تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٧٤

والأسرار ، وما سمعوا من الحق شغل أسماع خواطرهم عن أسماع الأصوات المختلفة.

قيل : أخذنا عنهم أسماعهم ؛ حتى لا يسمعوا إلا منا ، وأخذنا عنهم أبصارهم ، فلا ينظروا إلا إلينا ؛ حتى لا يكون لهم إلى الغير التفات ، ولا للغير فيهم نصيب بحال.

وقال ابن عطاء : أخرجنا منهم صفة البشرية ، وأفنيناهم بصفات القدسية ، قدسنا ظواهرهم وبواطنهم وجعلناهم أسراء في القبضة ، ثم رددناهم إلى هياكلهم وصفاتهم بقوله : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ).

قال أيضا : إن الفائدة في الضرب على الاذان ، وليس للاذان في النوم شيء إنه ضرب على آذانهم ، حتى لا يسمعوا الأصوات ، فينتبهوا ويكونوا من الخلق كلهم في راحة.

قال الأستاذ : أخذناهم عن إحساسهم بأنفسهم ، واختطفناهم عن شواهدهم بما استغرقناهم فيه ، وحقائق ما كنا سقيناهم به من شهود الأحدية ، وأطلعناهم عليه من دوام نعت الصمدية ، فلما استوفوا حظ شهود الغيب ، ولطائف مقام السكر ، وأراد أن يجعلهم من مقام الصحو لهم حظّا ، رفع عنهم برجاء الهيبة ، وسجوف ليالي الحشمة ، وآفاقهم عن خمار السكرة بقوله : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) أقامهم مقام الاستقامة ؛ ليعرفوا منازل القرب بنعت الصحو ؛ لأن السكارى صيروا في قفار الديمومية بالحظ ، والوجد لا بالمعرفة ، وليعرفوا مسالك الحقيقة أهل الإرادة.

قال الأستاذ : أي رددناهم إلى حال صحوهم أوصاف تمييزهم ، أقمنا شواهد التفرقة بعد ما محوناهم عن شواهدهم بما أقمناهم بوصف الجمع.

(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أي : نبهناهم عن نوم الغفلة بقيامهم عن مرقد البدن ، ومعرفتهم بالله وبنفوسهم المجردة (لِنَعْلَمَ) أي : ليظهر علمنا في مظاهرهم أو مظاهر غيرهم من سائر الناس (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) المختلفين في مدة لبثهم ، وضبط غايته الذين يعينون المدة أم يكلون علمه إلى الله ، فإن الناس مختلفون في زمان الغيبة.

يقول بعضهم : يخرج أحدهم على رأس كل ألف سنة ، وهو يوم عند الله ؛ لقوله : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج : ٤٧] إلى الحق عند كل جبار هو دقيانوس وقته ، كنمرود وفرعون وأبي جهل وأضرابهم ممن دان بدينهم ، واستولى عليه النفس الأمارة فعبد الهوى أو ادعى لطغيانه ، وتمرد أنائيته وعدوانه الربوبية من غير مبالاة عند معاتبته إياهم على ترك عبادة الصنم المجعول ، كما هو عادة بعضهم أو صنم نفسه. كما قال فرعون اللعين : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) ، (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ

٤٠١

الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤].

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥))

قوله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) وليس شيء أطيب عند الحبيب من ذكر أحبائه لأحبائه ، ذكر الحبيب الأول ، ما الحبيب عند الحبيب استطاب الحق ذكر قصة فتيان محبته ومعرفته لحبيبه الأكبر ؛ ليعرف منازل المحبين والعارفين الذين هاموا بوجوههم في بيداء شوقه وعشقه ؛ ليزيد رغبته في شوقه ومعرفته أي : أنا أحقق خبر أسرارهم لك ؛ لتعرفهم أين تاهوا في مفاوز القيومية ، وأين استغرقوا في بحار الديمومية؟

يا حبيبي اعلم أن تلك فتيان محبتي انفردوا بي عن غيري ، وهم شبان حسان الوجوه قلوبهم مسفرة بأنوار شمس جلالي فيها ، وأسرارهم مقدسة بسر أسرار قدسي ، أبدانهم غائبة في مجالس أنسي آمنوا بربهم عرفوني بي ، واستأنسوا بي واستوحشوا من غيري ، ما أطيب حالهم معي ، ما أحسن شأنهم في محبتي زدناهم نورا من جمالي ، فاهتدوا به طرق معان ذاتي وصفاتي ، وذاك النور لهم على مزيد الوضوح إلى الأبد ؛ لأن نوري لا نهاية له.

وأيضا : زدناهم مشاهدة وقربا وصالا ومعرفة وكمالا ومحبة وشفاء.

قال الله تعالى : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ) الاية.

(إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ) أصحاب الفتوة حيث بذلوا أنفسهم لي ، ولوجدانهم حسن وصالي أبدا.

يا حبيبي الفتوة : من الفتيان بالحقيقة طلب معادن المحبة ، والانصراف إلى مصرف المعرفة ، وإلقاء الوجود بنعت الوجد للموجود القديم جل وعز.

قال ابن عطاء : زدناهم نورا ، ومن يعرف قدر زيادة الله ؛ لذلك كانت الشمس

(تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ) خوفا من نورهم على نورها أن يطمسه.

وقال أيضا في قوله : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) لتنظر إليهم بعين المشاهدة.

وقال سهل : سماهم الله فتية ؛ لأنهم آمنوا بالله بلا واسطة ، وقاموا إلى الله بإسقاط العلائق.

وقال فضيل : الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان.

قال أبو عثمان : الفتوة اتباع الشرع والاهتداء بالسنن ، وسعة الصدر ، وحسن الخلق.

٤٠٢

قال الجنيد في قوله : (وَزِدْناهُمْ هُدىً) جعلناهم أئمة المهتدين.

وقال بعضهم : سهّلنا لهم طريق القرية والوصلة.

ويقال : لا يسمع قصة الأحباب أعلى وأجل مما يسمع من الأحباب.

قال عز من قائل : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ).

وأنشد في معناه :

وحدّثني يا سعد عنها فزدتني

جنونا فزدني من حديثك يا سعد

ويقال : فتية ؛ لأنهم قاموا بالله ، وما استقروا ؛ حتى وصلوا إلى الله.

وقال الأستاذ : (وَزِدْناهُمْ هُدىً) لاطفهم بإحضارهم ، ثم كاشفهم بما زاد من أنوارهم فلقاهم أولا بالنبيين ، ثم رقاهم عن ذلك إلى ما كان كاليقين ، ثم زاد في وصف إيقانهم وإيمانهم ، وعرفانهم ثبات قلوبهم ؛ حين قاموا مقام المحبة ؛ بشرط وفاء العبودية ، ونفاذ أبصارهم وأسرارهم في المشاهدة والبراهين العقلية ، وبلوغها إلى رؤية رب العزة بقوله : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) أضاف ارتباط قلوبهم إلى نفسه ؛ حيث عرّفهم نفسه بنفسه بلا واسطة ، فلما أدخلهم في عالم الملكوت ، وأراهم سبحات عظمة الجبروت ، كادت قلوبهم تفنى في أول بوادي أنوار العزة ، بديهة كشف سناء الأولية فألقى عليها رواسي نوار الهيبة ، وربطها على مشاهد القربة بمسامير المحبة ؛ حتى استقاموا في المعرفة حين قاموا بالشوق إلى مشاهدة الوصلة ، فلما عظم عليهم قهر لطمات بحر القدم ألجأهم الحق إلى سواحل الكرم ، وأشهد ما أخرج من العدم ؛ حتى (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ولولا خوف الزوال لهم ما غابوا عن القدم إلى مراسم العدم ، ولكن قلوبهم في مواقف العدم مرتبة ، وإن كانوا في مشاهدة الرسوم لهم إشارة إلى براهين.

بقوله تعالى : (لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) أي : لن نرى من دونه شيئا في البين ، ولو نرى الوسائط في رؤية الوسائط (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) أي : ميلا عن طريق إفراد القدم عن الحدوث.

قال ابن عطاء : رسمنا أسرارهم بسمة الحق فقاموا بالحق للحق (فَقالُوا رَبُّنا) إظهار إرادة ، ودعوة.

ثم قالوا : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) رجوعا من صفاتهم بالكلية إلى صفاته ، وحقيقة علمه (لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) لن نعتمد سواه في شيء لو قلنا غير ذلك كان شططا يعني بعيدا من طريق الحق.

٤٠٣

وقال جعفر : قاموا إلى الحق بالحق قيام أدب ، ونادوه نداء صدق ، وأظهروا له صحة الفقر ولجئوا إليه أحسن اللجاء (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) افتخارا به وتعظيما له فكافأهم الحق على قيامهم الإجابة عن ندائهم بأحسن جواب ، وألطف خطاب ، أظهر عليهم من الايات ما يعجب منه الرسل حين قال : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) وقد استدل بعض المشايخ بهذه الاية في حركة الواجدين في وقت السماع ؛ لأن القلوب إذا كانت مربوطة بالملكوت ومحل القدس حركها أنواع الأذكار ، وما يرد عليها من فنون السماع.

والأصل قوله : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا) نعم هذا المعنى إذا كان القيام قياما بالصورة ، وإذا كان القيام من جهة الحفظ والرعاية والربط من جهة النقل من محل التلوين إلى محل التمكين والاستدلال بها في السكون في الوجد أحسن إذا كان الربط بمعنى التسكين ، والقيام بمعنى الاستقامة.

ويقال : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) بما أسكنا فيها من اليقين فلم تسبح فيها هواجس التخمين ولا وساوس الشياطين.

(هؤُلاءِ قَوْمُنَا) إشارة إلى النفس الأمارة وقواها ، لأن لكل قوم إلها تعبده ، وهو مطلوبها ومرادها والنفس تعبد الهوى كقوله : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) [الفرقان : ٤٣]

وإلى أهل زمان كل من خرج منهم داعيا إلى الله إذ كل من عكف على شيء يهواه ، فقد عبده.

(لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ) أي : على عبادتهم وإلهيتهم وتأثيرهم ووجودهم.

(بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) أي : حجة بينة دليل على فساد التقليد ، وتبكيت بأن إقامة الحجة على إلهية غير الله ، وتأثيره ووجوده محال.

كما قال : (أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) [الأعراف : ٧١] أي : أسماء بلا مسميات لكونها ليست بشيء.

(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ

٤٠٤

مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠))

قوله تعالى : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) أخبر سبحانه عن صدقهم وإخلاصهم وفرحهم بالإيمان بالله ، والنجاة عن الكفر والضلال ، واجتماعهم في مقام الخلوة أي : إذا أخرجتم من أماكن النفوس والهوى ، صرتم منفردين باليقين الصادق ، فأووا إلى جوار كرمه وبساط قدمه (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ) ذخائر لطائف علومه الغيبية ، ويبسط لكم بساط عطايا مشاهدته ، وأنوار قربه ومحبته (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) أي : احتياجكم إلى وصاله ورؤية جماله (مِرْفَقاً) مسند الأنس ، ويسقيكم شراب الزلفى من بحر القدس.

قال الأستاذ : العزلة عن غير الله يوجب الوصل بالله ؛ بل لا يحصل الوصلة بالله ؛ إلا بعد العزلة عن غير الله.

ثم أخبر عن زيادة تلطفه بهم ؛ بأن دفع عنهم تواثير العناصر التي أصلها من طبع الشمس والقمر والسيادة ، ودفع عنهم حرارة الشمس وشعاعها ؛ لئلا تتغير أشباحهم عن أحكام الروحانية ، كأنه تعالى أدخلهم في حجلة الأنس في عالم القدس ، وجعل ذلك العالم في الكهف ، وهو قادر على أن يخلق ألف جنة في عين نملة ، فلما سكنهم في حجر وصلته دفع عنهم تغاير الحدثية ، وإطلاع الخليقة عليهم من غيرته ، فمن غيرته حجبهم عن الشمس الطالعة التي هي في الفلك الرابعة ، فإذا حجبهم عن الشمس مع جلالتها التي هي سبب نماء العالم ، فانظر كيف يطلع عليهم غيرها من الخلق.

(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) أي : فارقتم نفوسكم وقواها بالتجرد (وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) من مراداتها وأهوائها (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) إلى البدن ؛ لاستعمال الالات البدنية في الاستكمال بالعلوم والأعمال ، وانخذلوا فيه منكسرين متراضين ، كأنهم ميتون بترك الحركات النفسانية والنزوات البهيمية ، والسطوات السبعية أي : موتوا موتا إراديّا.

٤٠٥

(يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) حياة حقيقية بالعلم والمعرفة (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) كما لا ينتفع به بظهور الفضائل ، وطلوع أنوار التجليات ، فتتلذذون بالمشاهدات ، وتتمتعون بالكمالات.

كما قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [الأنعام : ١٢٢].

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أبي بكر رضي الله عنه : «من أراد أن ينظر ميتا يمشي على وجه الأرض ، فلينظر أبا بكر» (١) أي : ميتا عن نفسه يمشي بالله ، (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) قومكم ومعبوداتهم غير الله من مطالبهم المختلفة ومقاصدهم المتشتتة ، وأهوائهم المتفننة ، وأصنامهم المتخذة (فَأْوُوا) إلى كهوف أبدانكم ، وامتنعوا عن فضول الحركات والخروج في أثر الشهوات ، واعكفوا على الرياضات (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) زيادة كمال وتقوية ، ونصرة بالإمداد الملكوتية والتأييدات القدسية ، فيغلبكم عليهم (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ) دينا وطريقا ينتفع به ، وقبولا يهتدي بكم الخلائق ناجين ، وفي الاوي إلى الكهف عند مفارقتهم سر آخر يفهم من دخول المهدي في الغار إذا خرج ونزل عيسى عليه‌السلام ، والله أعلم.

وفي نشر الرحمة وتهيئة المرفق من أمرهم عند الاوى إلى الكهف إشارة إلى أن رحمته الكاملة في استعدادهم ، إنما تنشر بالتعلق البدني والكمال بتهيئته.

قال سبحانه : (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ) الإشارة في الحقائق أنه أخفاهم في كهف الأسرار ، وأجلسهم في متسع الأنوار ، وأشهدهم مشاهدة الجمال ، وآواهم سناء الجمال ، ووقاهم من سطوات أنوار شمس العزة والعظمة والكبرياء التي تطلع من مشرق القدم ، وتغرب في مغرب الأبد ؛ لئلا يحترقوا في أنوار عين الألوهية ، ويفنوا في سلطان إشراق سبحات الكبرياء ، ولا يطلعوا على ذخائر غيوب البقاء ؛ كأنه تعالى رباهم في مشاهدته بنور جماله ، وحفظهم عن قهر كنه قدمه ؛ لئلا يتلاشوا في عزة جلاله ، ويبقى معه بنعت الصحو والبقاء ، ولولا ذلك الفضل العميم لو لم يبقوا في استعلان أنوار وحدانيته بأقل من لمحة رعاهم بنفسه عن نفسه ؛ لإدراك العلم بنفسه هم في فجوة الوصال ، وشمس الكبرياء ، تزاور عن كهف قربهم ذات اليمين الأزل ، وذات الشمال الأبد.

__________________

(١) هو من الأحاديث المشتهرة عند السادة الصوفية ، وهو صحيح عند أرباب الكشف.

٤٠٦

وهم في فجوة وصال مشاهدة الجمال والجلال ، محروسون محفوظون عن قهر سلطان صرف ذات الأزلية التي يتلاشى الأكوان في أول بوادي إشراقها ، وأي آية أعظم من هذه الاية أنهم في وسط نيران الكبرياء ، ولا يحترقون بها فبقوا بالحق مع الحق مستأنسين بالحق للحق بنعت فقد الإحساس في مقام الاستئناس غائبين عنهم شاهدين بالله على الله.

انظر كيف كان كمال غيرة الله بهم ، حيث حجبهم عنهم ، ورفع الإحساس عنهم ، ورفع حوادث الكون عنهم ؛ ليكون الكشف أصفى ، والقرب أجلى ، والسر أخفى ، والمشاهدة أشهى والروح أدنى ، والوقت أحلى ، ولا يعرف هذه الإشارة إلا العارف بالله بنعت الذوق ، ويرى الله بوصف الشوق المستقيم بالله لله.

قال الله تعالى : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) من عرف نفسه ، وأقدار أوليائه فهو عارف بالله وبأوليائه ، ومن لم يكن من أهل سلوكه ، كان في الأزل محروما عن قربه ، وإن خنق نفسه في المجاهدة.

قال الله : (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً).

من لم يكن للوصال أهلا

فكلّ إحسانه ذنوب

سبحان الله! أين غابوا تلك السبعة الغارقة في أماكن الغيب ، ومشاهدة الرب هام طلابهم في بوادي المعارف والكواشف ، ولم يظفروا برؤيتهم ، وانحسرت الأزمان ، والأكوان والحدثان عن تفقدهم ، ولا تطلع عليهم من غيره الحق عليهم هم ملوك معارف القدم؟ غابوا في مهمة الكرم.

بأيّ نواحي الأرض أبغي وصالكم

وأنتم ملوك ما لمقصدكم نحو

(وَتَرَى الشَّمْسَ) أي : شمس الروح (إِذا طَلَعَتْ) أي : ترقت بالتجرد عن غواشي الجسم ، وظهرت من أفقه تميل بهم من جهة البدن ، وميله ومحبته إلى الإلهام ، والشيطان للوسواس (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢].

وفي الاية لطيفة ، وهي أنه استعمل في الميل إلى الخير الازورار عن الكهف ، وفي الميل إلى الشر قرضهم أي : قطعهم ، وذلك أن الروح يوافق القلب في طريق الخير ، ويأمره به ويوافقه معرضا عن جانب البدن وموافقاته ، ولا يوافقه في طريق الشر ، بل يقطعه ويفارقه وهو منغمس في ظلمات النفس وصفاتها الحاجبة إياه عن النور ، وهو إشارة إلى تلوينهم في السلوك ، فإن السالك ما لم يصل إلى مقام التمكين ، وبقي في التلوين قد تظهر عليه النفس

٤٠٧

وصفاته ، فيحتجب عن نور الروح ، ثم يرجع ذلك أي : طلوع نور الروح واختفاؤه من آيات الله التي يستدل بها ، ويتوصل منها إليه وإلى هدايته.

(مَنْ يَهْدِ اللهُ) بإيصاله إلى مقام المشاهدة والتمكين فيها (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) بالحقيقة لا غير (وَمَنْ يُضْلِلْ) يحجبه عن نور وجهه ، فلا هادى له ولا مرشدا ، ومن يهد الله إليهم وإلى حالهم بالحقيقة ، ومن يضلله يحجبه عن حالهم.

قال ابن عطاء في قوله : (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ) ذلك لمعنى النور الذي كان عليهم بقوله : (وَزِدْناهُمْ هُدىً) نور على نور ، وبرهان على برهان ، والشمس نور ، ولكن إذا غلب نور أقوى منها انكسفت الشمس فكانت تزيغ عن كهفهم ؛ لغلبة نورهم خوفا أن ينكسف نورها من غلبة نورهم.

وقال جعفر : يمين المرء قلبه ، وشماله نفسه ، والرعاية تدور عليهما ، ولولا ذلك لهلك.

وقال ابن عطاء في قوله : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) ما حجب عن الله أحد إلا من أراد أن يصل إليه بحركاته وسعيه ، وما وصل إليه أحد إلا من أراد أن يصل إليه بصفته تعالى.

وقال الواسطي في قوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ) من جاء بأوائل الإيمان بلا علة ، وبأواخره بلا علة ، وهذا صفة الحق لا صفة الخلق ، وظهر أن المهتدي هو البائن من جميع أوصافه ، المتصف بصفات الحق ثم زاد في وصفهم لحبيبه عليه‌السلام بأنهم غائبون بأرواحهم في أنوار القدم ، وبأسرارهم في بحار الكرم ، وبعقولهم في أودية الهوية ، وبقلوبهم في قفار الديمومية ، وبأنفسهم في أشراف سلطنة الربوبية وبأشباحهم في أماكن المؤانسة ، بقوله :

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) أي : من كمال حسنهم في الغيبة أنه نشر أنوار القربة على ظاهرهم ، وأزال عنهم وحشة النومى ، وأظهر عن صورتهم لطائف النعمى كانت أرواحهم كأجسادهم ، وأجسادهم كأرواحهم ؛ لذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن معاشر الأنبياء أجسادنا روح» (١) كأنهم من كمال حسن وجدهم وغيبتهم فيه ، والتمكين لهم غير غائبين.

وانظر كيف كانوا في لطف غيبتهم ؛ حتى لا يعرف سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم رقود وهذا من شواهد التمكين ، ولطافة الحال لما حضروا مشاهد القرب ، غابوا عن القرب بالقرب ، وغابوا في القرب بالقرب ، وغابوا عن قرب القرب في قرب القرب ، وقعوا في أسفار الأزل ففي كل نفس لهم الترقي والنقل من مقام إلى مقام (٢) ؛ لقوله سبحانه :

__________________

(١) هو من الأحاديث التي ذكرها المصنف في كتبه ، ولم نقف على من خرجه.

(٢) في الاية إشارة إلى حال الغفلة ؛ فإنهم نائمون في صورة المنتبهين ، فمن نظر إليهم ممن هو مثلهم في الغفلة

٤٠٨

(وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) أغرقهم الحق سبحانه في بحار أوليته وأخرويته ، وقلبهم بنفسه ذات يمين الأزل ، وذات شمال الأبد ، قلبهم من رؤية الأفعال إلى أنوار الأسماء ، ومن أنوار الأسماء إلى أنوار النعوت والأوصاف ، ومنها إلى رؤية أنوار الذات قلبهم في كل نفس من عالم صفة إلى عالم صفة ، وهم معهم في سيرهم بين الصفتين ، فأدار بأرواحهم إلى صحارى الأزل ، وآزال الأزل ، وأدار بقلوبهم في بوادي الاباد ، وآباد الاباد.

وأدار بأنجم عقولهم في أفلاك حقائقه ، وأدار بأسرارهم في بساتين علوم غيبه المجهولة ، فقصر عليها بعد مزار أسفارهم بلطفه ، ولولا ذلك لبقوا في تقلب المقامات وسير الحالات ، ولكنه بلطفه وبرحمته خلصهم من التقلب في عالم الصفات ، ولو تركهم مع أنفسهم لم يبلغوا أمر الأزل إلى الأبد إلى رؤية صفة بعد رؤية صفة حملهم بنفسه ، وأدارهم في عالم صفاته ، ثم ألقاهم في بحر وحدانيته ، فصاروا مستغرقين في بحار ذات متخلصين من التقلب ، ذهب بهم سيول طوفان الكبرياء إلى قاموس البقاء ، فهناك قلبهم سر الأسرار تارة إلى نكرة القدم ، وتارة إلى معرفة البقاء.

قال ابن عطاء : نقلبهم في حالتي القبض والبسط والجمع والتفرقة جمعناهم عما تفرقوا فيه فحصلوا معنا في عين الجمع.

وقال بعضهم : نقلبهم بين حالتي الفناء ، والبقاء ، والكشف ، والاحتجاب ، والتجلي ، والاستتار.

قال ابن عطاء في قوله : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) مقيمون في حضرة كالنومى لا

__________________

عن الله تعالى يراهم متيقّظين ، ومن نظر إليهم من أهل المكاشفة والمشاهدة ؛ يراهم نائمين ، فإن الاعتبار بحال الباطن لا بحال الظاهر ، وإمّا إلى حال أهل اليقظة ، فإنهم لا إحساس لهم بما يتعلّق بعالم الملك ؛ لفنائهم عنه ، وبقائهم بالله ، والباقي بالله لا ينظر إلا إلى الله تعالى ، والجاهل المحجوب يظن أنهم منغمسون في الحسّ ، وأنهم مشتركون معه في ذلك ، وليس الأمر كذلك بل فرق كثير بين من حضر مع الحق في كل حاله ، وبين من غفل عنه في كل حاله ، أو في بعض حاله ، فمن حضر مع الحق ، يشمّ منه رائحة المسك في صورة الدّم كدم الشهداء ، ومن لم يكن كذلك ، كان صورته ومضاء دما ، فالاشتراك في الدموية لا يوجب أن يكون بينهما أصلا ؛ ولذا قالوا : إن رجال الله أكثر نكاحا من غيرهم لما أن الدم في عروقهم يستحيل نورا : أي يرجع إلى قوته ، والنور أقوى من الدم ؛ لأنه من عالم البقاء ، والدم من عالم الفناء ، فما بينهما كما بين الدنيا والاخرة ، فإذا عرفت هذا ؛ فاحذر أن تقيس أهل الله في أحوالهم على غيرهم ؛ فهو كقياس الغائب على الشاهد ، وذلك لا يصحّ جدّا ، وقد رأيت في عصري من هو خارج عن القياس بحيث لا يعرفه إلا رب الناس ، جعلنا الله وإياكم من المحققين بهم ، والقائمين بنحو مطالبهم ؛ إنه هو البرّ الرحيم ، والزم.

٤٠٩

علم لهم بوقت ، ولا زمان ، ولا معرفة محل ، ولا مكان إحياء موتى صرعى يفيقون نومى منتبهون لا لهم إلى غيرهم طريق ولا لغيرهم إليهم سبيل ، ومحل الحضور والمشاهدة ، إنما هو الخمود تحت الصفات لا غير.

وقال أبو سعيد الخراز : هذا محل الفناء والبقاء ، أن يكونوا فانين بالحق باقين به ، لا هم كالنيام ولا كاليقظى ، أوصافهم فانية عنهم ، وأوصاف الحق بادية عليهم ، وهو حياة تحت كشف دولة مقابلة ويقين.

وقال أيضا : لهؤلاء أئمة الواجدين (إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كشف لهم حتى تبينوا جلال القدرة ، وعظم الملكوت فغيبوا عن التمتع بشيء من الكون بحقيقة أحوالهم ، فصاروا داهشين لا أيقاظا ولا رقودا.

وقال الأستاذ : هم مسلوبون عنهم مختطفون منهم ، مستهلكون فيما كوشفوا به من وجود الحق.

وقال في قوله : (وَنُقَلِّبُهُمْ) إخبار عن حسن إيوائه لهم.

ويقال : أهل التوحيد صفتهم ما قال الحق في وصف أصحاب الكهف :

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) لشواهد الفرق في ظواهرهم لكنهم بعين الجمع بما كوشفوا به في سرائرهم تجري عليهم أحوالهم ، وهم غير مكلفين بل هم يبيتون ، وهم خمود عما هم به.

وفي قوله : (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) وقع لي من طريان الأحوال رمز في وصف الصفات المتشابهة أضاف نقلبهم إلى نفسه أي : أقلبهم بنفسه في حجر وصلتي ، وهذه فيهم تلك الخاصية التي خص بها آدم بقوله : (خلقت بيدي) ، فباشرهم أنوار يدي البقاء والقدم ، وتقلبهم من ذات يمين الربوبية بمحض الصفة بغير التشبيه والحلول في ذات الشمال العبودية.

وذلك حين ألقاهم في قفار الازال والاباد ، ولومهم على رؤوس أودية الصفات بنعت الغيبة عن الذات ، ولولا ذلك التقلب الذي أرجعهم من معدن الربوبية إلى معدن العبودية ؛ لتستفتهم صرصر الكبرياء في هواء عزة البقاء ؛ لما أطلع عليهم الحق شموس جلاله ، كادوا أن يذوبوا في رؤيتها ، فقلبهم من ذات يمين الأحدية إلى ذات شمال الحدوثية ؛ لبقائهم بالحق مع الحق ، وإلا كيف يكون بقاء الحدث في القدم ، وإذا كانوا متنغصين في مرارة التفرقة ، ومباشرة الحدوثية تقلبهم من الحدثان إلى بحار العرفان فهم بين الثقلين في مقامي : الفناء والبقاء والقبض والبسط والجمع والتفرقة ، وهذه من لطائف سر العارفين وتقلب أسرار الموحدين

٤١٠

في عالم الملكوت والجبروت ، ثم أخبر سبحانه من سعة قدرته وكمال رحمته وجلال منته بأنه اختار من بين سباع البرية كلبا عارفا ، وجعله مستعدا لقبول المعرفة ممهدا لجريان أنوار محبته ، ومقبلا عليه مع أوليائه لديه بقوله : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) وضع قلب الروحاني الملكوتي في كلب ، وجعل قلبه خزائنه من خزائن معارفه ، وصندوقا من صناديق جواهر سر أسراره ، وحركه بسلاسل جذباته ، وحبس عنايته إلى مشاهدته قربة ، وعرّفه طرق الربوبية وسلوك العبودية ، فروحه كان روحانيّا ، وسره ربانيّا ، وشهوده رحمانيّا ، وألبسه ما ألبس القوم ؛ لذلك فرّ إلى الحق مع أوليائه من أماكن الحدثان ، ويا عاقل لا تنظر إلى صورة الكلب ، وغيره فإن محتمل الصفات حقائق فعله ، والكلب الغير من أفعاله ، والصفات والأفعال في معادنها منزه عن التفاضل ، بل إذا أضيف إلى الكون يفضل البعض على البعض من حيث العلم والحكمة ، وإذا كان سبحانه اختار أحدا من خلقه بمعرفته ومحبته بحسن عنايته الأزلية لا ينظر إلى سببه ، ولا إلى نسبه ، ولا إلى صورته ، ولا إلى رتبته بل يجري عليه بإرداته القديمة أحكام حسن عنايته فيصيره جواهر الافاق ، ويجعله لطائف الترياق ، ويرفعه إلى تمام الملكوت ، ويوصله إلى ميادين الجبروت.

قال الله : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ١٥] ، فجعل الكلب معظم آياته لهم ؛ حيث أنطقه بمعرفته ، وكسا قلبه أسرار نوره ، وأبرز له أنوار هيبته ، فأضجع مقام الحرمة للرعاية بحسن الأدب بالوصيد ، وبين سبحانه رتبة الإنسانية ، وفضلها على الحيوانية بحيث أقامه بالوصيد ، وعلى سرادق الكبرياء ، ووصيد مجد الجلال ، وأدخلهم في فجوة الوصال سبحان المتفضل بالكمال.

قال أبو بكر الوراق : مجالسة الصالحين ومجاورتهم يؤثر على الخلق ، وإن لم يكونوا أجناسا ؛ ألا ترى الله كيف ذكر أصحاب الكهف فذكر كلبهم معهم لمجاورته إياهم!

ويقال : لما لزم الكلب محله ولم يجاوز حده فوضع يده على الوصيد بقي مع الأولياء كذا أدب الخدمة يوجب بقاء الوصلة ، ثم زاد سبحانه في وصفهم مما كساهم من أنوار الجلال ، وعظمته التي ترتعد من رؤيتها قلوب الصديقين ، وتقشعر من صولتها جلود المقربين ، وتفزع من حقائقها أرواح المرسلين بقوله : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً). إن الله سبحانه نبهنا ها هنا عن جلال قدر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه تعالى ربّى روحه وعقله وقلبه وسره ونفسه في بدو الأول بنور حسن مشاهدته ، وأنوار مال وجهة خاصة بلا مطالعة العظمة والكبرياء ؛ لأنه كان مصطفى لمحبته مجتبى لحسن وصاله ودنو دنوه ، ولطائف قرب قربه ، وألبسه حلل حسن صفاته ، وطيبه بطيب أنسه ونشقه ورد قدسه ، وسقاه من بحر وداده

٤١١

من مروق زلفته بكأس روحه ، فكان عيشه مع الحق من حيث الأنس والانبساط والبسط والجمال ، وكان خطابه خطاب تكرمة ومكرمة عاش في مشاهدة جماله ونيل وصاله ، كان عندليب رياض الأنس ، وبلبل بساتين القدس رأى الحق بعين الجمال في مرآة الجلال ، ورآه بعين الجلال في مرآة الجمال ، محفوظا عن طوارق قهريات القدم ، وسطوات عظمة الأزل ، حاله أصفى من كدورة عيش الخائفين ، وغبار أيام المجاهدين ، ما وقع على سره قهر الغيرة ، وما جرى على روحه سيول الفرقة ، كان مرادا معشوقا حبيبا محبوبا موصولا بالوصال معروفا بالجمال كان من لطافته ألطف من نور العرش والكرسي ، وطيبه كان أطيب من طيب الفردوس شمال جماله يهب على رياض وصال الأزل وحياة جنانه منزه عن قهر أيدي الأجل لو رأى بالمثل نملة ملتبسة بنور هيبة فعل الحق لفزع منها من حسنه ولطافته ؛ لذلك قال تعالى : (لَوِ اطَّلَعْتَ) يا حبيبي من حيث أنت على ما ألبستهم لباس قهر ربوبيتي وسطوات عظمتي ، لوليت منهم من رؤية ما عليهم من هيبتي وعظمتي ، (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) ؛ لأنهم مرآة عظمتي تجلى منهم بنعت عظمتي للعالمين ؛ لئلا يقربوا منهم ، ويطلعوا عليهم ؛ لأنهم في عين غيرتي ، ولا أريد أن يطلع عليهم أحد غيري أنت يا حبيبي موضع سرى ، وموضع سر سري ، ومكان لطفي لو رأيتهم بذلك اللباس السلطاني الجباري ؛ لفررت منهم ، وتملأ من رؤيتهم رعبا ، كما فرّ موسى كليمي من رؤية عصاه حين قلبتها حية تسعى ، وذلك من إلباسي إياها كسوة عظمتي وجلال هيبتي ، ففر موسى من عظمتنا ، ولم يعلم من أي شيء فر ولا نقص عليك ، فإنك وإن كنت مربى برؤية الحسن والجمال منا ، فجميع صفات العظمة ونعوت الكبرياء ، انكشفت لك في لباس الحسن والجمال ، وأنت جامع الجمع.

قال جعفر : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) من حيث أنت لوليت منهم فرارا ، ولو اطلعت عليهم من حيث الحق لشاهدت فيهم معاني الوحدانية والربانية.

قال ابن عطاء : لأنه وردت عليهم أنوار الحق من فنون الخلع ، وأظلتهم سرادق التعظيم ، وأحرقت جلابيب الهيبة ؛ لذلك قال الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً).

وقال الحسين : لوليت منهم فرار أنفه مما هم فيه من إظهار الأحوال عليهم ، وقهر الأحوال لهم مع ما شاهدته من أعظم المحل في القربات في المشاهدة ، فلم يؤثر عليك بجلالة محلك.

وقال جعفر : لو اطلعت على ما بهم من آيات قدرتنا ورعايتنا لهم وتولية حفظتهم ، لوليت منهم فرارا أي : ما قدرت على مشاهدة ما بهم من هيبتنا ، فيكون حقيقة الفرار منا لا

٤١٢

منهم ؛ لأن ما بدا عليهم منا.

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً) يا مخاطب الانفتاح أعينهم وإحساساتهم وحركاتهم الإرادية الحيوانية (وَهُمْ رُقُودٌ) بالحقيقة في سنة الغفل ، تراهم ينظرون إليك ، وهم لا يبصرون (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) أي : نصرفهم إلى جهة الخير ، وطلب الفضيلة تارة وإلى جهة الشر ومقتضى الطبيعة أخرى (وَكَلْبُهُمْ) أي : نفسهم (باسِطٌ ذِراعَيْهِ) أي : ناشرة قوتيها الغضبية والشهوانية (بِالْوَصِيدِ) أي : بفناء البدن ، ولم يقل وكلبهم هاجع ؛ لأنها لم ترقد ، بل بسطت القوتين في فناء البدن ملازمة له لا تبرح عنه والزراع الأيمن هو الغضب ؛ لأنه أقوى وأشرف وأقبل لدواعي القلب في تأديبه ، والأيسر هو الشهوة لضعفها وخستها.

(لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) أي : على حقائقهم المجردة وأحوالهم السنية ، وما أودع الله فيهم من النورية والسنا ، وما ألبسهم من العز والبهاء (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ) فارّا لعدم اعتقادك بالنفوس المجردة وأحوالها وعدم استعدادك لقبول كمالهم ، أو لوليت منهم للفرار عنهم ، وعن معاملاتهم لميلك إلى اللذات الحسية والأمور الطبيعية.

(وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) من أحوالهم ورياضاتهم ؛ أو لو اطلعت عليهم بعد الوصل وإلى الكمال وعلى أسرارهم ومقاماتهم في الوحدة لأعرضت عنهم ، وفررت من أحوالهم وملئت منهم رعبا ؛ لما ألبسهم الله من عظمته وكبريائه ، وأين الحدث من القدم وأنى يسع الوجود العدم.

ثم أخبر سبحانه عن ارتفاع أثقال العظمة عنهم ، وإفاقتهم عن سكر المشاهدة ، وحضورهم بعد الغيبة ، بقوله : (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) فيه إشارة أنهم في بديهة وقائع الغيب ، وهم أهل البدايات في المعرفة ، وهجوم غلبات الوجدان ؛ لذلك هاموا في الغيب وطاشوا في القرب ، ولو كانوا في محل التمكين والصحو ما غابوا عن الإحساس ورسوم المعاملات ، ويكون حالهم كمال نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دنا وثبت في التدلي ، واستقام في منازل الأعلى ، واستقر بين أنوار القدم والبقاء بنعت الصحو والصفا.

وقال : «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (١) ، ولو أن ما ورد عليه من أحكام الربوبية في المشاهدة ، ورد منه على جميع الأولين والاخرين لطاشت عقولهم ، وطارت

__________________

(١) رواه مسلم (١ / ٣٥٢).

٤١٣

أرواحهم ، وفنيت قلوبهم واستهلكت نفوسهم ، ولكن ما أطيب زمان السكر للمريدين ، والمحبين ، والشائقين ، والعاشقين أخذهم سكر الوصال عن المقيل والقال ، وعن الاشتغال والمحال ، وغيبهم في أنوار الجمال والجلال ؛ حتى لم يحسوا شيئا من الحدثان من ذوق وصال الرحمن ، ما أطيب تلك الأوقات السرمدية ، والأحوال المقدسة بحيث ما لهم خبر عن مرور الزمان ، وحوادث الملوان.

شهور ينقضين وما شعرنا

بإنصاف لهم ولا شرار

ما أقل زمان الوصال لعشاق الجمال والدهر عندهم في المشاهدة ساعة ، وإعمار العاملين في منازل أنسهم لمحة.

وأنشد :

صباحك سكر والمساء خمار

نعمت وأيّام السّرور قصار

زمان القربة قليل وزمان الفرقة طويل ، وذلك من غيرة العشق المجران في كمين الغيرة مقيم وملدوغ الفراق من سم أفاعي الغيرة سليم ، لا يصير الدهر ؛ حتى يفرق بين العاشقين والمعشوقين ، وأنشد :

عجبت بسعي الدّهر بيني وبينها

فلما انقضى ما بيننا سكر الدّهر

كانوا لا يعرفون اليوم من الأمس ، ولا يعلمون من حدة الحال القمر من الشمس : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ).

استقاموا مقام الوصال واستلذوا لطائف الجمال وتخبطوا في المقال ، وما كان ذلك إلا من خمار سكر الأحوال ذكروا أيام الوصلة في مقام الفرقة ، وتعاظموا لطائف المؤانسة في منازل الوحشة ، واشتاقوا إلى معاهد المشاهدة ، وأيام المدانة.

وأنشدوا :

سلام على تلك المعاهد إنّها

شريعة ورد أو مهب بشمال

ليالي لم تحصر حرون قطيعة

ولم يمش إلّا في سهول وصال

فقد مرّت أرضى من سواكن أرضها

تجلب ببرق وبطيف خيال

قال ابن عطاء : مقام المحب مع الحبيب ، وإن طال فإنه قصير عنده إذ لا يقضي من حبيبه وطرا ، ولو مكث معه دوام الدهر ، فإن انتهاء شوقه إليه ؛ كالابتداء ، فانتهاؤه فيه ابتداء ، فلما رجعوا من مقام الجذب إلى مقام السلوك ، ومن مقام الروحانية إلى مقام البشرية ، واحتاجوا إلى ما يعيش به الإنسان ، استعملوا حقائق الطريقة بقوله سبحانه :

(فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) لما

٤١٤

استطابوا الخلوة فلم يخرجوا ، وأمر المبعوث في طلب الرزق فتركوا السؤال ، واستعملوا الكسب بقوله : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ) ، ثم أمروه باستعمال الورع ؛ لأن الورع من موجبات الطريقة وحقوق الحقيقة ، وهذا دأب الأئمة.

لذلك قال ذو النون : لا يطفأ نور المعرفة نور الورع ، وأمروه بالمراقبة ؛ حتى لا يطلع عليهم أحد ، وفيه بيان أن الكسب أيضا من التوكل ؛ لأن القوم بحمد الله لم يخلوا من مقام التوكل ، وفيه بيان أن أهل الوجد والحال والمكاشفة والمقال ، هم أهل الغذاء المحمود الملطف من لطف الطعام ؛ لأن أرواحهم من عالم القدس ، ولا يليق بهم إلا ما يليق بأهل الأنس من أكل الطيبات ، وأشهى المأكولات ، ولبس الناعمات.

قال جعفر بن أحمد الرازي : أوصى يوسف بن الحسين بعض أصحابه فقال : إذا حملت إلى الفقراء وأهل المعرفة شيئا ، واشتريت لهم طعاما فليكن لطيفا ، فإن الله تعالى وصف أصحاب الكهف حين بعثوا من يشترى لهم طعاما قالوا : (وَلْيَتَلَطَّفْ) وإذا اشتريت للزهاد والعباد فاشتر كل ما تجده فإنهم بعد في تذليل أنفسهم ، ومنعها من الشهوات.

قال الشيخ أبو عبد الرحمن (١) : سمعت أبا عثمان المغربي يقول : إرفاق المريدين بالعنف ، وإرفاق العارفين باللطف.

وقال الأستاذ : تواصوا فيما بينهم بحسن الخلق وجميل الرفق أي : ليتلطفن مع من يشتري منه شيئا.

ويقال : من كان من أهل المعرفة لا يوافقه الخشن الملبوس ، ولا النازل في الطعم من المأكول.

ويقال : أهل المجاهدات وأصحاب الرياضات ، فطعامهم الخشن ولباسهم كمثله والذي بلغ المعرفة لا يوافقه أكل لطيف ، ولا يستأنس إلا بكل مليح.

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) أي : مثل ذلك البعث الحقيقي والإحياء المعنوي ، بعثناهم (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) أي : ليتباحثوا بينهم عن المعاني المودعة في استعدادهم الحقائق المكنونة في ذواتهم ، فيكمل بإبرازها وإخراجها إلى الفعل ، وهو أول الانتباه الذي تسميه المتصوفة اليقظة.

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ) مرّ تأويله النفس الرشيد السمة الفاضل السيرة النقي السريرة الكامل المكمّل دون الفضولي الظاهري الخبيث النفس المتعالم المتصدر لإفادة ما ليس

__________________

(١) يعني السلمي في حقائق التأويل.

٤١٥

عنده ليستفيد بصحبته ويظهر كماله بمجالسته ويستبصر بعلمه فيفيدنا أو ليتلطف في أمره حتى لا يشعر بحالكم ودينكم جاهل من غير قصد.

(وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) من أهل الظاهر المحجوبين ، وسكان عالم الطبيعة المفكرين ، وإن أوّلنا أصحاب الكهف بالقوى الروحانية فالبعوث هو الفكر والمدينة محل اجتماع القوى الروحانية والنفسانية والطبيعية ، والذي هو أزكى طعاما العقل دون الوهم والخيال والحواس ؛ لأن كل مدرك له طعام والرزق هو العلم النظري على كلا التقديرين :

(وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) من القوى النفسانية.

(إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا) أي : يغلبوا (عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ) بحجارة الأهواء والداعي من الغضب والشهوة ، وطلب اللذة فيقتلوكم بمنعكم عن كمالكم.

(أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) باستيلاء الوهم وغلبة الشيطان والإمالة إلى الهوى ، وعبادة الأوثان على التأويل الأول ظهور العوام ، واستيلاء المقلدة والحشوية المحجوبين ، وأهل الباطل المطبوعين ، ورحمهم أهل الحق ودعوتهم إياهم إلى ملتهم ظاهر كما كان في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) أي : مثل ذلك البعث والإماتة ، اطلعنا على حالهم المستعدين القابلين لهديهم ومعرفة حقائقهم (لِيَعْلَمُوا) بصحبتهم وهدايتهم.

(أَنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث والجزاء (حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) أي : حين يتنازع المستعدون الطالبون بينهم أمرهم في المعاد ، فمنهم من يقول : إن البعث مخصوص بالأرواح المجردة دون الأجساد.

ومنهم من يقول : إنه بالأرواح والأجساد معا ، فعلموا بالاطلاع عليهم ومعرفتهم أنه بالأرواح والأجساد ، وأن المعاد الجسماني حق.

فقالوا (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) أي : فلما توفوا قالوا ذلك كالخانقاهات والمشاهد والمزارات المبنية على الكمل المقربين من الأنبياء والأولياء كإبراهيم ومحمد ، وعلي وسائر الأنبياء والأولياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) من كلام أتباعهم من أممهم المقتدين بهم أي : هم أجل وأعظم شانا من أن يعرفهم غيرهم الموحدون الهالكون في الله المتحققون به ، فهو أعلم بهم ، كما قال الله تعالى : «أوليائي تحت قبائي لا يعرفونهم غيري» (١).

__________________

(١) ذكره الشيخ حقي في روح البيان (٩ / ٧٩).

٤١٦

(قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) من أصحابهم والذين يلون أمرهم تبركا بهم وبمكانهم (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) يصلي فيه.

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤))

قوله تعالى : (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) بيّن أن القوم بلغوا إلى مشاهدة جلال أزله ، وأغرقهم في بحار أبده ، ووجدوا منها جواهر أسرار محبته ، وقرب وصاله ما لا يطلع عليها أحد غير الله ، فنفى إحاطة علم الغير بهم فكأنه أخبر عما عمرهم من سطوات العزة ، واستيلاء قهر الربوبية ما أفناهم أي : أنا أعلم بما هم فيه من فنائه في الوجد والموجود ، أخبر عن عظيم ما ورد عليهم من سلطان قهر مشاهدة قدمه.

قال ابن عطاء : (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) حيث أظهر عليهم عجائب صنعه ، وجعلهم أحد شواهد عزته ، وجعلهم بالمحل الذي خاطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهمّ فقال : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) [الكهف : ١٨]

(سَيَقُولُونَ) أي : الظاهريون من أهل الكتاب والمسلمين الذين لا علم لهم بالحقائق وقوله : (رَجْماً بِالْغَيْبِ) أي : رميا بالذي غاب عنهم يعني ظنّا خاليا عن اليقين بعد قولهم : (ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ) ببنائه والامرون هم الغالبون الذين قالوا : (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) يسجد أي : ينقاد فيه جميع القوى الحيوانية والطبيعية والنفسانية ، والمأمورون هم المغلوبون الفاعلون في البدن ، المبعوث فيه ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) إن الله سبحانه أعلم نبيه وأدب حبيبه في منازل العبودية ومشاهدة الربوبية بمحو الوجود عند وجود القديم الأزلي ، وأن يرى الكل قائما بالله في مقام التوحيد مع الكل في غير الجمع بائنا عن الكل في أفراد القدم عن الحدوث ، ومحض التجريد والتفريد ، وقطع حدود علوم الخليقة عما في المشيئة الأزلية

٤١٧

فأعلم معنيين : إثبات الكسب وسبق التقدير ، وأبهم أسرار المسببة على الكل في بيان الاستثناء بقوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).

قال بعضهم : لم يطلق لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخبر عن الحق إلا بما أخبره الحق ، ولم يأذن له في الإخبار عن نفسه إلا عن مشيئة ربه فقال : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ) ... إلخ.

(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ) أدبه بالتأديب الإلهي بعد ما نهاه عن المماراة والسؤال فقال : لا تقولن إلا وقت أن يشاء الله بأن يأذن لك في القول فتكون قائلا به ، وبمشيئته أولا بمشيئته على أنه حال أي : ملتبسا بمشيئته ، يعني لا تقولن لما عزمت عليه من فعل أني فاعل ذلك في الزمان المستقبل إلا ملتبسا بمشيئة الله ، قائلا : إن شاء الله أي : لا تسند الفعل إلى إرادتك بل لإرادة الله فتكون فاعلا به وبمشيئته.

ثم بيّن سبحانه أن من شاهد نفسه في مشاهدة الحق حيث طوى عليه أحكام رسوم الاكتساب من جهة الأمر ، ولم يسقط شهود نفسه وكسبه ، فقد نسى الحق بقوله سبحانه : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) فإن قوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) عقيب قوله : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ) يدل على ذلك أي : إذا شاهدت نفسك فقد غبت مشاهدة ربك فاذكره أي : شاهده مشاهدة تغيبه في مشاهدة عن مشاهدتك نفسك.

وأيضا : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) إذا كنت متصفا متحدا بربك حين يغلب عليك سر الأنانية ، فإذا ذكرت ربك في مقام الأنانية خرجت من حد الخداع والتلبيس الصادرين من مكر القدم ، وإذا ذكر قدمه بان عدمه وإذا بان عدمه تلاشى الحدث في القدم ، ولم يبق إلا القدم ، ويتبين أمر العبودية عند الربوبية.

وأيضا : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) ذا غبت في مشاهدة المذكور ؛ حتى يتخلص من غمار الفناء في الوحدانية ، ويبقي ببقاء الحق ورؤية الأبدية ، فإنك إن لم تذكر ربك ، ولم ترجع من رؤية مذكورك إلى ذكره تفنى فيه ، ولا تدرك حقائق وجوده فإن السكران الفاني لا يظفر بما يظفر الصاحي المتمكن.

وأيضا : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) من مشاهدته ، وغيب عن شهود عليك حتى فصل بالذكر إلى رؤية المذكور.

وأيضا : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) ذكرك له فإن رؤية الذكر في رؤية المذكور نسيان المذكور بالحقيقة.

وأيضا : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) الكون والحدوثية ، فإن ذكره لا يكون ذكرا

٤١٨

حقيقيّا إلا بنعت فناء ما دونه ، فإذا فني الحدث في القدم صار الذكر صافيا.

وأيضا : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) ما جدت منه ، فإن الوقوف في المقامات حجاب ذكر الحقيقة.

وأيضا : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) فسك فإن في رؤيتك وجودك ، وبقاء وجودك لا يكون الذكر بحقيقة الانفراد ، و

رسم أفراد القدم على حدوث ، ثم أمره سبحانه أن يخاطب أهل السر من المعرفة بترجيه وصول أدنى الدنو وأعلى العلو بقوله : (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً). كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرب الخلق من الله بنفس المعرفة والاصطفائية الأزلية ، لكن كان مع محله وشرفه في حيز حقائق المعرفة ، قطرة في بحر الأزلية ، فأمره الحق أن يسأل منه مزيد ما فيه من طرائق حقائق عرفان الأزلية ، وأقرب ما يكون فيه من وصول الوصول ، فإن الحق غير متناه من جميع الوجوه.

قال ابن عطاء : إذا نسيت نفسك والخلق فاذكرني فإن الأذكار لا تمازج ذكرى.

قال الجنيد : حقيقة الذكر فناء الذاكر فيه ، والذكر في مشاهدة المذكور.

قال الشبلي : ما هذا خطاب أهل الحقيقة وأنّى ينسى المحق الحق فيذكره ، بل يذكر حياته وكونه.

وأنشد :

لا لأنّي أنساك أكثر ذكراك

ولكن بذاك يجرى لساني

وقال الجنيد : حقيقة الذكر الفناء بالمذكور عن الذكر ؛ لذلك قال الله تعالى :

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) أي : إذا نسيت الذكر يكون المذكور صفتك ، وقد وقع لي نكتة ها هنا.

قال تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) الذكر حق جميع الذات والصفات ولا نهاية لهما ، وذكر جميعه ما واجب الحقوق على الخلق والصفات القديمة ، والذات الأولى غير مذكور بذكر الحدثان ، كأنه تعالى أعلم نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جميع فكره ما بلغ إلى وصف ذرة من صفته ، فكل وقت مع جميع ذكره في حد النسيان ، حيث لا يبلغ ذكره حقائق القدم.

قال : (وَاذْكُرْ) بعد ذكرك ولا تفتر عن ذكرك ، فإن ذكرك على السرمدية واجب أبدا ؛ لأن بعد كل ذكر نسيان عن الباقي ، فإذا لا ينقطع الذكر أبدا يدل على ما ذكرنا.

قوله تعالى : (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً).

أي : بمعرفتي معرفة المذكور بنعت مشاهدته ، ورؤية ذاته وصفاته ، بوصف فنائي

٤١٩

وفناء ذكر فيه.

قال الجنيد : إن فوق الذكر منزلة هي أقرب رشدا من ذكره له ، وهو تجديد للنعوت بذكره لك قبل أن يسبق إلى الله بذكره.

وأيضا لي نكتة في الذكر أي : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) فإنك إذا ذكرته بلسان الحديثة نسيته ، وإن أردت أن تذكرني بالحقيقة التي لا نسيان فيها ، ولا فترة فاتصف بصفتي ثم اذكرني بصفتي حتى يصل ذكرك إليّ بالحقيقة.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ) بالرجوع إليه والحضور (إِذا نَسِيتَ) بالغفلة عند ظهور النفس بظهور صفاتها (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً).

أي : من الذكر عند التلوين ، وإسناد الفعل إلى صفاته بالتمكين ، والشهود الذاتي المخلص عن حجب الصفات (رَشَداً) استقامة وهو التمكين في الشهود الذاتي.

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) من التي تبتنى على دور القمر فتكون كل سنة شهرا ومجموعها خمسة وعشرون سنة ، وذلك وقت انتباههم وتيقظهم.

(وَازْدَادُوا تِسْعاً) هي مدة الحمل ، وروعيت في الاية نكتة هي أنه لم يقل ثلاثمائة سنة وتسعا أو ثلاثمائة وتسع سنين ؛ لاستعمال السنة في العرف وقت نزول الوحي في دورة شمسية لا قمرية ، فأجمل العدد ، ثم بينه بقوله سنين فاحتمل أن يكون المميز غيرها كالشهر مثلا ، ثم بين أن المدة سنين مبهمة غير معينة ، إذ لو قيل ثلاثمائة شهر ، فأبدل سنين من مجموع العدد كانت العبارة صحيحة ، والمراد سنين كذا عددا أي : خمسة وعشرين ويؤيده قوله بعده.

(قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) وقال قتادة : هو حكاية كلام أهل كتاب من تتمة ، سيقولون.

وقوله : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ) رد عليهم ، وفي مصحف عبد الله وقالوا : (لَبِثُوا) وذلك أن اليقين غير محقق ولا مطرد.

(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) يجوز أن تكون من لابتداء الغاية ، والكتاب هو اللوح الأول المشتمل على كل العلوم الذي منه أوحى إلى من أوحي إليه ، وأن تكون بيانا لما أوحي والكتاب هو العقل الفرقاني وعلى التقديرين (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) التي هي أصول الدين من التوحيد والعدل وأنواعهما.

(وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) تميل إليه لامتناع وجود ذلك.

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا

٤٢٠