تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٧٤

الوصلة ، ثمّ مسّهم طوارق الفرقة ، امتحانا من اللطف والقهر ؛ كي يعرفوا الحقّ بمعرفة قهره ولطفه ، وذلك معني قوله تعالى : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) ، فإذا بلغوا إلى محلّ الاستقامة ، رفعت عنهم نوائب الامتحان ، وسكنوا في مشاهدة الرحمن ، وهذا قوله : (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

قال بعضهم : صفة النادمين والمعرضين عن الذنوب ، والناوين للتوبة هي : الاعتراف بما سبق منهم ، وكثرة الندم على ذلك ، والاستغفار فيه ، ونسيان الطاعات ، وذكر المعاصي على الدوام ، والابتهال إلى الله بصحّة الافتقار ؛ لعل الله يفتح له باب التوبة ، ويجعله من أهلها.

قال الله تعالى : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) : بيّن سبحانه أن يده في أخذ الصدقة ، يد الله بقوله عليه‌السلام : «الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل».

قال تعالى : (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) أي : خذ ما يتعلق بحظوظ أنفسهم ، حتى لم يبق بينهم وبين الله حظّ النفس.

وأيضا أي : باشر أموالهم بأخذ الصدقات للفقراء ؛ حتى تصل بركة يدك إلى أموالهم ، وتطهر بلطف يدك نفوسهم من المعاصي وجميع العذاب ، وتطهر قلوبهم من حبّ ما سوى الله.

(وَتُزَكِّيهِمْ) : تقدّسهم من البخل ، وسوء الخلق.

(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) أي : ادع لهم بقبول الله إيّاهم لوصاله ، وقبوله منهم ما منّ عليهم من نواله.

(إِنَّ صَلاتَكَ) : سكينة قلوب المؤمنين ، فإنّ دعاءك لهم ، مقرون بالإجابة ، وهم موقنون بذلك.

قال رويم : تطهّر سرائرهم ، وتزكّي نفوسهم.

قال الواسطي : تطهّر أبدانهم من دنس الانشغال بها والانقطاع إليها ، وتزكّيهم عن دنس الافتخار بها ، والمكاثرة بجمعها ، وليس على الأنبياء زكاة ؛ لأنه ليس على سرائرهم خطر الأموال.

وقال أيضا : تطهّر قلوبهم من أنجاس الذنوب ، وتزكّي بواطنهم وسرائرهم من أنجاس العيوب ، فأنجاس ذنوب الظاهر المنع ، وأنجاس عيوب الباطن الأذىّ.

٤١

وقيل في قوله : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) (١) أي : ادع لهم ، فإنّ دعاءك لهم يكون سكونا إلى الاخرة ، وانقطاعا عن الدنيا.

قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) إنّ الله سبحانه عرّف الخلق كرمه القديم ، وفضله العميم يعطي الكثير ، ويقبل القليل ، ويرى من عبده كثير السيّئات ، ويبدّلها له بالحسنات.

أي : يقبل توبة الاسف على ما فاته من قربة في زمان الطاعة ، ويأخذ صدقة الموقن بجزائه بكشف المشاهدة.

قال النصر آبادي : فرق بين القبول والأخذ ؛ لأنّه قد يقبل ثم يأخذ ، ولا يأخذ إلا عن قبول ، فالأخذ أتمّ وأعمّ.

وقال أيضا : أخذ الصدقة أجلّ من قبول التوبة ؛ لذلك تقع فيه التربية ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يأخذها فيربها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيلة ..» (٢) الحديث.

وعند عبده وخادمه ـ والله أعلم ـ أن القبول أتمّ من الأخذ ؛ لأنه ربما يأخذ ، ولا يليق بنفسه وتعطى إلى غيره ، ولا يقبل بطيب نفسه منه ، بل يأخذ بطيب قلب المعطي ، فإذا قبل لطيب نفسه يأخذ لنفسه ، ولا يعطي إلى غيره.

وأيضا : يرى أن قبول التوبة أعظم من قبول الصدقة ؛ لأنّ الصدقة شيء لا يتعلّق بوجود التائب ، وما جرى على التائب من المعصية كراهية عند الله ، لأجل منازعته ومخالفته وذلك يتعلّق بالجبروت ، فإذا ندم وخضع وخجل بين يدي الله ، يصير خارجا من صورة المنازعة ، وخاضعا للربوبيّة ، فما كان في نفسه من الإيمان واليقين والندم والخجل ، أعظم من جميع الكون عند الله.

إن كان صدقة منه ، فإنّه يعظّم الله ويصدقه ، وينزّهه بفنائه في عظمته ، وهذا عمل القلب والصدقة وما سواهما عمل الجوارح ، وأين عمل الجوارح عند عمل القلب؟

وذكر الله أعظم من جميع الصدقات وجميع المعاملات ، فإنّه ذكر ذاته وصفاته ، قال : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت : ٤٥] ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حمد الحامد أعظم مما أعطي له من النعمة».

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ

__________________

(١) قال القشيري (٣ / ١٦٢) : إن تعاشرهم بهمّتك معهم أثمن لهم من استقلالهم بأموالهم.

(٢) رواه البخاري (٢ / ٥١١) ، ومسلم (٢ / ٧٠٢).

٤٢

الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)

قوله تعالى : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) بيّن سبحانه مراتب علوم الإلهية على ثلاثة أقسام : استأثر قسما لنفسه ، وقسما لرسوله ، وقسما لأوليائه ، فما استأثر لنفسه ، فهو العلم القديم ، وإحاطة نظره القديم على كلّ محدث ، ولا تخفى عليه الضمائر ، وما يجري في السرائر علما ورؤية بغير علّة الاكتساب.

ثم استأثر الأنبياء بنور منه يرون به ، فترى قلوبهم به أعمال الخلائق عيانا وبيانا ، وذلك نور الذات ، واستأثر أولياءه بسنا منه ، فيرى به أعمال الخلائق في الخلوات ، وما في قلوبهم من المغيّبات بالفراسات الصادقة ، ذلك نور الصفات ، وفيه تخويف المخلصين والصادقين الذين يتعرض لقلوبهم النعوس ، والشياطين بالهواجس والوساوس في أوقات الفترة ؛ حتى يراقبوا أسرارهم ، ويراعوا أوقاتهم بتقديس القلوب من الخطرات.

قال أبو حفص أو أبو عثمان : اعمل ، وأصلح العمل ، وأخلص النيّة ، فإنّ الله يرى سرّك وضميرك ، والرسول يراه رؤية مشاهدة ، والمؤمنون يرونه رؤية فراسة وتوسم ، قال الله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) [الحجر : ٧٥].

قوله تعالى : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) : بيّن الله سبحانه أنّ تأسيس كلّ عبادة لا يكون إلا بالتقوى ، والتقوى بظهور الأسرار عن النظر إلى الأغيار ، وكلّ موضع يتضرّر فيه ، ونيران التقوى تحرق جميع الأوصاف النفسانية والشيطانية من الشرك والشك والرياء والنفاق والسمعة ، ولا يبقى هناك إلا صفاء السرّ وطهارة الضمير ، وخلوص النيّة ، وصفاء القلب ، وتجريد ذكر الله عن ذكر مخلوق.

وإذا كان كذلك تكون العبادة والإرادة ، تبلغ الإيمان والإيقان إلى درجة العرفان ،

٤٣

والعرفان يبلغ هذه المراتب إلى درجة التوحيد ، والتوحيد يبلغ الجميع إلى مشاهدة الموحّد ، حتى صارت كلّ غيبة عيانا ، وكلّ نكرة عرفانا وكلّ إبهام بيانا ، قال الله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠].

وفي هذه الاية عرّفنا الله سبحانه أنّ الشرّ قديم ، وفي كلّ زمان ، لكلّ صادق قيّض الله له بذاته ملعونا سالوسا يؤذيه ، قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) [الفرقان : ٣١] ، ومن جملة من كان يؤذى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أبو عامر الفاسق ، وكان راهبا أمر المنافقين ليبنوا مسجدا ضد مسجد قباء ، أو مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رياء وسمعة ونفاقا ، وصدّ الخلق عن الدخول في الإسلام.

كذلك في زماننا هذا لبسوا الصوف ، وأظهروا الزهد ، وبنوا بقاع السوء ، وجلسوا فيه بالأربعين ، ويرسلون الشياطين إلى أبوابه ، لا تراك العوانين حتى يقولوا أن فلانا في الأربعين ، ينبغي أن تزوروه ، فإنّه من أولياء الله ، ويريدون بذلك جرّ المنفعة إليهم ، وصرف وجوه الناس إليهم مع مضادات أولياء الله ، فإذا دخل عليهم أحد من العوام ، يقعون في ذكر مساوئ أولياء الله ، وعيبهم وقبح المقال فيهم ؛ ليصدوا الناس عن التبرّك بهم ، والاعتقاد فيهم يخونون الله ، ويخونون أولياء الله ، والله لا يهدي كيد الخائنين ، طهّر الله وجه الأرض من مثلهم.

قال أبو بكر الوراق في قوله : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) من صحّح إرادته بدءا ، ولم يعارضه شكّ أو ريبة ، فإنّ أحواله تجري على الاستقامة ، وتصحيح الإرادة ، هو الخلع عن مراده أجمع ، والرجوع إلى مراد الله فيه.

قال الله : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى).

قال أبو عثمان : أرض الفتنة لا ينبت فيها إلا الفتنة ، وأرض الرحمة تصيب الإنسان رحمة ، ولو بعد حين (١).

ثمّ إنّ الله سبحانه وصف أهل القباء بتقديس أسرارهم ، وعلوّ مراتبهم ، وقبولهم في أزل محبتّه لهم ، بقوله : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) : وصفهم بحبّ الطهارة ، ووصف نفسه تعالى بحبّ المطهّرين.

و «الطهارة» : طهارة الأسرار من الخطرات ، وطهارة الأرواح من الغفلات ، وطهارة القلوب من الشهوات ، وطهارة العقول من الجهلات ، وطهارة النفوس من الكفريّات ،

__________________

(١) (أحقّ أن تقوم فيه) أي : أولى بأن تصلى فيه ، وهو مسجد قباء ، أسسه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أيام مقامه بقباء ، حين هاجر من مكة ، من الإثنين إلى الجمعة ، وهذا أوفق للقصة. البحر المديد (٢ / ٤٤٧).

٤٤

وطهارة الأبدان من الزلّات ، ومن أحبّه الله في الأزل ، يطهّره في الدنيا مما يشغله عن الله طرفة عين ، فإن المحبّ لا يترك حبيبه في شيء يضرّ به.

قال سهل : الطهارة على ثلاثة أوجه : طهارة العلم من الجهل ، وطهارة الذكر من النسيان ، وطهارة الطاعة من المعصية.

وقال بعضهم : (يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) أي : يطهّروا أسرارهم عن دنس الأكوان ، ثمّ وصف سبحانه لهؤلاء الرجال ، وتأسيسهم بناء الطاعات على موافقة الله ورسوله ، وطلب رضوانه ، بقوله : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ) : لله بنيان ، وهو قلوب الصدّيقين ، وفيها مناظر القدس ، ومحافل الأنس ، تحفوها أنوار تجلّي الحقّ سبحانه ، فمن أسّس بنيان قلبه بعد تطهيره عن دنس الأخلاق ، وتنويره بنور الخلّاق ؛ لذكر جلاله ، وتعظيم عظمته ، وحبّ لقائه ، وشوقه إلى جماله ، ومعرفته وتوحيده ، وإفراد قدمه عن الحوادث بنعت فنائه في احتشام الله ، وخوفه وإجلاله ، وخشيته من كبريائه ، ومراقبته خطابه وأسراره ، وطلب رضوانه ووصاله ، يصل بهذه الأوصاف إلى أن يكون قلبه موضع أسرار الله ، ولطائف رضوان الله ، وظرف محبّة الله ، ومحلّ زيارة الله ، كما حكي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله سبحانه ، بأنّ له تعالى ظروف أسراره في الأرض ، قال : «إن لله أواني ألا وهي القلوب» (١).

قال أبو تراب النخشبي : من كان إبقاء إرادته على الصحة والسلامة من هواجس نفسه إلى الرضوان الأكبر ، والمقام الأرفع.

قال الله : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ).

قال الواسطي : (عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ) : لا من نفسه يكون الله أصل تلك التقوى.

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢) ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ

__________________

(١) رواه الحكيم الترمذي (٣ / ١٨٨).

٤٥

الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤))

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) تقتضي همّة المعرفة أنه أغار على نفسه في الأزل بعد أن وصف نفسه بمحبّتهم ، فمنّهم عن نفسه ، وشغلهم بغيره مكرا بهم واستدراجا ، اشترى نفسه منهم ؛ لأنّه بذاته نفس الكلّ ، حيث قام الوجود بنفسه ، ولو لا قيامه على شيء تلاشت الأشياء ، ما قلّ من لمحة عرض نفسه الحدثان ، ولم يرها أهلا لنفسه ، فاشترى نفسه من نفسه ؛ لعلمه بضعف الخلق عن حمل وارد تجلّي عظمة نفسه ، وكيف يقوم الحدث جلال القدم ، وهو تعالى قيمة نفسه لا غير ، اشترى شفقة عليهم ؛ كيلا يتلاشوا في سبحات عزّته ، ثمّ اشترى أموالهم ، وهي كشوف نعوته الأزلية ، وتمتّعهم بمشاهدتها ؛ حتى لا يبقى سرّ العدم إلا في القدم.

فلمّا قطعهم عن رؤية سبحات القدم بالحقيقة ، شغلهم بما يليق بهم ، وهي الجنّة ، وأيضا لم ير للنفوس والأموال نفاسة حيث اشتراها بالجنّة ، ولو كان لها موقع لاشتراها بنفسه لا بشيء محدث ، وأيضا اشترى النفوس ؛ لأنها حجاب القلب من الربّ ، وكذلك المال ؛ حتى لم يبق بينه وبين الربّ حجاب ، وأيضا اشترى منهم النفوس التي تحت سلطانهم بالمجاهدات ، وما اشترى قلوبهم ؛ لأن قلوبهم لم تدخل تحت أملاكهم ، فإنه مستغرق في رؤية الصفات.

وقال ابن عطاء : نفسك موضع كلّ شهوة وبليّة ، ومالك محلّ كلّ إثم ومعصية ، فأراد أن يزيل ملكك عمّا نصرك ، ويعوّضك عليه ما ينفعك عاجلا أو آجلا.

قال سهل : لا نفس للمؤمن ؛ لأنها دخلت في البيع مع الله ، فمن لم يبع من الله حياته الفانية ، كيف يعيش مع الله ، ويحيى حياة طيبة.

قال الله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ).

قال جعفر : مكر بهم على لسان الحقيقة ولسان المعاملة ، واشترى منهم الأجساد لمواضع وقوع المحبّة في قلوبهم ، فأحياهم بالوصلة.

وقال الحسين : نفوس المؤمنين نفوس أبيّة اشتراها الحقّ ، فلا يملكها سواه.

وقال النصر آبادي : سئل الجنيد : متى اشترى؟ قال : حين لا متى أزال عنهم العلل ، بزوال ملكهم عن أنفسهم وأموالهم ؛ ليصلحوا لمجاورة الحقّ ومخاطبته.

وقال النصر آبادي : اشترى منك ما هو صفتك ، والقلب تحت صفته لم يقع عليه

٤٦

المبايعة ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن» (١)

فقال : النفس محلّ الغيب ، والكريم يرغب في شراء ما يزهد فيه غيره ، وما سنح لي بعد قولهم ، وما ذكرت في مقدم قولهم : أنه تعالى ألبس النفوس حين أوجدها لباس قهر الربوبيّة ، فأسخطت من مباشرته وصف الكبرياء ، فلما اتّصف بقهره تعالى نازعته ، فعلم الحقّ تعالى لو تركها مع المؤمنين أغوتهم ، كما أغوت فرعون ، بقوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] ، وكما قال إبليس : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) [الأعراف : ١٢] ، فهلكها بقهره ؛ حتى لا يبقى في المؤمن غير العبودية.

ثمّ أن الله سبحانه فرّح فؤاد العارفين بوفائه معهم ، وخطابه بأخباره عن صدقه بوفائه ؛ ليكونوا في بذل وجودهم وقتل نفوسهم ، والجهاد مع عدوّهم على حسن الظنّ في الله ، وحسن الرضا إلى وعد الله وفائه لعهده ، بقوله :

(وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) أي : كلّ حادث ناقص في أمر المستقبل والقديم ، منزّه عن نقائص الحدثان ، فيفعل بموجب الأخبار على موافقة الحكم ، ويعطي للعبد ما وعد به وأكثر ، إظهارا لربوبيّته ، ومنّا على عباده.

قال الحسين : عهد الحقّ في الأزل إلى خواصه باختصاص خاصية خصّهم من بين تكوينه ، فأظهر آثار أنوار ذلك عليهم عند استخراج الذرّ ، فرأى آدم عليه‌السلام الأنوار تتلألأ ، فقال : من هؤلاء؟ ، ثم أظهر سمات ذلك حين أوجدهم ، وهى أثار ذلك العهد الذي عهد إليهم فوفّى لهم بعهودهم (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ).

ثمّ إنّ الله سبحانه بشّر المؤمنين باشترائه نفوسهم منهم ، وبما يجازيهم بها من لطفه وكرمه وفضله ومشاهدته ، بقوله :

(فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) ، وأضاف اشتراء النفوس إلى نفسه ، اشتراها في الأزل ، وأضاف بيعها إلى المؤمنين ، وأين المؤمنون في الأزل؟

وأقام نفسه مقام المؤمنين ؛ لإشارة مقام الاتّصاف والاتّحاد ، كما أشار إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بقوله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال : ١٧] ، والاية من قبيل عين الجمع بشّرهم نبيّهم ، والغرض من ذلك المشتري أي : بشّروا بمتابعتكم معي حيث اصطفيتكم بخطابي وشرائي ، الذي ينبّئكم عن كريم لطفي بكم ، بأنّي أعطيكم ما وعدتكم بلا

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٤٧

عذاب ولا حساب ، وأكشف عن وجهي قناع الجبروت ، وأريكم جمالي وجلالي ، وذلك قوله سبحانه : (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

قال النصر آبادي : البشرى في هذا البيع ، أنه يوفي بما وعد ، بأن لهم الجنّة ، ويزيد لمن يشاء فضلا منه وكرما بالرؤية والمشاهدة.

ثمّ وصف أهل ذلك البيع والشراء ، بأوصاف المقامات مفصّلا ومقسّما ، بعد أن جعل جميع الأوصاف في اسم العلم الذي هو المؤمن ، وذلك الاسم اسم جامع لمعان كثيرة ، وهي ما وصفهم الله بهذا في قوله تعالى : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) بيّن تسعة مقامات ، وذكر في أوّلها ذكر الإيمان ، حيث قال : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لأن الإيمان أصل جميع المعاملات والحالات والدرجات والمنازلات ، وهو أصل جميع الخيرات في الدنيا والاخرة ، وهو تعريف الله نفسه لعبده بعد أن جعله عاقلا مستعدّا لمعرفته ، فاهما لخطابه.

ومن الإيمان تتشعب هذه الخصال ، وهذه المقامات ، فصارت قسمة المقامات عشرة مع الإيمان ، والإيمان أوّله.

والمؤمن ممتحن ببلايا المعرفة من الله ، فيذوق مرارة الفرقة بعد ذوق الوصلة ، فيقع بتوفيق الله السابق في الأزل ، فيوقظه من نوم الغفلة ، وينبّهه من قدرة الفرقة حتى يتنبه ويفتح عين قلبه ، فيعرف ما أفسدت النفس والشيطان في مصارع قلبه بذئاب الشهوات ، وسباع الشبهات ، ويرى خيول الهوى في محلّ الروح الناطقة ، فيهيّج سرّه نور الإيمان إلى إخراجها من منظر نظر الله ، فيقدّس أسراره من النظر إلى الأغيار ، ويخرج نفسه من منازل الاغترار ، ويندم على ما فاته من أوقات الطاعات ، ويرجع بالحياء والخجل إلى أبواب المداناة ، ويستأنف عمل الإرادات ، حتى تستحق له مرتبة التوبة ، فيتوب الله عليه بعطف وصاله وكشف جماله.

فالتائبون : قوم رجعوا من غير الله إلى الله ، واستقاموا بالله مع الله ، ولا يرجعون من الله إلى غير الله أبدا.

ثم يوجب هذه الأوصاف للتائب الصادق ، العبادات والمجاهدات والرياضات ، حتى يذوق طعم العبودية ، وذلك بعد الحريّة عمّا سوى الله ، حتى يكون عبدا لله لا لغير الله ، ويرى مشاهدة الله في عبادة الله بعين الإحسان ونور العرفان ، كما قال سيد فرسان العالمين في ميادين

٤٨

المعرفة محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» (١).

فالعابدون : هم القائمون بالله في الله عن غير الله ، فإذا تمّت هذه النعم لهذا العابد يقتضي حاله حمد المنعم القديم بإحسانه السابق للعابد في الأزل بإنعامه ، فيحمده بوصل الخجل ، وخرس ألسنة أسراره عن البلوغ إلى ثنائه ، فيحمده بلسان حمده بنعت نسيان غيره في حمده ، فيحمد منعمه بنعمة تعريف نفسه له ، فيستعف لسان الحمد من صفته ، فيصفه بصفته لا بوصفه ؛ لأن الحادث كيف يطيق أن يحمد القديم؟

ألا ترى كيف رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه عن حمده في رؤية جلاله مقصّرة عن البلوغ إلى حقيقة حمده وثنائه ، بقوله : «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (٢).

فالحامدون : الذاكرون الله لجميع الوجود ظاهرا وباطنا ، سرّا وعلانية ، حتى لا تخلو شعرة منهم إلا ولها لسان من الله بحمد الله به في جميع الأنفاس ، المستغرقون في بحار امتنان مشاهدته.

ثم يقتضي حمده للحامد حبس النفس عن مألوفاتها حين عاين هلال جماله في سماء الإيقان ، ألا ترى كيف قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صوموا لرؤيته» ، ولا يكون فطوره إلا حلاوة مشاهدته ؛ لقوله عليه‌السلام : «وأفطروا لرؤيته» (٣).

فالسائحون : السيّارون بقلوبهم في الملكوت ، الطائرون بأجنحة المحبّة في هواء الجبروت ، ثم السباحة في أقطار الغيب ، يقتضي المشايخ الخضوع بنعت الفناء عند مشاهدة العظمة والكبرياء في مراكع الكشوف ، فيركع بنعت السكر لجبروته في كلّ موطن من العالم شوقا إلى جود جماله ، وحسن وصاله.

فالراكعون : العاشقون المنحنيون من ثقل أوقار المعرفة على باب العظمة من رؤية الهيبة ، ثمّ يقتضي ركوع هذا الراكع شهود أسراره في منازل الأنوار ؛ لطلب جمال الملك الغفّار جلّ جلاله وعزّ كبريائه ، فيسجد عند كلّ كشف في كلّ موضع وحش ، حتى يصير مدهوشا في دهشة بديهة كشف جماله من كلّ قبلة في العالم ، فيسجد لجميع الجهات لغيبه في معاينات الصفات.

وهكذا كان هشام بن عبدان الشيرازيّ ـ رحمة الله عليه ـ في سكره ، ومات بهذه الصفة بارك الله في حياته ومماته ، وجعلنا مثله في عرصات المقبولين بسيف محبّته ، وكشف مشاهدته

__________________

(١) رواه البخاري (١ / ٢٧) ، ومسلم (١ / ٣٧).

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) رواه البخاري (٢ / ٦٧٤) ، ومسلم (٢ / ٧٥٩).

٤٩

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥].

فالساجدون : الشاهدون مشاهدة الغيب بعد كشف الغيب حرقة وهيجانا وشوقا وهيمانا ، أنشد :

لو يسمعون كما سمعت كلامها

خرّوا لعزّة ركّعا وسجودا

وهذا السجود يقتضي التوبة ، والقربة تقتضي المشاهدة ، والمشاهدة تصير شاهدا متّصفا بصفاتها ، فمن وقع في نور أسماء الله وصفاته ، صار متّصفا بوصف الربوبية ، متمكّنا في العبودية ، فيحكم بحكم الله بهذه النعوت.

وقال : (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) الدّاعون الخلق إلى الحقّ بلسان الظرافة ، ومباشرة المعاملة ، الباذلون أنفسهم في الله ، دفع المضرّة عنهم ، وأخرجهم عن معصية الله بتأييد الله ، وبما كساهم الله من أنوار هيبته ، وكسوة سنا عظمته ، فيكونون محتشمين باحتشامه بين الخلائق ، فنهاهم عن متابعة الشهوات بعد أن منعتهم نفوسهم عن جميع المخالفات.

قال تعالى : (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) الناهون نفوسهم عن الهواجس ، وشياطينهم عن الوساوس ، وقلوبهم عن طلب الاخرة ، وأرواحهم عن وقوفها في مقام المحبّة ؛ لأن الأزلية بلا نهاية ، والوقوف على منزل واحد حرام على كلّ عاشق ، وهذا مجال يقتضي رتبة أعلى ، وهي حفظ حدود الله ، وتابعوا سنّة الله ورسوله في شريعته ، وأمروا على أنفسهم وعلى خلقه أمر الله ورسوله ، ولا يتجاوزون عن حدود الله التي أعلامها معروفة في خطابه ، فالحافظون

لحدود الله ، القائمون في مقام العبودية بعد كشف صفات الربوبيّة لهم ، فلا يتجاوزون عن حد العبودية ، وإن ذاقوا طعم حلاوة الربوبيّة ، وبعد أن اتّصفوا بصفاته ، وعاينوا جمال ذاته ، لا يدّعون الربوبيّة كفعل سكارى المحبّة ؛ لأنّهم في محلّ التمكين على أسوة مراتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع كماله ، قال : «أنا العبد لا إله إلا الله» (١).

ثمّ جمع هذه الأوصاف الشريفة ، والمراتب الرفيعة في اسم واحد ، وهو اسم المؤمن ، وبشّرهم بجزيل المقامات في الدنوّ والمداناة ، بقوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) يعني : العارفين الذين هذه الأوصاف صفتهم ، وهم في أعلى الدرجات من التوحيد أي : بشّرهم أنا لهم وهم لي ، حجاب بيني وبينهم أبدا ، وإذا خرجوا من هذه المفاوز الوعرة لا يبقى بيني وبينهم امتحان بعد ذلك ، فإنّ هناك لهيب الوصال بلا علّة الفرقة ، وكشف الجمال بلا حجاب الوحشة ، قال تعالى : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل : ٩٧].

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٥٠

ولي أيضا لطيفة في حقّ المؤمنين ، أنّ الله سبحانه ذكر أوصاف هؤلاء الكبراء من أهل المقامات والدرجات ، وما ذكر ذكر البشارة هناك ، كأنّ ذلك يقتضي حزن المؤمنين الذين هم في أدنى الدرجات من درجاتهم ، فبشّرهم بالبشارة ، وعاملهم بالبيع والشراء.

قال في الأول : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) ، وقال في آخر الاية : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : اشتريت منهم نفوسهم بثمن كريم.

قال : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) : بأنّ ذلك الثمن الكريم جنّة مشاهدتي ، التي بسّامة بنعت الرضا في وجوههم حين تطلع لعيونهم ، وأن ليس لهم هذه المقامات ، فأنا مشتري المفلسين ، وأنا مبشّر المحزونين ، أي : الدرجات لهؤلاء ، وأنا للمؤمنين خاصة بلا علّة المعاملة ، ولا شبهة الجهد والجاهدة ، وأيضا : بشّر المؤمنين بهذه المقامات ، فإنّها أيضا من أهل المقام بإيمانهم بهؤلاء الأصفياء.

ألّا ترى إلى قول رويم ـ قدّس الله روحه ـ حيث قال : من آمن بكلامنا هذا من وراء سبعين حجابا ، فهو من أهله.

قال سهل في قوله : (التَّائِبُونَ) : ليس في الدنيا شيء من الحقوق ، أوجب على الخلق من التوبة ، إلا بالحمد على ما وقفت به عليه من طلب طريق التوبة ، ولا تصحّ التوبة إلا بمداومة السياحة والرياضة ، ولا تدرك هذه المقامات ، إلا بمداومة الركوع والسجود ، ولا يصحّ هذا كلّه ، إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا يصحّ مما تقدّم ، إلا بحفظ الحدود ظاهرا وباطنا.

والمؤمن من تكون هذه صفته ؛ لأنّ الله يقول : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) الذين هم بهذه الصفة.

قيل في قوله : التّائبون الراجعون إلى الله بالكلّية عن جميع ما لهم من صفاتهم وأحوالهم ، العابدون القائمون معه على حقيقة شرائط الخدمة ، الحامدون العارفون نعم الله عليهم في كلّ خطرة وطرفة عين.

(السّائحون) الذين حبسوا أنفسهم عن مرادها ؛ طلبا للرضا.

(الرّاكعون) الخاضعون له على الدوام.

(السّاجدون) الطالبون قربه.

(الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) الامرون بسنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) عن ارتكاب مخالفات السنن.

٥١

(وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) المراعون أوامر الله عليهم في خوارجهم ، وقلوبهم ، وأسرارهم ، وأرواحهم ، (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) القائمين بحفظ هذه الحرمات.

وقال أبو يزيد : السياحة راحة ، من ساح استراح.

وقال أبو سعيد الخرّاز في قوله : (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) ، قال : هم الذين أصغوا إلى الله باذان فهومهم الواعية ، وقلوبهم الطاهرة ، ولم يتخلّفوا عن ندائه بحال.

وعن علي بن موسى الرضا ، عن أبيه ، عن جعفر قال : لا تصحّ العبادة إلا بالتوبة ، فلذلك قدّم التوبة على العبادة ، ولا تتم التوبة إلا بملازمة العبادة ؛ فجعلها تالية.

قال ابن عطاء : التّئبون الراجعون إلى الله من كلّ ما سواه من الأغيار.

والعبدون الواقفون على بابه يطلبون الإذن عليه شوقا منهم إليه.

والحمدون هم الذين يشكرونه على السرّاء والضرّاء ، إذ كلّ منه ، وما كان منه ، فهو مقبول بالسمع والطاعة.

والسّئحون التاركون شهواتهم ، ومراداتهم لمراد الحقّ فيهم.

والرّكعون الخاضعون لعظمة الله. والسّجدون : المتقرّبون إلى الله بخدمته ، و (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) القائمون بأوامر الله بحسب الطاقة ، (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) التاركون مخالفة الحقّ أجمع ، وهم الذين يوالون أولياء الله ، ويعادون أعداءه.

قال الأستاذ في قوله : التّائبون الراجعون إلى الله ، فمن راجع ، يرجع عن زلّته إلى طاعته ، ومن راجع ، يرجع عن متابعة هواه إلى موافقة رضاه ، ومن راجع ، يرجع من شهود نفسه إلى شهود لطفه ، ومن راجع ، يرجع عن الإحسان بنفسه وأبناء جنسه إلى الاستقرار في حقائق حقّه.

وقال في قوله : العبدون هم الخاضعون بكلّ وجه ، الذين لا تسترقّهم كرائم الدنيا ، ولا تستعبدهم عظائم العقبى ، والحمدون الشاكرون له على وجود أفضاله المثنون عليه عند شهود جماله وجلاله ، والسّئحون الممتنعون عن خدمة غير الله ، المكتفون من الله بالله ، والرّكعون الخاضعون لله في جميع الأحوال تحت سلطان التجلّي ، والسّجدون في الظاهر بنفوسهم على بساط العبودية ، وفي الباطن بقلوبهم عند شهود الربوبيّة.

(الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) هم الذين يدعون الخلق إلى الله ،

٥٢

ويحذّرونهم عن غير الله ، يتواصون بالإقبال على الله ، وترك الانشغال بغير الله. و (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) يحفظون الله مع الله أنفاسهم.

قيل في قوله : السّئحون الذين يسيحون في الأرض على جهة الاعتبار ؛ طلبا للاستبصار ، ويسيحون بقلوبهم في مشارق الأرض ومغاربها ، بالتفكّر في جوانبها ومساكنها ، والاستدلال بتغيّرها على منشئها ، والتحقّق بحكمة خالقها ، كلما يرون من الايات التي فيها ، ويسيحون بأسرارهم في الملكوت ، فيجدون روح الوصال ، ويعيشون بنسيم الأنس ، والتحقّق بشهود الحقّ.

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦))

قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) إنّ الله سبحانه إذا أذاق طعم وصاله ، ولذائذ حلو خطابه أرواح الصدّيقين والعارفين ، وأراهم جماله وجلاله ، فجعلهم عاشقين بوجهه ، شائقين إلى جماله ، وهم بهذه النعوت لا يبرحون عن بابه ، ولا يفرحون إلا بوصاله ، ولا يلتفّون بقلوبهم ونيّاتهم إلى غيره ، فلمّا اصطفاهم بهذه الصفات في الأزل بنفسه ، كيف يحجبهم عن نفسه ، وهو بذاته كان محبّا بحبّهم ، وعاشقا بعشقهم ، وشائقا إلى شوقه ، حاشا التغيير في أهل الصفات ، ولا تبديل الكلمات التامات التي سبقت باصطفائيتهم في الازال ، وآزال الازال ، وهم بحمد الله في كنف الله ، محروسون بعين لطفه عن عين قهره إلى الاباد وآباد الاباد ، ولا اعتبار بما يجري عليهم من أحكام الابتلاء والامتحان ، فإنّ سيئاتهم توجب الحسنات ، وحسناتهم توجب القربات ، وهم غير مأخوذين بالجنايات ، لسبق العنايات.

وقوله تعالى : (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) لا يمنع تغيير ما ذكرنا ، فإنّ الضلال هاهنا ظهور النكرة في محلّ الامتحان من القهر والغيرة ، وخفاء الحال ، والغرض في ذلك انفتاح عين المعرفة في النكرة ، حتى يعرفوا الحقّ بطريق القهر واللطف ، وتأويل الظاهر.

قال بعضهم : من جرى له في الأزل من السعادة والعناية نصيب ، فإنّ الجنايات لا تؤثّر عليه.

قال الله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) في الأبد ، (بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) في الأزل.

٥٣

وقيل : لا يضلّهم بعد إذ هداهم إليه.

وقال الأستاذ : الإشارة فيه أنه لا سلب لعطائه ، إلّا بترك الأدب منكم.

ويقال : من أهله لبساط الوصلة ما مني بعده بعذاب الفرقة ، إلّا لمن سلب منه ترك الحرمة.

ثمّ وصف نفسه بأنه مالك الملك من العرش إلى الثرى ؛ إعلاما بأن الحكم له في الضلالة والهداية والحياة بالوصلة ، والموت بالفرقة ، بقوله : (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).

إشارة القهر أن ملك الكون لا خطر في قلب العارف عند رؤية المكوّن ؛ لأن من عاين المكّون غاب عن الكون ، والكون له ؛ لأن العارف والمعروف بشرط الانبساط واحد ، له ملك الولاية في الأرض ، وملك الملكية في السماء ، من قصده لهاتين المنزلتين يكون مرهونا للدرجات عن المشاهدات ، التي تحيي قلوب العشاق بجمالها ، وتميت المشغولين بغيره ، بفراقها ، وتحيي قلوب العارفين بالبسط والأنس ، وتميت نفوسهم بالقبض والهيبة.

قال ابن عطاء : من طلب من الملك غير المالك ، فقد أخطأ الطريق.

وقال جعفر : الأكوان كلّها له ، فلا يشغلك ما له عنه.

قال الأستاذ : يحيي من يشاء بعرفانه وتوحيده ، ويميت من يشاء بكفرانه وإلحاده. ويقال : يحيي قلوب العارفين بأنوار المواصلة ، ويميت نفوس العابدين باثار المنازلة.

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١))

٥٤

قوله تعالى : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) (١) التوبة توبتان :

توبة العبد : وهى الرجوع من الزلّات إلى الطاعات.

وتوبة الله : رجوعه إلى الله بنعت الوصال ، وفتح باب الماب ، وكشف النقاب عن الاحتجاب ، وطلب العتاب :

إذا مرضتم أتيناكم نعودكم

وتدينون فنأتيكم فنعذر

انظر لطف الله بنبيّه وأصحابه ، كيف تاب لأجلهم مكان توبتهم ، رجع إليهم قبل رجوعهم إليه ؛ ليسهّل عليهم طريق الرجوع إليه ، فرجوعه إلى نبيّه بكشف المشاهدة ، ورجوعه إليهم بكشف القربة ، فتوبة النبيّ عليه‌السلام من غيبته عن المشاهدة باشتغاله بأداء الرسالة ، وتوبة القوم من غيبتهم عن ملاحظة الحضرة ، فلمّا ذاقوا طعم الجنايات ، واحتجبوا عن المشاهدات ، أدركهم فيض الوصال ، وانكشف لهم أنوار الجمال ، وهكذا سنّة الله مع الأنبياء والأولياء إذا دانوا في مقام الامتحان ، وبقوا في الحجاب عن مشاهدة الرحمن ، يمطر عليهم وابل سحاب الكرم ، ويلمع لأبصار أسرارهم نور شرق القدم ، فيؤنسهم بعد إياسهم ، ويوصلهم بعد قنوطهم.

قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) [الشورى : ٢٨] ، وقال : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) [يوسف : ١١٠] ، وأنشد في معناه :

نّا كمن ألبس أكفانه

وقرب النعش من الملحد

فحال ماء الروح في جسمه

فردّه أمل إلى المولد

تبارك الله سبحانه

ما كلّ هو بالسرمد

قال بعضهم : توبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هي مقدمة توبة الأمة ؛ لتصح بالمقدمة التوابع من توبة التائبين.

وقال بعضهم : توبة الأنبياء لمشاهدة الخلق في وقت الإبلاغ ، إذ الأنبياء لا يغيبون عن الحضرة ، بل لا يحضرون في مواضع الغيبة ؛ لأنهم في عين الجمع أبدا ، ثمّ خصّ الثلاثة الذين غرقوا في بحار الامتحان ، برجوعه عليهم بقبول توبتهم ، بقوله :

__________________

(١) أي نبي الروح بمنزلة النبي يأخذ بإلهام الحق حقائق الدين ويبلغها إلى أمته من القلب والنفس والجوارح والأعضاء. فالمعنى : أفاض الله على نبي الروح ومهاجري صفاته الذين هاجروا معه من مكة الروحانية إلى المدينة الجسدانية والأنصار من القلب والنفس وصفاتها وهم ساكنوا مدينة الجسد فيوضات الرحمة. تفسير حقي (٥ / ١٨٧).

٥٥

(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) : انبسطت عرصات قلوبهم لتراكم غيوم القبض ، وتتابعت على أسرارهم أنوار العظمة ، فأبرزت الأرض من عظائم برحاء مواجيدهم ، وتراكم حقائق همومهم ، فلا يبقى ذرة من الأرض إلا واستغرقت في بحار أنفاسهم الملكوتية ، واحترقت بنيران أفئدتهم الجبروتية ، وما رأوا على وجه الأرض ما يستأنسون به غير الله.

ثمّ وصف نفوسهم بفنائها في آثار قلوبهم ، بقوله : (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) ضاقت نفوسهم من حمل وارد الغيب عليهم ، وعن أثقال أرواحهم ، التي هي مطايا أسرار الألوهية ، ولطائف كنوز الربوبيّة ، وفنوا تحت سلطان كبريائه ، ودخلوا تحت أكناف لطفه من عزائم قهره.

بقوله تعالى : (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) عرفوا موضع الفرار منه إليه ، فقطعوا الوسائط ، وخاضوا في بحار القهر بسفن اللطف ، فلمّا رآهم منفردين من دونه ، أقبل إليهم بنوادر لطفه ؛ ليقلبهم من الكون إلى وجهه ، بقوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) رفع حجاب الحشمة من البين ؛ ليدخلوا الحضرة بوصف الأنس ، اشتاق إليهم ، فشوّقهم إليه ، ثم وصف نفسه بأنه قابل التوبة في الأزل ، رحيم على من رجع إليه ، بأن أمنه بعد خوفه ، وقرّبه بعد بعده.

قال أبو عثمان : من رجع إلى الله ، وإلى سبيله ، فلتكن صفته هذه الاية ، تضيق عليه الأرض حتى لا يجد فيها لقدمه موضع قرار ، إلّا وهو خائف أنّ الله ينتقم منه فيها ، وتضيق عليه أحوال نفسه ، فينتظر الهلاك مع كلّ نفس ، هذه أوائل دلائل التوبة النصوح ، ولا يكون له ملجأ ولا معاد ولا رجوع ؛ إلّا إلى الله بانقطاع قلبه عن كلّ سبب.

قال الله تعالى : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ).

وقيل في قوله : (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) لن يعتمدوا حبيبا ، ولا خليلا ، ولا كليما ، بل قلوبهم منقطعة عن الخلق أجمع ، وعن الأكوان كلّها.

لذلك قيل : المعارف ألّا تلاحظ حبيبا ولا خليلا ولا كليما ، وأنت تجد إلى ملاحظة الحقّ سبيلا.

وقال أحمد بن خضرويه ، لأبي يزيد : بماذا أصل إلى التوبة النصوح؟

قال : بالله وبتوفيقه ، (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا).

قال بعضهم : عطف عليهم بنوال عطفه ونعمه وفضله ، فألفوا إحسانه ، ورجعوا إليه ،

٥٦

فكأن هو الذي أخذهم إلى نفسه ، لا هم بأنفسهم رجعوا إليه.

قال الأستاذ : إذا أشرفوا على العطب ، وقاربوا من التلف ، واستمكن اليأس من قلوبهم من النصر ، وظنّوا نفوسهم على أن يذوقوا إليهم اليأس ، أمطر عليهم سحاب الجود بالإجابة ، فيعود عود الحياة بعد يبسه طريّا ، ويرد ورد الأنس عقب ذبوله غضّا جليّا.

وقال في وصف الثلاثة لمّا صدق منهم الملجأ : سبق إليهم الشفاء ، وسقط عنهم البلاء ، وكذلك الحقّ يكون نهار اليسر على ليالي العسر ، ويطلع شموس المنّة على فخوس الفتنة ، ويله من تلك السعادة ، فيمحق تأثير طوارق النكادة سنّة منه سبحانه ، لا يبدّلها عادة في الكرم يجريها ، ولا يحولها ، ثم حثّ هؤلاء المخاطبين بالتوبة والمغفرة ، ونظر أنهم من المؤمنين ، بطلب زيادة المقامات والدرجات ، وحذّرهم من نفسه ، وطالبهم بالصدق في وفاء المعرفة ، بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) جعل الطريق على ثلاثة أقسام : الإيمان ، والتقوى ، والصدق ، وهي من أعمال القلوب ؛ لأنها تثبت حقائقها بكشف أنوار الغيوب ، ومن خصّ بالإيمان والتقوى والصدق ، يدرك بالإيمان مشاهدة أنوار حقائق الايات ، ويدرك بالتقوى مشاهدة أنوار الصفات ، ويدرك بنور الصدق مشاهدة أنوار الذات ، سمّاهم مؤمنين ، ودعاهم من مقام الإيمان إلى مقام التقوى ، وهو رؤية إجلاله ، والتبرّي من غيره ، ودعاهم من التقوى إلى مقام الصدق ، وهو مقام الاستقامة مع الله ، حيث لا يفر الصادق منه ببلائه ، وبيّن أن المؤمن مستعد لإدراك نور التقوى ، وإدراك نور الصدق ، ولو لا ذلك ما حثّهم على طلبها ، وخوّف المؤمنين عن مخالفة الصادقين ، أي اقبلوا يا أهل الإيمان ما يصدر من الصادقين من أحكام علوم المجهول الغريبة ، والبراهين العجيبة ؛ حتى تكونوا بالإيمان به معهم في مقام المشاهدة ؛ لذلك قال عليه‌السلام «من أحبّ قوما فهو معهم» (١).

وقال بعضهم : (مَعَ الصَّادِقِينَ) مع المقيمين على منهاج الحقّ

قال بعضهم (الصَّادِقِينَ) الذين لم يخلفوا الميثاق الأول ، فأنها صدق الكلمة.

قال أبو بكر بن طاهر : مع من ضاقت نيّتهم عن طاعته ، وخلصت سرائرهم لمودة ما يرد عليهم.

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ

__________________

(١) رواه البخاري (٥ / ٢٢٨٣) ، ومسلم (٤ / ٢٠٣٢).

٥٧

الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤))

قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) اختار الله سبحانه قوما خاصا لمجالسة نبيّه عليه‌السلام على الدوام ، وخصّهم لإلقاء الأسماع الخاصة ، لتلقف خطاب الحقّ من فلق الغيب ، وجعل الاخرين للأسفار والمجاهدات والرياضات ؛ ليبلغهم إلى مقام المشاهدة والصحبة ، فالأولون أهل الحضور وشهود الغيب ، والمؤانسة بالصحبة ، وفهم الخطاب.

قال تعالى : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) أي : ليفهموا حقائق أحكام المعرفة ، والطريقة والحقيقة ، والشريعة ، والاخرون إذا تمكّنوا في العبودية ، وأدركوا مقام أهل المؤانسة ، وفهموا مراد الله من خطابه ، وإذا الكلّ على سعادة من الأزل وحيث لحق بعضهم بعضا ؛ لأنّ شموس العناية إذا أشرقت يجاري الكلّ أنوارها ، إذا طلع الصباح لنجم راح تساوى فيه سكران وصاح.

قال سهل : أفضل الرحلة رحلة من الهوى إلى العقل ، ومن الجهل إلى العلم ، ومن الدنيا إلى الاخرة ، ومن الاستطاعة إلى التبرّي من الحول والقوة ، ومن النفس إلى التقوى ، ومن الأرض إلى السماء ، ومن الخلق إلى الله.

قال المرتعش : السياحة والأسفار على ضربين : سياحة ؛ لتعلّم أحكام الدين وأساس الشريعة ، وسياحة لاداب العبودية ورياضة الأنفس ، فمن رجع من سياحة الأحكام ، قام بلسانه يدعو الخلق إلى ربه ، ومن رجع من سياحة الاداب والرياضة ، قام في الخلق يؤدّبهم بأخلاقه وشمائله ، وسياحة هي سياحة الحقّ ، وهي رؤية أهل الحقّ والتأدّب بادابهم ، فهذا بركته تضم العباد والبلاد. قال الله : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ).

قال سهل في قوله : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) ليفهموا في الدين مراد خطابه ، ويقوموا باستعمال ما أمروا به مخلصين له الدين ، ثمّ حثّهم بقتال نفوسهم ، ومجاهدة هواهم ، بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) الكفّار : النفوس الابدة التي هي مجمع الهوى والبلاء والحجاب ، من عرفها قاتلها وأماتها بفنون الرياضات ، حتى لا يبقي في عرضات قلبه من عروق أشجار الشهوات أثر ، فينبت فيها بعد ذلك أشجار المعارف ، والكواشف ونور الحكمة ، ورياحين المودّة ، وورود الشوق ، وياسمين العشق ، ويكون بهذه الأنوار مزار جنود الأسرار ، ومنازل نزول الأنوار.

٥٨

قال سهل : النفس كافرة ، فقاتلها بمخالفة هواها ، واحملها على طاعة الله ، والمجاهدة في سبيله ، وأكل الحلال ، وقول الصدق ، وما أمرت به من مخالفة الطبيعة.

وعن علي بن موسى الرضا ، عن أبيه ، عن جعفر معناه : مجاهدة النفس وشرورها ، فإنّه أقرب شيء يليك صدق الصادق ، حيث وافق قول سيّد الصادقين صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك» (١).

قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) وصف الله أهل الإيمان بفتح آذان قلوبهم بسماع خطابه ، وفهم بيانه ، واستبشار قلوبهم بروح الخطاب ، وزيادة إيقانهم في السماع.

قال ابن عطاء : أمّا الذين حكموا الربوبيّة ، وتمسّكوا بعهد العبودية ، زادتهم معرفة في قلوبهم ، ونظرا أسقط عنهم النظر إلى ما سواه.

(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩))

قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) جهّلهم على جهلهم عند معاينة البرهان ؛ لأنهم ليسوا من أهل العيان.

قال سهل : أي زاد أهل الأهواء والبدع المضلة جهلا إلى جهلهم.

قوله تعالى : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) أخبر الله سبحانه عن أهل الفتنة والعزّة ، لا يعرفون طريق الحقّ بعد امتحانهم بالبلايا المتواترة ، ولا يهتدون سبيل الرشاد بعد إظهار البرهان لهم ، وكيف لا يكونون هكذا ، وهم في الأزل محجوبون عن عناية السرمديّة.

قال أبو عثمان المغربي : ليس الرجوع في أيّام الفتنة ، إلّا إلى الملجأ والاستغاثة ، وطلب

__________________

(١) رواه البيهقي في الزهد الكبير (٢ / ١٥٧).

٥٩

الأمان ، وقصد التوبة ، فمن رجع إلى غير هذه الأسباب لم يسلم من فتنة نفسه ، وإن سلم من فتنة العوام.

قال الله : (فَلا يَتُوبُونَ) أي : لا يرجعون إلى الله بقلوبهم ، والراجع إلى الله سالم من الفتن والافات والهمّ.

(يَذْكُرُونَ) أي : لا يشكرون نعمى السالفة عندهم ، وهم يعلمون رفقي بهم في الفتنة.

قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أخبر سبحانه عن كريم ميلاده عليه‌السلام ، وعظيم ميعاده ومراده ، وشرّف بها أمّته ، حيث اختاره منها باصطفائية رسالته ، وعظّم شأنه ، والحمد لله الذي جعل طينته من طينتنا ، وشرّف طينتنا حيث جعلها من طينته ، وخصّ جوهر روحه من أرواحنا ، وشرّف أرواحنا حيث كانت مع روحع في أول بديهة الأمر من الله سبحانه ، وأي كرامة أعظم كرامة من أن الله سبحانه جعل نبيّنا من أنفسنا ، وأرسل إلينا بالرأفة والرحمة ، وأكرم خلقه حيث جعله رحمة للعالمين ، قال : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم : ٤].

قال الخرّاز : أثبت لنفسك خطرا ، حين قال : (رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ).

قال الحسين : من أجلّكم نفسا ، وأعلاكم همّة ، جاد بالكونين عوضا عن الحقّ ، ما نظر إلى الملكوت ، ولا إلى السدرة ، (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم : ١٧] قلبه عن موافقته.

قال ابن عطاء : نفسه موافقة لأنفس الخلق ، خلقه ومبائنه لها حقيقة ، فإنها نفس مقدّسة بأنوار النبوّة ، مؤيّدة بمشاهدة الحقائق ، ثابتة في المحلّ الأدنى ، والمقام الأعلى ما زاغ ، وما طغي ، ثم زاد في وصفه ، بقوله : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) اشتدّت عليه مخالفتنا مع الحقّ ، ومتابعتنا هوانا ، واحتجابنا عن الحقّ.

قال بعضهم : شقّ عليه ركوبكم مراكب الخلاف.

قال سهل : شديد عليه غفلتكم عن الله ، ولو طرفة عين ، ثم زاد في وصفه ، بقوله : (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي : حريص على محبّتكم بمشاهدة الله ، ومعرفة صفاته وذاته ، وعلى متابعتكم أمر الله ، رءوف برأفة الله بالمؤمنين ، ورحيم برحمة الله على الصادقين ، رءوف بأهل الجنايات من المدنيين ، ورحيم على أهل الطاعات من المقصّرين ، فيها تشفع لأهل الجنايات ، وتدعو لأهل الطاعات ، وهذا من اتّصافه بصفة الله ، حيث ألبسه أنوار عنايته ، وزيّنه بلطفه وشفقته.

٦٠