تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي


المحقق: الشيخ أحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-7451-5743-X

الصفحات: ٥٧٤

وقال محمد بن الخفيف : الفراسة مقسومة على ثلاثة أوجه :

الأول : إصابة المكنون من الأوقات المستكن في النفوس من الأحوال المستخفية من حمل عوام الخلق ، وذلك مخصوص به الرسل لما كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عبد بن زمعة حين قال : «إن أمرها لبيّن ، لو لا حكم الله».

والثاني : تجلي ما استودع الحق في النفوس من الأحكام المخفية على الخلق المتفرد به الحق ، وكشف ذلك لأهل التخصيص من الصديقين والأولياء بعد الأنبياء ، كما قال أبو بكر الصديق لعائشة ـ رضي الله عنهما : «إنما هما أخوك وأختاك» (١).

والثالث : ذكر اطلاع القلوب عندما انكشف له من الغيب البعيد ، وهذا مقرون بالإلهام ، كما قال عمر بن الخطاب : «يا سارية ، الجبل الجبل» (٢).

سئل الجنيد عن الفراسة ؛ فقال : آيات الربانية تظهر في سماء العارفين ، فتنطق ألسنتهم بذلك ، فتصادف الحق.

وقال الحسين حين سئل عن الفراسة ؛ فقال : حق نظر عن أحد نظرا إياه ، فخبر عن حقيقة ما هو إياه بإياه.

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١))

قوله تعالى : (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) الصفح الجميل ما يكون برؤية تقدير الأزل بنعت شهوده مقدور الغيب بوصف السرور في مباشرة الأمر ، والنشاط بالرجوع إلى الحق ، وسابق أمره ومشيئته فيما جرى عليه بالواسطة من الغير ، فإذا كان كذلك سقط الملامة بسقوط الوسائط ، وحصل الرحمة على المجرم المجبور بأمر التقدير.

ألا ترى كيف أشار بتمام الاية إلى سرّ ما سبق من التقدير الأزلي بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) أي : ما هجم عليك من إيذاء قومك هو مخلوق الخلائق ، وتقديره في تربيتك ، وإبلاغك إلى مقام أولى العزم ، وهو عليم بما قدّر ، وبما يكون من اتصافك بخلقه العظيم ، وإن

__________________

(١) ذكره الطحاوي في «شرح معاني الاثار» (٢ / ٥١٤).

(٢) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ٥١٤).

٣٠١

كان لفظه الخلاق متعلقا بمعنى الإيجاد والتقدير ، وأيضا فيه إيماء من معنى الخلق والتخلق كأنه داعي حبيبه إلى التخلق بخلقه في العفو والكرم ، ثم واساه بأنه عليم بما قلبه من الشفقة على دينه ، وأيضا الصفح الجميل مواساة المذنب يرفع الخجل عنه ، ومداواة موضع آلام الندم في قلبه.

روى عمرو بن دينار عن محمد بن الحنفية عن علي ـ رضوان الله عليهم ـ في قوله : (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) ، قال : هو الرضا بلا عتاب.

وقال بعضهم : صفح لا توبيخ فيه ، ولا حقد بعده ، والرجوع من الأمر إلى ما كان قبل ملابسة المخالفة.

ثم إن الله سبحانه وصف امتنانه عليه بما أعطاه من علوم الألوهية وأسرار الربوبية ليزيد رغبته في الصفح والعفو والكرم ، ومواساة عباده ، وتحمل إيذائهم بقوله : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) فيه بيان التخلّق والاتّصاف بصفاته القديمة ، وأخلاقه الكريمة.

أي : ألبسناك أنوار سبع الصفات من صفاتنا ؛ لتتصف بها ، وتتخلق بخلقها ، فتكون ربانيّا ، ألوهيّا ، جبروتيّا ، ملكوتيّا ، جلاليّا ، جماليّا ، نوريّا ، قدسيّا ، أوليّا ، آخريّا ، رحمانيّا ، رحيميّا ، ذاتيّا ، صفاتيّا ، والسبع المثاني سبع بحار الصفات القديمة ، فغسله فيها ، وألبسه من أنوارها كسوة الربوبية حتى تكون مرآة الله في بلاد الله وعباده ، فسقاه من بحر علمه شرابات ، ومن بحر قدرته ، ومن بحر سمعه ، ومن بحر بصره ، ومن بحر كلامه ، ومن بحر إرادته ، ومن بحر حياته ، فصار عالما بعلمه ، قادرا بقدرته ، سميعا بسمعه ، بصيرا ببصره ، متكلما بكلامه ، مريدا بإرادته ، حيّا بحياته ، فعلم بعلمه علم ما كان وما سيكون ، ويقلّب الأعيان في السموات والأرض بقدرته ، ويسمع حركات الخواطر بسمعه ، ويرى ما في الضمائر ويبصره ، ويتكلم بحقائق الربوبية والعبودية بكلامه ، ويكون ما أراد بإرادته ويحي القلوب الميتة والأبدان الفانية بحياته ، ولكل صفة منها ثانيها من جمهور الصفات الخاصة على إزاء كل صفة منها صفة ، حتى يكون مثاني ، ومنها القدم ، والبقاء ، والجلال ، والجمال ، والرؤية ، والصمدية ، والربوبية ، فالصفات الأولى مع هذه الصفات السبع المثاني ، فكان من مشاهدة القدم والاتصاف به صار بنعت التجريد عن الحدثان ، ومن مشاهدة البقاء والاتصاف به ، صار متمكنا في محل الصحو ، ومن مشاهدة الجلال والاتصاف به صار في محل الهيبة مهيبا في السماوات والأرض ، ومن مشاهدة الجمال والاتصاف به صار عاشقا بوجه القدم ، وصار مرآة جمال الحق في العالم ، ومن مشاهدة رؤيته ، والاتصاف بها ، صار شائقا محبّا مستغرقا في بحر الأزل ، وصار معشوقا لقلوب الخليقة ، ومن مشاهدة الصمدية واتصافه بها ، صار صمدانيّا

٣٠٢

مشربه من الصمدية ، وطعامه من المشاهدة ، بقوله : «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» (١) ، وكان لا يراه أحد إلا سكن جوعه من تأثير صمدانيته ، ومن مشاهدة الربوبية والاتصاف بها ، صار متصرفا في مماليك الحق وعباده وبلاده.

ألا تري كيف أجابته الشجرة حتى أتت عنده من البعد ، وسترته لقضاء حاجته ، وكيف انشق القمر بإشارته ، وصار بذلك مسجودا للحجر والشجر ، فقد أعطاه الله أنوار هذه السبع المثاني من الصفات القدمية ، وزاد بأنه أعطاه القرآن العظيم الذي أخبره خير جميع أسمائه ، ونعوته ، وصفاته ، وما لم يصل إليه جميع الصفات ؛ لأن صفاته تعالى غير متناهية ، فعرفه القرآن أوصاف الذات والصفات جميعا ، وعظم القرآن من عظم متكلمه ، وهو بذاته تعالى تكلم بقرآن عظمته من حيث عظمة الذات وعظمته ، إن تحت كل حرف من حروفه بحرا من علوم الأزلية الأبدية ، وأيضا لكل صفة من صفاته ثاني من عينية الذات ، فالصفة ثاني الذات ، والذات ثاني الصفات ، ليس من جهة الافتراق والاجتماع هو واحد من جميع الوجوه ، وهو منزه عن كل تفرقة وجمع ، كأنه قال : أتيناك معاني الذات والصفات ، وجئت عرفتها بعد أن عرفك تعالى بجلاله وعزته ، أي : كسيناك نور ذاتنا وصفاتنا ، لذلك قال عليه‌السلام : «من رآني فقد رأى الحق ، ومن عرفني ؛ فقد عرف الحق» (٢).

والقرآن العظيم علمك أنباء الربوبية ، وعرّفك حقائق الإلوهية ، وأعلمك علوم الغيبية وأحكام العبودية ، وأدق الإشارة أن السبع المثاني هي تلك الصفات القائمة ، وتأثيرها من جهة الاتصاف بها في قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه توانى بالسبع الصفات القائمة بالذات ؛ لأنه العالم والقادر والسميع والبصير والمتكلم والمريد والحي ، وهذه الصفات من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مواليد تلك الصفات القائمة الأزلية المنزهة من العلة وتأثيرها.

ألا ترى إلى ما حكي عن الله عزوجل في حق المحبين ، قال الله : «إذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا» (٣) ، ولذلك قال عليه‌السلام : «خلق الله آدم على صورته» (٤) (٥).

ويمكن أنه تعالى قد أشار أيضا إلى صفته العامة وصفته الخاصة مثل المتشابهات ، أي : عرفناك صفتي الخاصة والعامة ، وعرفناك بالقرآن العظيم معاني الصفات العامة والخاصة فصرت عاشقا محبّا مشتاقا من رؤية الصفات الخاصة المتشابهة ؛ لأنها معدن الجمال والجلال ،

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) رواه البخاري (٦٥٩٥) ، ومسلم (٢٢٦٧) ، وأحمد في مسنده (٣ / ٥٥) بنحوه.

(٣) رواه البخاري (٦١٣٧) ، وابن حبان (٢ / ٥٨) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (١٨ / ٣١٩).

(٤) رواه البخاري (٣١٤٨) ، وابن حبان (١٤ / ٣٣) ، والحاكم في «المستدرك» (١ / ٩٣).

(٥) هي الصورة الحقيقية المعنوية المدلول عليها بالصفات السبع المرتّبة.

٣٠٣

وصرت متفردا من رؤية صرف الألوهية بواسطة الصفات العامة عن الأكوان والحدثان ، وظاهر الاية أتيناك سبعا من المعاني أربعة عشر خلقا من أخلاقه ، مثل : الرحمة والشفقة والعفو والصفح والكرم والظرافة واللطافة والحسن والجمال والهيبة والحياء والسخاء والوفاء والولاية والنبوة والرسالة ، هذا كما روى علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر ـ عليهم الصلاة والسلام ـ في هذه الاية ، قال : أكرمناك ، وأنزلنا إليك ، وأرسلناك ، وألهمناك ، وهديناك ، وسلطناك ، ثم أكرمناك بسبع كرامات ؛ أولها : الهدى ، والثاني : النبوة ، والثالث : الرحمة ، والرابع : الشفقة ، والخامس : المودة والألفة ، والسادس : النعيم ، والسابع : السكينة والقرآن العظيم ، وفيهما اسم الله الأعظم.

ولما بيّن امتنانه عليه ، وعرفه مكان النعمة السرمدية له ، صغر الكون وما فيه في عينيه بقوله : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) أي : لا تنظر يا صاحب هذه المعاني العظيمة الربانية إلى زينة أصناف أهل الدنيا من الغافلين عنا ، فإنها فانية لا يليق بنعمتك ، وهذا إشارة إلى سرّ الفطرة النفسانية المجبورة بالشهوة الخفية ، أي : ينبغي ألا يميل نفسك إلى شيء غيرنا ، فإنه موضع خطر المخلصين ؛ لأنه محل امتحاننا لا تمدن عينيك إلى طلب جمالنا في غيرنا من أوصاف الروحانيات ، فإن حقيقة المشاهدة ما تكون خالية من الوسائط ، أي : لا تكن كالخليل ، حيث قال : (هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ) لكن اقتد باخر مقامه ؛ حيث قال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) فبدايته في قوله : (هذا رَبِّي) مقام العشق ، وآخر مقامه إفراد القدم عن الحدوث ، فأول مقامك آخر مقام الخليل فغض عليه‌السلام بصره عن الوجود ، لذلك وصفه بقوله : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى).

وفي الحديث المروي أنه عليه‌السلام كان إذا رأى أموال أهل الدنيا من الإبل ، والغنم ، وغيرهما ، يغطي عينيه بكمه ، ويقول : بهذا أمر ربي.

ثم زاد التأكيد برفع الهمة عن الغير بقوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) ثم أمر باستعمال خلقه للمقبلين إلى الله ، المتابعين حبيبه بنعت المحبة والإيمان واليقين ، بقوله : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) جناح همتك ارتفعت من الكونين ، ووصلت إلى قاب قوسين ؛ لأنها أجنحة ألوهية ربانية قيومية ، أي : اخفض جناح الربوبية التي اتصفت بها لأهل العبودية حتى يطيروا بجناح نبوتك إلى معادن رسالتك ، ويجدون بمتابعتك وهمتك المقامات الشريفة ، والولايات الرفيعة ، ومع ذلك لا تتكلم من حيث أنت ، فأنت من حيث أنا ، ولكن تكلّم معهم من حيث أنت في مقام العبودية ، بقوله : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) لست من قبل الربوبية

٣٠٤

بشيء لكن أنا بشر مثلكم يوحى إليّ ، فمن جهة الوحي أنذركم من عظيم جلاله ، وقهر كبريائه ، وأحذركم من ألم فراقه ، أنا النذير منه مبين ، حيث ألبسني شاهد ملكه ، وعز جلاله وأنوار بهائه مبين من حيث ظهر معجزتي لكم وأنتم معاينوها.

قال بعضهم : في قوله : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) غار الحق على حبيبه أن يستحسن من الكون شيئا أو ينظره طرفة ؛ فإن ذلك متعة لا حاصل له عند الحق ، وأراد منه أن يكون أوقاته مصروفة إليه ، وأيامه موقوفة عليه ، وأنفاسه له حسيبة عنده ؛ فقال : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا) (١) لذلك وقع في المحل الأعلى ، فما زاغ ولا طغى.

قال يوسف بن الحسين أذن الله في قوله : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) لنبيه عليه‌السلام أن يخبر عن نفسه بأنه السفير الأجل ، والعلم الظاهر ، والبيان الشافي ، قال الله تعالى : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ).

(فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦))

قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) لا يحتاج الحق إلى السؤال عمّا عمل أهل معرفته ، لكن يعرفهم مكان الخطوات ، واعوجاج الهمم ، وميلان الطبيعة ، ودقائق النفس والشيطان ، حتى يكونوا مذابين من حيائه في بحر الخجل من صولة العظمة ، وأيضا أراد أن يواسيهم بما قاسوا من آلام المشقة والمجاهدة ، كيف يخلصون من مكان الامتحان ، فيقول : كيف أنتم عبادي في معاملتي ، ومن أجرتي ، ومشقة امتحاني ، حتى يقولوا بلسان الاضطرار والشوق إلى لقائه ومقاساتهم داء الفراق هذا البيت :

عندك لا تسأل عن حاله

جل بأعدائك ما حل به

قال الواسطي : يطالب الأنبياء والأولياء بمثاقيل الذر لسمو رتبتهم ولا بطالب العامة بذلك ، لبعدهم عن مصادر السر.

قال الواسطي : غفلة العامة من المسئول عنها أهل الحقائق من حركات الأطراف ، وخطرات القلب ، وهواجس السر.

__________________

(١) فضل الرؤية فيما لا يحتاج إليه معلول كفضل الكلام ، والذي له عند الله منزل وقدر فللحق على جميع أحواله غيرة ، إذ لا يرضى منه أن يبذل شيئا من حركاته وسكناته وجميع حالاته فيما ليس الله ـ سبحانه ـ فيه رضاء ، تفسير القشيري (٥ / ٦٤).

٣٠٥

قال الجنيد : لتسألن أهل الحقائق عن تصحيح ما أظهروا للناس من الدعاوي وتحقيقها ، وبلغني أن بعض المشايخ قال لبعض المريدين : إياك وهذه الدعاوي فإن الله سائلك عنها.

فقال المريد : لو علمت أن الله يكلمني في القيامة ويسألني عن هذا ، لما كان مني في طول عمري إلا هذا ، وأنا ممن يصلح لمخاطبة الحق ، وللوقوف بين يديه ، وسقط فمات.

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩))

قوله تعالى (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) واسى الحق حبيبه بما سمع من أعدائه ، وقال : أنت بمرأى منّا يضيق صدرك من لطافتك بما يقول الجاهلون بنا في حقنا بما لا يليق بتنزيهنا فترة ، أنت صفتنا مكان مقالتهم فينا ، فإن مثلك ينزهنا لا غير ، وكن من الساجدين حتى ترانا بوصف ما علمت منا ، وتخرج من ضيق الصدر في مشاهدة جمالنا ، فإذا كنت تعايننا يسقط عنك ضيق صدرك من جهة مقالتهم.

وقال الواسطي : تعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فينا من الضد والند والشريك ، فسبح بحمد ربك لا تضيق به صدرا ، فأنا في الأزل نزّهنا صفاتنا عما أحدثوه من هذه الألفاظ.

قال بعضهم : يضيق صدرك بما يقولون إذا رجعت إليهم ، وسمعت منهم ، أرجع إلى مشاهدتنا ، فإنه وطن الحق ، ولا يضيق صدرك.

قال الواسطي : هذا تعزية للمحسودين من العلماء ، فقال : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون بجهلهم وحسدهم فيكم ، ثم أمرهم بلزوم طاعته بقوله : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ).

قال الأستاذ : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك ولم يقل قلبك ؛ لأنه كان في محل المشهود ولا راحة للمؤمن دون لقاء الله ، ولا يكون مع اللقاء وحشة ، ثم أمر حبيبه بخالص العبودية عن كدر الخليقة بقوله : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) اليقين ها هنا مشاهدة الصرف ، أي : إذا بلغت مقام التوحيد به ، وحقيقة الرؤية ، ومشاهدة مشاهدة الأزل ، وغبت في بحر الأبدية ، سقط عنك في تلك الحال ، تظاهر الرسوم حتى تفيق عن تلك الحالة.

قال في مقام المشاهدة : الاشتغال بالعبادة ترك الأدب ، وما أردنا بهذا التفسير خلع ربق العبودية عن أعناق أهل المعرفة ، لكن أردنا أن العارف إذا عاين الحق يكون مجذوبا بشوق

٣٠٦

الحق إليه إلى جماله ، وهناك هو عروس الحق ومحبوبه ، لا يجوز أن يشتغل برسم من الرسوم ، بل الاشتغال بحكم الوقت عين العبودية ، أي عبودية أعظم من متابعة أمر المحبوب ، لكن ما دام قادرا أن يكون مصححا لظاهر رسوم العبادة ، ولم يكن سكرانا غائبا يلزم عليه حفظ الأوقات في العبودية إلى الممات ، وهذا من شعار أهل التمكين.

قال الواسطي : لا يلاحظ غيره في الأوقات حتى يأتيك اليقين ، فيتحقق عندك أنك لا تحس بغير الحق ، ولا ترى إلا الحق ، ولا يجاذبك إلا الحق.

وقال فارس : حتى تتيقن أنك لست تعبده حق عبادته.

وقال أيضا : من نظر إلى معبوده سقط عن عبادته ، ومن نظر إلى عبادته سقط عن معبوده.

وقال الحسين : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) ، أي : إنك تستيقن بأنك لا تعبده ولا يعبد أحد حق العبودية ابتداء وانتهاء ، فتستوجب بما لا بد من مكافأته.

قال ابن عطاء أن الله حكم على أصفيائه وأحبائه وأخلائه أن لا يخرجهم من الدنيا إلا وطوق العبودية في أعناقهم ، لباس الخدمة عليهم ، ولذا قال لحبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين بريته :

(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).

قال الحسين بن عبد الله : بصدق التوحيد خرج عن رسوم التقليد ، وأبان عن شرف التفريد ، فصار علمه جهلا وعرفانه نكرة.

وقال الحسين : العبودية كلها شريعة ، والربوبية كلها حقيقة.

قال الأستاذ : قف على بساط العبودية معتنقا للخدمة إلى أن تجلس إلى بساط القربة ، وتطالب باداب الوصلة ، ويقلل النوم شرائط العبودية إلى أن ترقى ، بل تلقى بصفات الحرية.

سورة النحل

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥))

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) الإشارة في إتيان الأمر الإلهي أنّه تعالى كان قديما

٣٠٧

موصوفا بالإرادة القديمة ، والعلم القديم وفي الإرادة ، والعلم كان كون العالم والعالمين فتقاضى سر الإرادة كون الوجود ، فكوّن الحق الكون بأمره القديم الذي كان في نفسه ، فوقع الأمر منه بغير زمان ومكان ، فصدر الكون من الأمر بما كان في إرادته وعلمه ، فكوّن ذلك أبد الابدين بغير سؤال من الغير ، ولا انتظار ، ولا تعجيل ، فإن الأمر قائم به ، وللأمور معلق به وجفّ القلم بما هو كائن ، فإذا سقط السؤال والعجلة إذ هما صفتا جاهل بالله وبأمره ، ولو كان الأمر يأتي بمراد الحدثان لكان نقصا في الوحدانية ، لذلك نزّه نفسه عن ذلك النقص بقوله : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) يا أيها الفاهم الأمر منه ، صفته قديمة أبديته ، وهو تعالى قائم قديم بجميع ذاته وصفاته ، ظهر حيث ما غاب ، ظهر لنفسه بنفسه من الأزل إلى الأبد ، فما معنى الإتيان الأمر والأمر قد أتى في القدم من القدم ، ولكن ظهر بالإرادة للقدم ولكون وجود الحدث فالاستعجال لمعنى غير قائم ، فأمره قائم قبل وجود العالم ، وإشارة المعرفة أن العارف الصادق العاشق الشائق أبدا يستعجل إتيان المقامات والواردات ، وكشوف المشاهدات ، من كمال شوقهم إلى لقائه كأنّه قال سبحانه أنّ هذه تتعلق باختصاصه ، وقد أتى هذه الخاصية بغير سبب ولا علة ، كان في الأزل مشتاقا إليكم قد خّصكم بولاية قبل وجودكم فما معنى الاستعجال.

قال بعضهم : هل رأيتم أمرا من الأمور إلا بأمره ، وهل رأيتم وحدا وفقدا إلا به ، لا تتعجلوا بطلب الفرج ، فإنّ النصر مع الصبر.

قال النصر آبادي : أوامر الحق شتى بالعبادات أمر على الظاهر من الترسم ، وأمر على الباطن من دوام المراعاة ، وأمر على القلب بدوام الراتب ، وأمر على السر بملازمة المشاهدة وأمر على الروح بلزوم الحضرة ، فهذا معنى قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ).

قال الأستاذ : أصحاب التوحيد لا يستقبلون شيئا باختيارهم ؛ لأنه سقط منهم الإرادات والمطالبات ، فهم خامدون تحت جريان تصاريف الأقدار ، فليس لهم إيثار ولا اختيار ، ومن خاصيته لأوليائه إلقاء الهام في قلوبهم بواسطة الملائكة بقوله : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) مقامات الوحي فنون ، فبعضها وحي الذات ، وبعضها وحي الصفات ، وبعضها وحي الفعل ، ومنه لّمات الملك ، وما يأتي به من الوحي يكون على مراتب أرباب القلوب ، فوحي في مقام العبودية ، ووحي في قرآن الحق من الباطل ، وتخويف من الفراق ، أو بشارة لنيل الوصال وتعريف لأسرار عيوب النفس ، ومداولتها ، ودفع مكائد الشيطان ، ورد وسواسه ، وتربية العقل بالتفكر ، وتربية القلب بالذكر ، ولتصفية السر بنور الفراسة ، أو خبر من الغيب الكائن من وقوع المقدرات ما يختفي في الضمائر

٣٠٨

والسرائر ، أو خبر عن وقوع كشف عالم الملكوت ، أو خبر عن اختصاص الربانية من لمعان أنوار الذات والصفات ، فالملائكة يخبرون أرباب القلوب من أسرار ما وصفنا ومخاطبتهم مع القلوب ، ألا ترى كيف قال تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ) وأما وحي الصفات يكون بأنواع على مراتب الصفات تخاطب الأرواح على قدر سيرها في عالمها ، وأما وحي الذات يكون مع الأسرار ، وهناك يتزلزل الصفات ، ويتغير الأفعال ، تضمحل الرسوم ، وتسقط الوسائط يحدث في السر بالسر للسر ويظهر للسر ما في السر.

قال عليه‌السلام : «إنّ في أمتي محدّثين مكلّمين ، وإنّ عمر منهم» (١).

فالمحدثون الذين يتحدث معهم الملائكة والمكلمون الذين يكلمهم الله ، يجوز أن يحدثهم الله ، وبيان قوله سبحانه : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) الروح الوحي الإلهي سمّاه بالروح ؛ لأنه كلامه صدر من ذاته ، وهو حياة قلوب الصديقين من المكلمين والمحدثين ، وهو سبب حياة قلوب المؤمنين ، يحييهم بعلمه من موت الجهالة ، بخبر الأولياء من وحيه ما يهذب قلوب السامعين ، وهو توحيده ، ووصف عظمته ، وكبريائه ، ليسقط عنهم الخيال ، وليزل عن قلوبهم المحال بقوله : (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) خوّفوا الخلق من الخواطر الرديئة الممزوجة بالنظر إلى غيري ، وخوّفوهم من عظم جلالي ، ونعوتي الشاملة على كل أسرار وأخطار.

قال بعضهم : من أنذر وحذّر فقد قام بمقام الأنبياء ، ربما يأتي أمره بالبلاء ، وربما يأتي أمره بالرحمة ، فالصبر في الأوقات والرضا بأمر الله ، وذلك لكل أوّاب حفيظ ، يحفظ أوقاته ، ولا يضيع أيامه.

قال ابن عطاء : المحدث من العباد من يكلمه الملك في سره ، ويطلعه على خصائص الوجود ، ويفتح لروحه طريقا إلى الأشراف على الموت.

قال الله : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ).

قال الأستاذ : في قوله : ينزل الملائكة بالروح على الأنبياء بالوحي والرسالة ، وعلى أسرار باب التوحيد ، وهم المحدثون ، فالتعريف للأولياء من حيث الإلهام والخواطر ، وإنزال الملائكة على قلوبهم ، غير مسدود ، ولكنهم لا يؤمرون أن يتكلموا بذلك ، ولا يحملون رسالة إلى الخلق.

(وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ

__________________

(١) سبق تخريجه.

٣٠٩

لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨))

قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) أي : هي زينتكم بالظاهر ، وللعارفين في سرجها وإراحتها جمال ، وهو جمال الصفة الإلهية يظهر في محل بنعت عين الجمع لأبصارهم ، فيزيد من رؤية ذلك الجمال محبتهم في شوقهم إلى الله سبحانه ، والأرواح ، والقلوب ، والأسرار ، رغبة في عالم الملكوت ورياض الجبروت ، ولأربابها رؤية جمال الحق في تقلبها إلى معارج الغيب ودرجات القرب حين صعدت بأجنحة المحبة إلى سرادق المملكة ، وحين نزلت بأوقار المعرفة ، وهي مطايا الملكوت تحمل أثقال أشواق المحبين إلى حضرة الجبروت ، وتأتي برواحل أسرار الصفات إلى ميادين العبودية ، بقوله : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) إذا أراد سبحانه أن يفتح أبواب الغيوب لأهل القلوب يرسل على قلوبهم حوامل أنوار العناية ، فتحمل القلوب بقوة فيض المشاهدة إلى عالم الغيب ، وتراها أسرار عجائب الملك والملكوت ، وهم أصحاب الجذب والواردات بلغوا بالجلالات إلى بلاد المشاهدات ، ولو كانوا أهل السلوك لا يبلغون إليها إلا بلزوم المراقبات والمقامات.

قال الله تعالى : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) لا بالسير في المقامات ، ولزوم الطاعات ، ودليل الجدية والعطف ، بغير العلة (١).

قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) فالمجذوب محمول الله بمطية فضله إلى بلد مشاهدته ، فمن محمول بنور فعله ، ومن محمول بنور صفته ، ومن محمول بنور ذاته ، فمن حمله بنور فعله يكون بلده مقام الخوف والرجاء ، ومحلته صدق اليقين ، وداره مربع الشهود ، ومن حمله بنور صفته ، فبلده مقام المعرفة ، ومحلته صفو الخلة ، وداره المودة ، ومن حمله بنور ذاته ، فبلده التوحيد ، ومحلته الفناء ، وداره البقاء.

قال بعضهم : يدوم المحمول على بساط الرفاهية ، والحامل في مفاوز المشقة ، فمن حمل فقد كفى ، ومن أهمل فقد ضيق عليه ، لذلك قال : لم يكونوا بالغيه بأنفسكم وتدبيركم إلا بشق الأنفس ، وربما يهون على من يشاء من عبيده حتى لا يصليه في سيره تعب ، ولا نصب كذلك سير العارفين من سير الزاهدين.

قال ابن عطاء : تضعف الأنفس عن حمل تلك المشاق ، وتقوي القلوب على ذلك حتى

__________________

(١) جمع ثقل بفتح الثاء والقاف وهو متاع المسافر وحشمه أي تحمل أمتعتكم وأحمالكم.

٣١٠

لا يلحقه كراهية بعد ، إلى أن علم إلى أين مقصده ، وبأمر من قام وقصد.

وقال الجنيد : في هذه الاية دليل على أن مراد البلوغ إلى مقصده يجب أن يكون أقل أمره ، وقصده الجهد والاجتهاد ؛ ليصل بركة ذلك إلى مقصوده.

قوله تعالى : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) إنّ الله سبحانه خير الإفهام والعقول عن حصر أفعال وبدائع صنعه ؛ لأنها قاصرة بفتورها عن إدراك لطائف فعل وعجائب قدرته ما يصدر من غيبه من الالاء والنعماء ، أي : إذا عجزتم عن إدراك الخلق فكيف لا تعجزون عن إدراك الخالق وهو قادر أن يخلق على أدابر نملة ألف ألف عرش ، وألف ألف كرسي ، وألف ألف عالم ، يخلق بساتين الروحانية في قلوب الأطيار والوحوش والبهائم ، وهم بها يعيشون ، ويحيون ، ويسرحون ، ويخلق في قلوب الجن جنان الرحمة ، ونيران العذاب ، ويخلق في قلوب الملائكة بحار التسبيح والتهليل ، ويخلق في قلوب عقلاء المجانين عيون الحكم والمحبة والشوق والمناجاة ، ويخلق لعشاق حضرته من العارفين من صور الروحانية عالما في عالم ، ويتجلى بجوده وجلاله منها لهم ، ولا يعرفها إلا شائق عاشق واقف بأسرار الربوبية.

روى الضحاك عن ابن عباس في قوله : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) قال : يريدان عن يمين العرش نهرا من نور ، مثل السماوات السبع ، والأرضين السبع ، والبحار السبع ، يدخله جبريل عليه‌السلام كل سحر فيغتسل ، فيزداد نورا إلى نوره ، وجمالا إلى جماله ، وعظما إلى عظمه ، ثم ينتفض فيخرج الله من كل قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ألف ملك ، يدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك البيت المعمور ، وفي الكعبة سبعون ألفا لا يعودون إليه ، إلى أن تقوم الساعة.

قال بعضهم : علمك الحق الوقوف عندما لا يدركه عقلك من آثار الصنع ، وفنون العلوم لا تقابله بالإنكار ، فإنه خلق ما لا يعلمه أنت ولا يعلمه أحد من خلقه إلا من علّمه الحق ، ألا ترى يقول : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ).

قال : القسم مقدر عليكم من أفعالكم ما لا تعلمون إلا في وقت مباشرته ، وهو عالم به ؛ لأنه الذر قدر وقضى.

وقال الواسطي : يخلق فيكم من الأفعال ما لا تعلمون إنها لكم أم عليكم.

(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ

٣١١

يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤))

قوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) أي : على الله الطريق المستقيم أن يعرفه من اصطفاه في الأزل بمحبته ، والإيمان به ، والإيقان في معرفته بربوبيته ، أي : على الله الهداية ، لا على غيره من العرش إلى الثري ، أي : أنه لا شريك له في ألوهيته بأن يجد أحد سبيلا إليه بغير إرادته ومشيئته ، أو يأخذ طريقا من طرق معرفته بسبب من الأسباب أو علة من العلل.

(وَمِنْها جائِرٌ) أي : من السبيل مائل عن طريق الصواب ، وهو طريق قهره ، أجلس شيخ الضلالة على رأس وادي الطغيان ، فمن طرده عن طريق المستقيم سلّط عليه الملعون حتى يغويه في أودية الشهوات ، وقفر الظلمات ، وأن الضلالة والهدى يتعلقان بقهره ولطفه ، ولو أراد أن يجيز الكل في حيز الرحمة لكان كما أراد ، ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، تصديق ذلك قوله : (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ).

قال الواسطي : على الله أن يهدي إلى قصد السبيل ، ومن السبيل ما هو جائر ، والله سبب الجائر ، والسبيل القصد ، والسلوك على أنوار اليقين ، والجائر في السبيل على سبيل التوهم والدعاوى.

(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠))

قوله تعالى (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) لّما أشرقت أرض القلوب بأنوار عظمة الازال والاباد ، وسنا سبحات الذات والصفات ، وتزلزلت واهتزت وكادت أن ترتفع في هواء الهوية ، فألقى الحق سبحانه رواسي علومه الغيبية ، ومعارفه السرمدية ، حتى لا تطير بأشباحها وأرواحها ، وأرباب هذه القلوب رواسي الأكوان والحدثان ، ولو لا هم لطار الأكوان في الغيب ، وغيب الغيب ، ثم وصف أرض

٣١٢

القلوب كيف أجرى فيها أنهار المعرفة والمكاشفة والمحبة والشوق والعشق والحكمة والفطنة ، وأوضح فيها سبلا للأرواح ، والعقول والأسرار ، منها إلى الحق ، وتلك السبل بلا نهاية ؛ لأن الطرق إلى الله غير متناهية ؛ لأنه تعالى غير متناه ، فبعض سبلها للعقول إلى أنوار الايات ، وبعض سبلها للأرواح إلى أنوار الصفات ، وبعض سبلها للأسرار إلى أنوار الذات ، وأنّ الله سبحانه يظهر بجلاله وجماله في تلك السبل ؛ لإسراره القلوب كشفا عيانا ، ولو لا ذلك الكشوف والظهور لم يهتد الأرواح والعقول والأسرار إليه.

قال تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي : تهتدون به إليه ، ثم زاد تسبب العرفان بأن يريهم علامات مشاهدته من لوائح كشف الملكوت وأنجم الجبروت.

قال تعالى : (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) العلامات في الظاهر أنوار الأفعال للعموم ، وأخصّ العلامات في عالم الأولياء والنجوم وأهل المعارف الذين يسبحون في أفلاك الديمومية أرواحهم وقلوبهم وأسرارهم ، من اقتدى بهم يهتدي إلى مقصوده.

ألا ترى إلى قوله عليه‌السلام : «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» (١).

ما أنور علامات سمات القدوسية في وجوه الصديقين ، وما أزهر نجوم أرواحهم متقلبات في أشباحهم ، لطلب معادن القدس رياض الأنس ، من نظر إلى وجوههم بالحقيقة يرى أنوار الحق من وجوههم وقلوبهم.

قال المالكي : طريق الهداية أعلام ، فمن استدل بالأعلام بلغ إلى محل الهدى ، وكوشف عن معدن النجوم ، ومن استدل بنجوم المعرفة ، مر في طريق الهداية ، كان عالما بمسراها وصل إلى غاية المنتهى من الطريق ، ولا دليل على الحق سواه ، ولا علامة يخبر عنه ، فهو الدليل على نفسه ، ليس لأحد إليه سبيل ، ولا لخلق عليه دليل ، فمن وصل إليه فيه وصل ، ومن انقطع عنه فبسوابق لقائه عليه انقطع.

ثمّ إنّه سبحانه جعل ما وصف من نعمة بلا نهاية ، بقوله : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) نعمة سوابق نعم عنايته ، وهي أزلية أبدية والحوادث عن حصرها قاصرة ونعمة المعرفة في قلوب العارفين ، وله نعمة التوحيد في قلوب الموحدين ، وله نعمة المحبة في قلوب المحبين ، وله نعمة الشوق في قلوب المشتاقين ، وله نعمة الأنس في قلوب المستأنسين ، وله نعمة الإرادة في قلوب المريدين ، وله نعمة الإيمان في قلوب المؤمنين ، وله نعمة الإسلام في قلوب

__________________

(١) رواه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (٣ / ٦٢) ، وذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (١ / ١٤٧) ، والمناوي في «فيض القدير» (٤ / ٤٣٢) ، وابن حجر في «لسان الميزان» (٢ / ١٣٧).

٣١٣

المسلمين ، وكل نعمة من هذه النعم معدن أصل الذات والصفات ، يزيد بزيادة كشفها ، فبأي لسان يعد نعمته ، والخليقة عاجزة عن شكر قطرة ماء زلاله ، فكيف لا يعجز عن شكر نعمة مشاهدته القديمة ، لكن رحمته وغفرانه شكر نفسه لعلمه بضعف عباده عن حمل شكره ، لذلك قال في آخر الاية (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

قال ابن عطاء : إن لك نفسا وقلبا وروحا وعقلا ومحبّة ومعرفة ودينا ودنيا وطاعة ومعصية وابتداء وانتهاء وحينا واصلا وفصلا ووصلا ، فنعمة النفس الطاعات والإحسان ، والنفس فيهما تتنعم ، ونعمة الروح الخوف والرجاء ، وهو فيهما يتنعم ، ونعمة القلب اليقين والإيمان ، وهو فيها يتقلب ، ونعمة العقل الحكمة والبيان ، وهو فيهما يتقلب ، ونعمة المعرفة الذكر والقرآن ، وهو فيهما يتقلب ، ونعمة المحبة الألفة والمواصلة والأمر من الهجران وهو فيهما يتقلب ، وهذا تفسير قوله : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها).

(أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩))

قوله تعالى : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) من أمانة الحق بموت الحرمان عن حياة العرفان ، كيف يحي بحياة لا موت فيها ، فالجاهلون في غمرات هوة الجهالة ، والعارفين في حياة المشاهدة ، أماتهم حيث طردهم عن أبواب لطفه ، فهم يعمهون في ظلمات القهر وما يشعرون سبل الحياة وطريق النجاة ، فمثالهم مثل الأصنام التي لا أرواح فيها ، ولا استعداد لها لقبول الحياة ، فكذلك أهل الجهل به ليس لهم استعداد قبول حياة المعرفة

٣١٤

وروح المحبة ، لذلك أكّد في حق الأصنام بعد قوله : (أَمُوتُ) بقوله : (غَيْرُ أَحْياءٍ) قطع الحياة الأصلية عنها ، وقطع عنها أيضا استعداد قبول الحياة ؛ لأنها جمادات ؛ فالمنكرون كذلك أموات القلوب عن معرفة العارفين ، وغير مستعدين لعرفانهم ، والعلم بأحوالهم ، فسلاطين المعرفة أحياء بأرواح معرفته ، والمحبون أحياء بأرواح محبته ، والموقنون أحياء بأنوار مشاهدته ، والصدّيقون أحياء بأنوار لقائه ، والمقربون أحياء بأنوار صفاته ، والموحدون أحياء بأنوار ذاته ، وأهل ستر الغيب أحياء بحياته القديمة ، والجمهور من وصل القدم في بحر نكرة ، مستغرقون لا يموتون فيها بالحقيقة من سكون أرواح معرفته في أسرارهم ، وأحاطت أرواح بقائه على أرواحهم ، ولا يحبّون فيها بالحقيقة لصولة سطوات عظمته الأزليات عليهم ، وإذا أبصرتهم بالحقيقة فعن إدراك كنّه القدم أموات غير أحياء ، إذ لا سبيل للحدث في القدم بنعت إدراكه ، لكن هم في حسبان من حلاوة أوقاتهم في إدراكه ، وما يشعرون أنهم لا يدركون أبدا ، لكن إذا طلع صبح الوحدانية عليهم ، وباشرهم أنوار شموس الذات ، وأقمار الصفات ، يقومون به معه بوصف الحياة الباقية ، والعلم بفروع الربوبية ، ولكن لا يعرفون أيان يبعثون في هذه المنازل ، كأنّ الأوقات هناك وقت واحد بنعت تسرمد السرمدية والأزلية سبحانه وتعالى.

قال الجنيد : من كان بين مفرقي فناء فهو فان ، ومن كان بين طرفي عدم ، فهو معدوم ، وإلهي هو الذي لم يزل ولا زال.

قال بعضهم : أموات عن وصول الحق غير أحياء وما يشعرون ، وإنّما يشعر بذلك من كشف له عن محل الحياة بالحق.

وقال الحسين : الحياة هي أقسام ، فحياة بكلماته ، وحياة بأمره ، وحياة بقربه ، وحياة بنظره ، وحياة بقدرته ، وحياة هي الموت ، وهي الحركات المذمومة ، وهو قوله جل وعز : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ).

وقال سهل : خلق الله الخلق ثم أحياهم باسم الحياة ، ثم أماتهم بجهلهم بأنفسهم ، فمن حي العلو فهو الحي وإلا فهم موتى بجهلهم.

وقال الواسطي : الميت من غفل عن مشاهدة المنّان ، والحي من كان حي بالحي الذي لا يموت.

وقال أبو عمرو الزجاجي : كيف تحيون وأنتم لم ترو أحياء.

وقال النصر آبادي : أهل الجنة أموات ولا يشعرون ؛ لا شتغالهم بغير الحق ، وأهل الحضرة أحياء ؛ لأنهم في مشاهدة الحق.

قال الله : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ).

٣١٥

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦))

وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) أي : للذين رفعوا أرواحهم وقلوبهم وعرضوها في الحضرة لبذلها وفدائها لعروس المشاهدة ، وأحسنوا عبودية خالقهم ، وشاهدوه مشاهدة إيقان وعرفان في دار الامتحان حسنة مشاهدة الرحمن في وقت كشوف أنوار جماله في أوقات المواجيد والواردات ، ولهم في دار الاخرة عيان في عيان ، وبيان في بيان ، بلا فترة ولا فتور ، ولا حجاب ولا عتاب ، ولنعم دار هؤلاء المتفردين عن الأكوان والحدثان دار مشاهدة الرحمن.

ثم وصف مقاماتهم السنية ودرجاتهم الرفيعة في مقاعد صدق المشاهدة بقوله تعالى : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) بساتين مقام الجلال والجمال ، ويجري فيها أنهار زوائد المنن ولهم من مشاهدة جلاله وجماله ما يشاءون عن حلاوة الخطاب والوصال ، وهذا جزاء قوم انفردوا بالحق عمّا دون الحق.

قال أبو عثمان : في قوله (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) أي : أحسنوا في ابتداء أحوالهم الرجوع إلى محل المحسنين.

قال يوسف بن الحسين : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) آداب الخدمة واستعملوها للرفعة إلى محل الأولياء ، وهو غاية الحسنى.

٣١٦

قال الأستاذ : إن في الدنيا مشاهدة ، وفي الاخرة معاينة ، ثم وصف لهؤلاء المحسنين المتقين بطيب قلوبهم وأرواحهم عند خروجهم من الدنيا ، بقوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) في الدنيا بطيب نفحات مسك تجليه وتدليه وفي الاخرة بطيب مشاهدته ووصاله ، أيضا طيبين بطيب محبته ، طيبين بطيب معرفته ، طابت نفوسهم في خدمة مولاها ، وطابت قلوبهم في محبة سيدها ، وطابت أرواحهم بطيب مشاهدة ربها ، وطابت أسرارهم بطيب الأنوار ، هؤلاء مقدسون من شوب الحدثان ، وإشراك الأصنام ، تقدست نفوسهم من لوث الطبيعات ، وتقدّست قلوبهم من لطخ الشهوات ، وتقدّست أرواحهم من الوقوف في الايات ، وتقدّست أسرارهم من علائق الكرامات ، طابوا بطيب المناجاة ، واستأنسوا بأنس المداناة ، وسكروا بوجوه المشاهدات ، وصلحوا في مجالس أنوار الصفات ، وطاروا بأجنحة الشوق والمحبة في أنوار الذات ، طيب الله قلوبهم ؛ حيث جعلها متصفة بأنوار شهوده عليها ، فطابت الوجود بوجودهم ، وفاحت فارات مسك محبتهم في الافاق ، فما أطيب ذلك الطيب إذا تنفسوا من غلبات الشوق إلى جماله ، واستنشاقهم طيب وصاله ، هبت عليها ريح الشمال وحملت أنفاسهم ، ودارت حول الكونين ، فطابت الأكوان والحدثان من طيب أنفاسهم ، لأنها رياض جمال الحق ، وموضع أنفاس الرحمن.

ألا ترى كيف قال سيد أهل الأنفاس عليه‌السلام : «إنّي أجد نفس الرحمن من قبل اليمن» (١).

وقال : «إن لربكم في أيام دهركم لنفحات ، ألا فتعرضوا لنفحات الرحمن» (٢).

عرائس جود المشاهدة هناك تتبختر ، فتطيب بطيبها تلك الأنفاس الربانية ، فطابت السماوات والأرض وأهلها بطيبها ، كما قيل :

تضوع مسكا بطن نعمان إن مشت

به زينب في نسوة عطرات

قيل : أي طيبة أبدانهم وأرواحهم بملازمة الخدمة وترك الشهوات.

وقال أيضا : أي : لم يتدنسوا من الدنيا وخبثها بشيء.

قال أبو حفص : ضياء الأبدان بمواصلة الخدمة ، وضياء الأرواح بالاستقامة.

قال الأستاذ : طيبين تفيض أرواحهم طيبة ببذلها نفوسهم.

(إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ

__________________

(١) ذكره المناوي في «فيض القدير» (٤ / ١٢٩) ، والعجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ٢٥١).

(٢) رواه الطبراني في «المعجم الأوسط» (٣ / ١٨٠) ، و «المعجم الكبير» (١٩ / ٢٣٣) ، وذكره المناوي في «فيض القدير» (٢ / ٤٦٣) ، والعجلوني في «كشف الخفاء» (١ / ٢٦٩).

٣١٧

النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣)

قوله تعالى : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) بيّن سبحانه جلال كرم حبيبه ، وشفقته على خلقه ، محبة لدينه ، ونظاما لعبوديته ، ثم فإن لا يضيق صدرك لأجل من أغويته في الأزل عن طريقك ، فإنك لا تهديه ، فإن من طرده سابقة إرادته الأزلية ، يقدر الحدثان حسم باب الطرد عليه ، فإن العبودية من خلقه يتعلق بتخصيص من خصّه بمعرفته ، وألبسه لباس عبوديته ، ومن ألبسه لباس قهره فأنت لا تقدر أن تنزع ذلك عنه ، فإنّ جريان أمر القدم لا يدفعه إلا القدم ، وإنما بعثت الرسل لبيان الشريعة ، ووضوح الطريقة لأشركتهم في الهداية.

قال الواسطي : السعادة والشقاوة والهدى والضلالة جرت في الأزل بما لا تبديل فيها ، ولا تحويل وإنما يظهر في الأوقات رسما على الأجسام ، والهياكل لا صنع فيها لأحد ، وليس يقدر عليها خلق ، بل هي إرادة جرت في الأزل بعلم سابق قصرت عنه أيدي الأنبياء وإلى الأولياء بقوله : (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) وتصديق ما ذكرنا ، وما أشار إليه.

قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي : لا يكون كون الأشياء إلا بتكويننا إياها ، إما في الإيجاد ، وإما في الهداية ، وبيان هذه الاية إنّ لذاته تعالى صفات قديمة أزلية ، منها الإرادة والمشيئة ، وهما سابقتان قبل كل سابق ؛ لأنهما قديمتان جرتا لكون الكون وما فيه ، لا أن تكونا تحدثان في الحق ؛ لأنه منزه عن البدء الذي خلا عنه الإرادة والمشيئة في سابق العلم.

إنّما أراد الله الأشياء في القدم وعلمه كان مقرونا بإرادته ، وكان الوجود موجودا في علمه مريدا لإرادته ، وكان قادرا بقدرته القديمة بإيجاد الكون بمحض الإرادة ومعلوم العلم ، ولكن لو أوجد لكان معا معا ، ولوجدان الحدثان رتبة القدم أخرها بغير علة ، ولا لوقت من الأوقات ، أراد حدوث الحدث وإحداثه فعلم وجوده ، وبعد أن كان معدوما فأوجد بتمام الصفة حتى يكون على حد الكمال ؛ لأنه تعالى خلق الأشياء بمباشرة نور ذاته وجميع صفاته ، فالقول منه صفة من صفاته ، فقال للمعدوم : كن بتكويننا إياك حتى يكون ذلك المعدوم

٣١٨

موجودا بكمال جميع الصفات ، إذ لو كان خاليا عن الأمر والكلام كان ناقصا ، مع أنه تعالى قادر يخلق الأشياء على حد الكمال. سئل بعضهم ما كان يكفي الإرادة والمشيئة حتى أظهر قول كن.

قال : خفية الإرادة والمشيئة ، فأظهر الأكوان في المعلوم ، وأظهر لفظة : كن ؛ فأخرج الأكوان إلى الوجود.

قال الواسطي : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ) إنه على قدر المعارف إشارة إلى القدرة ، وأما الحقيقة فليس للحق مكون ، كما أنه ليس له موجود ، إذ لم يكن له معدوم ، فإذا كانت الأشياء بذاته ظهرت ، وبه وجدت لا بصفاته فلم يزل ، كما لا يزال إلى أنه لم يكن ، أظهر بعضهم لبعض ظهور الأشياء بذاته لا بصفاته.

(بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧))

قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) أخفى الله سبحانه مكنون أسرار كتابه كما كانت بالحقيقة إلا على نبيه ؛ لأنه كان بتلك الحقائق مخاطبا ، وكان بها مأمونا ؛ ليبيّنها لأمناء المعرفة وأصفياء الحقيقة ، الذين لهم استعداد قبول الحقائق ، ولهم أسماع الأهلية الحاضرة لشهود الغيب ، وسماع الأنباء العجيبة ليتفكروا فيها بعقول كاملة ، ويستخرجوا جواهر علومها بأسرار ظاهرة ، وهمم عالية ، وخواطر مشرقة ، وإدراكات منيرة ، وهم لا يضيعونها بأن يقولوا عند غير أهلها فيسقطوا عن درجة الأمانة ، وأنشد ما ذكرنا :

من سارروه فأبدى السر مشتهرا

لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا

وجاء بنوه فلم يسعد بقربهم

وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا

لا يصطفون مذيعا بعض سرهم

حاشا ودادهم من ذاكم حاشا

قال ابن عطاء : قطع عقول الخلق عن فهم كتابه ، والإشراف عليه والنبيين منه إلا عقل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه قال له : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) ، وإنّ فيه أحكام الخلق والخطاب معك ، وأنت صاحب البيان لهم بما أنزل عليك ، فإنهم في مقامات الوحشة ، وأنت في محل الحضور ومحل الائتمان ، فبيان الكتاب ما تبينه ، وآداب الشريعة ما ترسمه ؛ لأنك الأمين في جميع الأحوال ؛ ولا يؤتمن على أسرار الحق إلا الأمناء من العبيد.

٣١٩

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠))

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) بين الله سبحانه جهالة المتكبرين والمستكبرين عن خدمته بأنهم لا يرون ظلالهم بالغدو والاصال ، كيف يسجد لخالقهم ولو كانوا على محل العقل والإيمان والمعرفة لتنبهوا وتعرّفوا مكان جهلهم بالله وبعبوديته ، فإنّ جميع الموجودات حتى الجمادات تسجد لصانعها من جهة وقوع نور العظمة عليها ، فهي داخرة صاغرة في أنوار تجلي عظمته لها ، كما قال عليه‌السلام : «إذا تجلى الحق لشيء خشع له» (١).

وفيه بيان أن كل موضع في نفس الأمّارة الشيطانية ، هناك استكبارا وتكبرا من عرف الحق بالحق بعد ما رأى الحق بالحق.

قال بعضهم : ما خلق الله شيئا من الجماد والحيوان ينازع صانعه وخالقه إلا الإنسان ، فإنه أبدا يدّعي لنفسه ما ليس من قدرة وعلم ، ويثبت على الوحدانية والفردانية بادّعاء الأهل والولد جلّ وعزّ ، وتكبّر في الإذعان والخضوع ، لذلك قال الله : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ).

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥) وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ

__________________

(١) رواه أحمد في «المسند» (٤ / ٢٦٧) ، وأبو داود (١١٧٧) ، والنسائي (١٤١١٣) ، وابن ماجه (١٢٦٢).

٣٢٠