تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٧٤

وأنشدوا :

وكتابك حولي لا يفارق مضجعي

وفيها شفاء للذي أنا كاتم

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤))

قوله تعالى : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) استنشق منه رائحة الاتحاد ، فإنه لّما أنعم على العارف بأن جعله متصفا بصفاته استبشر بروح الأنس ، ومباشرة نور القدس ، ورأى الحق بالحق في نفس فعله ، وهو فعله ، ادّعى من سكر الحال الأنائية ، وأعرض عن مقام العبودية في حال الوجد بغير تكلف البشرية ، ورعونات النفس ، فإذا رآه الله بتلك الصفة أمسك تلك اللطيفة عنه بالتدريج ؛ حتى صيره محجوبا عن تلك الحالة ، فيصير آيسا من رجعته إلى مقامه خجلا عن دعواه.

قال الواسطي : أعرض بالنعمة عن المنعم ، والنعمة العظمى الهداية والإيمان والمعرفة والولاية ، والعبد لا ينفك من رؤية ذلك من نفسه ، وهذا هو الإعراض عن المنعم بأن يستحلي بطاعته ، ويتلذذ بها أو يسكن إليها أو يختص بها من النار.

وقال الأستاذ : إذا أزلنا عنه موجبات الخوف ، وأرخينا له حبل الإمهال ، وهيأ له أسباب الرفاهية اعتراه مغاليط النسيان ، واستهوته دواعي العصيان ، فأعرض عن الشكر ، وتباعد عن بساط الوفاق.

قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) الفطرة مختلفة على اختلاف المقامات ، ففطرة العارفين خلقت لمقامات المعرفة ، وفطرة الموحدين فطرت لمقامات التوحيد ، وفطرة المحبين فطرت لمقامات المحبة ، وفطرة المتوسطين من أهل الإيمان والإيقان فطرت لفطرة المعاملات والشرائع والدين ، وفطرة أهل المشاهدة فطرت على شهود الصفات وتجلي الذات ، فكلّ من هؤلاء يعمل على العبودية لزيادة عرفان الربوبية على شاكلة فطرته ، فيبدو منه مزيد قرباته ومداناته ومكاشفاته ومشاهداته ، وكل من أسرع شوقه إلى الله وفناء في الله فهو أقرب منه ، قال تعالى : (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً).

قال ابن عطاء : يعمل على ما في سره ؛ لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اعملوا ؛ فكلّ ميسر لما خلق له» (١).

قال جعفر : كلّ يظهر مكنون ما أودع فيه من الخير والشر.

__________________

(١) رواه البخاري (٤ / ١٨٩١) ، ومسلم (٤ / ٢٠٤٠).

٣٨١

قال الأستاذ : ما تحب الضمائر يلوح على السرائر ، فمن صفا عن الكدورة جوهره لا يفوح منها إلا نشر مناقبه ، ومن طبع على الكدورة طينته فلا يعبق بمن يحوم حوله إلا ريح مسالبه.

يقال : حب الغبيراء لا ينبت غصن العود.

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ) بنعمة ظاهرة (أَعْرَضَ) ؛ لوقوفه مع النفس والبدن ، وكون القوى البدنية متناهية ، لا تتدبر الأمور الغير المتناهية الممكنة الوقوع من سبب النعمة ، وردها عند عدمها وسائر الغير ، ولا يرى إلا العاجل وتكبره لاستعلاء نفسه على القلب وظهوره بأنانيته وتفر عنه.

(وَنَأى) أي : بعد عن الحق في جانب النفس ، وطوى جنبه معرضا ، وكذا في جانب الشر إذا يئس ؛ لا حتجابه عن القادر قدرته ، ولو نظر بعين البصيرة شاهد قدرة الله تعالى في كلتا الحالتين ، ويتيقن في الحالة الأولى أن الشكر رباط النعم ، وفي الثانية أن الصبر دفاع النقم فشكر وصبر ، وعلم أن المنعم قدر فلم يعرض عند النعمة بطرا وشرّا خائفا زوالها غير غافل عن المنعم ، ولم ييأس عند النقمة جزعا وضجرا راجيا كشفها مراعيا لجانب المبلى.

(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) أي : خليقته وملكته الغالبة عليه من مقامه ، فمن كان مقامه النفس ، وشاكلته مقتضى طباعها عمل ما ذكرنا من الأعراض واليأس ، ومن كان مقامه القلب ، وشاكلته السجية الفاضلة عمل بمقتضاها الشكر والصبر.

(فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) : من العاملين ، عامل الخير مقتضى سخية القلب ، وعامل الشر بمقتضى طبيعة النفس فيجازهما بحسب أعمالهما.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣) وَما

٣٨٢

مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩))

قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) إنّ الله سبحانه أبهم علم الروح في ظاهر رسوم العلم ، وبيّنها لأهل المكاشفة من الأنبياء والأولياء ، بأنه أراهم الروح بأوصافها في المكاشفة ، وذلك سره عندهم ، وهم يكتمونه لقلة إدراك أفهام الخلق ، ولا يعلمون ماهية وجودها وكيفية خلقها قط ، لأن الله قال : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ، ولا يطّلع على ماهيتها إلا صانعها ، وكيف يعلم الخلق ماهيتها وهي كانت معدومة ، كوّنها الحق سبحانه بعد أن ظهر صفاته وذاته بنعت التجلي والكشف عيانا بلا حجاب العدم ، فأوجد الروح بقدرته القائمة ، وإرادته الأزلية حين شاهد الصفات الذات ، وشاهد الذات الصفات ، وشاهد كل صفة كل صفة ، وشاهد الصفات الفعل ، وشاهد الفعل العدم ، فباشر الموجود المعدوم ، فظهر الروح من تحت مباشرة القدم العدم ، موجودة بوجود الذات والصفات ، وشهودها بنعت الظهور ، كاملة جامعة متخلقة بخلق الحق ، متصفة بصفاته ، فبلغت إلى محل يحيي بفيض مباشرة فعله جميع الكون ، ففي كل موضع يقع عكسه يحيى بحياة تامة كاملة لا موت فيها ، ومن خاصتها أنها تميل إلى كل حسن ومستحسن وكل صوت طيب ، وكل رائحة طيبة لحسن جوهرها وروح وجودها ، ظاهرها غيب الله ، وباطنها سر الله ، مصورة بصورة آدم ، وخلق الله آدم على صورتها ، فإذا أراد الله خلق آدم أحضر روحه فصوّر صورته بصورة الروح ؛ لذلك قال عليه‌السلام إشارة وإبهاما : «خلق الله آدم على صورته» (١) ؛ لذلك قال : على صورته ؛ لأن الروح مؤنثة سماعية.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٣٨٣

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (١) أي : ليس من عالم الخلق ؛ حتى يمكن تعريفه للظاهرين البدينين الذين لا يتجاوزون إدراكهم عن الحس والمحسوس بالتشبيه ببعض ما شعروا به والتوصيف ، بل من عالم الأمر أي : الإبداع الذي هو عالم الذوات المجردة عن الهيولي والجواهر المقدسة عن الشكل واللون والجهة والأين ، فلا يمكنكم إدراكه أيها المحجوبون بالكون ؛ لقصور إدراككم ، وعملكم عنه.

(وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) هو علم المحسوسات ، وذلك شيء نزر حقير بالنسبة إلى علوم الله تعالى المناسبة لاستعدادهم وإدراكهم كتفجير العيون من الأرض ، وجنة النخيل والأعناب وإسقاط السماء عليهم كسفا والرقي فيها والإتيان بالملائكة ، وسائر الممتنعات المتخيلة ، وأجيبوا بقوله : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) أي : ما أمكن نزول الملائكة مع كونهم نفوسا مجردة على الهيئة الملكية في الأرض ، بل لو نزلت لم ينزلوا إلا متجسدين كما قال : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩)) [الأنعام : ٩] ، وإلا لم يمكنكم إدراكهم ، فبقيتم على إنكاركم ، وإذا كانوا مجسدين ما صدقتم كونهم ملائكة ، فشأنكم الإنكار على الحالين ، بل على أي حال كان كإنكار الخفاش ضوء الشمس.

__________________

(١) تعريف له : بأنه من عالم الأمر لا من عالم الخلق ؛ كنه لّما تعلّق بعالم الخلق ؛ واشتبه على الخلق أنه ما هو ، ولم يعرفوا أنه هو الأمر الإبداعي الذي لم يكن له تعلّق بالأشياء المنفوخ هو فيها ؛ لكمال تجرّده في نفسه ؛ لأنه العقل المحض إلا تعلّق التدبير والتصرف ، وهو المراد بالظهور في قول : من قال : سبحان من أظهر الأشياء ؛ وهو عينها ؛ ولذا لم يقل : سبحان من خلق الأشياء ؛ وهو عينها ، ومن ثمّ زلت فيه بعض الأقدام ، وقال ما قال من أسوء الكلام ، ثم إن هذا التعلّق لا ينقطع أبدا من الأشياء ؛ لأن التجليّات لا تنقلب العدم البتة ، وإن دارت في الأطوار المختلفة مثلا : إن الروح متعلّق بالإنسان مادام حيّا ، فإذا مات ؛ تعلّق بعناصره إلى أن ينشئه الله ثانيا ، وإنما تمنّى الكافر أن يكون ترابا ؛ لأن التراب أبعده عن الحضرة من حيث إنه من عالم القوة والإنسان أقرب منها من حيث إنه من عالم الفعل ، ولا شك أن العذاب على من كذب وتولى لا على من أعطاه الله خلقه فهدي فافهم جدا ، ثم إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما توقف في الجواب ، وانتظر الوحي الإلهي مع أن علمه حاضر عنده ، وهو مرئي له ملكوت السماوات والأرض ، كما أن الجواب عن أمر الله أقوى من الجواب عن أمر نفسه ؛ لأن الوجه الخاص تابع للوجه العام ؛ فاقتضى الأدب الإلهي ألا يتكلم إلا بالحق من كل الوجوه ؛ فظهر من هذا التقرير سرّ قوله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) وهو أنهم لو كانوا أوتوا من العلم كثيرا ؛ لما احتاجوا إلى السؤال عن أمر الروح ؛ فعلم أنهم جاهلون به لاحتجابهم بالغواشي البشرية أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عالم به لأنه أقوى روحا من عيسى عليه‌السلام ؛ لأنه تعالى قال : (وَرُوحٌ مِنْهُ) أي أن عيسى روح مبتدأ من روح محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل من الروح الأمين ؛ لأنه هو النافخ ، ومن ثم كان الحضرة النبوية جدّا للحضرة العيسوية ، فاعرف جدا.

٣٨٤

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ) بمقتضى العناية الأزلية في الفطرة الأولى بنوره.

(فَهُوَ الْمُهْتَدِ) خاصة دون غيره.

(وَمَنْ يُضْلِلْ) بمنع ذلك النور عنه.

(فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ) أنصارا يهدونه.

(مِنْ دُونِهِ) ويحفظونه من قهره.

(وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) أي : ناكسي الرؤوس ؛ لانجذابهم إلى الجهة السفلية ، أو على وجوداتهم وذاتهم التي كانوا عليها في الدنيا كقوله : كما تعيشون تموتون ، أو كما تموتون تبعثون ؛ إذ الوجه يعبر به عن الذات الموجودة مع جميع عوارضها ولوازمها أي : على الحالة الأولى من غير زيادة ونقصان.

(عُمْياً) عن الهدى كما كانوا في الحياة الأولى.

(وَبُكْماً) عن قول الحق لعدم إدراكهم المعنى المراد بالنطق ؛ إذ ليسوا ذوي قلوب يفهم بها ويفقهه فكيف التعبير عما لم يفهم؟

(وَصُمًّا) عن سماع المعقول ؛ لعدم الفهم.

أيضا : فلا يؤثر فيهم موجب الهداية لا من جهة الفهم من الله تعالى بالإلهام ، ولا من طريق السمع من كلام الناس ، ولا من طريق البصر بالاعتبار.

(كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦)) [النساء : ٥٦] ، بل أبلغ منه ذلك بسبب احتجابهم عن صفاتنا خصوصا قدرتنا على البعث وإنكارهم له أنكروا ، وما استدلوا بخلق السماوات والأرض على القدرة.

قال ابن عباس : الروح خلق من خلق الله ، صورها على صورة بني آدم ، وما نزل من السماء تلك إلا ومعه واحد من الروح.

وقال أبو صالح : الروح كهيئة الإنسان ، وليست بإنسان.

قال مجاهد : الأرواح على صورة بني آدم ، لهم أيد وأرجل ورؤوس ، يأكلون الطعام وليسوا بملائكة.

وما ذكرنا فهو أقل من قليل القليل ، الذي قال سبحانه : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).

٣٨٥

قال بعضهم : الروح شعاع الحقيقة ، تختلف آثارها في الأجساد.

وقال بعضهم : الروح لطيفة تسري من الله عزوجل إلى أماكن معروفة ، لا يعبر عنه بأكثر من موجودها بإيجاد غيره.

وقال الواسطي : لما خلق الله أرواح الأكابر ردّها بمعرفته بها ، فأسقط عنها معرفتها به ، وأسدى إليها علمه بها ، فأسقط عنها ما علمت منه ، فمعرفتها معرفة الحق إياها ، وعلمها علم الحق بها ، فصورها بوده إياها على محابها.

قيل : الروح لم تخرج من الكون ؛ لأنها لو أخرجت من الكون لكان عليها الذل ، فقيل : من أي شيء أخرجت؟ من بين جماله وقدس جلاله بملاحظة الإشارة ، وغشاها بجماله ورداها بحسنه ، واستمالها بسلامه ، وحياها بكلامه ، فهي معتقة من ذل (كُنْ) [الأنعام :

٧٣].

وسئل أبو سعيد الخرّاز : عن الروح مخلوقة هي؟ قال : نعم ، ولولا ذاك لما أقرّت بالربوبية حين قالت : بلى ، والروح هي التي أوقعت على البدن اسم الحياة ، وبالروح ثبت العقل ، وبالروح قامت الحجة ، ولو لم يكن الروح كان العقل متعطلا لا حجة عليه ولا له.

سئل الواسطي عن الأرواح : أين كان مكانها حين أظهرها؟ فقال : إنّ الأرواح خلقها وقبضها قبل الأجساد ، أين كانت صار ما عاين عيانا ؛ لأنّ الدنيا والاخرة عند الأرواح سواء.

(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤))

قوله تعالى : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) أخبر سبحانه عن سجية النفس الأمارة الإنسانية أنها خلقت بخيلة حريصة على الدنيا ، وجمعها ومنعها لعميها عن رؤية الاخرة وبقائها ، وعن معرفة الدنيا وفنائها ، وهذه النفس إذا قورنت بالروح الصادقة العاشقة ، والعقل القدسي ، والقلب الملكوتي ، والسر الجبروتي تذوب عن خلقها وتزول عن بخلها ، وصارت ساكنة عن الحرص ، سخية بالبذل ، وهذه نفس الأولياء ، ونفس الأنبياء خلقت سخية غير حريصة ، ونفس العامة

٣٨٦

بقيت على حال الفطرة إلا نادرا ، فإن الله سبحانه يخلق في الأحانين كافرا سخيا ومؤمنا بخيلا.

(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ) لوقوفكم مع صفات نفوسكم التي من لوازمها الشح الجبلي ؛ لكون إدراكها مقصورا على ما يدرك بالحس من الأمور المادية المحصورة ، واحتجابها عن البركات الغير المتناهية والرحمة الواسعة الغير المنقطعة التي لا تدرك إلا عند اكتحال البصيرة بنور الهداية ، فتخشى نفادها وانقطاعها.

قال حمدون : أخبر الله عن حقيقة طباع الخلق ، فقال : لو ملكتم ما أملكه من فنون الرحمة وخزائن الخير لغلب عليكم سوء طباعكم في الشح والبخل.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ) الايات التسع : ملاحة عينه ، وحسن وجهه ، وحل لسانه ، وشرح صدره ، وهيبته من الله قد علاه ، وانبساطه ، وغر بدنه ، واستجابة الدعوة بقوله : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) [يونس : ٨٨] ، والشريعة المجموعة.

وأيضا : فلق البحر ، وانقلاب عصاه ، ويده البيضاء ، ومقام التجلي ، وسماع كلام الصرف ، وغلبة الشوق عليه ، والمن والسلوى ، وانفجار الحجر بالماء ، وإحراق الذهب بالكيمياء.

قال جعفر رضي الله عنه : من الايات التي خصّه الله بها الاصطناع ، وإلقاء المحبة عليه ، والكلام والثبات في محل الخطاب ، والحفظ في اليم ، واليد البيضاء ، وعطاء الألواح.

وقال ابن عطاء : من الايات حمل قوة الخطاب في المشاهدة ، والمراجعة في طلب الرؤية ، وهذه من أعظم الايات.

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦))

قوله تعالى : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي : بحق الربوبية على العبودية أنزلنا القرآن على قلوب الصدّيقين والمقربين ؛ ليعرفهم ذاتنا وصفاتنا الأزلية الأبدية ، ويدور أسرارهم في عالم الغيوب لترى أسرارنا ، وخزائن ملكنا ، وعجائب قدرتنا في جميع الذرات ؛ لأنّ القرآن مفاتيح الذات والصفات ، وخزائن الملك والملكوت ، وبحق العبودية نزل القرآن ليعرفهم منازلنا ومقاماتها من الصدق والإخلاص وجميع المعاملات ؛ لتسري على بحارها الأرواح القدسية ، والقلوب الروحانية ، والعقول الصافية ، والأبدان المقدسة ، لعرفان مكان الخضوع والفناء في الحق.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً) لأهله ، وحامله بحسن القبول واليقين والمعرفة

٣٨٧

والتمكين.

(وَنَذِيراً) لمن تقاعد عن أمره ، ولم يعرف مكانه.

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) أي : ما أنزلنا القرآن إلا بعد زوال بشرية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكلية في مقام الفناء ، وانتفاء الحدثان عن وجه القدم ، وانقشاع ظلمة الإمكان عن سبحات الوجه الواجب الباقي بالفرق الثاني ؛ ليكون له محل وجودي ، فما كان إنزاله إلا ظهور أحكام التفاصيل من عين الجمع وجدوه مطابقا لما اعتقدوه ، فإن الاعتقاد والحق لا يكون إلا واحدا.

قال جعفر رضي الله عنه : الحق أنزل على قلوب خواصه من مكنون فوائده ، وعجائب بره ، ولطائف صنعه ، ما نوّر بهم أسرارهم ، وطهّر بها قلوبهم ، وزيّن بها جوارحهم ، وبالحق نزل عليهم هذه اللطائف.

وقال ابن عطاء : مبشرا لمن أقبل عليك ، ونذيرا لمن أعرض عنك.

(قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) أراد ب (أُوتُوا الْعِلْمَ) أوتوا المعرفة ، وأوتوا الأرواح الناطقة بالحق العارفة بالحق ، العالمة على الحق ، في بدء أمرها قبل الكون ، ومن قبل ظهور الشرائع والعبودية ، سامعة للحق من الحق بلا واسطة ولا حجاب ، (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) بعد كونهم في الأشباح تكون معرجة من محبة الله ، متحركة بشوق الله ، مستروحة بلذة خطاب الله ، عارفة بمراده ، خاضعة لأمره ، إذا سمعوا كلام الحق استلذوا محبته في قلوبهم ، فيهيجهم إلى بذل الوجود والخضوع بين يدي جبروته ، فلا حيلة لهم إلا وضع وجوههم على التراب خنوعا لجبروته ، ومعرفة بعظم ملكوته ، ويذكرون الله وينزهونه ويقدسونه عن الأضداد والأنداد ، وعن الشرك والشريك في ملك ربوبيته ، وذلك قوله : (وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا).

ثم زاد في وصفهم بالخوف عنه وإجلال جلاله بنعت البكاء والخشية بقوله : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) بكاؤهم من شوقه إلى جماله ، وحبّا للقائه ، وتعظيما لعظمته ، ما أطيب هذا البكاء ، وما ألذّ هذا الخشوع ، بكاؤهم منه عليه ، يبكون من الفقدان في الوجدان ، ومن الوجدان في الفقدان ، ومن الحضور في الغيبة ، ومن الغيبة إلى الحضور ، والسرور بالشهود ، وحسن الإقبال عليه ، وخوف إعراضه عنهم.

٣٨٨

وأنشدوا في هذا المعنى :

يا هلال السماء كطرف كليل

فإذا ما بدا أضاء طرفيه

كنت أبكي علي منه فلما

أن تولّى بكيت منه عليه

(وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) : باللين والانقياد لحكمه لتأثرهم به ، وحسن تلقيهم لقبوله.

قال سهل : لا يؤثر عليه سماع القرآن ، فإن العبد إذا سمع القرآن خشع سره لسماعه ، وأنار قلبه بالبراهين الصادقة ، وزين جوارحه بالتذلل والانقياد.

وقال أبو يعقوب السوسي : البكاء على أنواع ، بكاء من الله ، وهو أن يبكي شفقة لما جرى عليه من الحق في الأزل من السعادة والشقاوة ، وبكاء على الله ، وهو أن يبكي حسرة وتحسرا على ما يفوته من الحق ومن حظه منه ، وبكاء الله ، وهو البكاء عند ذكره وقربه ووعده ووعيده ، وبكاء بالله ، وهو يبكي بلا حظ منه في بكائه.

وقال القاسم : البكاء على وجوه ، بكاء الجهال على ما جهلوا ، وبكاء العلماء على ما قصروا ، وبكاء الصالحين مخافة الفوت ، وبكاء الأئمة مخافة السبق ، وبكاء الفرسان من أرباب القلوب للهيبة والخشية وتواتر الأنوار ، ولا بكاء للموحدين.

وقال الأستاذ : السماع مؤثر في قلوب قوم ، محير لأسرار آخرين ، فتأثير السماع في قلوب العلماء بالتبصير ، وتأثير السماع في أسماع الموحدين بالتحيير ، فيبصر العلماء بصحة الاستدلال ، ويحير الموحدين في شهود الجمال والجلال.

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١))

قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) إنّ الله سبحانه دعا عباده إلى معرفة الاسمين الخاصين ، اللذين فيهما أسرار جميع الأسماء والصفات والذات والنعوت والأفعال ، فالله اسمه ، وهو اسم عين جمع الجمع ، والرحمن اسم عين الجمع ، فالرحمن مندرج تحت اسم الله ؛ لأنه عين الكل ، وإذا قلت الله ذكرت عين الكل ، فالقول خبر ، والخبر أثر ، والأثر ذكر ، والذكر فكر ، والفكر وقوع نور العقل ، ونور العقل مقرون بنور الصفة ، ونور الصفة مقرون بنور الذات ، فإذا سميته ذكرته ، وإذا ذكرته فنيت الصورة في فعله بنعت الخشوع ، وإذا فنيت الصورة ذكره العقل ، ففني العقل في الاسم والنعت ، وإذا فني العقل ذكره القلب بالصفة

٣٨٩

والوصف ، وفني القلب في الصفة ، وإذا فني القلب ذكره الروح بالذات ، ففنيت الروح في القدم ، وإذا فنيت الروح ذكره السر بباطن العلم ، ففي السر في الغيب ، وذكره سر السر في غيب غيبه ، فلم يبق في البين رسم ولا اسم ولا وصف من حيث العبودية ، وبقي الاسم ، والمسمى واحد في واحد.

(قُلِ ادْعُوا اللهَ) بالفناء في الذات الجامعة لجميع الصفات.

(أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) بالفناء في الصفة التي هي أم الصفات.

(أَيًّا ما) طلبت من هذين المقامين لست هناك بموجود ، ولا لك بقية ولا اسم ولا عين ولا أثر ؛ إذ الرحمن لا يصلح اسما لغير تلك الذات ، ولا يمكن ثبوت تلك الصفة أي : الرحمة الرحمانية لغيرها ، فلا يلزم وجود البقية بخلاف سائر الأسماء والصفات.

(فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) كلها في هذين المقامين لا لك.

(وَلا تَجْهَرْ) في صلاة الشهود بإظهار صفة الصلاة عن نفسك ، فيؤذن بالطغيان ظهور الأنائية.

(وَلا تُخافِتْ بِها) غاية الإخفات ، فيؤذن بالانطماس في محل الفناء دون الرجوع إلى مقام البقاء ، فلا يمكن لأحد الاقتداء بك.

(وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) يدل على الاستقامة ولزوم سيرة العدالة في عالم الكثرة ، وملازمة الصراط المستقيم بالحق (١).

قال تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] ، فإذا كان العبد في قوله : «الله» هكذا أو في قوله : «الرحمن» هكذا فهو مصدر صفة القدم والبقاء ، وهو مصدر القدرة والحياة ، فإذا قال : «الله» يفنى الكل ، وإذا قال : «الرحمن» يبقى الكل ، من حيث الاتصاف والاتحاد ، فالاتصاف بالرحمانية يكون ، والاتحاد بالألوهية يكون.

قال الحسين : ما دعا الله أحد قط إلا إيمانا ، فأما دعوة حقيقة فلا.

قال الواسطي : أسماؤه لا تدخل تحت الحصر ، وذاته ليس بمشار إليه ، ولا بموصوف بصفة حقيقية ، إلا بصفة المدح والحق ، وهو الخارج عن الأوهام والأفهام ، فأنّى له النعوت والصفات!

__________________

(١) أي : طريقا وسطا بين الإيمان والكف ، ولا واسط ، إذ الحق لا يختلف ، فإن الإيمان بالله إنما يتم برسله وتصديقهم فيما بلغوا عنه ، تفصيلا وإجمالا ، فالكافر بالبعض كالكافر بالكل في الضلال. انظر : البحر المديد (٢ / ١٠).

٣٩٠

وقال الأستاذ : من عظيم نعمته سبحانه على أوليائه تنزيههم بأساريرهم في رياض ذكره بتعداد أسماء الحسنى ، فينقلبون من روضة إلى روضة ، ومن مأنس إلى مأنس.

ويقال : الأغنياء ترددهم في بساتينهم وتنزهم في منابت رياحينهم ، والفقراء تنزههم في مشاهدة تسبحيهم ، يسترحون إلى ما يلوح لأسرارهم من كشوفات جماله وجلاله.

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي : أظهر الكمالات الإلهية والصفات الرحمانية التي لا تكون إلا للذات الأحدية.

(الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) أي : لم تكن علة الموجود من جنسه ؛ لضرورة كون المعلول محتاجا إليه ، ممكنا بالذات ، معدوما بالحقيقة ، فكيف يكون من جنس الموجود حقّا الواجب بذاته من جميع الوجوه؟

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ) من يساويه في قوة القهر والمملكة من الشريك في الملك ؛ وإلا لكانا مشتركين في الوجود والحقيقة ، فامتياز كل واحد منهما عن الاخر لا بدّ وأن يكون بأمر غير الحقيقة الواجبية ، فلزم تركبهما فكانا كلاهما ممكنين لا واجبين.

وأيضا : فإن لم يستقلا بالتأثير لم يكن أحدهما إلها ، وإن استقل أحدهما دون الاخر فذلك هو الإله دونه ، فلا شريك له.

وإن استقلا جميعا لزم اجتماع المؤثرين المستقلين على معلول واحد إن فعلا معا وإلا لزم إلهية أحد هما دون الاخر رضي بفعله أو لم يرض.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) أي : لم يكن له ناصر علة كان أو جزء علة تقويه وتنصره من ذلة الانفعال والعدم ، وإلا لم يكن إلها واجبا بل ممكنا ؛ لتكون حبيبا قائما به لا بنفسك.

(وَكَبِّرْهُ) من أن يتقيد بصفة دون أخرى ، وصورة غير أخرى ، أو يلحقه شيء من هذه النقائض ، فينحصر في وجود خاص ، تبارك وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

(تَكْبِيراً) لا يقدر قدره ، ولا يعرف كنهه ، لامتناع وجود شيء غيره يفضل عليه وينسب إليه ، بل كل ما يتصور ويعقل ، ولا تكبر غيره بهذا التكبير.

ثم إن الله سبحانه أمر حبيبه وصفيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يحمده ؛ لأنه كان أهل المدح والحمد بالحقيقة لا غير ، أمره بحمده بأن أخبره عن تنزيه قدمه عن إشارة كل مبتدئ إلى ابتدائه ؛ لأن ابتداءه منزه عن كل ابتداء ، فإن ابتداء قدمه هو القدم ، وقدم القدم منزه عن حصر الزمن ، وقدم قدمه مع تنزيهه عن العدد ، وعلة الابتداء لم يكن محلا للحوادث بقوله : (لَمْ يَتَّخِذْ

٣٩١

وَلَداً) ، بدأ الكل من حواشي حرفية النون وكافه ، فكافه ونونه منزه عن أن يكون محلا لحمل الحدثان ، وأخذه من حيث المباشرة بدء حين القدر جاء بأمر القدم ، فظهر الكون من نيران الكاف والنون ، حيث أظهرها من العدم للقدم ، فإذا قطع الخيال والأوهام عن درك الأولية ، روح الأسرار بأحديته عن كل ضد وند ، بأن يزول عزته عن تعالي الأضداد عليه ، ففزع أسرار الموحدين عن نقائص الفناء ، ودخولها في بقائه لقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) فإذا أفرد نفسه عن النقائص والنكائد وعلل الحوادث فردانية حقيقية منزهة عن أوهام المشيرين إليه بعلل الخيال والوهم والعدد والمدد ، أمره بأن يكبره ويعظمه من كل خاطر ممزوج بالتشبيه والتعطيل بقوة ظهور كبريائه في قلبه لا من حيث العلم والصورة بقوله : (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) تعالى الله ، وتعالى كبريائه عن أن يكون في ملكه متكبرا ، وفي ساحة جلاله متعظم.

قال ابن عطاء : عظم منته وإحسانه في قلبك بعلمك بتقصيرك في شكره.

وقال بعضهم : اعلم أنك لا تطيق أن تكبره الاية ، فاستغث به ليدل قلبك على مواقف التعظيم.

سورة الكهف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥))

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) حمد نفسه سبحانه في الأزل ، وكان موصوفا بحمده الأزلي قبل حمد الحامدين له حمدا يكافئ كتابه الذي أنزل على عبده ، ولو وكل حمده إلى عبده لإنزال كتابه عليه ؛ لذهب بحمده عن وجود الكون ، ولم يطق أن يحمل وارد حمده بحكمة واستحقاق حمده.

فشكر نفسه لما منّ على عبده ؛ ليسهل على عبده طريق عبوديته ؛ لأن حمد القديم لا يحتمل إلا القديم ، شرف على الأنام لما منّ عليه من العرفان ، وسماه عبده ، وأي : تكرمة أكرم من هذا ، ولا يليق الحدثان بعبودية الذي يفنى أول سطوات عظمته الكون كان مسألة تعليم

٣٩٢

لعبادة أي : احمدوا الله الذي عرف عبده الكلام الأزلي بعد أن وهبه استعداد سماع كلامه ، وقبول وحيه قوة رؤيته من يعبر عنه بلسان غير معوج ، وغير مفهوم ولو أنزل عليهم باللسان الأزلي من يفهم ذلك من العرش إلى الثرى إلا متصف بصفاته ، فالحمد وجب على الجمهور ؛ حيث شاهدوا بصفاته وكلامه على عبده ، وأنطقه بمراده من كتابه.

قال ابن عطاء : أضاف الكل بالكلية إلى نفسه ، وقال على عبده أي : على عبده المخلص ، وحقيقة العبد الذي لا ملك له.

وقال أيضا : الكتاب منشور ظاهر فيه أسرار باطنه.

(عِوَجاً) أي : زيغا وميلا إلى الغير ، كما قال : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم : ١٧] أي : لم ير الغير في شهوده.

(قَيِّماً) اجعله قيما يعني : مستقيما كما أمر بقوله : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود : ١١٢]

والمعنى : جعله موحدا فانيا فيه غير محتجب في شهوده بالغير ولا بنفسه ، لكونها غير أيضا ممكنا مستقيما حال البقاء.

كما قال : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت : ٣٠].

أو جعله قيما بأمر العباد وهدايتهم إذ التكميل يترتب على الكمال ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فرغ من تقويم نفسه وتزكيتها أقيمت نفوس أمته مقام نفسه ، فأمر بتقويمها وتزكيتها ، ولهذا المعنى سمي إبراهيم ـ صلوات الله عليه ـ أمة.

وهذه القيمة أي : القيمة بهداية الناس داخلة في الاستقامة المأمور هو بها في الحقيقة ؛ (لِيُنْذِرَ) متعلق بعامل قيما أي : له قيما بأمر العباد ؛ لينذر (بَأْساً شَدِيداً) وحذف المفعول الأول للتعميم ؛ لأن أحدا لا يخلو من بأس مؤمن كان أو كافر.

كما قال تعالى : «أنذر الصديقين بأني غيور ، وبشّر المذنبين بأني غفور» (١) ، إذ البأس عبارة عن قهره ، ولذلك عظمه بالتنكير أي : بأسا يليق بعظمته وعزته ووصفه بالشدة ، وخصصه بقوله : (مِنْ لَدُنْهُ) والقهر قسمان : قهر محض ظاهره وباطنه قهر كالمختص بالمحجوبين بالشرك ، وقسم ظاهره قهر وباطنه لطف وكذا اللطف.

كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : سبحان من اشتدت نقمته على أعدائه في سعة نعمته ،

__________________

(١) لم أقف عليه هكذا ، وقد ثبت في أحاديث عدة بنحوه.

٣٩٣

واتسعت رحمته لأوليائه في شدة نقمته ، ومن القسم الثاني : القهر المخصوص بالموحدين من أهل الفناء أطلق الإنذار لكل تنبيها ثم فصل اللطف والقهر مقيدين بحسب الصفات والاستحقاقات.

فقال : (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : الموحدين لكونهم في مقابلة المشركين الذين قالوا :

اتخذا الله ولدا ، (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) أي : الباقيات من الخيرات والفضائل ؛ لأن الأجر الحسن : هو من جنة الاثار والأفعال التي تستحق بالأعمال.

واعلم أن الإنذار والتبشير اللذين هما من باب التكميل اللازم ؛ لكونه قيما عليهم كلاهما أثر ونتيجة عن صفتي القهر واللطف الإلهيين اللذين محل استعداد قبولهما من نفس العبد الغضب والشهوة ، فإن العبد ما استعد لقبولهما إلا بصفتي : الغضب والشهوة وفنائهما ، كما لم يستعد لفضيلتي الشجاعة والعفة إلا بوجودهما ، فلما انتفتا قامتا مقامهما ؛ لأن كلّا منهما ظل لواحدة من بينك يزول بحصولها ، فعند ارتواء القلب منهما ، وكمال التخلق بهما حدث عن القهر الإنذار عند استحقاقية المحل بالكفر والشرك ، وعن اللطف التبشير باستحقاقية الإيمان والعمل الصالح ؛ إذ الإفاضة لا تكون إلا عند استحقاق المحل.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) العمل الصالح : التبري من الوجود بوجود الحق ، والأجر الحسن مشاهدة الحق بلا حجاب أبدا.

قال بعضهم : العمل الصالح ما أريد به وجه الله لا غير ، والأجر الحسن لا يحجب عن لقاء سيده تعالى : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) ومن لم يجد مقام مشاهدته ، ولم يعرف ذاته وصفاته بنعت رؤيته وخطابه ، ويشير إليه بكلمة المعرفة فقد عظم ذلك عند الله ؛ لأنه افترى على الله كذبا يا ليت لو خلص من عاينه ، وأخبر عنه من هذه الورطة ؛ لأن من عاينه وأخبر عنه ، فقد أخبر عن غيره ، وخبره وقع موقع تلك الكلمة التي كبرت ، تخرج من أفواههم ؛ ألا ترى إلى تمام الاية : كيف شكا عن الكل فقال : (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) ، ولذلك قال الواسطي : من ذكر افترى.

وقال ابن عطاء : أكبر الدعاوى من ادعى في الله ، وأشار إلى الله ، أو يكلم عن الله أو دخل في ميادين الانبساط ، فإن ذلك كله من صفات الكذابين.

قال الله : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) ولتحقق به لا يظهر شيئا من أحوال بحال.

وقال الأستاذ : من تكلم بهذا اللسان قبل أوانه فقد دخل في غمار هؤلاء.

٣٩٤

(ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي : ما لهم بهذا القول من علم بل إنما يصدر عن جهل مفرط وتقليد للاباء لا عن علم ويقين ويؤيده قوله : (كَبُرَتْ كَلِمَةً) أي : ما أكبرها كلمة (تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) ليس في قلوبهم من معناه شيء ؛ لأنه مستحيل بالقرآن ، استشعر ببقية من نفسه وتوجس بنقصان حالة فعلاه الوجد ، وعزم على قهر النفس بالكلية طلبا للغاية ، وكان ذلك من فرط شفقته عليهم ، وكمال أدبه مع الله حيث أحال عدم إيمانهم على ضعف حاله على عدم استعدادهم ؛ ولذلك سلاه بقوله : (إِنَّا جَعَلْنا) أي : لا تحزن عليهم فإنه لا عليك أن يهلكوا جميعا إنا نخرج جميع الأسباب من العدم إلى الوجود للابتلاء ، ثم نفنيها ولا حيف ولا نقص ، أو إنا جعلنا من على أرض البدن من النفس ولذاتها وشهواتها وقوى صفاتها وإدراكاتها ودواعيها (زِينَةً لَها) ؛ ليظهر أيهم أقهر لها وأعصى لهواها في رضاي ، وأقدر على مخالفتها لموافقتي.

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢))

قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) أخبر سبحانه عن محبة حبيبه نظام طريق محبته وعبودية عباده له ، وشدة حرصه واهتمامه على الخلق ، ومن غلبه ذلك غاص في بحر الأولية ، وسابق العناية لطلب فسخ إبرام القدر المقدر لا بنفسه ، وذلك من علمه بتنزيه جلاله ؛ حتى لو أراد أن يبدل جميع أقداره لقدر ، ولو يغفر لجميع الكفار لقدر ، ولا نقص على برهانه وسلطانه ، فأعلمه الحق أن هذا رسم أسرار الربوبية ، ولا تقدر أن تهتك تلك الأسرار ؛ لأنه غيور على سره وغيبه.

قال بعضهم : لا تشغل سرك بمخالفتهم فما عليك إلا البلاغ ، والهدى منا لمن نشاء.

قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) إن الله سبحانه جعل في الأرض آيات السفلية من كل ما أظهر فيها من : الأنهار والأشجار والجبال والبحار والمعادن والنبات والرياحين ، وألبسها قميص أنوار صفاته ، وجعلها مرآة للعارفين ؛ لينظروا فيها ، ويرون فيها أنوار جلاله وجماله ، وأي زينة لها أعظم من نور بهائه وضياء صنائعه ، ويمتحن بذلك

٣٩٥

المحتجب بمحل الزينة ، والمنفرد برؤية الصفات.

وذلك قوله : (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً). العمل ها هنا ترك صورة الزينة والمزين والاشتغال بالمزين ؛ بأن آثار جماله مبين من كل ذرة فمن نظر إلى ذلك رأى الأشياء بالحقيقة.

لذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهمّ أرنا الأشياء كما هي» (١) وأيضا : زينة الأرض أولياء الله والخلق ممتحنون بهم ؛ حتى من يعرف حقوقهم فحسن العمل النظر إليهم بالحرمة.

قال ابن عطاء : أحسن إعراضا عنها وتركا لها.

وقال سهل : أحسن توكلا علينا فيها.

وقال أيضا : حسن العمل الاستقامة عليها بالسنة.

وقال القاسم : زينة الأرض : الأنبياء والأولياء والعلماء الربانيون والأوتاد.

وقيل : أهل المعرفة بالله والمحبة له المشتاقون إليه هم : زينة الأرض ونجومها وأقمارها وشموسها.

وقال الجنيد : أهل الفهم عن الله هم الذين جعلوا ما على الأرض من زينتها عبرة لهم ؛ لئلا يتشاغلوا بشيء من الزينة ، ولا يعملوا بشيء من الزينة ، ويعملون لمن زين هذه الزينة.

قوله : (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ) أعلى همة وأطرب نفسا في الإعراض عما لا يبقى بالاشتغال بالباقي.

وقال الواسطي : أيهم أفزع قلبا وأصفى قصدا.

يقال : العباد بهم زينة الدنيا ، وأهل المعرفة بهم زينة الجنة.

ويقال : زينة الأرض تكون الأولياء ، وهم أمان في الأرض.

ويقال : إذا تلألأ أنوار التوحيد في أسرار الموحدين أشرق حمى الافاق بحيائهم.

وقال الأستاذ في قوله : (أَحْسَنُ عَمَلاً) أصدقهم نية ، وأخلصهم طوية.

ثم إنّ الله سبحانه لما آوى أولياؤه إلى حضرته القديمة ، بقي ما على الأرض من زينة

(صَعِيداً جُرُزاً) يابسا وأرضا فقرا لا نبات فيها ؛ ليتعطل الحدثان ، ويبقى الرحمن بقوله : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) أي : تغرب شموس أنوار الصفات في مغارب الأفعال ، فلا يبقي في مرآة الفعل أثر من نور الصفة ؛ لأن نور الصفة رجع إلى معدنه من الذات وظهوره ؛ لأجل سلب قلوب الصديقين من الأولياء إلى تلك المعاهد ، فإذا بلغوا إلى مأواهم ذهب معهم أنوار الصفات.

__________________

(١) ذكره ابن عادل في تفسير اللباب (٣ / ٧).

٣٩٦

قال الواسطي : في هذه الاية الكون في قبضة الحق ، وهو هباء في جنب القدرة.

قال الله : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً).

(وَإِنَّا لَجاعِلُونَ) بتجلينا وتجلي صفاتنا (ما عَلَيْها) من صفاتها هامدة كأرض ملساء لا نبات فيها أي : نفنيها وصفاتها بالموت الحقيقي وبالموت الطبيعي ولا نبالي.

قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) ذكر سبحانه من بسط قدرته ، وعظيم آياته ، وعجائب شأنه أي : إيش معجب من أصحاب الكهف والرقيم من لبثهم في الكهف ثلاثمائة سنين وزيادة فإنهم في مراقد أنسنا ، وبساتين قدسنا ، غائبون فينا عن غيرنا ، فإن في سعة قدرتنا ، إنا نحن لو نشق وردة من بساتين غيبنا لمشامّ العالمين ، يهيمون في البوادي والقفار أبدا ، وما أظهرنا فيك من الايات الكبرى أعجب من حالهم ألف مرة ، وليس في عالم القدرة القديمة عجز عن إيجاد كل موهوم ومعدوم.

قال الحسين : أصحاب الكهف في ظل المعرفة الأصلية لا يزايلهم بحال ؛ لذلك خفي على الخلق آثارهم.

وقال ابن عطاء : سلبهم عنهم وأخذهم منهم ، وحال بينهم وبين الأغيار ، وألجأهم إلى غار الأنس ، وآواهم ، وآمنهم ثم أفناهم عنهم ، وغيبهم من إرادتهم ومعاينتهم ، فتاهوا في الحضرة والهين ؛ لذلك قال الله سبحانه : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ) ، بل : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً).

أي : إذا شاهدت هذا الإنشاء والإفناء ، فليس حال أصحاب الكهف آية عجيبة من آياتنا ، بل هذه أعجب.

وقال الجنيد : لا تتعجب منهم فشأنك أعجب من شأنهم ، حيث أسري بك في ليلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وبلغ بك سدرة المنتهى ، وكنت للقربى كقاب قوسين أو أدنى ، ثم رددت عند انقضاء الليلة إلى مضجعك.

وقال بعضهم : أصحاب الكهف كالنومى لا علم لهم بوقت ، ولا زمان ولا معرفة بمحل ، ولا مكان ، أحياء موتى صرعى مفيقون ، نومى منتبهون ، لا إليهم سبيل ، ولا لهم إلى غيرهم طريق ، ورددت عليهم خلع الهيبة ، وأظلهم بنور التعظيم ، وأحدقت بهم حجب العظمة ، واستناروا بنور العرش الكريم ؛ لذلك قال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً).

وقال الأستاذ : مكثوا في الكهف مدة ، فأضافهم إلى مستقرهم ، فقال أصحاب الكهف :

٣٩٧

وللنفوس محالّ ، وللقلوب مقارّ ، وللهمم مجال ، وحيثما يعتكف القلب ، فهناك يطلب أبدا صاحبه.

واعلم أن أصحاب الكهف هم السبعة الكمّل القائمون بأمر الحق دائما الذين يقوم بهم العالم ، ولا يخلو عنهم الزمان على عد الكواكب السبعة السيارة وطبقها ، فكما سخرها الله تعالى في تدبير نظام علم الصورة ، كما أشار إليه بقوله : (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥)) [النازعات : ٤ ، ٥] على بعض التفاسير.

وكل نظام عالم المعنى ، وتكميل نظام الصورة إلى سبعة أنفس من السابقين كل ينتسب بحسب الوجود الصوري إلى واحد منهم ، والقطب هو المنتسب إلى الشمس ، والكهف هو باطن البدن ، والرقيم ظاهره الذي انتقص بصور الحواس والأعضاء ، إن فسر باللوح الذي رقمت فيه أسماؤهم والعالم الجسماني ، إن جعل اسم الوادي الذي فيه الجبل والكهف والنفس الحيوانية ، إن جعل اسم الكلب والعالم العلوي ، إن جعل اسم قريتهم ، على اختلاف الأقوال في التفاسير.

ومنهم الأنبياء السبعة المشهورون المبعوثون بحسب القرون والأدوار ، وإن كان كل نبي منهم على ذكر وهم : آدم وإدريس ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه السابع المخصوص بمعجزة انشقاق القمر أي : انفلاقه عنه لظهوره في دورة ختم النبوة ، وكمل به الدين الإلهي. كما أشار إليه بقوله : «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» (١) إذ المتأخر بالزمان والظهور أي الوجود الحسي هو الحائز لصفات الكل ، وكمالاتهم كالإنسان بالنسبة إلى سائر الحيوانات.

ولهذا قال : «كان بنيان النبوة قد تم ، وبقي منه موضع لبنة واحدة ، فكنت أنا تلك اللبنة» (٢).

وقد اتفق الحكماء المتألهة من قدماء الفرس أن مراتب العقول والأرواح على مذاهبهم في التنازل تتضاعف إشراقاتها ، فكل ما تأخر في الرتبة كان حظه من إشراقات الحق وأنواره ، وسبحات أشعة وجهه وإشراقات أنوار الوسائط بكل منها من مبادئها في الأزل. كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة» (٣) حتى انتهت الدرجات في العلو إلى الفناء والتوحيد الذاتي فبهذا الاعتبار يكون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عين آدم ، بل عين السبعة وكذا باعتبار كونه

__________________

(١) رواه البخاري (٣ / ١١٦٨) ، ومسلم (٣ / ١٣٠٥).

(٢) رواه مسلم (٤ / ١٧٩٠).

(٣) رواه البخاري (٣ / ١٢٣٨) ، ومسلم (٤ / ١٩٥٨).

٣٩٨

جامعا لصفاتهم.

كما قيل : إنه سئل أبو يزيد ـ رحمة الله عليه ـ أنت من السبعة؟ فقال : أنا السبعة.

وباعتبار علو مرتبته ومكانته وسبقه في القدم ، وارتفاع درجة كماله وفضيلته كان أقدمهم ، وأولهم وأفضلهم. كما قال : «أول ما خلق الله نوري ، وكنت نبيّا وآدم بين الماء والطين» (١) فهو متقدم عليهم بالرتبة والعلية والشرف والفضيلة ، متأخر عنهم بالزمان ، وهو عينهم باعتبار السر ، والوحدة الذاتية فالحاصل أن اختلافهم وتباينهم روحا وقلبا ونفسا لا ينافى اتحادهم في الحقيقة ، وكذا افتراقهم بالأزمنة لا ينافي معيتهم في الأزل والأبد وعيّن الجمع.

كما قال : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) [البقرة : ٢٥٣] مع قوله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) [آل عمران : ٨٤] ويجوز أن يكون المراد بأصحاب الكهف : روحانيات الإنسان التي تبقى بعد خراب البدن.

وقول من قال : ثلاثة إشارة إلى الروح والعقل والقلب ، والكلب هي النفس الملازمة لباب الكهف ، ومن قال خمسة إشارة إلى : الروح ، والقلب ، والعقل النظري والعقل العملي ، والقوة القدسية للأنبياء التي هي الفكر لغيرهم ، ومن قال : سبعة فتلك الخمسة مع السر والخفاء ، والله أعلم.

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) أي : كهف البدن بالتعلق به (فَقالُوا) بلسان الحال (آتِنا مِنْ لَدُنْكَ) أي : من خزائن رحمتك التي هي أسماؤك الحسنى (رَحْمَةً) كما لا يناسب استعدادنا ويقتضيه ، (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا) الذي نحن فيه من مفارقة العالم العلوي ، والهبوط إلى العالم السفلي لاستكمال (رَشَداً) استقامة إليك في سلوك طريقك والتوجه إلى جنابك أي : طلبوا بالاتصال البدني والتعلق بالايات الكمال وأسبابه الكمال العلمي والعملي.

قوله تعالى : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ) وصف الله سبحانه أول زمرة السبعة المختارة من أصحاب الكهف ، والثلاثة المختارة من أصحاب الرقيم ، وهم فتيان المعرفة الذين خلقوا بسجية الفتوة ، وفتوتهم إعراضهم عن غير الله ، وعن الكون جميعا ، وإقبالهم على الله بنعت

__________________

(١) روى عبد الرزاق في المصنف (١٨) عن معمر عن ابن المنكدر عن جابر قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أول شيء خلقه الله تعالى؟ فقال : هو نور نبيك يا جابر خلقه الله ، ثم خلق فيه كل خير ، وخلق بعده كل شيء ... الحديث ، وانظر : الجزء المفقود من الجزء الأول من مصنف عبد الرزاق (ص ٦٣) ، وشرف المصطفى للخركوشي (١ / ٧٠٣) ، وكشف الخفاء للعجلوني (١ / ٣١١) ، والمواهب اللدنية (١ / ٧١) ، ومواكب ربيع في مولد الشفيع للحلواني (ص ٢٧ ، ٣٣).

٣٩٩

إيوائهم إلى كهوف وصاله ، وضلال جماله ، وحصون أنسه ، وقصور قدسه بذلوا مهجتهم لله بلا نصب لأنفسهم ، وطلبوه منه ، ودخلوا في مزار قربه ، ومساقط أنوار شهوده ، فلما استقاموا في منازل الأنس ، ومشاهدة القدس ورأوا محبوبهم بنعت الرعاية والكلاءة ، هيجهم نور البسط ، وسر الافتقار إلى سؤال زيادة القربات والمدانات.

(فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) معرفة كاملة وتوحيدا عزيزا (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) من أمر محبتك (رُشْداً) صبابتك والوصول إلى وصال قدمك الذي بلا زوال ولا امتحان ، فهناك مقيل السعادة الكبرى ، ومراقد المشاهدة الكبرى.

قال الأستاذ : آواهم إلى كهف بظاهرهم ، وفي الباطن مهد مقيلهم في ظل إقباله وعنايته ، ثم أخذهم عنهم وقام عنهم فأجرى عليهم الأحوال ، وهم مصطلمون عن شواهدهم ، فلما عاينوا من الكشف الأكبر ، والرضوان الأعظم ، استطابوا الوقت ، وخافوا الفوت ، والتجئوا منه إليه ، فألطف عليهم الحق سبحانه ، فغيبهم عن الوجود ، وأخذهم بنفسه عن وجودهم بقوله : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) ذكر واحدا من الإحساس وجميعها مستغرقة في أنوار وطأة هيبة الجلال عليهم ، لما سترهم وضرب عليهم سرادق غيرته ، بقي عليهم حس الاذان ، فضرب على آذانهم ستر الغيرة ؛ حتى لا يحسوا أصوات الأغيار أدخلهم في قباب عصمته ، وأنّسهم بحسن مشاهدته ، وغيبهم عنهم فيه وزال عنهم رسوم البشرية ، فبقوا مع الحق بالحق ناظرا إلى الحق بلا فترة.

(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) أي : أنمناهم نومه الغفلة عن عالمهم وكمالهم نومة ثقيلة لا ينبههم صفير الخفير ، ولا دعوى الداعي الخبير في كهف البدن (سِنِينَ) ذوات عدد أي : كثيرة أو معدودة أي : قليلة هي مدة انغماسهم في تدبير البدن وانغمارهم في بحر الطبيعة مشتغلين بها غافلين عما وراءها من عالمهم إلى أوان بلوغ الأشد الحقيقي ، والموت الإرادي والطبيعي ، كما قال : «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» (١).

وفيه نكتة لطيفة : لما رأوا الحق بهتوا في أنوار قدمه ، وفنوا في سطوت عظمته ، وذهبوا عن مقام سماع الخطاب لو بقي عليهم سماع الخطاب ، لم يستحكموا في مقام الخطاب على حد الرضا مقام الاستلذاذ والأنس والبسط والبقاء ، فأفناهم عنها لاستيفاء حظ التوحيد والفناء عنهم.

وأيضا : صارت أسماع الظاهر إلى سماع بواطنهم ، فسمعوا بأسماع القلوب والأرواح

__________________

(١) رواه البيهقي في الزهد الكبير (٢ / ٢٠٧).

٤٠٠