بدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام

محمد باقر الملكي

بدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

محمد باقر الملكي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٣

من الآية هو المعنى الثالث والآية الكريمة وما في سياقها من الآيات والروايات إمضاء لهذه الفطرة وإرشاد إليها وتذكر بها وتحديد لحدودها فعن المستدرك من الجعفريات بسنده الشريف عن علي أمير المؤمنين (ع) قال قال رسول الله (ص) الماء يطهر ولا يطهر وبهذا السند عنه أيضا قال : الماء يطهر ولا يطهر ورواه في البحار عن المحاسن عن أبي عبد الله عن أمير المؤمنين (ع) ورواه أيضا عن الراوندي عن موسى بن جعفر عن آبائه عن النبي (ص).

وقد استشكل على هذا الاستدلال بوجوه منها ان الآية تدل على مطهرية الماء النازل من السماء فقط والدليل أخص من المدعى وفيه ان خصوصية المورد لا ينافي الإطلاق بل يجب الأخذ به سيما بمعونة ما ذكرناه ان المقام مقام التذكر والإرشاد لا مقام التشريع والتأسيس وأجيب أيضا ان المياه كلها نازلة من السماء فسلكها الله تعالى (يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) وفيه ان هذه المسألة مسألة علمية طبيعية وإثبات أن مواد المياه الموجودة في العالم أو نفس المياه كلها نازلة من السماء استنادا بالآيات الكريمة موكول الى محل آخر والجواب الفقهي ما ذكرناه.

والاشكال الثاني ان ماء نكرة في سياق الإثبات فلا عموم فيها ولا إطلاق والجواب ان الظاهر من الماء بمعنى الجنس لا النكرة ومورد الإمضاء هي طبيعة الماء وماهيته لا الفرد المبهم لا بعينه وأجاب في الحدائق بأن النكرة في سياق الإثبات وأن لم يكن مفيدا للعموم الا انه سيق الكلام في مقام الامتنان والتفضل للعموم في جميع الحوائج الضرورية سيما بملاحظة ما ورد من التهديد في قوله تعالى (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) وهذه النكرة مثل ما ذكروه في قوله تعالى (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) وهذا الجواب لا بأس به والأظهر ما ذكرناه.

والاشكال الثالث ان طهورا كيف يكون بمعنى المطهر والحال ان طهر فعل لازم غير متعد والجواب ان استعمال طهور بمعنى ما يتطهر به سماعي قد تواتر في استعمال العرب واجمع علماء اللغة بالتنصيص به ويستدل أيضا على ما استظهرناه من العموم في قوله تعالى (ماءً) بقوله تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ). (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) ، الآية فعلق جواز التيمم على عدم وجدان الماء و (ماء) في هذه الآية نكرة في سياق النفي فلا يجوز التيمم لو وجد نوع من أنواع المياه كما هو نص الكتاب والسنة القطعية وإجماع علماء الإسلام فلا يصغي الى ما نقل عن عبد الله بن عمر وابن عاص من جواز التيمم مع وجود ماء البحر وما عن سعيد بن مسيب عن عدم جواز الوضوء مع وجود ماء آخر ولا دليل على مطهرية مائع آخر غير الماء كالنبيذ عند أبي حنيفة.

٤١

الآية السابعة

قال تعالى (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) أنفال ١١.

المشهور عند المفسرين ان الآية نزلت في غزوة بدر وقد نزل المشركون على الماء ونزل المسلمون على كثيب تسيخ فيه أقدامهم وهم كانوا على خوف واضطراب حين رأوا كثرة المشركين وعدتهم (بكسر العين) وعدتهم (بضم العين) مع قلة عدتهم وضعف عدتهم وكان لهم فرسان وسبعون جملا يتعاقبون عليها ـ القصة ـ فسلط الله عليهم النعاس وانزل الله الأمن والطمأنينة على قلوبهم واحتلم أكثرهم في تلك الليلة فأنزل الله عليهم من السماء ماء فسالت الوادي وجعل المسلمون الحياض والغدر ان فشربوا واغتسلوا من الجنابة فاطهروا من القذارات وتلبدت الأرض ونبتت عليها أقدامهم.

قوله تعالى (ماءً) الكلام فيه بعينه الكلام في الآية السابقة قوله تعالى (لِيُطَهِّرَكُمْ) الظاهر في الآية بحسب الإطلاق هي الطهارة من الأحداث والأقذار ، والفرق بين هذه الآية وسابقتها أن السابقة ظاهرة في الطاهرية والمطهرية وهذه نص فيهما.

قوله تعالى (رِجْزَ الشَّيْطانِ) الرجز بالضم والكسر القذارة كما في قوله تعالى (الرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (المدثر ـ ٥) والشرك والعذاب وعبادة الأوثان والظاهر ان جميع هذه المعاني من مصاديق الرجز وافراده ولا مانع من تعميم الرجز الى جميعها الا ان المورد يتأبى بحسب الظاهر عن صدق الآية وتعميمها الى غير الأحداث والأقذار التي يتطهر منها بالماء.

هذا ان قلنا انه عطف تفسير وتوضيح لقوله تعالى (لِيُطَهِّرَكُمْ) ، وحينئذ يكون المراد من رجز الشيطان الحدث بالجنابة والقذارات الحاصلة بالاحتلام فعليه يترتب ويتفرع قوله تعالى (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) بقوله تعالى (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) وهذا هو الظاهر من الآية وقيل المراد من رجز الشيطان العذاب والوسوسة التي يلقيها إليهم ويوجب لهم الحزن والخوف على ما هو المشهور في شأن النزول من تمثل الشيطان لهم فعلى هذا يكون عطفا على قوله تعالى (أَمَنَةً) ومترتبا ومتفرعا على قوله تعالى (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ).

قوله تعالى (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) ربط القلوب إنزال الأمن في قلوبهم وتشجيعها وسكونها بما وعد الله تعالى على رسوله وأوليائه المجاهدين كي يثبتوا في مواقع الطعن والضرب ويصبروا صبر الكرام الأحرار في إعزاز اسم الله الكريم وإعلاء كلمته سبحانه.

قوله تعالى (يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) والظاهر ان الضمير راجع الى الربط اي ربط القلوب ويثبت به أقدام المجاهدين بطمأنينة قلوبهم الزكية وعزيمة نفوسهم الطاهرة

٤٢

وقيل ان المراد من تثبيت الاقدام ان الوادي كان رملا يسيخ فيه أقدامهم فتبلل الوادي بنزول المطر وتثبت فيه أقدامهم وهذا الوجه انما يمكن بناء على ان قوله تعالى (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) مترتب ومتفرع على قوله (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) واما بناء على ما ذكرنا انه متفرع على قوله (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً) فيكون (يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) عطفا عليه فيكون ظاهر في الصبر والثبات القلبي.

الآية الثامنة

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة ٢٢٢) قيل في وجه السؤال ان سنة اليهود في أمر النساء والاجتناب عنهن في زمن الحيض كانت في طرف الإفراط وقد سرت هذه العادة إلى الأعراب الوثنيين المخالطين مع اليهود وكانوا يفارقونهن في المسكن والمطعم والمشرب وأمثالها وكانت النصارى على طرف التفريط والتساهل ولا يبالون بشيء أمرهن فالمحيض مصدر من حاض يحيض فقد وقع السؤال عن نفس الحيض بلحاظ نفس الحيض لا باعتبار أحكامه وقوله (أَذىً) جواب عن هذا السؤال فالمشهور في تفسير الأذى انه القذر والنجس وقوله يشكل حملة على الحيض بمعناه المصدري قال في آلاء الرحمن ص ١٩٨ ولا بد في قوله بل هو أذى نحو من الاستخدام فان الحيض بمعناه المصدري ليس قذرا يجتنبه الرجال وانما القذر والذي هو الدم ويحسن هذا بشدة الملابسة والاستغناء به عن التصريح باسم دم الحيض المتعذر انتهى.

وقيل ان أذى بمعنى الضرر والحق ان أذى ليس بمعنى قذر ولا بمعنى الضرر والمواد المستعملة فيها أذى تشهد على خلافه قال (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) و (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) وغيرهما من الآيات وقال في القاموس في تفسير أذى هي المكروه وفي أقرب الموارد أذى يأذي وآذاه وصل اليه المكروه وما ذكروه في معناه أنه القذر والمتقذر أو الضرر من مصاديق المعنى الذي ذكرناه ينطبق عليه أحيانا لا مطلقا.

فالمتحصل من موارد الاستعمال ومن تصريح أهل اللغة انه المكروه المنافر للطبع الغير الملائم به وكيف كان فهو جواب عن السؤال وهو نفس الحيض وفيه تعرض لما كان دائرا ورائجا في الوقت من الغلو والإفراط والخرافات في أمر النساء والحيض وشدة الاجتناب عنهن وأجاب وأجمل في الجواب بالأخذ بالوسط الحق بين الغالين المفرطين وبين المتساهلين الذين لا يبالون بشيء من أمرهن ثم أخذ في بيان الحكم وبيان الوظيفة العادلة في الاجتناب عنهن وعبر عن هذا الاجتناب كناية بالاعتزال والنهي وعدم القرب منهن وهو الاختلاط الجنسي على ما سيجيء بيانه فان المعلوم من سنة القرآن المبين الصفح عن التعريض بما يستقبح ذكره ومن العجيب ما في

٤٣

المنار ملخصا أن أذى بمعنى الضرر وعلة للحكم قدم على الحكم تسهيلا لقبول المتساهلين.

وفيه أولا ان الأذى ليس بمعنى الضرر كي يكون علة للحكم ولو كان بمعنى الضرر فهو جواب عن السؤال مستقيما لا انه علة للجواب قدم على الجواب كي يتسارعوا الى قبوله ثم ان العلل المذكورة للاحكام في بعض الموارد في الكتاب والسنة لبست علة للحكم يدور مدارها وانما هو لبيان شيء من مصالحها وحكمها وقد ذكر في الآثار المروية عن النبي والأئمة (ع) من مفاسد الوقاع في زمن الحيض فلا يكون الأذى علة منحصرة للحكم فلا يمكن ان يقال ان الضرر على فرض تسليمه علة للحكم فلا وجه للالتزام بهذا الوجه الردي كي ينحل نظام الآية ويختل ارتباط جملاته.

قوله تعالى (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) الاعتزال هو التنحي والتباعد والمحيض كما ذكرنا في صدر البيان مصدر من حاض يحيض بمعنى سال يسيل مثل مجيء ومبيت والجار والمجرور بتقدير المضاف متعلق باعتزلوا واسم زمان متعلق به أيضا أي فاعتزلوا النساء في حال الحيض أو في زمان الحيض وعن الفخر الرازي وظاهر بعض المفسرين ان المحيض اسم مكان وهو موضع الدم وهو مفعول لاعتزلوا فيكون الآية نصا في تحريم موضع الدم من دون احتياج الى تقييد الاعتزال المطلق وتخصيصه بالأدلة المنفصلة بتحريم موضع الدم وقواه بعض الأجلة بأن المحيض لا يخلو اما ان أن يكون مصدرا إذا اسم زمان أو اسم مكان فعلى الأول يحتاج إلى إضمار المضاف والأصل عدم الإضمار وعلى تقديره فاضمار المكان أولى فإن إضمار الزمان التزام بوجوب الاجتناب المطلق عن النسوان بالكلية في مدة الحيض وهو خلاف الإجماع وهذا من العجائب فان في المحيض ظرف للاعتزال على جميع التقادير وليس مفعولا به وما ذكره في ترجيح كونه اسما للمكان قد خلط فيه بين المفعول به والمفعول فيه فلا يرجع ما ذكره هؤلاء الأفاضل إلى معنى محصل.

نعم ذكر بعضهم ان العناية بإعادة اسم الظاهر دون الإشارة بالضمير ان المحيض المذكور في صدر الآية والمذكور في المقام اسم زمان فالإتيان بالضمير لا يكون وافيا لإفادة المراد.

فتحصل ان تقييد وجوب الاعتزال بموضع الدم لا بد ان يلتمس عن الأدلة المنفصلة أو من قرائن أخرى وقد كثر القيل في هذا الباب من أرادها فليراجع الى المطولات.

والظاهر ان الآية الكريمة بعد التأمل فيها صدرا وذيلا تدل على ان المراد هو الاعتزال الخاص وهو الوقاع عن موضع الدم لا مطلق الاعتزال حيث قال تعالى (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) فالأمر بالإتيان ليس للوجوب بل مفاده رفع

٤٤

الحظر والإرسال والإطلاق في إتيانهن مثل قوله تعالى (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) فلسان التحليل ورفع الحظر صريح ان الممنوع في زمن الحيض هو الإتيان فقط لا مطلق الاعتزال.

فتحصل في المقام ان قوله تعالى (فِي الْمَحِيضِ) اما مصدر بتقدير المطاف أو اسم زمان فالآية الكريمة لا تدل على أزيد من تحريم موضع الدم واما كراهة سائر الاستمتاعات منهن أو تحريمها فخارج عن مفاد الآية فلا بد ان يطلب من أدلة أخرى.

قوله تعالى (وَلا تَقْرَبُوهُنَ) عطف تفسير وتوضيح لقوله تعالى (فَاعْتَزِلُوا) وقد عبر تعالى عن ترك الوقاع بالاعتزال وعدم القرب منهن مراعاة للأدب البالغ في القرآن الكريم.

فالصفح عما يستقبح ذكره من سنة الكرام الأبرار المتأدبين بأدب الله سبحانه.

قوله تعالى (حَتَّى يَطْهُرْنَ) قيد وغاية لوجوب الاعتزال وحرمة القرب منهن وظاهره الإطلاق وعدم توقف المسيس منهن بأمر آخر والمراد من الطهارة هو النقاء من الدم وانقطاعه فالطهارة مصدر طهر وضده القذارة وكلتاهما فعل لازم غير متعد.

قوله تعالى (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَ) الآية فلما كان مفاد الجملة الاولى هو الإطلاق وجواز المس بهن من دون توقف بأمر آخر فلا محالة يقع المنافاة بينه وبين الجملة الشرطية التالية وحيث ان الشرط والقيد متصل فلا مانع من تقييد إطلاق مفهوم الغاية بمفهوم الشرط الا ان ذلك متوقف على القول بحجية مفهوم الشرط ومتوقف أيضا على أن لا يكون أحد المفهومين أقوى ظهورا من الآخر فمفهوم الغاية كالنص في انتهاء الحكم المعني عند وجود الغاية ومفهوم الشرط مردد بين كون الطهارة قيدا استحبابيا أو قيدا وجوبيا كي يحرم الإتيان بهن قبل هذا الشرط فعليه يكون مفهوم الغاية قرينة وشرحا لمفهوم الشرط فيكون الطهارة في المقام قيدا وشرطا استحبابيا فلا مانع من جواز المسيس قبل الطهارة وتوقفه على الطهارة استحبابا فيسقط ما ذكره الفخر الرازي وغيره من توقف الجواز على تحقق كلتا الجملتين من دون تعرض لدفع التنافي بينهما.

ثم ان الطهارة أمر ذو درجات فالتطهير المذكور شامل بإطلاقه جميع مراتبها شمولا بدليا لا شمولا عموميا فيكفي في شمول الطهارة وصدقها غسل الموضع وجواز المسيس بعده ودعوى انصراف الطهارة إلى الطهارة الكاملة والاغتسال مدفوع بأن هذا الانصراف انصراف بدوي يرتفع بعد التأمل.

هذا كله بناء على قراءة التخفيف واما بناء على قراءة التقليل فقال الفخر الرازي ان القراءة المتواترة حجة بالإجماع فإذا حصلت قراءتان متواترتان وأمكن الجمع بينهما وجب الجمع بينهما انتهى. يريد الاستدلال عن طرف الشافعي ان قراءة التشديد يوجب الجمع بين النقاء والاغتسال لتعارضها بقراءة التخفيف فالترجيح لجانب قراءة التشديد.

٤٥

أقول معنى ما ذكره من ترجيح قراءة التشديد بالجمع بين القراءتين ليس استظهارا من الآية ومرجع ما ذكره هو إجمال الآية والرجوع الى الأصل العملي وهو الاحتياط والحق ان ما ذكره من تواتر القراءتين ليس بشيء وانما هذا شيء نهجوا به في كلماتهم ومقالاتهم ولا سبيل لنا الى هذه القراءات الا آحاد غير واجدين للشرائط المعتبرة في حجية الخبر الواحد المقررة في الأصول. قال في آلاء الرحمن (ص ٢٩) الى ان قال ما هي إلا روايات آحاد عن آحاد لا توجب اطمئنانا ولا وثوقا فضلا عن وهنا بالتعارض ومخالفتها للرسم المتداول المتواتر بين عامة المسلمين في السنين المتطاولة وان كلا من القراء لم تثبت عدالته ولا ثقته انتهى ما أردناه.

ويؤيد قراءة التخفيف أيضا ما رواه في نور الثقلين عن الخصال عن موسى بن جعفر عن أبيه (ع) انه قال سئل أبي عما حرم الله من الفروج في القرآن وعما حرم رسول الله في سنته فقال الذي حرم الله من ذلك أربعة وثلاثين وجها سبعة عشر في القرآن وسبعة عشر في السنة فأما الذي في القران فالزنا الى قوله والحائض حتى تطهر لقوله تعالى (حَتَّى يَطْهُرْنَ).

فهذه الرواية الشريفة كما أنها تؤيد قراءة التخفيف تصرح أيضا بأن الغاية للتحريم هو النقاء ومما يؤيد قراءة التخفيف ما رواه في تفسير العياشي عن عيسى بن عبد الله قال قال أبو عبد الله (ع) المرأة الحيض يحرم على زوجها ان يأتيها في فرجها لقول الله تعالى (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) الحديث.

والقول الجامع في الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت سلام الله عليهم ان طائفة منها ناصة وصريحة فيما يستفاد من الآية الكريمة من جواز المسيس على استحباب الاجتناب حتى يغتسلن وطائفة منها مانعة عن المسيس وفيها قرائن الكراهة وهي قابلة للجمع مع الروايات الدالة على الجواز وطائفة منها صريحة في المنع قبل الاغتسال الا انها لموافقتها لمذهب علماء العامة المعاصرين لهم فلا يمكن الوثوق بها.

فتحصل في المقام ان مفاد الآية الكريمة عند التأمل والتحليل عين مفاد الروايات الشريفة جواز الإتيان بعد النقاء واستحباب الصبر على التطهير والاغتسال.

قوله تعالى (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) ـ الأمر بالإتيان للترخيص ورفع الحظر وهو مفيد الإباحة بالمعنى الأخص ولا وجه لما يقال انه يفيد الإباحة بالمعنى المطلق الشامل للوجوب والاستحباب والكراهة والإباحة كما لو صادف حين فراغها ممن

٤٦

الاغتسال لآخر أيام الظهار والإيلاء ونحو ذلك.

فان هذه العروض انما هي بالعناوين الثانوية والآية مسوقة بالعنوان الاولي وبالطبيعة المستمرة وثانيا بناء على ما ذكرنا من ان الطهارة قيد استحبابي لجواز الإتيان فلو صادف عنوان الوجوب بوقت النقاء فليس الاغتسال حينئذ قيدا استحبابيا لجواز المسيس.

قوله تعالى (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) ، اختلفوا في هذا الأمر وما المراد منه على أقوال الأول الذي أمر الله تعالى بالاعتزال والاجتناب منها والثاني من قبل النكاح لا الفجور والثالث ان يكون من جهة الحرام مثل ان لا تكن صائمات محرمات معتكفات وقيل المراد الأمر التكويني اي الاهتداء طبعا وتكوينا مع أعداد التجهيزات اللازمة للتوالد وللتناسل لحفظ النوع وبقاء النسل وكلها مخدوش.

بل الظاهر ان المراد هي سنة التشريع وشريعة النكاح المرغوب فيه والمندوب إليه لإقامة سنة التكوين على ما سنة تعالى وقرره طبق الأسباب والمسببات ان خلق بينهما من العواطف الشريفة قال تعالى ومن آياته (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم ٢١). وما جعل فيهما من الميولات الغريزية للاختلاط الجنسي وما هيأه الله واعده من تجهيز وسائل اللقاح من اختلاط الزوجين ما يدهش منها العقول فسبحانه من خالق ما أحكمه فهذه السنة المقدسة الإلهية مجاري قضائه تعالى في أمر الخليقة وبقاء هذا النوع وادامة هذا النسل وقد أمر سبحانه عباده في سنة التشريع لإقامة هذه السنة وإيجاد الأسباب الموكولة اليه ومنها الإتيان عن المحل المعتاد.

قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) الآية ـ لما كان حبه تعالى بعباده وبيان حقيقة الحب فيه سبحانه من أغمض المسائل الكلامية يحتاج الى بسط وتوضيح في المقال يخرجنا عن البحث التفسيري وقد أعرضنا عن إيراده في المقام اما التوبة فيقع الكلام في وجوبها وبيان حقيقتها وفضيلتها ـ اما الكلام في الأول فقد تكاثرت الأدلة في الكتاب والسنة في الأمر به والحث عليه وقد توهم بعض على ما نقله الشيخ العلامة الأنصاري قدس‌سره عدم وجوب التوبة في الصغائر استنادا بأن اجتناب الكبائر وإتيان الطاعات والصالحات مكفرة للصغائر فلا يحتاج في تكفير الصغائر إلى التوبة ولعل القائل يستند في هذه الدعوى الى قوله تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (النساء ٣١) والى قوله تعالى (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) (هود ١١٤).

وفيه أولا ان ظاهر الآية الأولى بقرينة ذيلها ان هذا التفكير في يوم الحساب وعند دخول الجنة وظاهر الآية الثانية كما صرح به الشيخ (قده) أعم من

٤٧

الكبائر والصغائر كما هو ظاهر غير واحد من الآيات الدالة على التكفير وأورد عليه أيضا بأن إتيان الطاعات واجتناب الكبائر لو قلنا انها مكفرة للصغائر لكن التوبة أسبق من الكل لأنه يتحقق في الزمان المتصل بالمعصية لا يمكن فيه تحقق غيره غالبا.

والتحقيق في الجواب عن هذه المغالطة أن مرتبة تكفير المعاصي بالطاعات أو باجتناب الكبائر ليست في مرتبة وجوب التوبة فإن الكلام في وجوب التوبة من حيث الحكم التكليفي واما ما يفعل الله بعباده بفضله وكرمه فأجنبي عن محل الكلام فوعده تعالى وعد الصدق الذي وعده لأهل طاعته أن يغفر لهم ما سلف من الله والصغائر ليس ترخيصا في المعصية والإهمال في التوبة والرجوع اليه تعالى والاعتذار اليه سبحانه من التجري به وعن هتك حريمه وهذا الوجه بمكان من السقوط فوجوب التوبة من المستقلات العقلية وجميع ما ورد في الكتاب والسنة من الأمر به والحث عليه إرشاد به وتذكر اليه وتقريب ذلك ان الأحكام من الواجبات والمحرمات سواء كانت من المستقلات العقلية أو من التعبديات الشرعية المولوية لا بد من امتثالها والخروج عن عهدتها بالضرورة والإهمال في ذلك غير مسقط لوجوب الامتثال وهذا الوجوب باق بحاله كما كان وكذلك التصميم على المخالفة والعصيان في المستقبل فالتوبة واجبة بعين وجوب الامتثال بالبداهة العقلية فهي تجديد ايمان والتزام وأحكام عهد وتثبيت ميثاق كما صرح بذلك سيد العابدين صلوات الله عليه في دعائه في طلب التوبة قال ولك يا رب شرطي ان لا أعود في مكروهك وضماني الا أرجع في مذمومك وعهدي أن اهجر جميع معاصيك. الدعاء (٣١).

فتبين ان التكفير تكفير السيئات بالحسنات وتكفير الصغائر باجتناب الكبائر ليس في مرتبة التوبة ولا في عرضها فلا يمكن أن يكونا من إفراد الواجب التخييري ولا متزاحمين مع التوبة وليست أدلتهما معارضة بأدلة وجوب التوبة فحيث ان الوجوب وجوب إرشادي قال الشيخ (قده) فلا يترتب عقاب على تركها غير العقاب الذي يتوجه على أصل المعصية وقال ان مرادنا بالأمر الإرشادي ليس الا ما يترتب عليه أثر إلا ما يترتب على أصل العمل فالأوامر الإرشادية يدور مدار المرشد اليه كالتعلم الواجب للاحكام وأمثاله. أقول هذا الوجه غير مرض عندنا فإن التوبة لا يقاس بالتعلم وأمثاله فالتوبة في عين انها جبران لما خالف أمر ربه تعالى التزام بالطاعة وهذا الالتزام واجب وتركه تفريط في جنب المولى جل مجده وثانيا قد ذكرنا ان التوبة مصداق للامتثال الواجب وتغايرهما بحسب المفهوم والاعتبار لا بحسب المصداق فالكلام في وجوب التوبة بعينه في وجوب الامتثال واما حقيقة التوبة قيل هو الندم على ما فات وظاهر بعض الكلمات اشتراط الاستغفار فيه ، أقول الظاهر انه

٤٨

لا ينفك غالبا عن التشوق إلى المغفرة والاستحياء من الله سبحانه واما اشتراط الاستغفار الإنشائي باللسان فلم اتحصل دليل على وجوبه واما بناء على ما ذكرنا فهو الندم والقيام بما يحققه من الأعمال لا الندم فقط مثلا الحابس حقوق الناس لا بد له من الندم والتخلص من مظالم العباد وهكذا غيره من الأعمال. ثم لا يخفى ان التوبة تختلف مراتبه بحسب اختلاف مراتب التأبين فلا محالة تختلف مراتب التوبة وتنقسم إلى الأكمل والكامل وعلى ذلك يحمل اختلاف الروايات الواردة في بيان حقيقة التوبة.

(واما فضيلة التوبة)

قال تعالى الله (يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ). (شورى ١٣) فكفى بها فضلا وشرفا انها من أعظم الفرائض وأجل العبادات والله سبحانه يهدي الى جنابة من ينيب اليه فإنابة العبد الى الله ووقوفه موقف التسليم بين يدي ربه وقوف المستسلم الذليل ، وقوف من لا رب له الا الله وحده ويسأله ويتضرع إليه إيفاء لوظيفة العبودية ورفع الغفلات عنه ونزول السكينة الإلهية عليه عين الهداية الربانية قد دخل حريم الانس وجلس بساط القرب وقد قبض الله قلبه اليه وأطلق لسانه بالتمجيد له حتى اقبل بكله وكنه همته الى الله مناجيا باكيا قلقا وقد اقبل الله تعالى إليه إقبال الشفيق ونصت اليه إنصات الصديق ويجيبه إجابات الأحباء ويناجيه مناجاة الأصدقاء.

قوله تعالى (التَّوَّابِينَ) ـ إثبات الحب للتوابين لا ينافي حبه للتائبين ولعل العناية فيه عدم بأسه من الله سبحانه فاذا زلت قدمه بعد التوبة الاولى يرجع الى ربه ثانيا مرة بعد اخرى فاليأس بعد تكرر التوبة وتكرر نقضها حرام بين ومن تسويلات الشيطان وتكرر الرجوع الى جنابه وثوق بسعة كرمه وفوز حسان فلا يضيق فضله عن مغفرة المذنبين.

ويحتمل ان يكون التواب مبالغة من حيث الكيفية أي من يكون قويا في التوبة شديد التمسك كما ذكره السيد السند (قده) في شرح الصحيفة المباركة وفي التعبير بأن المؤكدة وتصدير الجملة بها في قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) اشعار بكمال العناية للتوابين ولتثبيت محبته تعالى لهم. وفي شرح الصحيفة في قوله (ع) انك قلت في محكم كتابك انك تقبل التوبة عن عبادك وتعفو عن السيئات وتحب التوابين فأوجب لي محبتك كما شرطت. الدعاء.

٤٩

قال السيد فان قلت لم قال في هذه الفقرة وأوجب لي محبتك ولم يقل أحبني كما قال واقبل توبتي واعف عن سيئاتي ومن أين فهم إيجاب شرطه تعالى محبة التوابين حتى عبر بذلك قلت فهم الإيجاب عن تأكيد النسبة وتحقيق الحكم بأن المؤكدة في قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) وكان التأكيد مؤذنا بتحقق مضمونها وموجبا للجزم بحصوله وانه واجب ثابت لا محالة انتهى ما أردناه.

وقد مضى تفسير قوله تعالى (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) في تفسير قوله (فِيهِ رِجالٌ) (توبة ١٠٨).

الآية التاسعة

قال تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة ٢٨).

قوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) ، الحصر في طرف المحمول اي حصر صفات المشركين بكونهم نجسا لا حصر الموضوع كما في بعض الكلمات بأن لا يكون غير المشركين نجس والحصر إضافي بالنسبة إلى الطهارة.

والمراد من المشركين الوثنيون من قريش وعبدة الأصنام فلا تشمل اليهود ولا النصارى ولا غيرهما من الفرق التي ألحدوا في ذاته تعالى وفي توحيده ومعاني أسمائه جل مجده وثناؤه لا من حيث عدم صحة إطلاق المشرك على غير الوثني بل من حيث ان إطلاق الشرك على الفرق باعتبارات مختلفة وبعنايات ممتازة يشكل معها الأخذ بعموم المشرك وإطلاقه يجد هذه العنايات الباحث المتأمل في آيات القرآن قال تعالى (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ).

صرح تعالى في حال ايمانهم على تحقق الشرك بلحاظ انهم يعصون ربهم ويطيعون الشيطان قال تعالى (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (توبة ٣١).

فهؤلاء الأحبار غيروا أحكام الله وحرفوها فاليهود مع علمهم انه ليس لغير الله سبحانه حق التشريع والتحليل والتحريم قبلوا منهم وأطاعوهم فيما ادعوا وشرعوا ، فاتخذوا بذلك هؤلاء الخائنين أربابا من دون الله ، فسماهم سبحانه بذلك مشركين. والنصارى وان أطلق عليهم المشرك كما في هذه الآية الا انه قد قوبل في كثير من الموارد بالمشركين وعبر عنهم وعن اليهود بأهل الكتاب قال

٥٠

تعالى (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ). الآية (البينة ١) ولذا اعترف الأعاظم من الفقهاء بعدم صحة الاستدلال بهذه الآية على نجاسة أهل الكتاب.

قوله تعالى (نَجَسٌ) بفتح العين أقول المعروف عن فقهاء العامة ومفسريهم عدم القول بنجاسة المشركين أيضا ونسب المحقق الأردبيلي القول بالنجاسة إلى الفخر الرازي واستشكلوا في دلالة الآية على النجاسة وقالوا ان نجسا مصدر فلا يمكن حمله على الأعيان فلا بد من تأويله بتقدير مضاف اي ذو نجس يعني ان المشركين حيث انهم لم يجتنبوا من النجاسات ولم يغتسلوا من الجنابة فهم ذو قذارة ونجاسة وزاد البيضاوي ان ما كان الغالب فيه النجاسة تحكم بنجاسته قياسا على مورد هذه الآية.

فالمتحصل من كلماتهم ان المراد في الآية نجاستهم بالعرض لا بأعيانهم كما هو المدعي وأجيب عن هذا التأويل بأن كونهم ذا نجاسة غالبا لا يستلزم نجاستهم ولا دليل عليه فضلا عن قياس غير مورد الآية عليه بل مقتضى الإطلاق الحكم بنجاسة أعيانهم والا فلا مسوغ لحمل نجس على الأعيان على الإطلاق بظهور الإطلاق في النجاسة الدائمة لا الغالبية.

واستشكل أيضا بأن نجاسة أعيان المشركين انما هي نجاسة جعلية تعبدية لا نجاسة تكوينية خارجية فعلية يتوقف صحة إطلاق لفظ نجس على ثبوت الحقيقة الشرعية في زمان نزول الآية وهذا أمر عجيب فأي تلازم بين صحة إطلاق نجس على المشركين وبين ثبوت الحقيقة الشرعية فإن استعمال هذا اللفظ في القذارات العرفية التكوينية والقذارات الجعلية التعبدية على نحو واحد وملاك واحد غاية الأمر ان المصداق التعبدي صارت بمنزلة التكويني فتكثير المصداق لمفهوم اللفظ واستعمال اللفظ فيه ليس الا كاستعماله في التكويني وهو غير الحقيقة الشرعية فإن الحقيقة الشرعية اخلاء اللفظ عن معناه الأول ووصفه ثانيا في مقابل المعنى المستحدث الشرعي فالقول بتوقف استعمال لفظ نجس في النجاسة التعبدية على ثبوت الحقيقة الشرعية ساقط جدا.

والحق في المقام عدم صحة هذا التأويل لعدم الدليل عليه ولا مسوغ لإخراج القرآن عن ظاهره ولا يجوز تأويله إلا بدليل قطعي وما ذكروه من استحالة حمل المصدر على الأعيان فيندفع انه من باب زيد عدل وان حمل نجس على المشركين من باب المبالغة وهو مجاز شائع لا بد من التزامه فلا يصل النوبة إلى تأويل الآية وإضمار المضاف فعليه تكون الآية ظاهرة في نجاسة المشركين بأعيانهم فإن قلت ان

٥١

إطلاق لفظ النجس على المشركين في زمان نزول الآية ليس إلا كإطلاق لفظ الرجس على الميسر والأنصاب والأزلام فيكون المراد القذارة المعنوية كما ادعاه بعض الأجلة قلت ان بين الإطلاقين فرقا بينا فإن إطلاقها في الميسر وأمثاله مضافا الى عدم صلاحية المورد للنجاسة الشرعية التعبدية تصريح بأن الميسر وعبادة الأوثان من عمل الشيطان يجب الاجتناب عنه فيكون كالنص في النجاسة المعنوية وفي بيان ان القذر هو عمل المكلف لا جسمه بخلاف المقام فليس إطلاقه واستعمال اللفظ فيه الا كاستعماله في الكلب والخنزير فهذا الاستعمال كما صرح بعض الأعاظم أصرح بيان في إفادة النجاسة ولو جاز التشكيك في المقام لجاز التشكيك في نجاسة الكلب والخنزير على انا قد ذكرنا في طي الأبحاث انه يجب الأخذ في أمثال المقام بإطلاق اللفظ وإسراء الحكم إلى القذارة المعنوية والجسمية ما لم تقم قرينة على إرادة واحدة منها بخصوصها. والموارد التي ورد بها النص من باب المثال والمصداق والاكتفاء بالموارد التي صرح بها في لسان الروايات هو الأحوط والاولى.

قد تقدم أن مورد إطلاق لفظ الطهارة والنجاسة في الحسية وتعميم استعمالها في المعنوية من باب التذكر بالمصداق لا من باب التأويل والاكتفاء فهما بالموارد المنصوصة لأجل التذكر والإرشاد هو الاولى.

هذا كله بناء على ان لفظ نجس مصدر يشكل حمله على الأعيان اما بناء على كونه صفة مشبهة لوحظ فيه معنى الوصفية فيكون بمعنى القذر بكسر العين اي ضد الطاهر كما صرح به في القاموس والمحكي عن الجوهري والأزهري وغيرهم من اساتيد اللغة فلا إشكال حينئذ في حمله على المشركين والأخذ بظاهر الآية والحكم بنجاسة المشركين بأعيانهم قال في الكشاف وعن ابن عباس رضي الله عنه أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير وعن الحسن من صافح مشركا توضأ وأهل المذاهب على خلاف هذين القولين وقرأ بكسر النون وسكون الجيم على تقدير حذف الموصوف كأنه قيل انما المشركون جنس نجس أو ضرب نجس وأكثر ما جاء تابعا لرجس انتهى.

وغرضه من تقدير الموصوف دفع ما يرد على الاستدلال انه لو كان وصفا لكان حق العبارة ان يقال انما المشركون نجسون أو أنجاس قال الشيخ (قده) واما بناء على كونه صفة مرادفة للنجس بالكسر الى ان قال ويكون إفراد الخبر على تأويل انهم نوع أو صنف نجس.

قال والتأمل في ثبوت الحقيقة الشرعية في غير محله اما بما ذكرناه في أول باب النجاسات ان النجاسة الشرعية هي القذارة الموجودة في الأشياء في نظر الشارع ولم ينقل عن معناه اللغوي انتهى.

٥٢

فتلخص من جميع ما ذكرناه ان ظاهر الآية الشريفة نجاسة المشركين سواء كان لفظ نجس مصدرا أو صفة وسواء كان بوزن فعل «بفتحتين» أو فعل «بكسر وسكون» كما هو المتسالم عليه عند معظم الفقهاء واما إسراء الحكم الى غير المشركين من أصناف الكفار فخارج عن مفاد الآية الكريمة فليلتمس من أدلة أخرى.

(قوله تعالى (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) الآية الفاء للتفريع الا انه ليس فيه دلالة على ما استظهرناه من نجاسة المشركين فان التفريع يصح على جميع الوجوه سواء قلنا بالنجاسة الشرعية أو بالكشف عن النجاسة الواقعية كما ذكره الشيخ (قده) أو قلنا بالنجاسة المعنوية اي خبث بواطنهم وسرائرهم بالكفر.

والنهي عن قرب المسجد نهي عن دخوله بطريق المبالغة والتأكيد كما في قوله (لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) و (لا تَقْرَبُوا الزِّنى) وهذا النهي ليس نهيا تكليفيا كما ذهب بعض المفسرين وانما هو حكم وضعي مثل قوله (ع) لا يرث الكافر المسلم وأمثاله فلا يصح الاستدلال به على تحريم دخول الكافرين في مسجد الحرام بل يمنعون منه ويطردون عنه والمخاطب بإجراء هذا الحكم هم المؤمنون المخاطبون في صدر الآية ولا يصح أيضا الاستدلال به على ان الكفار مكلفون بالفروع كما انهم مكلفون بالأصول بل الأمر بالعكس ومنعوا عن حضور الموسم قوله تعالى (الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) قيل ان المراد ان المشركين منعوا عن الحج والعمرة وحضور الموسم وهو المحكي عن أبي حنيفة وقيل المراد منعهم وعزلهم عن ولاية الحج وامارة الحاج ونظارتهم في شئونهم كما كان قبل الحين.

وقيل ان المراد المنع عن دخول الحرم والحرم كله مسجد بالنسبة الى هذا الحكم. أقول الآية الكريمة لا تدل على تحريم شيء مما ذكروه وانما تدل على المنع من دخول المسجد الحرام واما ما سوى ذلك فقد علم بعض منها من السنة.

قال المسعودي في مروج الذهب ص ٢٩٧ وفي سنة تسع حج أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالناس وقرأ عليهم علي ابن أبي طالب سورة براءة وأمر أن لا يحج مشرك ولا يطوف بالبيت عريان انتهى. وفي المجلد السادس من البحار ص ٦٣٦ وروى عاصم بن حميد عن أبي بصير عن أبي جعفر (ع) قال خطب على الناس واخترط سيفه فقال لا يطوفن بالبيت عريان ولا يحجن البيت مشرك ومن كان له مدة فهو الى مدته ومن لم تكن له مدة فمدته أربعة أشهر وكان خطب يوم النحر انتهى وفيه أيضا وذكر أبو عبد الله الجاحظ بإسناده عن زيد بن بقيع قال سألنا عليا بأي

٥٣

شيء بعثت في ذي الحجة قال بعثت بأربعة لا يدخل الكعبة إلا نفس مؤمنة ولا يطوف بالبيت عريان ولا يجتمع مؤمن وكافر في المسجد الحرام بعد عامه هذا ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فبعهده الى مدته ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر انتهى ما أردناه.

فالمدار هو دلالة اللفظ لا إمكان انطباق القضايا الواردة في المورد على الآية وما ذكروه ليس الا من هذا الباب لا من باب دلالة اللفظ عليه.

قوله تعالى (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) هي السنة التاسعة من الهجرة وفي الثامنة كان فتح مكة وكسر الأصنام.

(فروع)

الأول : قيل يستفاد من الآية منع دخولهم المسجد اي مسجد كان لان وجه المنع هو نجاستهم وهو بعيد لأن الآية تدل على منع دخول المشركين المسجد الحرام ولم يعلم بعد ان تمام الملاك نجاستهم ولم يعلم أيضا انها بالنسبة الى كل مسجد والذي أوقعهم في ذلك انهم استفادوا الحكم من أدلة أخرى من عدم جواز تمكين المشركين من دخول مساجد المسلمين فمع قطع النظر عنها فلا يمكن الاستدلال بالآية كما لا يخفى.

الثاني : استدلوا بالآية الكريمة على تحريم إدخال النجاسات في المسجد الحرام وفي المساجد كلها فان الملاك هو منعهم عن دخول المسجد الحرام لكون أعيانهم نجسة فيحرم إدخال كل نجس في المسجد الحرام والمساجد كلها وفيه ما عرفت ان التفريع في قوله تعالى (فَلا يَقْرَبُوا) ملائم مع جميع الأقوال قال قتادة في قوله تعالى (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) لأنهم جنب وقال قوم لأنهم أخباث أرجاس وقال قوم انهم أعيان نجسة.

واما بناء على ما ذكرنا من اختيار نجاسة أعيانهم فلا يمكن التجاوز عن المسجد الحرام الى غيره من المساجد ولا عن المشركين الى غيرهم.

الثالث : استدلوا بالآية على منع دخول المشركين وأهل الكتاب بالمسجد الحرام

٥٤

والمساجد كلها من أجل شمول المشركين الكتابي وفيه ان الآية لا دلالة فيها على أزيد من منع المشركين عن المسجد الحرام ولا دلالة فيها على منع الكتابي من المسجد الحرام ولا منع المشركين والكتابي عن المساجد ومستندهم في هذا الباب اما الإجماع واخبار لا تخلو من قصور في الدلالة أو ضعف في السند. في البحار ج (١٨) طبعة كمباني ص ١٢٧ عن نوادر الراوندي عن موسى بن جعفر عن آبائه قال رسول الله (ص) ليمنعن أحدكم مساجدكم يهودكم ونصاراكم وصبيانكم أو ليمسحن الله تعالى قردة وخنازير ركعا سجدا.

ولا دلالة فيه أزيد من الكراهة بقرينة ذيل الحديث من ذكر الصبيان وقد دخل وفد نجران على رسول الله (ص) وهو مسجده وصلوا فيه على ما حكي في التواريخ والتفاسير ونقل في التواريخ عن طرق العامة أيضا ان أبا سفيان دخل مسجد الرسول لتجديد عقد العهد فالنظر إلى دلالة الآية واما ما سواها فلا بحث لنا في دلالته وعدمها.

الآية العاشرة

قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (٩١).

ذكر بعض الباحثين ان الخمر في اللغة هو الخمر المتخذ من العنب وغيره من المسكرات ملحقة من حيث الحكم وبلحاظ الملاك ولحقها اسم الخمر بلحاظ غايته واشتراكها معه في الفساد.

وقال قوم ان المراد من الخمر هو مطلق المسكر المائع سواء اتخذ من العنب أو غيره من الثمار والحبوب ولكل من الطرفين أدلة ووجوه تمسكوا بها في إثبات مدعاهم والظاهر ان هذا النزاع قليل الجدوى بعد تسالمهم واعترافهم بأن المسكرات كلها قليلها وكثيرها حرام بالضرورة وليس هذا نزاعا فقهيا بل هو بحث لغوي في تعيين متعلق التحريم ومتعلق التحريم معلوم بالضرورة وهو مطلق المسكر سواء كان إطلاق الخمر عليها على نحو الحقيقة أو على بعضها بالحقيقة وعلى بعضها بالمجاز «ومن القائلين بأن الخمر هو مطلق المسكر الفيروزآبادي في القاموس قال ما ملخصه أن آية التحريم نزلت بالمدينة وليس اليوم خمرهم الا الخمر المتخذ من ـ البسر والتمر فأراقوا آنيتهم سميت بالخمر لأنها تخمر العقل ويستره انتهى». وقد

٥٥

أصر في كتاب إفاضة الغدير في حرمة العصير في تأييد القول الأول من أرادها فليراجعها.

أقول لا وجه لاختصاص مفهوم الخمر بما يتخذ من العنب بل هو شامل لجميع الخمور ما كان دائرا ومعمولا في عصر النزول وما حدث في القرون الأخيرة. نعم يمكن جريان هذا النزاع بالنسبة الى بعض الأنبذة التي لها اسم خاص وعنوان خاص مثل الفقاع وأمثاله فلا بد في إلحاقه بالخمر نوع من الملاك كما ورد انهما خمر استصغرها الناس وقيل أن السكر فيه خفيف.

قوله تعالى (رِجْسٌ) استند القائلون بنجاسة الخمر على ان الرجس في اللغة بمعنى النجس كما في التبيان ومجمع البيان وكنز العرفان قال في التباين وفي الآية دلالة على تحريم هذه الأشياء الأربعة من أربعة أوجه أحدها انه وصفها بأنها رجس والرجس النجس والنجس محرم بلا خلاف وقريب منه عبارة المجمع وزاد في كنز العرفان لترادفهما ولذا يؤكد الرجس بالنجس فيقال رجس نجس. بل يستعمل الرجس على الأغلب في القذارات المعنوية مثل الكفر.

أقول الرجس ليس بمعنى النجس وعن القاموس ان الرجس هو القذر والمأثم وكل ما استقذر عن العمل والعمل المؤدي إلى العذاب والشك والعقاب ورجس كفرح وككرم عمل عملا قبيحا انتهى. وعن أقرب الموارد رجس الشيطان وسوسته فليس الرجس مترادفا مع النجس فالرجس في العقائد والأفعال والنجس في الأجسام والأعيان فالقذارة في الأول غير القذارة في الثاني فقولهم رجس نجس ليس للتأكيد بل للتوصيف من كلتا الجهتين أو العناية والمبالغة في الثاني لكي يؤكد به الأول والاستعمالات الواردة في القرآن الكريم شاهدة على ما ذكرناه من المعنى اللغوي.

قال تعالى (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (أحزاب ٣٣) فقد ورد في بعض الروايات عن الحسن بن علي عليهما‌السلام تفسير الرجس بالشك وقال انا لا نشك في الله الحق أبدا وبديهي ان هذا التفسير من باب التذكر الى المصداق فالآية الكريمة ناصة ان الله سبحانه طهرهم من كل عيب ومأثم وعصيان وكفر ونفاق قال تعالى (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (توبة ١٢٥)

قال تعالى (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (الحج ٢٠) قال تعالى (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (يونس ١٠٠) وقال تعالى (قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) (أعراف ٧١) وأمثالها كثيرة قال في مرآت الأنوار ص ١٦٠ الرجس هو اسم كما قيل لكل ما يستقذر من عمل وجاء بمعنى المآثم أي الأعمال القبيحة والعذاب والكفر ووسوسة الشيطان والشك في الدين انتهى وقال في المجمع

٥٦

في تفسير قوله تعالى (قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ) اي عذاب انتهى فالآية الكريمة بمعزل عن دلالتها على نجاسة الخمر بل هي في مقام تحريم الخمر وما عطف عليه من الميسر والأنصاب والأزلام فأورد الخمر في عداد عبادة الأصنام على ما سيجيء بيانه إن شاء الله ثم أكد ذلك انها من عمل الشيطان ثم ذكرهم بوجوب الاجتناب عنها ثم ذكرهم بأن الشيطان يريد إيقاع العداوة والبغضاء بينكم في الخمر والميسر وأكد الأمر وشدده بقوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) مطلب منهم الامتثال والإطاعة والانتهاء عما نهى الله سبحانه.

فقوله (رِجْسٌ) خبر للخمر ولجميع ما عطف عليه من الميسر وغيره وهذا قرينة أخرى على ان المراد من الرجس هي النجاسة والقذارة العقلية إذ لا معنى للنجاسة الحسية في الميسر والأنصاب والأزلام فإن المراد عمل الميسر فعلى هذا لا بد من تقدير المضاف اي تناول الخمر واللعب بالميسر وعبادة الأصنام أو أكل ما ذبح على الأصنام والاستقسام بالأزلام رجس ومن عمل الشيطان فالرجس نعت لفعل المكلف لأنه صفة ونعت لأعيان اعني الخمر وما عطف عليه بالاجتناب والانتهاء عن ارتكاب المذكورات لا عن مماستها.

قال الشيخ الأعظم الأنصاري (قده) في كتاب الطهارة ص ٣٢٢ ربما يتمسك في نجاسة الخمر بقوله تعالى (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الآية وفي دلالتها نظر حيث ان الظاهر من الخمر في الآية بقرينة عطف الميسر عليها وجعلها من عمل الشيطان هو شربها فيصير الرجس شربها لا عينها فتعين حمل الرجس على الحرام انتهى فان قيل فأي مانع ان يقال ان رجاسة كل شيء بحسبه فالرجس في الخمر هي النجاسة الحسية وفي غيره النجاسة المعنوية قلت قال العلامة المجلسي في البحار كتاب الطهارة ص ٢٢ لا يمكن حمل الرجس على النجس لاستلزامه استعمال الرجس في المعنيين الحقيقيين أو الحقيقي والمجازي ولا يمكن أيضا أن يجعل الرجس جزاء للخمر وتقدير خبر آخر لما عطف عليه فان المقدار لا بد أن يكون من جنس المذكور كي يدل عليه ولو اكتفيت بالمشاركة في اللفظ وقلنا بصحته لكان احتمالا مرجوحا فيسقط الاستدلال به انتهى ملخصا. فان قلت فأي مانع من الإطلاق فالرجس بإطلاقه شامل للحسي والمعنوي قلت هذا الوجه ليس به بأس الا انه متوقف على إحراز كون المتكلم في مقام البيان كي ينعقد الإطلاق كما هو المقرر في محله ففي المقام لما كان الآية في مقام بيان التحريم وليس في مقام بيان النجاسة فبديهي عدم كونه في مقام البيان من هذا الحيث فينتفي الإطلاق بالضرورة.

تفصيل وتوضيح : ما ذكرنا من بحث الإطلاق وعدمه في الرجس بالنسبة إلى نجاسة الخمر انما يجري بناء على كون التحريم تعبدية شرعية واما بناء على كون

٥٧

التحريم إرشادية عقلية ومعللة بفساده وقبحه فلا محصل لتوهم إطلاق الرجس إلى النجاسة فالكلام في الأوامر الإرشادية والحقائق التي يعرفها الناس بإرشاد القرآن والتذكر به يدور مدار الأمر المرشد اليه طبق ما ناله العقول فلا إطلاق فيه ولا تقييد والظاهر ان هذا مما لا خلاف فيه بين أهل العلم والله الهادي.

قوله تعالى (وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ) الميسر فسره في القاموس بمطلق القمار وفسره بالنرد وبالأزلام أيضا وذكر المسعودي في مروج الذهب ج ١ ص ٨٠ مبدأ حدوث النرد والشطرنج وشرح فيه ما يتعلق بهما وانه كان دائرا في الأمم القديمة فقد ذكرنا انه لا بد من تقدير المضاف في جميع المذكورات مثلا يقدر اللعب في الميسر والعبادة في الأنصاب كي يكون مبتدأ ويكون الرجس محمولا وخبرا عنه انما الكلام ان المضاف هل هو جميع ما يتعلق بالمذكورات أو أمر خاص مثل ان يقدر اللعب في الميسر أو المعنى الأعم منه ومن غيره مثل بيعه وشرائه وإجارته وصناعته واتخاذه وأمثال ذلك.

مقتضى الإطلاق هو الثاني ودعوى الانصراف إلى الأمور المختصة بكل واحد من المذكورات غير مسموعة فإنه انصراف بدوي عوامي يزول بالتدبر والتأمل فيحرم شرب الخمر وبيعه وشرائه ـ إلخ ـ ويؤيده الإطلاق ويؤكده «والميسر» يحرم اللعب به وصناعته وبيعه ـ إلخ ـ من الروايات الواردة في تفسير الآية ففي بعضها الميسر ما تقوم به وفي بعضها ما تقوم عليه وهو الثقل والرهن الذي بين المتقامرين واجمع من الجميع ما عن تفسير علي بن إبراهيم عن ابي الجارود عن الباقر (ع) قال في قوله تعالى (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الآية واما الميسر فالنرد والشطرنج وكل قمار ميسر واما الأنصاب فالأوثان التي يعبدونها المشركون واما الأزلام فالأقداح التي كانت يستقسم بها مشركوا العرب في الأمور في الجاهلية كل هذا بيعه وشرائه والانتفاع بشيء من هذا حرام محرم من الله وهو (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ). فقرن الله الخمر والميسر مع الأوثان أقول : فيه تصريح بما ذكرنا من تعميم المضاف وأبو الجارود الراوي وان كان مرميا بالضعف الا ان الشيخ (قده) أورد الحديث في متاجره في المكاسب المحرمة من دون تعرض الى ضعفه وبهذا المضمون رواية مرسلة في نور الثقلين ج ١ ص ٥ حديث ٣٤٣ فتحصل ان الميسر المحرم القرين مع عبادة الأصنام بحسب ظاهر الآية جميع أقسام القمار حتى اللعب بالجوز وجميع التقلبات المتعارفة في تلك الآلات المتخذة للقمار واما الأنصاب فهي الأوثان المتخذة من الأحجار وغيرها التي اتخذوها آلهة تعبد من دون الله ليكون لهم شفعاء عند الله سميت بالانصاب لانتصابه للعبادة أو انتصاب الناس عندها للعبادة أو إتعاب الناس أنفسهم في عبادتها ولا كلام في حرمة العبادة إياها انما الكلام في تحريم جميع ما يتعلق بها كما هو مقتضى الإطلاق ففي بعض

٥٨

الروايات الأنصاب تفسيرها بعبادتها وفي بعضها تحريم ما ذبح عليها ومن الواضح انه لا تنافي ولا تعارض بينهما بل جميع ما ذكر من مصاديق المعنى المحرم ففي البرهان عن الكليني بإسناده عن الباقر (ع) قال لما انزل الله على رسوله (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الآية قيل يا رسول الله ما الميسر؟ قال كلما تقامرت به الى ان قال قيل يا رسول الله وما الأنصاب؟ قال ما ذبحوها لآلهتهم قيل وما الأزلام؟ قال قداحهم التي كانوا يستقسمون بها. وفي بعض التفاسير انهم كانوا يعمدون الى جزور فيذبحونها ويجعلونها عشرة اجزاء وفي بعضها ثمانية وعشرين جزءا ويستقسمونها بالاقداح وكانت الأقداح عشرة ، سبعة لها نصيب وثلاثة لا نصيب لها ولكل واحد منها اسم خاص فيجيلون السهام حتى يخرج جميعها فيغرمون الثمن على التي لا نصيب لها فالأول لها نصيب واحد وللثاني اثنان وللثالث ثلاثة وللرابع أربعة وللخامس خمسة وللسادس ستة وللسابع سبعة فأنزل الله تحريمها في القرآن وهو من القمار الحرام ويحرم أكلها وجميع التصرفات والتقلبات فيها قال تعالى (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ) (المائدة / ٣) فتحصل ان الميسر والأزلام في عداد الخمر وعبادة الأصنام محرم بنص محكم الكتاب فهو من حيث الوضع الاجتماعي وبلحاظ التكسب والارتزاق آكل لأموال الناس بلا عوض عقلاني وبلا عوض مشروع.

الآية الحادية عشرة

قال تعالى (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) ـ ذكر بعض المفسرين ان المراد من الطهارة هي الطهارة الشرعية اي إزالة النجاسة بالماء واستدلوا على ذلك بوجوه :

الأول : ان الأمر حقيقة في الوجوب ولا يجب شيء من الطهارة في اللباس إلا الطهارة لأجل الصلاة فوجوب تطهير الثياب أصدق شاهد وأدل امارة ان المراد هو التطهير من النجاسات.

الثاني : ان قوله تعالى (فَكَبِّرْ) المراد منه هو تكبيرة الإحرام والافتتاح فهذا قرينة ان المراد من تطهير الثياب هو تطهيرها من النجاسات لأجل الصلاة

الثالث : ان الأمر لرسول الله (ص) في مقابل المشركين وفي مقابل ما كان دائرا عندهم انهم لا يطهرون ثيابهم من النجاسات

الرابع : ان قوله تعالى (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) كما سيأتي إن شاء الله تعالى ان المراد من الرجز القذارة فيجب بمقتضى الأمر إزالة النجاسة فهذه الجملة عطف تفسير على الجملة الأولى.

الخامس : يمكن ان يستدل عليه أيضا بأن الأمر وان لم يكن حقيقة في الوجوب لغة الا انه يفيد الوجوب من ناحية الإطلاق والطهارة أيضا وان كان بمعنى النظافة الا ان النظافة الواجبة منحصرة في إزالة النجاسة عنها لأجل الصلاة فالمحصل

٥٩

من جميع ما ذكرنا من الوجوه في الآية وجوب تطهير الثياب عن النجاسات والتجنب عن الرجز والقذر في حال الصلاة وقد نسب ذلك القول (أي ان الآية تفيد وجوب الطهارة في اللباس) في كنز العرفان إلى الأكثر.

أقول اما الوجه الأول الذي استدل به من ناحية وجوب التطهير ففيه ان الأمر أي صيغة الأمر ليست موضوعة لغة للوجوب ولا قرينة هنا ان هذه الطهارة طهارة شرطية بل الإطلاق يحكي ويقتضي ان المراد هو مطلق النظافة المستحسنة أو الالتزام بوجوب مطلق النظافة فإطلاق الطهارة وحملها على المعنى اللغوي الموضوع له للفظ قرينة على عدم الإطلاق في صيغة الأمر.

وأما الوجه الثاني فنقول ان هذه السورة أول ما نزلت على رسول الله (ص) أو انها من أوائل ما نزلت قالوا ان أول ما نزل اقرء بسم ربك ثم نون والقلم ثم المزمل ثم المدثر وفي بعض التواريخ ان المدثر نزلت عليه وهو في بيت خديجة فأمره سبحانه بالإنذار وبالتكبير فخلاصة القول ان هذا التكبير ليس التكبير لأجل افتتاح الصلاة به بل أمره سبحانه عند طليعة دعوته الحقة بالإنذار وهو من أهم وظائف النبوة وأعظم أثقالها ومن أكبر أصولها كما قال (ص) اني لكم نذير بين يدي عذاب شديد فهو (ص) مأمور بالابشار بما يستقبل البشر من العوالم السرمدية بما فيها من السرور والصفا والبهاء وبالإنذار بما تستقبلهم من المحن والمصائب والبلاء ومأمور أيضا بالدعوة الى الله العزيز القدوس وازالة الأوهام والظلمات الغاشية لآفاق النفوس والعقول من انغمازهم في الشرك وسقوطهم بعبادة الأوثان فمعنى تكبيره تعالى في قوله (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) هو تنزيهه وتقديسة جل ثناؤه عن كل ما يلحدون وتجليله سبحانه عن جميع ما يقولون ويصفون فمرجع قوله (ص) الله أكبر أي الله أجل وأكبر من ان يوصف فهذا التكبير خلع للأنداد وإبطال لجميع الأصنام والأضداد فهذا عين الدعوة الى الله وتوحيده فقد حكى في البحار ج ٦ ص ٣٤٦ في قضية مبعثه انه لما دخل الدار صارت الدار منورة. فقالت خديجة ما هذا النور قال نور النبوة قولي لا إله إلا الله فأسلمت خديجة فقال يا خديجة إني لأجد بردا فدثرت عليه فنام فنودي (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) فقام وجعل إصبعه في أذنه فقال الله أكبر الله أكبر فكان كل موجود يسمعه انتهى ما أردناه ولا خفاء عند أولي الألباب انه لا تفاضل بينه تعالى وبين ما سواه من الموجودات فلا يقاس سبحانه بشيء من الموجودات كي يكون تفاضلا بينه وبين ما سواه فليس غيره في عرضه فلا بد من تجريد أفعل من معنى التفاضل وتفسيره ان يقال الله أكبر من ان يوصف وأجل من أن يتوهم أو يحد كما في قوله تعالى فيما يحكيه عن يوسف الصديق (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) قال السيد (قده) في شرح الصحيفة المباركة في تفسير قوله عليه‌السلام أنت الله الكريم الأكرم الدائم الأدوم قال الأدوم أي البليغ الدوام وافعل هنا مجرد عن

٦٠