بدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام

محمد باقر الملكي

بدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

محمد باقر الملكي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٣

التفضيل إذ لا يقاس بدوامه سبحانه دوام دائم فيفضل عليه انتهى.

وقد ذكر شرحا شافيا في تفسير قوله الحمد لله الأول بلا أول كان قلبه والآخر بلا آخر يكون بعده الدعاء وهو الدعاء الأول من الصحيفة وفي المجمع في تفسير قوله تعالى (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) قال هو الذي لا يبلغه كرم كريم انتهى ولو أردنا استقصاء البحث في المقام لخرجنا عن البحث التفسيري وعن الصادق (ع) حين قال القائل الله أكبر من كل شيء قال (ع) ا كان ثمة شيء فكان أكبر منه.

فاتضح ان معنى قوله (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) تنزيه له سبحانه عن صفات ما سواه وكسر للأصنام وخلع للأنداد وبيان لتوحده وتفرده سبحانه في جميع نعوته وكمالاته لا انه بيان لاجزاء الصلاة ووجوب تكبيرة الإحرام في أول الصلاة كي يكون قرينة لتطهير الثياب في قوله تعالى (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) بالتطهير الشرعي انتهى.

وأما الجواب عن الوجه الثالث ففيه ان ثياب رسول الله (ص) ليست نجسة حتى يؤمر بتطهيرها والقضية ليست شخصية بل يجب على كل موحد تنزيهه تعالى عن كل ما يقول الملحدون وكذا تطهير الثياب قضية حقيقية على جميع المكلفين ان كان واجبا فواجب وان ندبا فندب فلا محصل بأن يقال ان رسول الله أمر بتطهير ثيابه في مقابل ما كان عند المشركين.

وأما الجواب عن الوجه الرابع الذي ذكره بعض الأعاظم حيث قال يكون تأكيدا لقوله (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) وتفسيرا له وهو هنا المناسب لتكبير الصلاة وطهارة الثياب انتهى. أقول الطهارة في اللغة النظافة وهي شاملة لجميع مراتبها وأنواعها بخلاف الرجز والهجر والاجتناب عنها فإنه كالصريح في الاجتناب عن الرجز وهذه الجملة أخص من الاولى لاشتمال الطهارة للطهارة عن الوسخ والقذر والثانية بالقذر والثانية أعم من الاولى من حيث ان الثانية تشمل الثياب والبدن وجميع المصارف كائنا ما كان فليس تفسيرا للطهارة ولا تأكيدا إياها وأيضا الطهارة من الأوساخ والأنجاس بعد ما ابتلي بها بخلاف الهجر والاجتناب فإنه التحرز والتحذر كي لا يبتلي بها ولا يقع فيها.

والجواب عن الوجه الخامس ان الأمر وان كان بمقتضى الإطلاق يفيد الوجوب الا انه قبل الفحص عن المخصص والمقيد لا ينعقد الإطلاق وبعد الفحص يبطل الإطلاق ويتعين الاستحباب فالحق في المقام بعد التأمل والتدبر في الآية الكريمة بالتقريب الذي ذكرناه من البيان ان الآية ليست في مقام جزئية التكبير الصلاة ولا شرطية طهارة الثياب لها يؤيد ذلك ويؤكده الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (ع) وفي بعض منها ان ثيابه كانت طاهرة وانما أمره بالتشمير ، في القاموس شمر الثوب تشميرا رفعه انتهى قيل المراد لا يكن ثيابك حراما.

قوله تعالى (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) في القاموس الرجز القذر وعبادة الأوثان والعذاب

٦١

والشرك انتهى وفي أقرب الموارد عبارة القاموس بعينه ولا يخفى ان ما سوى القذر من المعاني لا يناسب المقام الا بضرب من التأويل فإنه (ص) كان معتصما بالله ومعصوما بعصمته وقد كان مقدسا ومنزها عن الشرك وعبادة الأوثان فالمناسب في المقام هو المعنى الأول للتذكر بحسن الاجتناب أو لأجل التشريع في بعض الموارد وبديهي ان الخطاب وان كان شخصيا الا ان الحكم عام لبداهة حسنه. وعن ابن عباس وقتادة ومجاهد ان المراد منه عبادة الأصنام وقيل هما صنما «إساف ونائلة» وقيل اخرج حب دنيا دنية عن قلبك وقيل عن المعاصي والحق في المقام ما ذكرناه.

الآية الثانية عشرة

قال تعالى (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) البقرة ١٢٤.

بيان ـ قال في القاموس ج ٤ ص ٣٠٦ ابتليته اختبرته والرجل فأبلاني استخبرته فأخبرني وامتحنته اختبرته كبلوته بلواء وبلاء والاسم البلوى أقول ليس غرضه تعالى من الامتحان الاستطلاع على سرائر عباده واستكشاف ما في بواطنهم لاستحالة ذلك في حقه تعالى فإنه لا يخفى عليه نجيات الصدور وسرائر القلوب بن المراد منه هي العناية الخاصة والاهتمام الأكيد منه جل ثناؤه من سنته الحكيمة الحميدة في تربية أوليائه وتكميل أحبائه.

فعن الصادق عليه‌السلام (١) قال الى ان قال والابتلاء على ضربين أحدهما مستحيل على الله تعالى ذكره والآخر جائز اما ما يستحيل فهو ان يختبره فيعلم ما تكشف الأيام عنه وهذا ما لا يصلح لأنه عزوجل علام الغيوب والضرب الآخر من الابتلاء ان يبتليه حتى يصبر في ما يبتليه فيكون على سبيل الاستحقاق.

قوله تعالى (بِكَلِماتٍ) بيان هذه الكلمات من كبار التكاليف وعظائم الأمور وأشرف المواهب وأعظم العطايا ضرورة ان ظرف هذا الابتلاء وموقفه ومورده بعد تشرف إبراهيم (ع) بمقام النبوة والرسالة وبعد تحليه بلباس الاصطفاء والخلة. وقد تأدب بأدب العبودية وحصلت له الطمأنينة والسكينة الإلهية وقد تمكن من حمل أثقال النبوة والرسالة وقد حان الحين أن يعرج الى سماء الإمامة الرفيعة ويتكئ على كرسي الكرامة وليس المراد من الكلمات هي الخصال العشرة التي سنها إبراهيم قبل رسالته ونبوته كي يكون بإتيانها مستحقا ونائلا بمقام الرسالة والنبوة أو أمتحن به في مرتبة الرسالة والنبوة فصار بامتثالها نائلا بمقام الإمامة على ما سيجيء الكلام في ذلك في معنى الامام المذكور في الآية الكريمة.

وواضح أن المراد بالكلمات ليست ما هو المصطلح عند الناس من جنس

__________________

(١) في البرهان ج ١ ص ١٤٧ عن الصدوق.

٦٢

القول واللفظ بل المراد منها أو من بعضها هي الأمور العيني سواء كان موجودا خارجيا أو حكما إلزاميا أو عهدا أو ميثاقا أو بلاء ومحنة وشدة وعزيمة وقد شاع إطلاق الكلمة في القرآن على هذه الأمور قال تعالى (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) الآية آل عمران ٤٥ قال تعالى (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) آل عمران ـ ٣٩ وعليك باستخراج الموارد من الآيات القرآنية وسنذكر بعضها في طي الأبحاث الجارية إن شاء الله والظاهر ان وجه إطلاق الكلمة على هذه الأعيان والحوادث من قبيل إطلاق الإيجاد على الوجود أي من باب إطلاق السبب على المسبب فان الوجود بالإيجاد يتحقق ويوجد في كل موجود من الأعيان والحوادث والعهود والمواثيق والأزمات انما يتحقق بكلمة كن قال تعالى (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يس ـ ٨٢.

عن الصدوق بإسناده عن الصادق (ع) قال لما صعد موسى (ع) الى الطور ناجى ربه عزوجل قال أرني خزائنك قال يا موسى انما خزائني إذا أردت شيئا ان أقول له كن فيكون. فيصير جميع ما يتحقق ويوجد بأمره تعالى من الحقائق والأعيان والأمر والعزيمة والأخذ والعطاء والإهانة والإكرام والعهود والمواثيق كلها موجودا ومتحققا بكلمة كن وإطلاق الكلمة على ما يتحقق ويوجد بها إطلاق شائع من قبيل إطلاق السبب على المسبب فيكون جميع ما اختبره الله سبحانه إبراهيم من العطايا والمواهب والرغائب والمحن والشدائد وغيرها كلها مما يصدق عليه الكلمة وحيث ان العناية في المقام هو التذكر بمقام إبراهيم وبيان عطفه وحنانه تعالى عليه والتقدير والتشكر له وفي بيان ما اصطفاه سبحانه بالمواهب الكريمة الإلهية لم يكن تعداد الكلمات وشرح حقيقتها دخيلا في غرض الآية فأجمل تعالى وأبهم ذكرها فعلى عهدة المفسر استخراجها واستنباطها من الآيات القرآنية أو الاعتماد فيها على الآثار المروية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن آله الأوصياء الأئمة.

وأما بيان حقيقة هذه الكلمة التي عبر عنها في القرآن الكريم بقوله (كُنْ) ووجه إطلاق الكلمة على هذه الحقيقة القرآنية فخارج عن محل البحث.

أقول من الموارد التي امتحن الله سبحانه إبراهيم عليه‌السلام ابتلائه بنار نمرود قال تعالى (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً) الآية (الأنبياء ٧٠ ـ ٧١) منها ابتلائه باراءة الملكوت قال تعالى (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) إنعام ٧٥.

ومنها ابتلائه بتسريح هاجر وإسماعيل وإسكانهما بين جبال في واد غير ذي

٦٣

ذرع قال تعالى (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) إبراهيم (٢٧).

ومنها ابتلائه بذبح ولده قال تعالى (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) الصافات / ١٠٦.

ومنها ابتلائه بالقبطي وما نجاة تعالى من شره وغير ذلك من مواقفه الجميلة.

أقول قد ورد بعض من هذه الموارد في رواية في البرهان ج ١ رواها عن الصدوق في تفسير الآية الكريمة فإن قيل فأي مانع أن يقال ان المراد من الكلمات ما كان من جنس القول واللفظ في هذه الآية وفي غيرها من الآيات التي فيها لفظ الكلمة.

قلت أن كثيرا من الآيات لا يوافق على ذلك كما في قوله تعالى (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) آل عمران (٣٩).

قال تعالى (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) آل عمران ـ ٤٥.

وقيل كما في كنز العرفان ج ١ ص ٥٥ ان المراد بالكلمات هي الخصال العشرة التي سنها إبراهيم (ع) خمسة في الرأس وخمسة في البدن اما التي في الرأس فالمضمضة والاستنشاق والفرق وقص الشارب والسواك وأما التي في البدن فالختان وحلق العانة وتقليم الأظفار ونتف الإبطين والاستنجاء بالماء قالوا وإذا كانت هذه من شريعة إبراهيم كانت أيضا من شريعة نبينا (ص) لقوله تعالى (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) النساء ـ ١٢٤.

ولقوله تعالى (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) ـ الحج ـ ٧٨ انتهى. وقريب منه عبارة الأردبيلي في زبدة البيان وعبارة الجزائري في قلائد الدرر.

أقول هذا القول ضعيف من وجوه. (الوجه الأول) ان الآيتان لا دلالة فيهما على شيء من المدعى أما الآية الاولى وهي قوله تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) النساء ١٢٤.

فالآية الكريمة كما ترى مسوقة في مقام الترغيب والتذكر الى وجوب الايمان

٦٤

بالتوحيد والتسليم المحض وإسلام الوجه بكليته لله سبحانه اقتداء واتباعا لملة إبراهيم فإنه قد كان (ص) ممن أسلم وجهه لله سبحانه. قال تعالى (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ـ إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ـ البقرة.

فهذه الآية الكريمة في مقام الثناء على إبراهيم (ع) والتقدير والتشكر له وصريحة انه قد أسلم لله وانقطع الى جنابه جل ثناؤه وهذا الموقف الخطير من أجل مواقفه ولم يطأ هذا الموقف أحد إلا قليل من المقربين وقد دخل حريم القرب وجلس مجلس الانس وقد كان (ع) مراقبا ومحافظا لأدب الحضور حيث كلمه ربه تعالى بقوله (أَسْلِمْ) (قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) مراعيا لجلالة تعالى وكبريائه ولم يرسل نفسه ولم يقل أسلمت لك ونظائرها من الجواب.

فاتضح مما ذكرنا ان قوله تعالى (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) عطف تفسيري لقوله تعالى (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) وأجنبي عما توهمه المستدل من الاتباع في أمثال خصال العشرة.

والظاهر من هذه الآية الكريمة ونظائرها في القرآن الكريم أن المراد بالملة ملة إبراهيم في هذه الآيات هو التوحيد الذي جاهد إبراهيم في بلاغة وتحكيمه مجاهدات كثيرة قال تعالى حكاية عن يوسف الصديق (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) يوسف ٢٨ وأما الآية الثانية هي قوله تعالى (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) الآية. الحج ـ ٧٨.

قال في المجمع : ج ٧ ص ٩٨ ملة أبيكم منصوب بإضمار فعل تقديره واتبعوا وقرروا ملة أبيكم انتهى.

أقول فعلى هذا تكون هذه الآية أيضا كما في نظائرها مسوقة للتذكر الى التوحيد أي اتبعوا صراط التوحيد ومنهاج الإسلام وهي أيضا أجنبية عما ذكروه ان المراد بالكلمات الخصال العشرة في الآية المبحوثة وان المراد من وجوب اتباع الملة اتباع إبراهيم (ع) في الآيتان بالخصال المذكورة أو يعمها ويشملها.

فان قلت فأي مانع من القول بإطلاق الملة وشمولها للخصال العشرة.

٦٥

قلت : لا كلام في أن الخصال العشر بحسب الأدلة من أجزاء الدين الا ان الآيات مسوقة في التذكر الى التوحيد والاحتجاج على المشركين في إثباته وتحكيمه ووجوب اتباعه وإبطال الشرك وتقبيح اتباعه فمورد النفي والإثبات هو التوحيد والشرك لا الدين على الإطلاق.

(الوجه الثاني :) ظاهر الآية ان الله سبحانه اختبر إبراهيم عليه‌السلام بهذه الكلمات فأتمها إبراهيم (ع) وعمل بها فجعله تعالى وسيلة لنيل مقام الإمامة.

فلو كان مورد الاختبار والإتمام قبل مرتبة الرسالة والنبوة والإمامة فلا محالة يتوقف تسنينها وتقنينها على ان يكون إبراهيم رسولا ونبيا واماما إذ لا محصل ان يكون الإنسان العادي غير الرسول والامام سن من عند نفسه خصالا وعمل بها فجعله تعالى بامتثالها رسولا اماما بداهة ليس له حق التشريع والتسنين فضلا ان يكون هذا التشريع والعمل به وسيلة إلى نيل الرسالة والإمامة.

(الوجه الثالث :) ان يكون معنى قولهم الخصال التي سنها إبراهيم (ع) اي سنها تعالى وأمر بإتيانها في مرتبة الرسالة له والنبوة فأتمها إبراهيم وصار به مستحقا لمقام الإمامة.

فيرد عليه ان الخصال المذكورة يخرج عن عهدة امتثالها أضعف المؤمنين فكيف يصح ان الله تعالى اختبر أعظم نبي من أنبيائه فجعله بامتثالها اماما للناس قيل انه لا دليل في المقام ان المراد من الكلمات هي الخصال العشرة سواء قلنا انها مسنونة بتسنين إبراهيم أو تسنينه تعالى اوحي الى إبراهيم واختبر بذلك وسنزيد لذلك توضيحا في تفسير قوله تعالى (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ) الآية.

قوله تعالى (فَأَتَمَّهُنَ) ـ المناسب للسياق ان فاعل أتم هو الله سبحانه ومعنى إتمامه تعالى الكلمات في شأن إبراهيم انه عليه‌السلام بعد ابتلائه بالكلمات قام بها قيام المخلصين وجد واجتهد في امتثالها اجتهاد العابدين المجتهدين وفي بعهده تعالى وابتغى مرضاته بأتم ما يمكن وأكمل ما يكون وحيث انه تحت حمايته تعالى ومستظل في ظل عنايته وولايته وعصمته نسب الإتمام إلى نفسه القدوس بعناية المساعدة الكاملة والتأييد في حقه وفي هذا التعبير غاية التشريف لإبراهيم (ع) كما في قوله تعالى (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) وفيه اشعار لإبراز التشكر والتقدير

٦٦

لوفائه وإخلاصه عليه‌السلام ويمكن أن يكون الضمير عائدا إلى إبراهيم على خلاف السياق.

قوله تعالى (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) : تنقيح البحث في المقام يحتاج الى تحرير أمور :

الأول : لا يخفى ان هذه الجملة وهذا القول منه تعالى متفرع ومترتب على إتمام الكلمات والوفاء بها والخروج من عهدتها وقد شكر الله سبحانه سعي إبراهيم (ع) وتقبل منه قبولا حسنا واعطى له مثوبة كريمة وجعله اماما وجعل الإمامة له ذكرا باقيا وثناء خالدا بخلود القرآن الكريم وأهله يقرع به إسماع الجن والانس وإسماع المقربين من أولياء محمد وآله الطاهرين (ص) يقرؤون هذه الآية آناء ليلهم ونهارهم وهذه سنته تعالى الحميدة في هذا الكتاب الكريم في التنويه بأسماء أحبائه والتشريف بشأن أوليائه فليست هذه الجملة مستأنفا ولا مفصولا عما قبله كما توهمه بعض المفسرين على ما سنشير اليه.

الثاني لا يخفى عند اولي الألباب ان القول المذكور في الآية والأمر المجعول فيها بهذا القول إذا كان مترتبا ومتوقفا على الابتلاء بالكلمات والوفاء بها فلا يجوز أن يقال أن هذا القول والأمر المجعول في مرتبة إتمام الكلمات وفي مرتبة الابتلاء بها فلا محالة يكون هذا القول والا المجعول متأخرا عن الابتلاء زمانا ورتبة والاستنباط والاستظهار على ما سنشير اليه يساعدان ان موطن ابتلائه عليه‌السلام بهذه الكلمات انما كان في ظرف نبوته ورسالته لا قبلهما وقد كان نبيا ورسولا قبل هذا الابتلاء وقبل هذا القول والجعل فان هذا القول منه تعالى ليس الا على سبيل الوحي وليس أول وحي يوحي تعالى إلى إبراهيم بحيث تنبأ به مبتدئا به ولم يكن بعد نبيا ولا رسولا قبل هذا حتى جعله تعالى رسولا ونبيا بهذا الوحي وان أبيت ذلك تعصبا وتجاهلا فإطلاق الآية الكريمة قاطعة وحاكمة ببطلان ما توهم أن الابتلاء كان قبل النبوة فمن العجيب ما في المنار ج ٢ ص ٤٥٥ عن شيخه محمد عبده ان قول الله سبحانه (قال الآية) كلام مستأنف مفصول عما قبله وليس جعل الإمامة مرتبطا ومتفرعا على تمام الكلمات لأن الرسالة بمحض فضل الله ولا يكون بكسب كاسب انتهى ملخصا.

الثالث : نسب تعالى الجعل الى نفسه العليم الحكيم فإنه سبحانه اعلم حيث يجعل إمامته كما انه (أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) فليس جعل مراد فالخلق فالجعل في

٦٧

الأعيان والتكوين مثل قوله تعالى (جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) ونظائرها اي خلقها وقررها لذلك بحكمته وتدبيره واما الجعل في غير الأعيان كما في الآية الكريمة المبحوثة عنها وأمثالها فالعناية الملحوظة متوجهة الى حيث التشريع والتعبد المولوي بحيث لو لا جعله تعالى لما تحقق بجعل جاعل غيره تعالى فان الجعل والتشريع حق طلق له سبحانه ومن شئون مالكيته تعالى على الخلق وعلى التصرف في أمورهم وشئونهم فلا يملك الخلق والتصرف في شئونهم الا الله وحده لا شريك له فمن نصب نفسه أو غيره إماما إذ اتخذ لنفسه اماما فقد نازع سلطان الرب تعالى وهو حرام بالضرورة العقلية فعلى ما ذكرها المفسرون ان الامام هو الرسول كما قدمنا نقله عن عبده أو النبي كما صرح به الرازي في تفسيره ج ٦٠ ص ٤٤ يكون المجعول امرا تكوينيا على ما سنشير اليه وعلى ما ذكرنا يكون المجعول امرا مولويا في مرتبة متأخرة عن الرسالة والنبوة ومن المناصب المجعولة للإنسان الرسول والنبي أو الصديق اي حق التصرف والرتق والفتق في أمور الناس وهذا من الأمور الوضعية.

وقد أنكر الفخر الرازي على من استدل بهذه الآية على ان الإمامة لا تثبت الا بالنص وقال ما خلاصته ان النص طريق إلى إثبات الإمامة ولا نزاع فيه وانما النزاع في انه هل تثبت الإمامة بغير النص وليس في الآية تعرض لهذه المسألة لا بالنفي ولا بالإثبات انتهى.

أقول هذا خروج عن البحث التفسيري وخلط بينه وبين البحث الكلامي فالآية الكريمة نص في ان الجاعل للإمامة هو الله سبحانه وظاهره أيضا في أن حقيقة الإمامة غير النبوة والرسالة وان محل هذه الإمامة ومقرها هو إبراهيم الرسول والنبي وكم فرق بين مقام ثبوت الإمامة في نفس الأمر بجعله تعالى وبين مقام إثباتها بعد الفراغ عن ثبوتها بجعله تعالى والآية الكريمة ناظرة إلى الجهة الاولى وناصة في ان الجعل بيده تعالى ولا تحصل الإمامة إلا بجعله تعالى بتنصيصه على ذلك ولعل مراد المستدل بالآية الكريمة هو ذلك المعنى كما هو ظاهر عبارته التي أوردها الرازي في تفسيره ومراد المستدل أن الإمامة لا تحصل بالوثبة على رقاب الناس والتملك والتصرف العدواني في أمورهم وشئونهم ولا بإجماع الناس ورضاهم بذلك ، واما البحث في مقام الإثبات بعد الفراغ عن ثبوتها فالآية غير ناظرة اليه على النحو الذي ذكره الرازي بل الآية ناصة في ثبوتها في عين إثباتها وإعطائها لإبراهيم ثم لا يخفى ان قوله تعالى (إِنِّي جاعِلُكَ) ليس مواعدة بينه تعالى وبين إبراهيم عليه‌السلام انه سيجعله اماما كما زعمه الرازي بل الظاهر ان أخباره بذلك لإبراهيم عين جعله تعالى الامانة وعين عطائها إياه.

٦٨

قوله تعالى (لِلنَّاسِ) لا يجوز الاستدلال بهذا العموم على عموم إمامته عليه‌السلام بحسب الأزمان والأشخاص والأحكام حتى يكون اماما للكل في الكل ضرورة ان هذا العموم لا يدل على عموم ما فيه الائتمام وموارده فالقدر المسلم من هذا العموم هو عموم أهل دعوته المسؤولين بالائتمام به واما بالنسبة الى غير أهل دعوته من الأنبياء الأئمة بعده والأمم المسؤولين بأتباعهم والائتمام به وكذلك بالنسبة إلى الأنبياء غير الأئمة واممهم فلا محال ينحصر مورد الإمامة والائتمام به بالأحكام المولوية التي لم تنسخ واما بالنسبة الى غير هذه الموارد فلا يصدق الاتباع والائتمام فيها سواء كانت من المعارف والأصول أو غيرها من الأحكام.

توضيح ذلك من عرف الله ربه بحقيقة إيمانه وعرف توحيده سبحانه ونعوته وكمالاته ومعاني أسمائه فيجب عليه بضرورة من عقله وعلمه الايمان والتصديق بما عرف وعلم وكذلك باب المستقلات العقلية في الأحكام وباب مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب ومساويها على عرضها العريض فان كل ذلك معلوم بضرورة العقول وقد تمت الحجة الإلهية فيها على ذوي العقول فلا محصل للاتباع والائتمام في تلك الأمور فيبقى مورد الإمامة والائتمام في الأحكام المولوية الموروثة عن إبراهيم وعن غيره من الأنبياء الأئمة عليهم‌السلام التي لم تنسخ بعد وما شك من تلك الأحكام أنها منسوخة فالظاهر انها تستصحب كما هو المقرر في محله ولا يخفى أيضا انه لا يصح الاستدلال بقوله تعالى (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً). النحل ١٣٤.

وقوله تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) الآية النساء ونظائرها من الآيات لأنا ذكرنا شرحا شافيا في ما تقدم ان تلك الآيات في سياق الدعوة والإرشاد والتذكر الى الدين الخالص عن الشرك والى وجوب الايمان بالتوحيد وفي سياق الترغيب والتشويق وفي تثبيت من آمن واتبع صراط التوحيد وفي بيان ان على الناس أسوة حسنة لإبراهيم و (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) ولا دلالة في هذه الآيات للاتباع المولوي التشريعي وفي هذه الآيات دلالات وإشارات على ان لإبراهيم مواقف كريمة ومجاهدات كثيرة في القيام بأمر التوحيد. فان قلت فأي مانع من الأخذ بإطلاق هذه الآيات في وجوب الاتباع في غير مورد التوحيد وفي امتثال الأحكام التشريعية أيضا : قلت الأوامر الإرشادية لا إطلاق فيها ولا تقييد وانما يدور مدار الأمر المرشد إليه سعة وضيقا. هذا أولا وثانيا لا يمكن القول بسريان الأمر الإرشادي إلى موارد الأمر المولوي وكذلك بالعكس وسيأتي مزيد توضيح لذلك في طي الأبحاث إن شاء الله ، قال الرازي في تفسير المقام لما وعده تعالى أن يجعله اماما للناس حقق الله تعالى ذلك الوعد فيه الى قيام الساعة فإن أهل الأديان مع شدة اختلافها ونهاية تنافيها يعظمون إبراهيم عليه الصلاة

٦٩

والسلام ويتشرفون بالانتساب اليه اما في النسب أو في الدين والشريعة حتى ان عبدة الأوثان كانوا معظمين لإبراهيم عليه‌السلام.

أقول هذا الوجه في نهاية الوهن والسقوط فإن الآية الكريمة في سياق التقدير لإبراهيم وإعطاء الإمامة إياه عليه‌السلام تشريفا وتكريما في مرحلة الثواب لإتمام الكلمات ولا شاهد في المقام ان ذلك وعد لإبراهيم سيحققه تعالى ويجعله اماما الى قيام الساعة وليس إبراهيم اماما عندهم بالمعنى الذي جعله تعالى اماما وأي مناسبة بين إبراهيم وبين الوثنيين وبين اليهود وبين النصارى القائلين (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) و (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) فإن (أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُ). آل عمران ـ ٤٨ فتحصل في المقام ان مورد الاتباع والائتمام بإبراهيم الإمام هي السنن التي سنها إبراهيم عليه‌السلام وأمر بها ونهى عنها بأمر الله تعالى وباذنه بالإمامة التي أعطاها وكذلك في ما يفعل ويحكم ويأتي ويترك في الشؤون الاجتماعية القبض والبسط في ما يهتم من أمور العباد والطريق في إثبات ذلك السنن والأحكام هي الأدلة الشرعية أي القرآن الكريم والروايات المعتبرة المأثورة عن النبي (ص) وعن آله الأئمة الطاهرين.

قوله تعالى (إِماماً) بيان قوله تعالى (إِماماً) مفعول ثان لقوله تعالى (جاعِلُكَ) والظاهر انه مصدر من أم يؤم بمعنى المأموم مثل الإله بمعنى المألوه فيه قال في رياض السالكين ص ٤٧٦ والامام بمعنى المأموم كما نص عليه الجوهري انتهى.

وقال الرازي في تفسيره ج ٤ ص ٣٩ اسم من يؤتم به كالإزار اسم لما يؤتزر اي يأتمون بك في دينك انتهى.

أقول الظاهر ما ذكرناه انه مصدر قد روعي فيه معنى الاشتقاقي والوصفي وفي تاج العروس ج ٨ ص ١٩٢ قال الى ان قال أمهم وأم بهم تقدمهم والامام والأمم بالكسر كل ما ائتم به من رئيس وغيره كانوا على صراط مستقيم وكانوا صالحين.

وفيه أيضا قال قال الجوهري الإمام الذي يقتدي به انتهى.

قال في القاموس ج ٣ ص ٧٨ الامام ما يؤتم به من رئيس وغيره انتهى.

أقول قد ذكرنا ان الامام مصدر من أم يؤم ويؤيده ما أوردناه من كلام الجوهري وما أوردناه من تاج العروس انه مأخوذ من أم يؤم واما ما ذكره الرازي انه مثل الإزار اسم لما يؤتزر فبعيد جدا لما فيه من عدم العناية إلى المعنى الوصفي.

وكيف كان فالأمر المجعول بقوله تعالى (جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) اي نجعله مؤتما به ومقتدى به في جميع ما أمر به ونهى وفي كل ما يفعل ويترك من الشؤون الدينية ولا يجوز تفسير ذلك بالرسالة كما فسره بذلك عبده ولا بالنبوة كما فعله الرازي فلا مناسبة ولا مساس بين مفهوم الإمامة ومصداقها وبين مفهوم النبوة

٧٠

والرسالة ومصداقهما توضيح ذلك ان النبي والرسول صفتان مشبهتان أخذتا من الفعل اللازم فالرسول رسالة من رسل يرسل باعتبار كونه حاملا للرسالة التي تلقاها من رسل السماء والنبي من أخذ النبإ من الله سبحانه من غير واسطة وصار حاملا إياه من دون عناية أخذه من سفير أو رسول اليه وكلاهما يقعان مفعولا لبعث وأرسل قال تعالى (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) البقرة / ٢١٣ قال تعالى (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً) الجمعة ٢٠ قال تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) ـ الصف ٩ والتوبة ٣٢.

ومما ذكرنا يعلم ان تفسير الرسول بمن أرسل إليه الوحي وأمر بالبلاغ والنبي من أوحى إليه سواء أمر بالبلاغ أو لم يؤمر في نهاية الوهن والسقوط ضرورة أن البلاغ وعدمه خارجان عن مفهوم اللفظين وأجنبي عنهما لما عرفت أنهما مأخوذان من الفعل اللازم فلا محصل ان يقع الرسول والنبي بعد الأمر بالبلاغ مفعولا لبعث وأرسل وليت شعري كيف يصح تفسير الامام بالرسول والنبي مع تباينهما مفهوما ومصداقا وتباين كلا اللفظين مع الامام مفهوما ومصداقا فالإمامة أمر تشريعي مولوي على ما سيأتي بيانه إن شاء الله والرسالة والنبوة أمر عيني خارجي لأنهما عبارة عن العلم المفاض من الله سبحانه على إنسان مع الواسطة أو بدونها فان قلت أن الامام في اللغة من يؤتم به ويقتدى به وهو ينطبق على من يقتدى به في الدين ولا ريب ان الأنبياء والرسل يجب الاقتداء بهم فأي مانع ان يقال ان الامام المذكور في الآية هو الرسول والنبي الذي يجب الاقتداء بهم.

قلت : قد توهم الرازي ذلك في تفسيره واقام وجوها ضعيفة في إثباته وقد أعرضنا عن إيرادها وهذا القول واضح الفساد ضرورة ان وجوب اتباع الرسول والنبي في ما يتلقاه عن الله سبحانه من مصاديق الامتثال لأمره تعالى وبديهي أن امتثال أمره تعالى واجب باستقلال وضرورة من العقل وجوبا ذاتيا لا يناله يد الجعل المولوي فلا يعقل ان يكون مجعولا بالتشريع ووجوب الائتمام بالرسول والنبي وجوب طريقي إلى امتثال امره تعالى وواجب بعين وجوب امتثال أمر الله فلا يصح ان يقال ان وجوب الاتباع في ما يتلقاه عن الله في المعارف والعقائد والأحكام مجعول بالجعل المولوي فلا يجوز أن يقال أن الامام المجعول في الآية أي الجعل الرسول والنبي باعتبار وجوب طاعته تشريعا ولا يجوز الالتزام بترادف الامام مع الرسول والنبي باعتبار وجوب طاعتهما بوجوب طاعته تعالى.

فالذي ينبغي ان يقال ان الامام من يجب طاعته والاقتداء به في الدين بالوجوب الموضوعي لا بالوجوب الطريقي فإن الوجوب الطريقي هو عين وجوب طاعته تعالى

٧١

وقد ذكرنا انه لا يحتاج الى جعل جاعل بخلاف الوجوب الموضوعي فلا يتحقق ولا يوجد بوجه الا بجعله تعالى وحده لا شريك له فان الله سبحانه كما ان له ولاية التكوين والإيجاد كذلك له سبحانه ولاية التصرف في كل ما سواه بكل أنحائه ومنها ولاية التشريع والتقنين والأمر والنهي والقبض والبسط لان كل ما سواه مملوك له تعالى وولاية التشريع حق طلق له سبحانه وله الطاعة المفترضة بالذات على جميع من سواه ولا طاعة لأحد على أحد بوجه من الوجوه لان كلهم مملوكون له تعالى في عرض سواء ولا يجوز تصرف أحد في شأن أحد لعدم أولوية أحد على أحد فمن وثب على رقاب الناس وملك أمورهم وحكم فيهم بما شاء وأراد فإنما يتصرف في سلطان الرب تعالى ولا يسوغ ذلك برضاء الناس ولا يصححه بوجه أبدا لأن الحق له تعالى فلا بد في ذلك من اذنه تعالى وأمره فمن افترض الله طاعته على الناس فقد جعله تعالى اماما عليهم يجب طاعته واتباع سنته وسيرته في ما سن وأمر ونهى وحكم وشرع بأمر الله وأذنه فيجب اتباع الرسول الإمام في ما سن من السنن الحكيمة بأمر الله واذنه بالوجوب الموضوعي كما انه يجب اتباعه في ما بين عن الله من الأمر والنهي بالوجوب الطريقي فعلى عهدة المفسر تفكيك كل واحد من العنوانين وتخليصه عن الآخر في كل ما يرد عليه من الآيات والروايات المسوقة في هذا الشأن الخطير وسنفصل القول في ذلك إن شاء الله تعالى في الآيات النازلة في إمامة سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي إمامة آله الأئمة الطاهرين.

فقد تحصل من جميع ما قدمنا من البيان ان إبراهيم عليه‌السلام بعد ما تشرف بشرف النبوة والرسالة وبعد ما ابتلاه تعالى بالكلمات وإتمامها ووفائه بتلك المواثيق والعهود أكرمه تعالى بكرامة عظمى وجعله اماما للناس أي مؤتما به ومقتدى به فصارت تصرفاته وأوامره ونواهيه والسنن الحكمية التي سنها بإذن الله سبحانه شريعة إلهية يجب اتباعه والاقتداء به وستعرف إن شاء الله مما نتلو عليك من الآيات ان سير تلك المنازل وطي تلك المراحل لا بد ان يكون مقرونا بعصمة إلهية وان يكون هذا النبي والرسول والامام مؤيدا بروح القدس الذي لا ينزل ولا يخطى ولا يلهو ولا يسهو ولا يغفل ولا ينسى فعلى هذا تكون الإمامة المجعولة في الآية عطائه تعالى وتمليكه حق الأمر والنهي والقبض والبسط فحينئذ يكون وجوب أتباعه وافتراض طاعته من باب وجوب طاعة من له الأمر والنهي من الله سبحانه أو يقال ان المجعول افتراض طاعته على كل من كان اماما لهم وسيجيء الكلام في ذلك مستوفى إن شاء الله.

وفي معنى الامام وتفسيره أقوال أخرى منها ما قدمناه ان الامام في الآية هو النبي أو الرسول وذكرنا بطلان القولين ومنها ما ذكره بعضهم في قوله تعالى (إِماماً)

٧٢

اي مرجعا ومقصدا أو زعيما ، منها ما ذكره بعضهم ان معناه ما أريد منه التقدم والخلافة والمطاعية والوصاية والرئاسة في أمور الدين والدنيا ومصدرية الحكم في الاجتماع.

أقول ليس الكلام في صحة استعمال لفظ الإمام في الموارد المذكورة وفي إمام الجمعة والجماعة وأئمة الكفر وأئمة الضلال والأئمة التي تدعون الى النار وغيرها من الموارد.

فلا يغرنك ما ترى من التوسعة في موارد استعمال لفظ الامام فلا يجوز مداخلة شيء منها في تفسير الآية الكريمة فإن المدار في تفسيرها هي الشروط المأخوذة في تعيين المراد فيها فان صريح الآية انها مجعولة بجعله تعالى جعلا مولويا وظاهرها وظاهر غيرها من الآيات ان محل الإمامة المذكورة ومقرها هو الإنسان النبي والرسول بل الخليل أيضا على ما سيأتي من البيان.

وذكر بعض المفسرين ما خلاصته ان الامام المذكور في هذه الآية ونظائرها من هو الواسطة في الهداية بمعنى الاتصال الى المطلوب اي من هو هاد بتصرفه التكويني في نفوس الناس بالهداية إلى كمال ونقلها من كمال الى كمال آخر.

واستند في ذلك الى قوله تعالى (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) الآية الأنبياء ٧٣ والى قوله (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) الآية السجدة ٢٤.

ووجه الاستدلال ان قوله تعالى (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) يجري مجرى التفسير والتعريف لقوله (أَئِمَّةً) المجعولة في الآيتين وقوله تعالى (بِأَمْرِنا) ليس المراد من الأمر هو الأمر التشريعي الاعتباري بل المراد ما يفسره قوله تعالى (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يسن ٨٢.

وهو الأمر التكويني فلا محالة يكون المراد من الامام المجعول في الآيتين من كان هاديا بالتكوين اي بتصرفه في نفوس الناس بالهداية إلى كمال ونقلها وسيرها من كمال الى كمال آخر تهتدي إليه المؤمنون بأعمالهم ويتلبسون بها رحمة من ربهم ولا بد ان يكون متلبسا بهذه الهداية وواجدا إياها هذا أولا ، وثانيا لا ريب بحسب ظواهر الآيات الكريمة ان إبراهيم (ع) قد كان متشرفا ونائلا بمقام النبوة والرسالة قبل نيله بمقام الإمامة فلا محالة كان واجدا لمقام الهداية بمعنى اراءة الطريق ولا ينفك

٧٣

وظيفة النبوة والرسالة عن الهداية بمعنى اراءة الطريق فلا يبقى مورد لهداية الإمام بما هو إمام إلا الهداية التكوينية أقول لا استبعاد ان إبراهيم وغيره من الأنبياء الأئمة والصديقين صلوات الله عليهم أن يكونوا واجدين لمقام الهداية التكوينية لو دل عليه دليل بحسب الكتاب والسنة الا أن هاتين الآيتين لا دلالة فيهما على ذلك ولا شاهد في المقام ان قوله تعالى (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) جاري مجرى التفسير والتعريف للإمام المجعول فيهما بل الظاهر ان قوله تعالى (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) الآية مسوقة في الآيتين في للإمام فيهما بل الظاهر ان قوله تعالى (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) الآية مسوقة في الآيتين في سياق المدح والثناء على هؤلاء الأئمة الكرام انهم سامعون ومطيعون لأمره تعالى (لا يَسْبِقُونَهُ) تعالى (بِالْقَوْلِ) والفعل (وَهُمْ بِأَمْرِهِ) تعالى (يَعْمَلُونَ) ما يفعلون وكذلك لا دليل ان المراد في قوله تعالى (بِأَمْرِنا) هو الأمر التكويني والاستشهاد في ذلك بقوله تعالى (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يس ـ ٨٢. في نهاية الضعف فان قوله تعالى (إِنَّما أَمْرُهُ) الآية مسوقة في سياق إبطال استبعاد المنكرين للبعث وفي سياق نفوذ قدرته تعالى وإرادته في كل ما سواه من غير فرق بين الإيجاد والإعادة والأحياء بعد الموت وليت شعري كيف يصح الاستدلال بقوله (إِنَّما أَمْرُهُ) إلخ أن كل ما ورد من لفظ الأمر المنسوب اليه تعالى في القرآن الكريم أريد منه الأمر التكويني وأن قوله تعالى (إِنَّما أَمْرُهُ) إلخ تفسير إياه وبديهي عند أهل العلم والإنصاف انه ليس في الآيتين شهادة ولا دلالة إلا المشاركة في لفظ الأمر فعلى عهدة المفسر تفسير كل آية وآية فيها لفظ الأمر واستظهار المعنى في كل مقام بالقرائن والشواهد المعتبرة في التفسير ولا يصح في ذلك التشبث بلفظ الأمر المشترك بين الأمر التكويني وبين الأمر التشريعي.

وثانيا لو قلنا : ان المراد في قوله (يَهْدُونَ) الهداية التكوينية وان إبراهيم وغيره من الأنبياء الأئمة واجدون لمقام الهداية بالتكوين فتأثيرهم في نفوس الناس بالهداية فلا بد من الالتزام انهم مختارون مستطيعون في أمر الهداية بتأثيرهم فلا بد ان يكون ذلك بإذن الله وبأمره سبحانه فلا يكون الأمر إلا أمرا تشريعيا فلا دلالة فيها أن الأمر أمر تكويني فلا يتم هذا القول إلا بالعلية والمعلولية في إيجاد جميع الأعيان والحوادث الجارية في العالم من كل فاعل وأي عامل فعليه يكون صدور الأفعال منه تعالى على نحو الإيجاب عليه تعالى وإلغاء مالكيته تعالى في مرتبة ذاته على الفعل وضده ونقيضه وكذلك يكون صدور الأفعال من وسائط فعله وفيضه على الخير وسلب الاستطاعة والاختيار ويكون نسبة الوسائط إليه تعالى نسبة القلم الى الكاتب الموجب بالفتح فلا سبيل الى الالتزام بذلك لقيام البراهين القاطعة في العلوم الإلهية على إبطال هذه الفرضية الوهمية وضرورة الأديان على خلافه وليس من التفسير بل هذا تأويل وتحميل وتطبيق.

٧٤

في الكافي ج ١ ص ١٦ كتاب الحجة بإسناده عن طلحة بن زيد عن ابي عبد الله (ع) قال الأئمة في كتاب الله إمامان قال الله تبارك (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) لا بأمر الناس يقدمون أمر الله قبل أمرهم وحكم الله قبل حكمهم قال تعالى (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) يقدمون أمرهم قبل أمر الله ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عزوجل.

في البحار ج ٢٤ ص ١٥٦ عن البصائر مسندا عن طلحة بن زيد وأيضا عبد الجبار بغير هذا الاسناد يرفعه إلى طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (ع) قال قرأت في كتاب الله الأئمة في كتاب الله إمامان امام هدى وامام ضلال اما أئمة الهدى فيقدمون أمر الله واما أئمة الضلال يقدمون أمرهم وحكمهم قبل حكم الله اتباعا لاهوائهم خلافا لما في كتاب الله.

الرابع : ان سنته تعالى الحميدة في اصطفائه عبدا من عباده بمقام السفارة ليست على سبيل المجازفة فمن المستحيل أن يصطفي بكرامة النبوة والرسالة رجلا جافيا ينام رزلا جلفا وأصبح قد صار نبيا ورسولا ذا مكانة عنده تعالى وذا كرامة عليه سبحانه بل المعلوم من سنته الحكيمة في من أراد اصطفائه بفضيلة النبوة والرسالة إن يراعيه بعين رعايته وعنايته ويسلكه في مسالك العبودية شيئا فشيئا فلا يزال يؤيده ويسدده ويؤدبه أدب الكرام الأبرار ويربيه تربية الأحرار الأخيار حتى يستكمل ويثبت قدمه في صراط العبودية ويطمئن قلبه ويشرح صدره حتى يصير أهلا بأن يرتبط بعالم الغيب وبعالم الآخرة ويعرف ما هنالك ويستأهل لتلقي العلوم والأحكام وحملها وبلاغها فاذا شرفه الله تعالى بموهبة النبوة فلا محالة يتعبده بأنواع من التعبد ويختبره بأنحاء من الشدائد حتى صار ذو قوة بحمل أثقالها وحمل العلوم والمعارف المناسبة لذلك الموقف الخطير والعمل بوظائفها والصبر على مشاقها.

وكذلك بعد نيله بمقام الرسالة فيقوم بوظائفها ويبذل الجد الأكيد في العمل بما يتوجب عليه من التكاليف والوفاء الصادق في ما يستقبله من العهود والمواثيق وإتمام ما يبتلي به من الكلمات فقد حان الحين ان تشمله العناية الإلهية الأخرى ان يكرمه بموهبة عظيمة ويتفضل عليه بمثوبة كريمة وتشرفه بقوله (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) يرفع به ذكره ذكرا باقيا وثناء خالدا فإنه سبحانه وفي شكور لا يضيع لديه أجر المحسنين ولا يجعل المتقين كالفجار.

وفي الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام تذكرة إرشاد الى هذه

٧٥

السنة الإلهية والى هذه الحقيقة القرآنية ففي الكافي ص ١٥٤ مسندا عن مولانا الرضا صلوات الله عليه قال الى ان قال «الإمامة» خص الله بها إبراهيم بعد النبوة والخلة مرتبة ثالثة شرفه بها وأشاد بها ذكره فقال (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) فقال الخليل سرورا بها ومن ذريتي قال الله (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم الى يوم القيامة فصارت في الصفوة ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة فقال (وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ») فلم يزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا ورثها الله تعالى النبي فقال جل وتعالى (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُ). (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) فكانت خاصة فقلدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليا (ع) بأمر الله على رسم ما فرض الله فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والايمان ، الحديث.

أقول صرح عليه‌السلام ان إبراهيم عليه‌السلام شرفه الله تعالى بالإمامة بعد الخلة والنبوة مرتبة ثالثة وأشاد بها ذكره وقوله (ع) وورثها الله تعالى النبي وقلدها رسول الله (ص) عليا سيأتي الكلام فيه إنشاء من الفرق بين امامة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وامامة أوصيائه الأصفياء.

في الكافي ج ١ ص ١٣٥ مسندا عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال سمعته يقول ان الله اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا واتخذه نبيا قبل ان يتخذه رسولا واتخذه رسولا قبل ان يتخذه خليلا واتخذه خليلا قبل ان يتخذه اماما فلما جمع له الأشياء قبض يده قال الله يا إبراهيم (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) فمن عظمها في عين إبراهيم قال (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

وفيه أيضا ج ١ ص ١٢٣ عن هشام بن سالم ودرست ابن أبي منصور قال قال أبو عبد الله (ع) الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات الى أن قال الذي يرى في النوم ويسمع الصوت ويعاين الملك مثل أولي العزم وقد كان إبراهيم نبيا ليس بإمام حتى قال الله (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) من عبد صنما أو وثنا لا يكون إماما.

أقول مورد التقسيم في الرواية الشريفة الأنبياء والمرسلون والظاهرة بقرينة عطف المرسلين على الأنبياء ان المراد هم المرسلون لا الأنبياء المرسلون ويشهد على

٧٦

ذلك قوله مثل اولي العزم فان من اولي العزم من كان رسولا أيضا فلا دلالة في الآية الكريمة ان إبراهيم عليه‌السلام كان نبيا واماما وليس برسول.

وفيه أيضا ص ١٣٣ مسندا عن زيد الشحام قال سمعت ابي عبد الله عليه‌السلام يقول ان الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبدا قبل ان يتخذه نبيا وان الله اتخذه نبيا قبل ان يتخذه رسولا وان الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا وان الله اتخذه خليلا قبل ان يتخذه اماما فلما جمع له الأشياء (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) قال فمن عظمها في عين إبراهيم (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال لا يكون السفيه امام التقي.

ويظفر الباحث الخبير على أزيد مما ذكرناه من الروايات وهي كما ترى موافقة لما تفيده الآية الكريمة بالتفصيل الذي ذكرناه.

قوله تعالى (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) الآية اي واجعل بعض ذريتي اماما بناء على ان من تفيد التبعيض ويمكن أن يقال ان من بمعنى في أي واجعل في ذريتي اماما وعند التحليل يكون المعنى واجعل الإمامة في ذريتي وعلى كلا الوجهين تفيد الآية الكريمة أن الإمامة لا تحصل لأحد إلا يجعله تعالى كما أسلفنا الكلام في ذلك في قوله تعالى (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) وهذا الدعاء منه عليه‌السلام موافق لما هو المعلوم والمشهود من سنته تعالى أن يجعل في كل قوم شهيدا عليهم من أنفسهم وان يبعث في كل قوم نذيرا وهاديا ولم يعرف من سنته تعالى ان يجعل القوم كلهم أنبياء وأئمة يستغني بعضهم عن بعض في ما يحتاجون اليه من أمر دينهم ودنياهم.

في البرهان ج ١ ص ١٥٠ سعد بن عبد الله مسندا عن عبد الحميد بن القصي قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام أينكرون الامام المفروض الطاعة ويجحدونه والله ما في الأرض منزلة أعظم عند الله من منزلة مفروض الطاعة لقد كان إبراهيم دهرا ينزل عليه الوحي حتى بدا لله أن يكرمه ويعظمه قال الله عزوجل (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) فعرف عليه‌السلام ما فيها من الفضل فقال ومن ذريتي اي وأجعل ذلك في ذريتي قال الله عزوجل (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال أبو عبد الله عليه‌السلام هو في ذريتي لا يكون في غيرهم.

أقول قوله عليه‌السلام قال (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي واجعل ذلك في ذريتي إلخ يظهر منه انه فسر من بمعنى في لا ان ذلك كانت قراءته وقد ذكرنا انه بحسب التحليل ان معنى قوله تعالى (مِنْ ذُرِّيَّتِي) اي وأجعله في ذريتي وسيأتي بقية البيان في هذا البحث في معنى الإمامة عن قريب إن شاء الله. فدعى عليه‌السلام ان يجعل الإمامة

٧٧

في ذريته الطاهرة وان لا يخرج الإمامة من بيته الى غيره فأكرمه الله سبحانه بإجابة دعوته وقضاء حاجته فقرر الإمامة في ذريته وفي بيته الرفيع يرثها بعضهم عن بعض قرنا فقرنا حتى ورثها الله أشرف ذريته خاتم النبيين وامام الأئمة الموحدين فقلدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليا وذريته المصطفين يرثها كابر عن كابر وصالح بعد صالح حتى أورثها الله تعالى خاتم الأئمة ومنقذ الأمة وغاية النور.

وقد حكى تعالى عنه عليه‌السلام في القرآن الكريم الدعاء لذريته في مواقف شتى قال تعالى (وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) الى قوله (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ). (وَيُزَكِّيهِمْ) الآية البقرة ـ ١٢٩ قال تعالى (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) إبراهيم ـ ٣٥ قال تعالى (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) الآية إبراهيم ـ ٣٧ قال تعالى («رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) الآية إبراهيم ـ ٤٠ قال في المجمع ج ١ ص ٢٠١ وقيل انما ذلك على جهة التعرف» ليعلم هل يكون في عقبة أئمة يقتدى بهم انتهى.

وفي تفسير الرازي ج ٤ ص ٤٠ قال بعضهم انه تعالى أعلمه في ان ذريته أنبياء فأراد أن يعلم هل يكون ذلك في كلهم أو في بعضهم وهل يصلح جميعهم لذلك الأمر فأعلمه الله تعالى أن فيهم من لا يصلح لذلك انتهى.

أقول لا يخفى أن هذين القولين اقتراح محض وقول بلا دليل والحق المبين ما ذكرناه انه لما رأى من فضل ربه تعالى عليه سربه فسأل ربه بقلب مطمئن واثق ان يجعل ذلك في ذريته أيضا كما ذكرنا في ما تقدم والظاهر أن موقف هذه المسألة قد كان أواخر عمرة فإن الظاهر من الآيات الكريمة أنه عليه‌السلام جاءه البشرى بالولد بعد ما هاجر من وطنه وبعد ما جرى بينه وبين نمرود الجبار ويظهر من بعض الروايات ان هاجر أم إسماعيل كانت قبطيّة ووهبها الملك القبطي لسارة زوجة إبراهيم فابتاعها إبراهيم من سارة فولدت له إسماعيل عليه‌السلام.

قال تعالى حكاية عن إبراهيم (قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) ـ (قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) الآية الصافات ـ ١٠٢.

قال تعالى (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً) ـ الى قوله تعالى ـ (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ ـ قالَتْ

٧٨

يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ ـ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) الآية هود ـ ٧٤.

قال تعالى (قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) الحجر ـ ٥٦ وفي مروج الذهب للمسعودي ج ١ ص ٤٥ وولد لإبراهيم إسماعيل عليهما‌السلام وذلك بعد ان مضى من عمره ست وثمانون سنة أو سبع وثمانون سنة وقيل تسعون سنة من هاجر وجارية كانت لسارة.

وفيه أيضا ص ٤٦ ولد لإبراهيم من سارة إسحاق عليه‌السلام وذلك بعد مضي عشرين ومائة سنة من عمره انتهى.

أقول المستفاد من هذه الآيات المباركات أن إبراهيم عليه‌السلام قد جاءته البشرى بالولد بعد ما مسه الكبر وصار شيخا وما وهب الله له ولدا الا بعد كبره لقوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) الآية إبراهيم (٣٩) وصريح قوله تعالى (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) الآية إبراهيم (٣٧). ان دعائه هذا كان حال كبره لذريته الموجودة.

أما دعائه لذريته في الآية المبحوثة عنها فلا ريب بحسب صريح الآية انه قد كان بعد نيله بمنصب الإمامة وأما تعيين موقف الإمامة فقد ذكرنا في ما تقدم بالبيان المستوفى ان نيل الإمامة قد كان بعد إتمام الكلمات التي ابتلى بها في ظرف نبوته ورسالته ويؤيد ذلك الظهور بالروايات المتقدمة المصرحة أن إمامته (ع) قد كانت بعد طي مراتب النبوة والرسالة والخلة فالآية الكريمة قابلة الانطباق مع الآيات الدالة على أن دعائه لذريته في كبره وأواخر عمرة هذا بحسب ظواهر الأدلة اما بحسب الاعتبار فبعيد غايته أن يقف مثل إبراهيم هذا الموقف الخطير ويدعو لذريته التي لما يخلق بعد.

ولا يخفى عند أولي الألباب أن دعاء إبراهيم عليه‌السلام لنفسه ولذريته في هذه الآية ونظائرها من الآيات وكذلك دعوات غيره من الأنبياء والرسل الكرام أدل دليل على أهمية الدعاء وموقعيته العظيمة في دعوة القرآن الكريم وبلاغة المبين.

قوله تعالى (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (بيان).

٧٩

الظاهر في لفظ العهد في الآية الكريمة بل هي كالصريحة ان المراد به هي الإمامة التي سألها إبراهيم عليه‌السلام ان يجعلها تعالى لذريته كما جعلها لنفسه في قوله تعالى (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) ولفظ العهد وان كثرت موارد استعماله لعنايات مختلفة الا ان الغالب فيه أن العهد مما يجب الوفاء به ويحرم نقضه ونكثه قال تعالى (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) الآية البقرة ـ ٤٠. وفي تفسير هذه الآية روايات شاهدة لما ذكرنا قال تعالى (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) الاسراء (٣٤) سواء ان المراد من الإمامة التي جعلها الله تعالى لإبراهيم وذريته ليست هي النبوة كان واجبا بذاته ومن المستقلات العقلية مثل وجوب الايمان بالله وبتوحيده سبحانه ووجوب طاعته وكذلك في طرف الحرام مثل الكفر بالله والشرك به تعالى ومخالفته في أوامره ونواهيه أو كان واجبا وحراما مولويا فعلى هذا لا بد أن يكون المراد من العهد الإمامة التي جعلها تعالى لإبراهيم ولذريته يجب على الناس التسليم والطاعة لحكمه تعالى سواء كان أمرا وضعيا أو أمرا تكليفيا فالأول مثل إعطاء حق الأمر والنهي. والثاني مثل افتراض الطاعة والظاهر هو الأول وهذه قرينة أخرى وتأييد آخر لما ذكرناه ان المراد من الإمامة التي جعلها الله تعالى لإبراهيم وذريته ليست هي النبوة والرسالة بل لا بد ان يكون امرا مجعولا لا بجعله.

هذا كله ونظائرها من جملة عهود الخلق بالنسبة إليه تعالى وأما عهوده ومواثيقه تعالى بالنسبة الى عباده وخلقه فهي شرائعه الحكيمة وكتبه القيمة فالقرآن الكريم مثلا عهد الله الى خلقه وفيه ترسيم لحدود العبودية وشئونها وهو حبل ممدود من الله بينه وبين خلقه.

ومن هذا الباب عزائمه وفرائضه العقلية والشرعية ومن هذا القبيل كراماته ومواهبه لأوليائه فالولاية مثلا عهد من الله الى أحد من أحبائه فيقوم الولي بوظائف ما عهد تعالى اليه من الولاية فيتحفظ عليها وأما بالنسبة إلى خلقه وجوب التسليم والطاعة لهم عهد من الله الى خلقه ومن هذا الباب كرامته تعالى الى عباده المؤمنين الموحدين جزاء وثوابا على حسناتهم طبق ما واعدهم عليه تفضلا وإكراما إياهم عهد من الله إليهم قال تعالى (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) البقرة ٤٠.

فعلى عهدة المفسر التحفظ الكامل بين العهد المنسوب اليه تعالى في القرآن الكريم مثل قوله عهدي أو عهدنا بصيغة الفعل الماضي أو أعهد بالمضارع ونظائرها وبين العهد المنسوب المضاف الى الخلق.

إذا تقرر ذلك فنقول ان الإمامة عهد من الله تعالى إلى خاصة أوليائه وكان ذلك لمصالح في شأن هذا الولي الإمام فإنه تعالى (أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) وإمامته

٨٠