وصف الله البينة وصدق الشاهد وصف المغالطين ومدعين مقامات أهل الولاية افتراء وزورا وبهتانا قال الله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ) أي : ظالم أشد ظلما ممن يدّعي الولاية ، وكان في سابق الحكم كذّاب ، كأنه يريد نقض إبراهيم حكم الأزل الذي سبق بكفره وزوره وبهتانه ، وسبق بعنايته الأولياء والصديقين ، فظلمه من جهة كذبه على الله بإخراج نفسه على دعوى الولاية ، وهو كاذب ، وغرض هؤلاء المفسدين صرف وجوه الناس إليهم رياء وسمعة وجاها ، فيعرفهم الله لجميع الخلائق حين يعرضون على ربهم ؛ ليفضحهم ويكشف قبائحهم عند الخلق ، يوبخهم على رءوس الأشهاد بدعاويهم الباطلة ، فيشهد على كذبهم كل صادق في الحضرة ، ثم تبعدهم عن القرب والوصال إلى النار والوبال.

قال بعضهم : المفتري على الله من اتخذ أحوال السادات بدعوات لنفسه حالا ، وأظهر من نفسه مشاهده ما لا يشهده أولئك الذين يفضحهم الله في الدنيا بكذبهم ، فيطلع عليهم الذين يشهدون حقائق الأشياء ، فيقولون : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ؛ لأنهم أظهروا من الأحوال ما ليس لهم ، وتزينوا بالعواري من لباس السادة ، فهذه فضائحهم في مجالس أهل الحقيقة إلى أن يرجعوا إلى الفضيحة في مشهد الحق.

قوله تعالى : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) : لا يسمعون خطاب الحق بأسماع القلوب ، ولا يرون مشاهدة الحق بأبصار الأرواح ، وكيف يسمعون وما سبقت لهم في الأزل العناية ، وكيف يبصرون وليس لهم حظّ عن أنوار القربة ، وما تطلع من وجوه الصديقين والعارفين.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ

١١٣

فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦))

قال بعضهم : كيف يستطيع السمع من لم يفتح مسامعه لسماع الحق ، وكيف يبصر من لم يكتحل بنور التوفيق ؛ إذ لا سماع إلا عن إسماع ، ولا بصر إلا عن إبصار.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) : (آمَنُوا) أي : أيقنوا مواعيد الغيب بنعت رؤيتها ، (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بذلوا مهجهم للوصول إلى قرب الحق ، وزكوا سرائرهم بصفاء الذكر وجولان الفكر ، (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) : فنوا تحت أنوار سلطان كبريائه حين عاينوها بأبصار أسرارهم ، أولئك أصحاب مشاهدة صفات البقاء بعد إفنائهم في أنوار صفات القدم ، باقون في البقاء ؛ لأنهم لا يزالون بعد ذلك إلا أصحاب الصحو بعد المحو.

قال شاه الكرماني ـ رحمة الله عليه : الإخبات ثلاثة : غم الإياس مع التوبة لكثرة العود إلى الذنوب ، وخوف الاستدراج في إسبال الستر ، وتوقع العقوبة في كل وقت حذر ، أو إشفاقا من العدل.

قال الأستاذ : الإخبات التخشع لله بالقلب بدوام الانكسار ، ومن علامات المخبتين الذبول تحت جريان المقادير بدوام الاستعانة بالسر ، ثم أن الله سبحانه فرّق بين المقبولة في الأزل بنعت اصطفائيتهم بالولاية ، وبين المطرودين في القدم باحتجابهم عن الوصلة والمشاهدة بقوله : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) (١) : مثل المحق والمدعي كمثل السميع والبصير والأعلى السميع يسمع بسمع الحق من الحق كلمات الحق التي يفرق بها بين لمات الملكوتية ، والهواجس النفسانية ، ويبصر ببصر الحق جمال الحق الذي ينور بصائر العارفين ، وأبصار المحبين بحيث يرون بها ضمائر القلوب ، وحقائق الغيوب فهذه

__________________

(١) فمثل الكافر كمن جمع بين العمى والصمم ، ومثل المؤمن كمن جمع بين السمع والبصر. فالواو لعطف الصفات ، ويجوز أن يكون شبه الكافر بمن هو أعمى فقط ، وبمن هو أصم فقط والمؤمن بضدهما ، فهو تمثيل للكافرين بمثالين ، قاله ابن جزي. وقال البيضاوي : يجوز أن يراد به تشبيه الكافر بالأعمى ؛ لتعاميه عن آيات الله ، وبالأصم لتصاممه عن استماع كلام الله ، وتأبيه عن تدبره معانيه. أو تشبيه المؤمن بالسميع والبصير ؛ لأن أمره بالضد ، فيكون كل منهما مشّبها باثنين باعتبار وصفين. أو تشبيه الكافر بالجامع بين العمى والصمم ، والمؤمن بالجامع بين ضديهما ، والعاطف لعطف الصفة على الصفة. البحر المديد (٣ / ٤٠).

١١٤

الأوصاف وصف المتحققين.

وقال القائل في هذا المعنى :

ليلي من وجهك شمس الضحى

وأنس الصدفة في الجود

الناس في الظلمة من ليلهم

ونحن من وجهك في الضوء

والجاهل الغاوي لا يسمع هواتف الإلهام ؛ بأن ليس له سمع الخاص ، ولا يبصر أنوار المعرفة بعوارضات البشرية ، ما أبين مثل الحق! حيث بيّن صريحا نعوت العارفين ، وجهل الجاهلين ، ثم استفهم عن أهل العقول استواء أهل الهمم أي : لا يستويان ، وكيف يستوي حال العارف بالله والجاهل بالله.

قال بعضهم : البصير من عاين ما يراد به ، وما يجري له ، وعليه في جميع أوقاته ، والسميع من يسمع ما يخاطب به من تقريع وتأديب وحثّ وندب لا يغفل عن الخطاب في حال من الأحوال.

وقيل : الأعمى الذي عمي رؤية الاعتبار ، والأصم الذي منع لطائف الخطاب ، والبصير الناظر إلى الأشياء بعين الحق فلا ينكر شيئا ، ولا يتعجب من شيء.

وقيل : السميع من يسمع من الحق ، فميز بذلك الإلهام من الوسواس.

وقال الجنيد : الأعمى هو الذي عمي عن درك الحقائق.

وقال الأستاذ : الأعمى من عمي أبصار رشده ، والأصم الذي طرش سمع قلبه ، فلا بالاستدلالات يشهد سر تقدير في أفعاله ، ولا بنور فراسته يتوهم ما وقف عليه من مكاشفات الغيب لقلبه.

وقال : البصير هو الذي يشهد أفعاله بعلم اليقين ، ويشهد صفاته بعين اليقين ، ويشهد ذاته بحق اليقين ، فالغائبات له حضور ، والمستورات له كشف ، والذي يسمع بصفته لا يسمع هواجس النفس ، ولا وساوس الشيطان ، فيسمع من دواعي العلم شرعا ، ثم خواطر التعريف قدرا ، ثم مكاشف الخطاب من الحق سرّا ، فهؤلاء لا يستويان ، ولا في الطريق يلتقيان ، وانظر ما قال الأستاذ :

وأنشد :

أيها المنكح الثّريّا سهيلا

عمرك الله كيف يلتقيان

هي شامية إذا ما استقلّت

وسهيل إذا استقلّ يمان

(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ

١١٥

(٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨))

قوله تعالى : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) : هذه عادة السفلة وأهل الجهل والغباوة الذين قاسوا بارائهم الفاسدة حال الأنبياء والصديقين ، ولو شاهدوا ذرة من حالهم لماتوا حسرة من شوقها ، لكن سبق لهم الشقاء الأزلي محجبهم عن جمال أحوالهم وأنوار أسرارهم ، وبقوا بظنونهم المختلفة ، وقياساتهم الفاسدة في الأشكال والهياكل ، واحتجبوا عن رؤية الأرواح وطيرانها في الملكوت والجبروت ، وتكبروا على أولياء الله من قلة معرفتهم بنفوسهم ، ومن قلة إدراكهم حقائق القوم.

قال ابن الفرحي : لم يشهد مخالف الأنبياء والرسل منهم إلا الهياكل البشرية ، وعموا عن درك حقائقهم في ميادين الربوبية ، واختصامهم بما خصوا به من فناء حظوظهم فيهم ، وبقاء أشباحهم وهياكلهم رحمة للخلق ، فقالوا : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) : أكلا وطعما وشربا ، ولو لاحظوا مقامهم من الحق وقربهم منه لأخر سهم مشاهدتهم عن مثل هذا الجواب ؛ لأنهم في مشاهد القدس.

(وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣))

قوله تعالى : (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) : بيّن سبحانه من قول نبيه نوح عليه‌السلام أنه قال : ما أنا بطارد قوم اختارهم الله بالنظر إلى جماله والجلوس على صفائح قدسه ومجالس أنسه وسماع كلامه ، والمعرفة بصفاته وذاته وقربه وقرب قربه في الأزل وسابق العلم.

تصديق ذلك قوله : (أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي : ليس على قبولهم ولمرادهم من اختارني

١١٦

بالرسالة ، فقد اختارهم بالولاية ، يختص برحمته من يشاء لا ينظروا إلى انكسارهم في الطريقة ، وإعراضهم عن دنيا الدنية ورثاثة ثيابهم ، وصفرة ألوانهم وقصر أكمامهم ، فإنهم حمائم أبراج الملكوت وبزاة معارج الجبروت.

قال أبو عثمان في هذه الاية : ما أنا بمعرض عمن أقبل على الله ، فإن من أقبل على الله بالحقيقة أقبل الله عليه ، ومن أعرض عمن أقبل على الله فقدره أعرض عن الله.

(وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩))

قوله تعالى : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) أي : كيف تنفع نصيحتي لكم ولم يخلقكم الله على استعداد قبول ، وذلك من شقاء الأزل ، والنصيحة لا تنفع إلا لمن كان في قلبه زاجر من ربه يمنعه من المعصية ويحثه على استماع النصيحة.

قال حمدون القصار : لا تنفع النصيحة لمن لم ينصح نفسه.

قوله تعالى : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧)).

قوله تعالى : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) : في هذه الكلمة إشارة عين ، وذلك استعارة عين الربوبية من عيون الأزلية ، ليبصر بها حقائق الصنوع في علم الله ، فيصنع الفلك بمنقوشه على نقش خاتم علم ملك الأزل أي : اصنع الفلك بعيني كما كنت أردت وجود السفينة في الأزل ، وذكر الأعين ، وهذا إشارة إلى عيون الصفات التي معادن أنوارها حقائق الذات أي : لتصف عينك في صناعة الفلك بأعين الصفاتية لترى بها ما أردنا من هيئتها وتركيبها ، وذلك موجود في كلامه على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث حكى عن الله سبحانه بقوله : «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» (١).

__________________

(١) رواه البخاري (٥ / ٢٣٨٤).

١١٧

وأيضا : فيه تقاضا جريان العبودية في مشاهدة الربوبية كقوله عليه‌السلام : «أن تعبد الله كأنّك تراه» (١).

وأيضا أي : كن في عيون رعايتنا وحفظنا ، ولا تكن في رؤية عملك والاعتماد ؛ فإن من نظر إلى غيري احتجب بغيري عني.

قال بعضهم : أسقط عن نفسك تدبيرك ، واصنع ما أنت صانع من أفعالك على مشاهدتنا دون مشاهدة نفسك ، ومشاهدة أحد من الخلق.

وقال بعضهم : اصنع الفلك ، ولا تعتمد عليه ؛ فإنك بأعيننا رعاية وكلاءة ، فإن اعتمدت على الفلك وكلت إليه وسقطت عن أعيننا.

قوله تعالى : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) : إن الله سبحانه أدّب نبيه نوحا عليه‌السلام هاهنا عرفه سابق العلم في غرقهم وهلاكهم ؛ ليعرف طريق الدعاء ومكانه ، وعرف أنه سبق بالدعاء عليهم.

وقيل : ذلك ولم يقبل هاهنا ؛ لأن دعاء الأول موافق القدر ، والعارف المجاب إذا دعا على أحد بعد ذلك.

ألا ترى إلى قول ذي النون عليه‌السلام حيث دعا على أهل سعايته كيف كانوا يفرقون ، فقال بعد ذلك : إلهي تبت ، ألا أدعو على أحد من عبادك بعد ذلك ، وفيه وصف رقة قلب نبيه عليه‌السلام عليهم بعد احتمال جنونهم وأذيتهم ، وهكذا يكون شأن الصادقين.

قال ذو النون : إن كنت قد أيدت في الأزل بشيء من العناية فقد نجوت ، وإلا فإن النداء والدعاء لا ينقذ الغرقى.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢))

قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) : هذه الاية وافقت قوله تعالى : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ) ؛ لأن سوابق السعادة والشقاوة لا تتغير بصنائع الحدثان ، ولا يزال هما على وصفهما إلى الأبد ، كما كانا في الأزل.

قال بعضهم : بالسبق قيد العواقب ، فمن أجري له في السبق السعادة كانت عاقبته

__________________

(١) تقدم تخريجه.

١١٨

السعادة ، ومن أجري له في السبق الشقاوة كتب له بالشقاوة : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١)) ، وألسنة الأنبياء والأولياء قاصرة عن سؤال مخالفة ما جرى في الأزل ؛ لأنه حكم القاهرية سلطان الجبارية.

قوله تعالى : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) : البحر بحر القدم والأبد ، والسفينة قلب العارف يجري بشمائل العناية بروح الناطقة الربانية ، (بِسْمِ اللهِ مَجْراها) في قلزم الصفات (وَمُرْساها) في قاموس الذات.

ثم أخبر سبحانه عن كمال كرمه ؛ حيث لم يسد عليها الجري في الصفات مع حدوثيتها ، ولم يفنها في الذات مع ضعفها بقوله : (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

وأيضا أي : بسط الله إياها بأنوار جمال مشاهدته جريها في الصفات ، ويقبض الله بسطوات العظمة سكونها وثبوتها.

(قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قال ينوح إنه ليس أهلك من إنه عمل غير صلح فلا تسئلن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجهلين (٤٦))

قوله تعالى : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) أي : لا عاصم عند صولة تلاطم بحر القهريات إلا عواصم أنوار اللطيفات من التجأ إليه منه نادبه عنه.

قال الأنطاكي : لا اعتصام لأحد من خلق الله إلا بالله.

وقيل : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) : إلا من دلّه على الاعتصام به ، وذلك الذي يعصمه الله من أمره.

قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ) : لما غاصت سفينة القلوب في بحار غيوب القدم ودارت في لجج عظمتها كادت أن تغرق بطوفان غيرتها ، فسبقت لها عناية الأزلية ، وما أبقتها في بحار الفناء ؛ لئلا يفني العبودية في سطوات الربوبية ، فنادت ألسنة الوصال إلى سماء كمال الذات وأرض الصفات : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) ، فامتنعت الذات والصفات عن دركها ، وتلطفت الصفات

١١٩

والذات عليها بإرجاعها إلى مشاهد الأفعال والايات ، واندرس عليها مسالك الازال والاباد ، وهذا معنى قوله : (وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) : جرى عليها أحكام معارف الذات والصفات ، وغرق منها ما دون الذات والصفات في الذات ، والصفات من النفوس ، وهواجسها والشياطين ووساوسها ، والعقول ومراتب مقاماتها ، والكونين والعالمين ، واستوائها بنعت التمكين على جودي الطريق ، والحقيقة أن تكون ساكنة بعد الاضطراب في المواجيد ، وصاحية بعد السكر بأشربة بحار المقادير ، وهذه برمتها مشروحة في قوله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث دنا من الوصال وتدلى إلى مشاهدة الجمال ، وكان بين قاب قوسي الأزل والأبد بقوله : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) ، واستعاد في دنو الدنو من الغرق في بحار الأزل والفناء في ميادين الأبد من قهر طوفان قلزم الكبرياء والعظمة ، بما سبق له من حسن عناية القدم بنعت الرضا بقوله : «أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك» (١) ، كان عليه‌السلام في مدارك الصفات ، ومرائي أنوار الذات سابحا في بحر حقائق الأزلية ، فخاف من فنائه في قهر النكرات ، ففرّ تارة من الصفة إلى الصفة ، وتارة من الفعل إلى الفعل ، ومن الذات إلى الذات تارة ، فقال : أعوذ برضوان عنايتك ، ومن سخط غيرتك عليك ، أن يعرفك أحد غيرك ، وأيضا أي : أعوذ برضوان جمالك من سطوات جلالك حتى لا أفنى بك فيك ، وأعوذ برضا بقائك من صولة عساكر قدمك.

فلما دار في الصفة وخاف من الزوال فرّ منها إلى أنوال الأفعال ؛ ليروح فؤاده الغائب في الألوهية عن أثقال رجاء العزة ، فقال : «أعوذ بمعافاتك من عقوبتك» (٢) : بمعافاة دعائك الأزلي من عقوبة هجرانك الأبدي ، فلما استروح من أثقال السير في الصفات بلطائف الأفعال رجع إلى مشاهدة الذات ، فقال : «أعوذ بك منك» (٣) : أعوذ بفردانيتك من حلاوة جمال مشاهدتك ، التي تصير العاشق بك بنعت وحدانيتك ، حتى يخرج بدعوى الأنائية في مشهد تنزيلها ، أعوذ بك من هذا المكر حتى أكون لا أكون أنت تكون ، وأزول كما لم أزل أزول ، وتكون كما لم تزل تكون ، فلما فني عن رسوم العبودية وعن مشاهد الربوبية من الأفعال والصفات وبقي بإزاء أنوار الألوهية بنعت استقامة التوحيد ، وإفراد القدم عن الحدوث ، واستعار من الحقّ لسان الأزلي ، وأثنى به عليه ، فقال : «لا أحصي ثناء عليك» (٤) ، ثم أخرج

__________________

(١) رواه مسلم (١ / ٣٥٢).

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) تقدم تخريجه.

(٤) تقدم تخريجه.

١٢٠