تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٧٤

وأيضا قال أما قوله : (فَأَرَدْتُ) كان شفقة على الخلق ، وقوله : (فَأَرَدْنا) رحمة ، وقوله : (فَأَرادَ رَبُّكَ) رجوعا إلى الحقيقة.

وقال الحسين في قوله : (فَأَرَدْتُ) وأردنا ربك المقام الأول استيلاء الحق ، والمقام والثاني مكالمة مع العبد ، والمقام الثالث رجوع إلى باطن الغلبة في الظاهر ، فصار به باطن الباطن ظاهر الظاهر ، وغيب الغيب عيان العيان وعيان العيان غيب الغيب ، كما أن القرب من الشيء بالنفوس هو البعد فالقرب منها بما هو القرب.

قصة ذي القرنين مشهورة ، وكان روميّا قريب العهد والطبيعي أن ذا القرنين في هذا الوجود هو القلب الذي ملك قرينه أي : خافقيه شرقها وغربها (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ) في الأرض البدن بالأقدار والتمكين على جميع الأموال من المعاني الكلية والجزئية ، والسير إلى أي قطر شاء من الشرق والمغرب (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) إرادة من الكمالات.

(سَبَباً) أي : طريقا بتوصل به إليه (فَأَتْبَعَ) طريقا بالتعلق البدني وتوجه إلى العالم السفلي.

(حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) أي : مكان غروب شمس الروح (وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) أي : مختلطة بالحمئة وهي المادة البدنية الممتزجة من الأجسام الفاسقة ، كقوله : (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) [الإنسان : ٢]

(وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً) هم القوى النفسانية البدنية والروحانية (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ) بالرياضة والقهر والإماتة (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) بالتعديل وإيفاء أحظ (قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) بالإفراد وعدم الاستسلام والانقياد كالشهوة والغضب والوهم والتخيل (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) بالرياضة

(ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ) في القيامة الصغرى (فَيُعَذِّبُهُ) بالإلقاء في نار الطبيعة (عَذاباً نُكْراً) أي : منكرا أشد من عذابي ، وفي القيامة الكبرى فيعذبه عذاب القهر والإفناء (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ) بالعلم والمعرفة كالعاقلتين ، والفكر والحواس الظاهرة (وَعَمِلَ صالِحاً) بالسعي في اكتساب الفضائل والانقياد والطاعة (فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) المثوبة (الْحُسْنى) من جنة الصفات ، وتجليات أنوارها وأنهار علومها (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) أي : قولا ذا يسر بحصول الملكات الفاضلة (ثُمَّ أَتْبَعَ) طريقا هي طريق الترقي والسلوك إلى الله بالتجرد والتزكي.

٤٤١

(حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) أي : مطلع شمس الروح (وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ) هم العاقلتان والفكر والحدث والقوة القدسية (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) أي : حجاب بالتنور بنورها ؛ لإدراكهم المعاني الكلية (كَذلِكَ) أي : أمره كما وصفنا (وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ) من العلوم والمعارف (عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) لا يتجاوزن حاجزا لا يعلونه ، وذلك هو الحد الشرعي والحجاب القلبي من الحكمة العملية (قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي) من المعاني الكلية والجزئية الحاصلة بالتجربة ، والسير في المشرق والمغرب (خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) أي : عمل وطاعة.

(أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) هو الحكمة العملية والقانون الشرعي (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) من الصور العلمية وأوضاع الأعمال (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) بالتعديل والتقدير قال للقوى الحيوانية (انْفُخُوا) في هذه الصور نفخ المعاني الجزئية ، والهيئات النفسانية من فضائل الأخلاق.

(حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً) أي : علا برأسه من جملة العلوم يحتوي على بيان كيفية الأعمال (قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) والنية والقصد الذي يتوسط بين العلم والعمل ، فيتحد به روح العلم وجسد العمل ، كالروح الحيواني المتوسط بين الروح الإنساني والبدن ، فحصل سدّا أي : قاعدة وبنيان من زبر الأعمال ونفح العلم والأخلاق ، وقطر العزائم والنيات ، واطمأنت به النفس وتدبرت فامنت.

(فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) (١) ويعلوه ؛ لارتفاع شأنه وكونه مشتملا على علوم وحجج لم يمكنهم دفعها والاستيلاء عليها (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) لاستحكامه بالملكات والأعمال والأذكار (قالَ هذا) السد أي : القانون (رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) على عباده يوجب أمنهم وبقاءهم (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) بالقيامة الصغرى (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) باطلا منهدما ؛ لامتناع العمل به عند الموت وخراب الالات البدنية.

(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا

__________________

(١) أي : يعلوه بالصعود لارتفاعه ، والفاء فصيحة ، أي : ففعلوا ما أمرهم به من إيتاء القطر ، فأفرغوه عليه ، فاختلط والتصق بعضه ببعض ، فصار جبلا صلدا ، فجاء يأجوج ومأجوج فقصدوا أن يعلوه أو ينتقبوه. البحر المديد (٣ / ٤٣٥).

٤٤٢

الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠))

قوله تعالى : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) أخبر سبحانه عن ذي القرنين عليه‌السلام أن أعطاه خلقه قدرته ، وألبسه تمكين فعل حتى سهل له قلب الأشياء ، وكان يفعل ما يشاء بالله ، ويحكم بحكمه ما يريد ، وكان مجمع عين الجمع من حيث نور تجلي الذات والصفات والفعل فيه معنى (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) من كل ما في الملكوت السفلي له برهانا ، وحكمة ، وعلما ، ومعرفة بالله ، وسببا إلى قرب الله من أن ذلك الشيء له ، كان مرآة الحق يرى فيها علوم الغيبية ، وحكم القدرية ، ويبلغ بها إلى معادنها من أسرار الأزلية فكان مقام تدريج الترقي من عالم الفعل إلى عالم الصفة ، ومن عالم الصفة إلى عالم الذات ، ولو كان على محل تحقيق الكلي ؛ لما أحاله الحق إلى الأسباب من الأشياء ، الحدثاني التي هي وسائط الحكمة ، وأخرجه من الأشياء إلى معدن الأصل ، وهو دنو الدنو كما فعل بحبيبه عليه‌السلام حيث أخرجه من الحدثان وأفرده من جميع الأسباب ، وبلغه إلى حقيقة الحقيقة ؛ حيث شاهد الحق بالحق وفني الكل فيه ، ولم يصرف طرفه إلى الغير ؛ حيث لا حيث ولا غير.

وهذا وصف قول الله سبحانه وتعالى : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) [النجم : ٨].

وقال : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم : ١٧].

قال ابن عطاء في قوله : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ) جعلنا الدنيا طوع يده فإذا أراد طويت له

٤٤٣

الأرض ، وإذا أحب انقلبت له الأعيان ، وإذا شاء مشى على الماء ، وإذا هوى طار في الهواء ، وكذا من أخلص سريرته مكناه من مملكتنا ينقلب فيها كيف يشاء ، فمن كان الملك كان الملك له.

وقال جعفر : إن الله تعالى جعل لكل شيء سببا ، وجعل الأسباب معاني الوجود ، فمن شهد السبب انقطع عن المسبب ، ومن شهد صنع المسبب امتلأ قلبه من زينة الأسباب ، وإذا امتلأ قلبه من الزينة حال بينه وبين الملاحظة ، وحجبه عن المشاهدة قوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أي : من عرف الله وشاهده وبرئ مما دونه.

(فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) يعنى له وصل الحق أبدا جزاء لهذه المعاملات الحسنة.

وأيضا زيادة المعرفة بجلال الله وعظمته ، وتلك المعرفة الحسنى من الله.

قال ابن عطاء : من صدق الموعود ، وأحسن اتباع أوامر ربه فله جزاء الحسنى ، وهو أن يرزقه الله الرضا بالقضاء ، والصبر على البلاء ، والشكر على النعمة ، ونزع من قلبه حب الشهوات والدنيا ووساوس النفس والشيطان.

(وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) بالاضطراب والاختلاط أي : تركناهم يختلطون لاجتماعهم الروح مع عدم الحيلولة.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) للبعث في النشأة الثانية (فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) أو بالقيامة الكبرى حال الفناء ، وظهور الحق جعله دكّا ؛ لارتفاع العلم والحكمة هناك ، وظهور معنى الحل والإباحة ، بتجلي الأفعال الإلهية وانتفاء الغير وفعله (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) حيارى مختلطين شيئا واحدا لا حراك بهم ، (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) بالإيجاد بالوجود الحقاني حال البقاء ، فجمعناهم جمعا في التوحيد والاستقامة والتمكين ، وكونهم بالله لا بأنفسهم.

(وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) أي : يوم القيامة الصغرى يتعذب المحجوبون عن الحق بأنواع العذاب والنيران ، كما ذكر في سورة «الأنعام» أو في ذلك الشهود أي : ظهر لصاحب القيامة الكبرى تعذبهم في نار جنهم.

(الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢))

قوله تعالى : (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) كانت أعينهم في غطاء

٤٤٤

غيرته ، وشقاء مشقته عن النظر إلى مرآة الكون بالحقيقة ؛ حتى يروا حقيقة ماهية الأشياء التي لطائفها تذكر القلوب عجائب أنوار الذات والصفات.

(الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) أي : محجوبة عن آياتي وتجليات صفاتي الموجبة لذكري (لا يَبْغُونَ).

وأيضا أعينهم في غطاء الشقاء ، ولا يرون جمال القرآن الذي هو مذكر جميع الذات والصفات القدمية.

وأيضا كانت أعينهم في علم الأزل مسدودة عن رؤيتنا.

وأيضا وصفتنا التي مذكرة ذكرها ذكر ، وصف القدم لأهل العدم بعد كونهم ، وبعد غيبتهم عنا ولا يسمعون كلامنا بالحقيقة ، ولا يسمع آذان قلوبهم وأرواحهم وعقولهم أصوات هواتف غيبنا.

قال ابن عطاء : أعين نفوسهم في غطاء عن نظر الاعتبار ، وأعين قلوبهم في غطاء عن مشاهدة العيان في الملكوت ، فإذا فتح عين قلبه بالمشاهدة فتح رأسه نظر الاعتبار وقال : لا يستطيعون سمعا ؛ لأن آذانهم مسدودة عن سماع الحق ، ولم يفتح له سمع السماع كيف يسمع بظاهر سمعه ، وهو تبع لسمع قلبه.

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨)) (١)

قوله تعالى : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) وصف الله أهل الرياء والسالوس والناموس الذين يجلسون في الصوامع ؛ لأجل نظر الخلق ، وصرف وجوه الناس ، وطلب الرياسة

__________________

(١) في قوله : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) نفى هنا أن يكون لهم الوزن يوم القيامة ، وأثبت في قوله : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) لأن المقصود من نفيه بيان ألا يكون لهم قدر عند الله كما للمؤمنين ، وهو لا ينافي الوزن في الحقيقة دلّ عليه أنه تعالى حكم بكون الوزن حقا : أي ثابتا ، والثبات إنما يكون بالرزانة والثقل ؛ وهو لا يكون إلا للمؤمنين ، فمن ثقلت موازينه ؛ فله وزن عند الله ومقدار ، من خفّت موازينه ؛ فلا قدر له عند الله تعالى ؛ لأن القدر إنما هو بالاعتقاد والعمل ، وقد عدمهما الكفار.

٤٤٥

والسلطنة ضل سعيهم في الدنيا والاخرة حين يفتضحون في أعين الخلق ؛ لأن الله سبحانه عن صفته أن يفتضح المرائين في الدنيا ، ومع ريائهم يجهلون سوء عواقبهم ، ولا يعرفون أن ما هم فيه عين الشرك والضلالة ، ويحسبون أن أعمالهم حسنة ، وكيف يقع الحسن على أعمالهم ، وهم فيها يشركون بنظرهم فيها إلى غير الله.

قال عليه‌السلام : «أدنى الرياء شرك» (١).

سئل أبو بكر الوراق عن هذه الاية قال : هو الذي يبطل معروفه في الدنيا مع أهلها بالمنة ، وطلب الشكر على ذلك ، ويبطل طاعته بالرياء والسمعة.

ثم إن الله سبحانه وصف عقب ذكر هؤلاء المبطلين أهل الإخلاص من الصالحين بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) أي : إن الذين عاينوا الحق وصبروا في الحق ، وتمكنوا في إخفاء الأسرار ، واستقاموا في إدارة قلبهم بوصف الهدف عند أصالة سهام الربوبية فيه كانت في الأزل لهم باختيار الحق واصطفائيته لهم بساتين فردوس جلاله وجماله ولطائف وصاله وأسرار كماله إلى أبد الابدين لا يحتجبون عنها أبدا ؛ لأن من وصل إليه صار مستقيما بالحق مقدسا بقدسه عن علل الحجاب ، والاعوجاج والتحويل.

قال أبو بكر الوراق : من أنزل نفسه في الدنيا منزل الصادقين ، أنزله الله تعالى في الاخرة منزل المقربين ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) [مريم : ٩٦].

قال ابن عطاء في قوله : (خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) متنعمين فيها نعيم الأبد ينقلبون في مجاورته ، ويفرحون بمحرضاته قد أمنوا كل مخوف ، ووصلوا إلى كل محبوب ، ولا يشتهون شيئا إلا وجدوه كيف يطلبون عنه تحويلا؟

(قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩))

قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) إن الله سبحانه أخبر بهذه الاية أن أوهام الخليقة تقاصرت عن إدراك علومه وحكمته بالحقيقة ، وأن أبصارها كليلة عن الإحاطة بذاته ، وأن قلوبنا عاجزة عن فهم معاني صفاته في ذاته وذاته في صفاته ، وأن الكون لو كان كمل بحره

__________________

(١) رواه الحاكم في المستدرك (٤ / ٣٦٥).

٤٤٦

منه بحر الأساعي لها مداد ، وإن من العرش إلى ثرى كل ذرة منها ميدانا وصحارى من أقلام ، وجميع الأولين والاخرين من الأزل إلى الأبد يكتبون كلمات القدمية لفنيت الكل عن حصرها ، وبقيت الكلمات غير محصورة الحدثان ، وكيف ذلك والحوادث منتهية ، وصفات الأزلية منزهة عن نقائض الحدوثية والعدد والمدد من قبل الخليقة ، فلو كان بالمثل هذه البحور والأقلام والأيدي ، تكتب ما في قلب عارف في ساعة من كلام الحق وخطابه وحديثه ووحيه لنفد البحر ، وينقطع الأقلام والأيدي ، ولا تنتهي تلك الكلمات ؛ لأنها قائمة بالصفات والذات والصفات منزهة عن تقدير المقدرين ، وحسبان المتوهمين ، وحساب المحاسبين.

قال الله : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ) [لقمان : ٢٧].

وإشارة الحقيقة أي : لو كان بحار القلوب مملوءة من مداد الخواطر وأسرارها التي تدور في سرادق الكبرياء أقلاما ، وتستمد مدادها من بحر الأفعال ؛ لنفدت عند نشر معاني علم الله في كلمة من كلمات الله ؛ لأن ملك البحار فعالية والكلمات صفاتية ، والأفعال متلاشية تحت أنوار الصفات ، ولا تعجب أن جميع الأكوان من العرض إلى الثرى ؛ لو كانت كل ذرة منها ألف بحر لا ساحل لها يكون قطرة من بحر خواطر القلوب وأسرارها سبحان المنزه عن إحاطة المخلوقات بشيء من علمه.

قال سبحانه : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه : ١١٠].

قال الحسين : مقياس العدم في الوجود في معنى جوده فإما خاص الخاص من كلامه فلو كانت أبد الأبد أقلاما ومدادا وبياضا ما نفد معاني كلمة من كلماته ، ولا يوصف أكثر مما قد أشير إليه ، وإنما يذكر الناس ما يفيدهم معاني العبودية من علم وثواب عقاب ، ووعد وعيد على حسب ما يحتمل عقولهم ، فأما الكمال من فائدة الكلام فللأنبياء والأصفياء والأولياء.

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠))

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) إن الله سبحانه زين حبيبه بأنوار الربوبية ، وجعله متصف بصفاته متخلقا بخلقه ، وكان مرآة الحق في العالم يتجلى منه للعالمين فمن كان له عين من عيون الله مكحولة بسنا ذاته ينظر بها إليه ، ويرى بالحق فيه جمال الحق فكاد من عليه شوقه إلى جمال ألا يبرح لحظة من عنده ، ولا يتفرغ إلى صورة العبادة فأخبر الله

٤٤٧

سبحانه بلسانه بأنه مخلوق ، وإن كان متخلقا بخلقه بقوله : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أمره بأن يعرفهم إفراد القدم عن الحدوث بعد كونهم في رؤية عين الجمع فلا يرضى عنهم برؤية عين الجمع ؛ بل يرضى عنهم برؤية جمع الجمع لذلك : (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي : من نظر إلى غيره ، وإن كان متلبسا بنوره ملبسا بسنائه فقد أشرك في التوحيد.

لذلك قال عليه‌السلام : «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح» (١).

وزاد التأكيد في تقديس الأسرار عن ملاحظة الأغيار في مشاهدة الملك الغفار قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً) أي : من كان من أهل مشاهدة الله ، ورجاء وصوله واليقين في لحوقه إلى قربه فلتكن أعماله في السر والعلانية مقدسة عن نظر نفسه ورؤية أعواضها في قلبه ، والتفات عقله إلى غير الله فالفرد لا ينبغي إلا للفرد ، والفرد يكون بالفرد فردا فمن أفرده الحق يكون منفردا عن غيره لا بغير شيء من الحدثان.

قال الأنطاكي : من خاف المقام بين يدي الله عزوجل ؛ فليعمل عملا يصلح للعرض عليه ، والله عجبت من أقوال مشايخي ـ رحمة الله عليهم ـ في العمل الصالح ، وأين العمل الصالح ، والعمل الصالح ما يصلح للقدم ، وأين الحدث من القدم ؛ حتى يصلح له؟

قال يحيي بن معاذ : العمل الصالح ما يصلح بأن تلقى الله به ، ولا تستحي منه في ذلك.

قال سهل : العمل الصالح المقيد بالسنة ، ثم إن الله سبحانه بين أن ما يكون من الأعمال الصالحة خاصة لوجهة يصير خالصا عن إشارة الأغيار ، وأن يخطر بقلب العامل ذكر الأشياء الحدثانية في مباشرة العمل ، وأي : شرك أعظم من أن يرى لنفسه قيمة عند مباشرة العمل ، فينبغي أن يتفرد بقلبه وسره وخاطره عن أن يكون له نظر إلى وجود ؛ بل يكون فانيا بحقيقة الفناء في بقاء الحق.

قال الأنطاكي : لا يرائي بطاعته أحدا.

قال جعفر : لا يرى في وقت وقوفه بين يدي ربه غيره ، ولا يكون في همة وهمته غيره ، وعجبت من سر التوحيد ؛ لأن الله سبحانه خاطب الخلق من حيث الخليقة لا من حيث الحقيقة ، وأين الحدث؟ وشركه في وجود القدم حتى قال : (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) الأحدية صفة الموحد القديم ، وعبادة اسم الأحد عرف الأسماء ، والصفات خارجة عن العرف ، فإذا كان اسم العدد في الوحدانية معزولا ، فأين اسم وحدة الحدثان في وحدة الحق؟

قال الله سبحانه : (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام : ٩١].

__________________

(١) رواه البخاري (٣ / ١٢٧١).

٤٤٨

سورة مريم

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥))

(كهيعص (١)) أخبر الله سبحانه عن «كاف» كان وجوده الأزلي القدمي الأبدي كقوله تعالى «كان الله» ، والإشارة فيها إلى كون وجوده قبل كون الكون ، وإشارة الحقيقة بالكاف خبر عن سرّ القدم قد صابها العارفين إلى غيبوبيتهم في قفار الأولية والاستغراق في بحار القدمية ليعرفوا بالأولية الأولية ، وأيضا تجلى من كينونية الأحدية التي قيل كل علة على قلوب الموحدين لتغرقهم في بحار كبريائه ، ويفنيهم في أنوار كنه ذاته فأشهدهم كائنة الذات والصفات وبصّرهم بنور كبريائه ، فأبصروا بعيون سره نورية مكحولة بنور كبريائه فأبصروا بها مشاهدة كنه ذاته ، فذابوا فيه فأغرقتهم أنوار مشاهدة الكنه في بحر كمال الذات والصفات حتى لم يبقوا فيها ، وأبقاهم نور كاف الكفاية ، وبرز لهم سنا كاف حكمته الأزلية فعرفوا بها فناءهم في بقائه وبقاءهم ببقائه فطلبوا بقاء البقاء بلا فناء ليستوفوا في البقاء حظ مشاهدة البقاء ، فانكشف لهم «كاف» بحار الكرم من صفات الكريم ، فأوصلهم إلى بساط قربه فظهر من عين عيون الغيب نورها الهوية وغيبهم في غيب الغيب ، وهداهم إلى قرب القرب ، ثم هداهم إلى دنور الدنو ، وهداهم إلى وصل الوصل ثم هداهم بنعت التعريف والمعرفة إلى مشاهدات الصفات ، ثم إلى مشاهدات الذات فلما بهتوا في الغيب وتاهوا فيه وادي غيب الغيب ، ولم يعرفوا من علم الربوبية ذرة ولم يروا من حقيقة الحقيقة شيئا فأخذهم «يا» نداء القدم مع أصوات أجراس الوصلة فلما وصلوا وقفوا بنعت الجهل بالحقيقة على الحقيقة ، فخرج أنوار عين علم القدم فعرفهم النعوت والأسامي.

ثم أعلمهم الصفات والمعاني ، ومكنهم بالحق في الحق مع الحق فطلبوا من الحق ما وجد الحق لهم من عظيم عطايا فيض جلاله وجماله فبان نور «صاد» صبح صدق ظهور أسرار الحق لهم فاكتسبوا بها ، وصاروا عارفين بها صادقين في صدق رويتها في دعوى معرفتها ومحبتها ، فما أشرنا بهذه المقالة فهو من رموز الحق في مفاتيح كنوز الذات والصفات وهي

٤٤٩

«الكاف والهاء والياء والعين والصاد» ، ففي هذه الحروف الخمسة بيان أسرار القدم والبقاء والأزل والأبد وسر الصفات والذات ولا يعرفها إلا حبيب من حبيب الحبيب مع حبيب غائب في الحبيب حاضر مع الحبيب ، سكران في مشاهدته ، صاح في شهوده ، فيستفيد معنى المعاني من هذه المباني.

قال إبراهيم بن شيبان : أما «الكاف» فالله الكافي لخلقه ، و «الهاء» فالله الهادي لخلقه ، و «الياء» يد الله على خلقه بالعطف والرزق والعين ، فالله عالم بما يصلحهم ، و «الصاد» فالله صادق وعده ، قيل : «الكاف» معناه الكافي للمسائلين حوائجهم ، و «الهاء» هادي الضالين ، و «العين» علم معاني إشارات المتعرضين في حوائجهم ، و «الياء» النداء بهذه الدعوات ، و «الصاد» صادق فيما وعد للمؤمنين.

قال بعضهم : كريم بعفوه ، هاد بجوده ، عالم بمصالح عباده ، صادق فيما أخبره.

قال الأستاذ : تعريف الأحباب بأسرار ومعالي ، وقد وقع لي من قبيل لطائف الخطاب كافي هم العارفين في طلبهم وصله ، وهادي العارفين بنفسه إلى نفسه ، ثم إلى ذخائر ما في كنوز قدمه من علومه المجهولة الغيبية ينادي بلا بل بساتين ورد وصّاله العارفين حتى يزيد رغبتهم في المسارعة بنعت الشوق والمحبة إلى جلال بقائه عليهم بألم فؤاد العارفين في داء فقدان قدمه ، ووجدان وجود بقائه صادق بصدق مواعيد قرباته ، ومداناته للعارفين ، ورفع حجب الاحتشام عن قلوبهم حتى ينظروا إليه بنظر البسط والانبساط لا بنظر القبض والهيبة ؛ لأن هناك مقام تمتعهم بجماله وجلاله وصحبته ووصاله ، وهذه الحروف عيون رحمة ذاته ، وكرم صفاته بأنبيائه وأوليائه ؛ لذلك قال سبحانه : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢)) ، وتخصيص زكريا برحمته وذكره أنه كان عليه‌السلام تعرض بنعت الفناء والعجز بجلال جبروته وعظائم ملكوته ليهب له من يرث منه علوم الحقيقة ، ولطائف حكم الإلهية ، فأخبر سبحانه عن تعطفه به ورحمته الكافية عليه بأنه أجاب دعوته وأعطى مأموله ، وجعله إماما للخاضعين ، ومقتدى للسائلين.

قال الحريري : في هذه الحروف سبب رحمة ربك عبده زكريا.

قال ابن عطاء : ذكر اختصاص زكريا بالرحمة ، وإن كانت رحمته قد وصلت إلى الأنبياء فخصّ زكريا من بينهم باللطف رحمة ، وهو أن وهب له يحيى الذي لم يعص ولم يهم بمعصية ؛ فهذا هو محل اختصاصه.

ثم وصف الله سبحانه نبيه زكريا بلطائف المناجاة ، وخفي الذكر في المراتبات بقوله :

٤٥٠

(إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) إذ حاج سره إلى طلب الخنوع إلى الربوبية ، والفناء تحت العظمة ، والذهاب عن الذهاب في برجاء الهيبة في مقام المشاهدة ونجوى سره فناجى سر سره خفيّا عن سره ، ونادى سره خفيّا عن روحه ، ونادى روحه خفيّا عن عقله ، ونادى عقله خفيّا عن قلبه ، ونادى قلبه خفيّا عن نفسه ، ونادى نفسه خفيّا عن صورته ، ونادى لسانه بل جميع وجوده لسانا خفيّا عن غير ربه ؛ فمناجاته ونجواه أخفى عن كلّ خفي ؛ لأنه نادى ربه بريه ، وتلك المناداة ما وصف عليه‌السلام بالخيرية والخاصية عن جميع العبادات والأذكار والأفكار بقوله : «خير الذكر الخفي» (١).

قال : عن عطاء : (نِداءً خَفِيًّا) أخفى نداءه من الخلق ، ومن نفسه ، وأظهر النداء لمن يجبيبه ، ويقدر على إجابته ، وفائدة إخفاء النداء من الخلق ، ومن النفس لئلا يدخله تلوين.

وقال بعضهم : خفي في الذكر عن الذكر ، ومن ذا قيل : إذا أذهلتك العظمة خرس قلبك ولسانك عن الذكر.

قال بعضهم : أخفى سؤاله عن نفسه ، وروحه فنداؤه لمن يقدر على إجابته وقضاء حاجته فسمع الحق نداءه ، ووهب له يحيى كما طلبه.

ثم وصف الله سبحانه عبده زكريا بأنه جعل نفسه في مقام العجز والتواضع في سؤاله عن ربه ، وهكذا حال السؤال على باب جبروت ذي الجلال ، وكان في دعائه موقنا ؛ لأن قلبه شاهد مقام استنشاق نفحة الإجابة لذلك قال : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا).

قال ابن عطاء : قام مقام معتذر لما وجد في نفسه من فترة العبادة لكبر السن ، فسأل الله من يعينه على عبادة ربه ، وينوب عنه فيما عجز عنه من أنواع العبادة منابة ؛ فقال : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) ، ورضاه لخدمتك ومستصلحة لعبادتك ثم إنه كان عليه‌السلام رأى بعين سره روح ابنه في الملكوت طائرة في رياض الجبروت ؛ فسأل ما رأى فقال : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) ناصرا صديقا نبيّا مرسلا ، يعرف حالي ، ويرث مقامي ، ويتخلق بخلق آبائي ، (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦)) مرضيّا عندك بعد اتصافه بصفتك راضيّا عنك بعدما شاهد الرضوان الأكبر بنعت المتبري عن غيرك.

قال ابن عطاء : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥)) أي : ولدا نتخذه وليّا يرث مني النبوة ، ويرث من آل يعقوب الأخلاق ، وقيل : يرثني النبوة ، ويرث من آل يعقوب السخاوة

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (١ / ٧٢) ، وابن حبان في «صحيحه» (٣ / ٩١).

٤٥١

والكرم والصبر على النوائب ، والرضا بالمقدور.

(يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠))

قال ابن عطاء في قوله : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦)) : يرضى منه أخلاق الظاهر ، ويرضيه عنك في الباطن.

وقال جعفر : «ورضيّا» أي : راضيا بما يبدو له عليه.

قال أبو حفص : اعتذر إلى ربه في ضعفه عن القيام بالعبادة على حسب ما يريد ثم هو سبحانه بشّره بما سرّه ، فقال : (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) يحيى بحياته ، ومشاهدة جماله ، ومعرفة كماله ، نفخ نفس صبح القدم في يحيى ، فيحيى من موت العدم بأنوار القدم ، وإذا بحياته لم يمت بموت الفرقة ، وما طرأ عليه طوارئ فبهر الغيرة ، وقد تخصص من بين الأنبياء والرسل وجميع الخلق من طريان الامتحان الذي يكون سبب حجاب القلوب عن الغيوب ، ولذلك خصّ اسمه وخصه بهذا الاسم المبارك بقوله : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) فكان في اسمه «ياءان وحاء» ؛ فالياء الأولى ياء نداء الحق في الأزل نادى الحق بنفسه إلى العدم ، ودعا من نفسه بنفسه وجود عبده يحيى ، فتكون بياء نداء الأزل ، وأجاب الفطرة الفعلية نداء الحق فصار قائما بقدرته بعد أن تجلى الحق من «حاء» حياته لتلك الفطرة ، فصيرورته بروح الحق وروح حياة الحق فنادت تلك الفطرة بعد كونها ، ودعت صانعها وأقرت بربوبيته ، فالياء الأول نداء الربوبية من العدم.

والياء الثاني من اسمه نداء بنعت الجواب بالعبودية من العدم فألبسه الحق بين ياءين روحا من حاء حياة الأزلية فصار حيّا بحياته ، مقدسا من غمرات الموت ، ولا اعتبار بذهاب الصورة عن البين فإنه نقل مع نقل الروح لذلك قال عليه‌السلام : «نحن معاشر الأنبياء أجسادنا أرواحنا» (١).

قال الصبيحي : سماه يحيى ، وقال : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧)) افتتح اسمه

__________________

(١) لم أقف عليه.

٤٥٢

بالياء ، وختمه بالياء ، وتوسط بين ياءين حاء الحنانية ، فاسمه في الخط مرسوم موجه يقرأ من أوله إلى آخره ومن آخره إلى أوله.

فياء الأول توفيق ، وياء الاخر تحقيق ؛ فلذلك لم يعص ، ولم يهم بمعصية ؛ فقال الجنيد : سمي يحيى ، ولم يكن له من قبل سميّا ؛ لأن يحيى من يحيا بالطاعة والموافقة ، ولا يموت بالذنب والمخالفة ، وكان هذا صفته ونعته لم يجر عليه وسم الخلاف ، ولا لسان الذنب بحال ، كان محمود السيرة من مبتدأ أمره إلى منتهاه ؛ لذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أحد من الخلق إلا أخطأ أو همّ بخطيئة إلا يحيى بن زكريا ؛ فإنه ما أخطأ ولا همّ» (١).

قوله تعالى : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩)) هذا جواب قوله تعالى : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨)) ما شكّ في قدرة القادر ، لكن تفحص من شأن الحال حتى يقع نظر سره على تجلي القدرة وسرها لعل ينكشف له عين ذات الأزلي.

فأجابه الحق : أين أنت مما طهر في نفسك مما تطلب في خلق ابنك؟ انظر إلى وجودك بعين الحقيقة ؛ حتى تراني في كونك ، وتستغني عن النظر إلى غيرك ، ألبست نور قدمي فعلي ، وألبست نور فعلي العدم وصيرتك موجودا بظهور وجودي بنعت قدمي بعدمك.

قال الواسطي في قوله تعالى : (وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩)) : المقادير صرحت بمعانيها ، وكشفت عن أوقاتها.

وقال أيضا : أنت في حال وجودك كأنك في حال عدمك عندنا لا تحدث لنا في عدمك ووجودك حالة لم تكن لا الأشياء ثابتة في حال وجودها ، ولا هي بائنة في حالة عدمها إذ وجودها وعدمها عند الحق سواء لا ثبات لشيء.

قال جعفر في قوله : (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) : استقبل النعمة بالشكر قبل حلولها.

وقال الروذباري : غاية الرجاء في غاية اليأس ، وهو في قصة زكريا حين قال : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) قوله له مثل يحيى.

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً

__________________

(١) رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٦ / ٣٤٦) ، وعبد الرزاق في «المصنف» (١١ / ١٤٤) بنحوه.

٤٥٣

وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥))

قوله تعالى : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) الكتاب كلام الحق الأزلي ، كلف الله سبحانه يحيى عليه‌السلام حمل كتابه الأزلي ، وأمره أن يأخذ بقوة قال : (خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) معا ذكرناه في قسمة أي : خذ الكتاب الأزلي بالقوة الأزلية التي ألبستها روحك وصورتك حين خلقتك بمباشرة قوتي الجبارية الأزلية ، ولو لا تلك القوة في نفسه كيف كان يأخذ الكلام القديم ، والقديم لا يحتمل إلا بقوة من القدم.

أي : خذ كتابنا بنا لا بك ، خذ بقوتنا لا بقوة الحدثية ، وأيضا خذ كتابنا بمعرفة كتابنا ، وبمعرفتنا تعرف معاني حقائق كتابنا ، وأيضا خذ باستعانتك بنا بأخذ كتابنا.

ثم وصف امتنانه عليه حيث ما بالى أنه لم يكن بالغا بقوله تعالى : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) عرفناه مكان الحقيقة في معرفة صفاتنا وذاتنا في زمان صباه ؛ لأن روحه خرجت من عالم الملكوت كاملة بأنوار الجبروت ، وأيضا آتيناه الحكمة البالغة والمعرفة الشاملة والفراسة الصادقة والمحبة الشافية.

قال ابن عطاء : «الحكم» المعرفة.

وقال جعفر : التوفيق لاستعمال آداب الخدمة.

قال الحسين : كان روح يحيى معجونا بأنوار المشاهدة ، ونفسه معجونة باداب العبودية والمجاهدة ؛ لذلك قال له : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢)).

وقال يوسف بن الحسين : أوتي يحيى حكما على الغيب ، وفراسة صادقة لا يخالطها ريب ولا شك.

ثم وصف الله سبحانه صفيه يحيى بالطهارة والرحمة والتقوى بقوله : (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣)) أي : آتيناه رحمة من عندنا تلك الرحمة العندية أنه تعالى ألبسه كسوة من صفات رحمته ، حتى جعله رحمة للمنقطعين ، وشفاء لمرضى المحبين ، وجعله مطهرا بأن قدسه في بحر جلاله بزلال وصاله عن غبار الامتحان وعماء العصيان ، وجعله تقيّا معرضا عن غيره ، مقبلا عليه بنعت الشوق والمحبة.

قال الواسطي : ذلك الذي أوجب له الانبساط والدلال.

وقال سهل : رحمة من عندنا ، وطهرة طهرناه بها من ظنون الخلق فيه ، وكان تقيّا معرضا عما سوانا ، مقبلا علينا.

٤٥٤

ثم إن الله سبحانه من شرف يحيى زكى روحه وقلبه وصورته بروح روح سلامه وخطابه بقوله : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥)) سلام الأزلي على روحه حين خرجت من نور كافه ونونه الذين هما روحان من تجلي صفات الحق ، وذلك السلام سلامه تجلى جماله لروح يحيى في بدء أمرها ، فلما وصل بركة سلام الله مع نور جود وجوده إلى روحه ؛ أحاطت بها بنعت العصمة إلى يوم خروجها من صورة ؛ فلما كملت العصمة فيه جازاه الله بزيادة كشف جماله وخطابه معه وسلامه عليه حين انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء لئلا يكون له وحشة من خوف العاقبة ، فيبقى بين سلامين ، وبين مشاهدتين حتى يكون وقت العرض الأكبر ، فلما حان وقت وقوفه بين يديه يؤمنه بسلامه من العتاب ، ويفرحه بكشف النقاب ، ويؤويه إلى خير الماب ؛ فالسلام الأول تربية ، والسلام الثاني عصمة ، والسلام الثالث وصلة ومشاهدة.

قال أبو بكر بن طاهر : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ) تحية ربه له ، وأمان له من كلّ محذور ، واتصال العصمة به إلى الممات ، وقوله : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ) من ثنائه على نفسه أنطقه بلسانه ، وهو أغرب في العلم ، وأدق في اللطف.

وقال الواسطي : سلام في طرفي حياته مماته من جريان مخالفة عليه بقوله : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ).

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠))

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦)) الإشارة الحقيقية ها هنا أن جوهر مريم جوهر فطرة القدس ، قرباه الحق بنور الأنس ففي جميع أنفاسها مجذوبة بنعت القرب والأنس إلى معدن الأنوار الإلهية ، فصارت كل وقت مراقبة لظهور شمس الجبروت من مشرق الملكوت ، فاعتزلت عن الأكوان بالهمة العالية المنعوتة بنور الغيب ، فأقبلت إلى مشارق شموس الذات والصفات ، واستنشقت نفحات الوصال من عالم الأزل ، فوصل إليها نفحة وصال الأزلية ، وأشرقت عليها شمس مشاهدة القدسية ، فلما شهدت مشاهدة مشرق تجلي الأزل برقت أنواره ، ووصلت أسراره إلى روحها فحملت

٤٥٥

روحها بروح الغيب فصارت حاملة الكلمة الكبرى ونور الروح الأعلى فلما أعظم شانها بعكس جمال تجلي الأزل عليها استترت من الخليقة ، واستأنست بعروس الحقيقة ، وذلك قوله : (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) فلما خلت بذلك النور والبرهان ، فبان لها نور صدر من تجلي الجلال والجمال ، ووصل بنور روحها بعد أن تمثل لها بصورة عيسى ، وذلك قوله سبحانه : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا).

إذا فرغنا من وصف القدس اللاهوت عن الناسوت ، وعجز الناسوت عن إدراك اللاهوت ، وتنزيه جلال الحق عن ممازجة الخلق ، وإفراد القدم عن الحدوث ، وعزة جماله وكبرياء أزليته عن المماثلة والمشابهة بقول : إن إرسال الحق روحه إليها أن ذلك الروح ظهور تجلى قدس الذات في نور الصفات ونور الصفات في لباس الأفعال على صورة حسنة مرغوبة ، إليها ميل كل روح بنعت الشوق إليها ، وذلك روح الفعل ، وروح الصفة ، وروح الذات في لباس نوره على قدر عقلها ؛ لذلك قال : (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧)) وهذا عادة ظهور الحق في بداية عشق العاشقين ليجذب بها أرواحهم ، وقلوبهم إلى معدن تعريف الصفات والذات صرفا بعد انفراد الحقيقة عن الخليقة ، ومن ذلك قال عليه‌السلام : «رأيت ربي في أحسن صورة» (١).

قال ابن عطاء في قوله : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) : نورا منا ألقيناه عليها ، وخصصناها به ؛ فأين الكون الذي فيه أثره ، فأخرج من ضياء نتائج ذلك النور عيسى روح الله صلوات الله عليه.

روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه : «إن ذلك البشر الممثل هو روح عيسى» (٢).

(قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥))

قوله تعالى : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا) جعل الله عيسى مرآة نور مشاهدته ، ومشكاة نور صفاته لطلاب قربه ووصاله ، فتجلى منه لأبصار عرفائه ، وأهل خصائص محبته ،

__________________

(١) رواه الدارمي في سننه (٢ / ١٧٠) ، والطبراني في «المعجم الكبير» (١ / ٣١٧).

(٢) رواه الحاكم في «المستدرك» (٢ / ٤٠٥) ، وذكره المناوي في «فيض القدير» (٤ / ٤٠٥).

٤٥٦

وهذا رحمته على كل مريد من صعقه لا يبلغ سر روحه إلى القدم ؛ فيبصر جمال القدم في مرات الحدث ، وأي آية أحسن من هذه الاية ظهر الحق بعزته ، وقدسه عن التشبيه والتعطيل من وجه موسى وعيسى ومحمد ـ صلى الله عليهم وسلم ؛ لذلك أشار عليه‌السلام بقوله : «جاء الله من سيناء ، ويستعلن بساعير ، وأشرق من جبال فاران» (١).

قال أبو بكر بن طاهر : في هذه الاية علامة دالة على تصحيح الربوبية ، ورحمة لمن آمن به ، ولم يدع فيه ما لم يدعيه لنفسه.

قوله تعالى حكاية عنها : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) تحيرت بين أمرين بين غيبتها عن رؤية سوابق التقدير في الأزل يكون عيسى آية الله في بلاد الله وعباده ، وبين حياتها في رؤية جلال الحق مما زعم الكفر حيث قالوا بألوهيتها وألوهية ابنها ، فأرادت أنها ما كانت ولم تكن ، وتكون فانية مضمحلة من حياء خالقها وعلمها بتنزيه جلاله ، وقدس جماله عن علة المخلوقات جميعا ، وممكن أنها قالت ذلك لمعارضتها جبريل بقوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ).

قال ابن عطاء : لما رأت قومها قد أثموا في أمرها رجعت باللائمة على نفسها ؛ فقالت : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا).

وقال بعضهم : يا ليتني مت قبل أن يظهر فيهم آفة أكون أنا سببها.

وقال جعفر : يا ليتني مت قبل أن أرى لقلبي متعلقا دون الله.

قال بعضهم : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) قبل أن يقال فيّ ما قيل من قولهم : ثالث ثلاثة.

وقال أبو بكر بن طاهر : أي : ليتني مت في أيام كفاية التوكل قبل أن رددت إلى عناء الطلب بقوله : (وَهُزِّي إِلَيْكِ).

قوله تعالى : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) خاطبها الحق سبحانه بعد غلبة الحزن على قلبها عند سماع أقوال المبطلين ليسلي قلبها بأنه منزه عن خطرات الأكوان ، وعلة الحدثان ، وأقوال الحرمان ، وألبسها لباس أنوار قدرته ، وجعلها عينا من عيون جمعه حتى عرفت مكانتها من جوهر القدس ، ومعدن روح القدس ، والكلمة القائمة بعزته ، فقالت الأعيان لها بأنها هزت نخلة يابسة ؛ فأسقطت عنها رطبا جنيّا.

وقال الواسطي : كانت يابسة لما حركت اهتزت واخضرت وأطلعت وسقطت.

فقال : كما أن الله تولى النخلة بما عاينت تولى عيسى في إظهاره من غير فحل.

قال ابن عطاء : لما كانت مجردة رزقت بغير حركة وكسب فلما تعلق قلبها بعيسى قال

__________________

(١) ذكره القرطبي في «التفسير» (٣ / ١٥٩).

٤٥٧

لها : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ).

قال أبو سعيد الخراز : لما رأت من نفسها شفقة على ولدها ، خافت أن يكون ذلك يقطعها عن الله (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا).

(فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١))

قوله تعالى : (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) أي : كلي من خوان عنايتي فواكه مشاهدتي ، واشربي من بحار محبتي ، وقري عينا برؤيتي ، وبأني قرة عينك قري عينك بي ، وأيضا قري عينك بما ترين من أنوار جمالي في وجه ابنك عيسى ، وظهور آياتي من نفسه.

قال ابن عطاء : إنك غير مطالبة بالثياب فيما أعطيت.

قوله تعالى : (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) بيّن الله سبحانه أن مريم علمت بنور الحق نطق عيسى قبل نطقه ، وعرفت بإلهام الله أنه نبي مرسل ؛ لأن عيسى تكلم في بطنها بتوحيد الله سبحانه ، وعلمت أن براءتها من مقالة القوم في نطق ابنها ، وهذا غاية حسن اليقين وسماع إلهام الحق بلا واسطة ، ولما علمت شأن عيسى آمنت برسالته وعظمته عين أشارت إليه بأنه أهل مكان علم الله موضع معجزته ، ولا يجوز عند الكبراء جواب السؤال ؛ فهذا من كمال أدبها في حضرة عيسى ، ومن ها هنا إشارة العارفين إلى كبرائهم عند حاجاتهم بفهم الحقائق.

قال ابن عطاء : فأشارت إليه في الظاهر لتعليم القوم صدقها فيما تقول فأنطق الله عيسى ببراءتها.

قيل : إن أحسن إشارات العارفين في أوقات الاضطرار حين لا تشتت الهمة على الرجوع إلى الحق.

وقال ابن عطاء : أشارت إلى الله ، ولم يفهم القوم إشارتها ، فأنطق الله عيسى بالبيان :

(قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ) أي : أنطقني بهذا النطق الذي أشارت مريم ، وأظهر ربوبيته في تكلمه.

وقال بعضهم : أشارت إلى الله بسرها ، وإلى عيسى بنفسها ؛ فأنطق الله عيسى ببراءتها

٤٥٨

فيما رميت به ، وبراءة نفسه فيما يدعى فيه ، ولي رمز ها هنا لما أراد سبحانه أن ينطق عيسى بكلمة التوحيد ، وإقراره بالعبودية أمر أمه بالصمت ؛ لأن لسان مريم لسان الظاهر لها ، ولسان عيسى لسان باطنها ؛ فإذا سكت ظاهرها نطق لسان باطنها بقدرة الله ، وتأييده الأزلي ، وهكذا شأن العارفين إذا سكتوا بالظاهر تنطق ألسنة أرواحهم بنطق الغيب الإلهي ؛ لذلك قال سبحانه : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) أي : صمتا أي : إذا كنت في رؤية الخلق ، وترين في البين أحدا لا تتكلمي بالحجة ؛ فإنك لا تبلغين إلى دفع الخصماء بنطقك ، وإذا سكت عن الحجة ، وفوضت أمرك إليّ ؛ فإني أنطق ابنك بالحجة البالغة بالألوهية.

قال ابن عطاء : صمتا يدل ذلك على ترك الانتصار للنفس ، فقيل لها : اسكتي ، ولا تنتصري ؛ فإنك إن أردت أن تبرئي نفسك بحجتك لم تزدادي بذلك إلا شغلا ؛ فإن كلامك وانتصارك لنفسك مشقة عليك ، وفي سكوتك إظهار ما لنا فيك من القدرة ، فلزمت الصمت ، فلما علم الله صدق انقطاعها إليه أنطق الله عيسى ببراءتها ؛ فقال الله تعالى : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) أبان عن أكرم الأسباب ، وأسقط دعاوى من يدعي فيه ما لا يجب ، وأقر بالعبودية لله فلما سكتت مريم عن الكلام بالحجة ، أنطق الله ابنها بلطيف المعجزة ، وأقرّ في المهد بالعبودية بقوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً).

هذا محض معجزته ؛ لأنه نطق بالحق ، وتفرس بنور النبوة أن قومه جاءوا بالإشارة إليه بالألوهية ؛ فنفى العلة من البين حتى لا يكون لهم شبهة بأنه عبد من عبيده ، وأمين من أمنائه ، وإن كان عليه كسوة أنوار الربوبية ؛ انظر كيف حركته في المعرفة حتى اجترأ لي بعبودية القديم الأزلي الذي لا يقوم بعبوديته الأكوان والمحدثان بأسرها في مقام واحد ، ولو تلقى ذرة من حقوق العبودية على جميعهم لذابوا في تحت أثقالها؟

وقوله : (آتانِيَ الْكِتابَ) أي : أنا من أهل سماع كلامه القديم ، ولقائه الكريم أخبر الخلق والخليقة من الحقيقة (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠)) صديقا مخبرا عن وصاله (مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) على لباس بركة جماله أي : حيث كنت ، وأكون في الأرض والسماء مباركا ، وبركتي تصل إلى المؤمنين بأني قرة عيونهم ، ومن تلك البركة أذهب عنهم البلاء وبها أحيي الموتى.

(وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) بظاهر العبودية ، والخدمة التي فيها لطائف المناجاة ، وفتح أبواب المشاهدات ، وزكاتي بذل وجودي له ، وهذه العبودية المباركة واجبة عليّ ، وعلى من اتبعني ، وإن بلغنا إلى منازل الاتصاف والإنصاف والاتحاد.

٤٥٩

وفيه إشارة : إنه وإن كان في الحضرة يخدم صانعه ، ويتواضع لخالقه ؛ لأن عبوديته أفخر المفاخر له.

قال الله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [النساء : ١٧٢].

وقال الجنيد في قوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) : ليس بعبد هوى ولا عبد طمع ولا عبد شهوة.

(آتانِيَ الْكِتابَ) خصني بخصائص الأسرار ، وجعلني نبيّا مخبرا عنه خبر صدق.

وقال ابن عطاء : لما علم الله في عيسى ما علم من أن يتكلم فيه من أنواع الكفر أنطقه أول ما أنطقه بقوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) ليكون ذلك حجة على من يدعي فيه ما يدعي إذ قد شهد هو الله بالعبودية.

وقال أيضا في قوله : (مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) إنفاعا للناس كافي الأذى.

قال الواسطي : (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً) عارفا بالله داعيّا إليه.

وقال الجنيد : مباركا على من صحبني ، وتبعني أن أدله على الإعراض عن الدنيا والإقبال على الاخرة.

وقال ابن عطاء في قوله : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) : أمرني بمواصلته ، وطهارة السر عما دونه (ما دُمْتُ حَيًّا (٣١)) بحياته.

(وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠))

قوله تعالى : (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) مادام أقرّ بالعبودية ، وأخبر عن خاصية النبوة ؛ كيف يكون جبارا مستنكفا من عبادته شقيّا عن رجاء وصاله؟

قال سهل : أي : جاهلا بأحكامه ، ولا متكبرا عن عبادته.

٤٦٠