بدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام

محمد باقر الملكي

بدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

محمد باقر الملكي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٣

وخفاتا مات فجأة والخفت اسرار المنطق كالمخافة والتخافت انتهى وفي مرآت الأنوار في تفسير التخافت قال اي مسارة بعض الى بعض انتهى.

فعلى هذا ليس التخافت بمعنى الإخفاء المتعارف بل الظاهر من بيان القاموس هو شدة الإخفاء بحيث يخرج عن صدق القراءة والذكر ويكون من مصاديق النجوى والذكر النفسي والظاهر ان المنهي والممنوع من الجهر بقرينة مقابلته مع التخافت هو الإجهار الخارج عن المتعارف مثل الصيحة ويشهد على ذلك الأمر بابتغاء السبيل بين طلاق الجهر والإخفات وهذا السبيل هو الشق الثالث فلو كان الممنوع هو ماهية الجهر وماهية الإخفات على الإطلاق لم يكن ابتغاء السبيل واختيار الشق الثالث بينهما فتعين ان يكون السبيل المطلوب هو الوسط من الجهر والإخفات والممنوع هو المرتبة الشديدة منهما فاذن لا إجمال في الآية من حيث مورد النهي ومتعلقة فيشتمل الصلوات كلها أنواعها وإفرادها وقراءاتها وأذكارها كما ادعاه في كنز العرفان حيث حمل الآية على وجوب الجهر ووجوب الإخفات من غير تعيين موردهما ودعوى الإجمال فيها وكذلك لا إجمال في السبيل المطلوب فان المطلوب هو المتعارف من كل واحد منهما على الإطلاق فالآية ساكتة عن بيان وجوب الجهر والإخفاء في القراءة فيحتاج الى بيان آخر يفيد وجوب الجهر المتعارف في بعض الموارد ووجوب الإخفاء المتعارف في بعضها فلو لا وجود هذا البيان لكان الحكم على التخيير بين الجهر المتعارف والإخفاء المتعارف.

في نور الثقلين عن تفسير القمي مسندا عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (ع) في قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) قال : الجهر بها رفع الصوت والإخفات ما لم تسمع نفسك واقرأ ما بين ذلك في تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان قال سألت أبا عبد الله (ع) عن الامام هل عليه أن يسمع من خلفه وان كثروا قال ليقرأ قراءة وسطا ان الله يقول (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) أقول قد عرفت ان متعلق النهي أعم من القراءة والأذكار وذكر القراءة انما هو من باب ذكر المصداق البارز والله الهادي.

وحيث ان هذا الإطلاق المستفاد من الآية أي الإطلاق من حيث السبيل المطلوب في معرض التقييد فيكفي في تقييده صحيحة حريز عن زرارة عن أبي جعفر (ع) في رجل جهر بالقراءة في ما لا ينبغي الإجهار فيه أو أخفى فيما لا ينبغي الإخفات فيه فقال ان فعل ذلك متعمدا فقد نقض صلاته وعليه الإعادة وان فعل ذلك ساهيا أو ناسيا أو لا يدري فليس شيء عليه وقد تمت صلاته وكذلك ما هو المعلوم من فعل المعصومين ففي الخلاف روى صفوان قال صليت خلف ابي عبد الله (ع) أياما فكان يقرأ في فاتحة الكتاب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فان كان صلاة لا يجهر فيها بالقراءة جهر (بِسْمِ اللهِ

٢٢١

الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وأخفى ما سوى ذلك أقول مفاد الحديثين ان في قراءة الفرائض جهرا وإخفاتا لا بد من مراعاتهما واما تعيين موارد الجهر والإخفاء بحسب أدلتهما فموكول الى المطولات الفقهية.

(الآية التاسعة)

قال تعالى (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب ٥٦).

بيان : الصلاة قيل انه بمعنى اللين يقال صليت العود بالنار إذا لينته وقومته فإن المصلي يلين بالعطف والحنو ويسعى في تعديل ظاهره وتقويم باطنه كذا افاده السيد (قده) في شرح الصحيفة وفي القاموس صلى عصاه على النار وتصلاها لوح وقال في تفسير لوح أحماه وقد نوقش في مبدأ اشتقاقه فقال بعضهم ان التصلية ناقصة واوي مثل التزكية والتربية وقال بعضهم انه يائي سواء كانت مجردة أو مزيدة فلا يقاس بالتزكية والتربية فإنهما واويان ـ بعد تكرار عينه في باب التفعيل وتشديده وهو ظاهر وقيل ان الصلاة بمعنى الدعاء ويظهر من بعض الكلمات انه المسلم بين الفقهاء واللغويين وهو كما ترى لوجود الاختلاف عند أهل اللغة كما ذكرنا عنهم وأعرضنا عن ذكر أقوال جميعهم هذا أولا واما تفسير الصلاة بالدعاء فعلى ظاهره غير مستقيم فإن الصلاة فعل لازم يتعدى بحروف الجر مثل (صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) والدعاء متعد بنفسه وليستا بمترادفين فالظاهر ان الدعاء هو التوجه والإقبال إلى الغير بعناية جلب كتوجه الغير إلى الداعي واجابته بخلاف الصلاة فإن المراد هو التوجه المطلق من دون العناية المأخوذة في الدعاء والنداء وليست هذه العناية دخيلة في تحقق مفهوم الصلاة فعلى هذا يفسر الصلاة بالدعاء أيضا ويكون من إفراد الصلاة من حيث ان في الدعاء توجه مع قطع النظر عن الخصوصية المأخوذة في الدعاء ومن فسره بمعنى اللين والخضوع والعطف كما هو مفاد القول الأول لم يخالف القول انه بمعنى الدعاء بالتوجيه الذي ذكرناه ويختلف المعنى بحسب الموارد فالرحمة والعطف من الله سبحانه صلاة بالحقيقة والتعظيم وحسن الثناء من الملائكة من إفراد الصلاة حقيقة فإنه انعطاف وتوجه منهم الى رسول الله (ص) وكذلك التماس الكرامة والمواهب الخاصة والدرجات الرفيعة من الله سبحانه لرسوله من أفاضل أمته صلاة بالحقيقة فإنه انعطاف وأشفاق وخضوع في ساحته (ص) وإيفاء شيء من حقوقه فإنه الرحمة الواسعة من الله سبحانه علينا وعلى جميع أهل العالم.

فتحصل من جميع ما ذكرنا ان الصلاة ليست موضوعة للمعاني المذكورة لها على

٢٢٢

نحو الاشتراك اللفظي ولا على نحو الاستعارة والمجاز بل إفراد للمفهوم العام الكلي نعم يمكن الفرق بين ما نسب اليه تعالى والى غيره من معنى الصلاة واحتمال اشتراك اللفظ بالنسبة الى ما نسب اليه تعالى قريب جدا.

ومما ذكرنا يعلم ان الصلاة التي هي إحدى الفرائض الشرعية في الإسلام من إفراد المعنى اللغوي بالحقيقة فإنها توجه وخضوع وثناء ودعوة من غير تكلف مجاز ولا توهم اشتراك. في القلائد عن معاني الأخبار بسنده الى ابن أبي حمزة عن أبيه قال سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عزوجل (أن الله) الآية قال الصلاة من الله عزوجل رحمة ومن الملائكة تزكية ومن الناس دعاء. الحديث.

في نور الثقلين ج ٤ ص ٣٠٢ عن كتاب ثواب الأعمال عن أبي المغراء في حديث عن أبي عبد الله (ع) الى أن قال (ع) صلوات الله رحمة من الله وصلاة الملائكة تزكية منهم له (ص) وصلاة المؤمنين دعاء منهم له (ص) الحديث. في القلائد روي في محاسن البرقي عن محمد بن سنان عمن ذكره عن أبي عبد الله (ع) عمن ذكره في قول الله عزوجل (إِنَّ اللهَ) ـ الآية ـ فقال أثنوا عليه وسلموا له.

أقول المستفاد مما ذكرنا في صدر البيان ان صلاته على رسوله وصفية إفاضة الرحمات الخاصة والمواهب المكنونة لأوليائه الكرام والصلاة من ملائكته المقربين التزكية له (ص) أي الإقرار بكرامته ومكانته من الله عزوجل وحسن الثناء عليه وتعظيمه وتكريمه والملائكة قد أذعنت لساحته تواضعا لله قربها بالموالاة لوليه الأعظم والجملة الاسمية ظاهرة في الدوام والاستمرار اي أن الله يصلي وملائكته يصلون على قراءة رفع الملائكة وهكذا بناء على العطف ثم ان الله أمر المؤمنين ان يصلوا عليه (ص) وضروري ان للمؤمنين والموحدين أسوة حسنة لله تعالى ولملائكته المقربين فعليهم الإذعان والخضوع لساحته والاعتراف بكرامته على الله ومكانته منه تعالى والدعاء له (ص) بما يليق بجنابة من مواهبه تعالى ومن نظراته الرحيمة وكل ما ورد في بيان كيفية الصلاة في تفسير هذه الآية الكريمة وفي غيرها من الموارد وخاصة الأدعية المتواترة المشحونة بالصلاة عليه وآله وامتثال لهذا الأمر واتباع لهذه السنة المقدسة الإلهية وأسوة بملائكته المسبحين المقدسين في الملإ الأعلى وهذا غاية التشريف والتكريم من الله تعالى للرسول الأعظم فإنه تعالى بعد الإعلان انه يصلي على رسوله وملائكته يصلون أمر في كتابه الكريم بتشريفه تشريفا دائما مخلدا وجعل امتثاله عبادة لنفسه وقرره على السنة أوليائه وملائكته في أذكارهم ومناجاتهم وعباداتهم في مقامات القرب ومواطن الانس به تعالى

والمنقول عن بعض تشريف الله محمدا (ص) بقوله تعالى (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ). الآية أبلغ من تشريف آدم بالسجود له انتهى.

٢٢٣

فروع

الأول : مقتضى ما ذكرنا من معنى الصلاة أنها رحمة من الله سبحانه وهي من الإكرام والثناء من الملائكة والتماس المؤمنين الرحمة والكرامة من الله سبحانه عدم تحديد هذه الحقيقة بحد معين محدود فلا مانع عقلا من تحققها ووقوعها بالنسبة الى غير الرسول الأكرم من أوليائه تعالى وعباده المؤمنين كل على قدر منزلته من الله سبحانه فيصلي تعالى عليهم ويفيض كراماته وإحسانه إليهم والأدلة الشرعية ناهضة على ذلك قال تعالى (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (أحزاب ٤٣) قال تعالى (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) الآية بقرة / ١٧٥ ـ قال تعالى (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) ـ التوبة ١٠٣.

وفي الكشاف عن النبي (ص) قال اللهم صل على آل أبي أوفى ـ فعلى هذا الإشكال في جواز الصلاة على الرسل المكرمين والملائكة المقربين والأئمة الصديقين وعباد الله الصالحين سواء أفردوا به بالذكر في الصلاة عليهم أو ـ ذكروا بالتبع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال في الكشاف القياس جواز الصلاة على كل مؤمن وساق الآيتين والحديث ثم قال وللعلماء تفصيل في ذلك وهو انها أن كانت على سبيل التبع كقولك صلى الله على النبي وآله فلا كلام فيها واما إذا أفرد غيره من أهل البيت كما يفرد فمكروه لان ذلك صار شعارا لذكر رسول الله (ص) صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأنه يؤدي الى الاتهام بالرفض وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم ـ انتهى.

وقال البيضاوي ويجوز الصلاة على غيره وتكره استقلالا لأنه في العرف صار شعارا لذكر الرسل ولذلك كره ان يقال محمد (ص) جل وعز وان كان عزيزا جليلا ـ انتهى.

أقول فاعتبروا يا اولي الألباب كيف عملت العصبية عملها النكير الفاحش فبعد تصريح الكتاب العزيز بالجواز وعمل الرسول الأكرم به سماه قياسا ثم تعلل في ترك الكتاب ورفض السنة المطهرة بأن فيه اتهاما بالرفض ا فلا يعقل هؤلاء الأفاضل ان منشأ هذه البدعة السيئة انما هو أعداء آل الرسول من فراعنة بني أمية وجبابرة بني العباس وتبعهم على ذلك علماء السوء الذين يلتهمون معهم أموال الدنيا ويتقربون إليهم بعداوة العترة الطاهرة وهضم حقوقهم صلوات الله عليهم ثم توارث هذه السنة

٢٢٤

الخبيثة الخلف عن السلف والى الله المصير وهو الحاكم بالعدل.

قال المحقق الأردبيلي ولهم أمثال ذلك كثيرة مثل ما ورد في تسنيم القبور ان المستحب هو التسطيح لكن هو شعار للرفضة فالتسنيم خير منه وكذلك في التختم باليمين وغير ذلك ومنه ذكر (على آله) بعد قوله صلى الله عليه وعلى آله وترك الآل معه (ص) مع انه مرغوب بغير نزاع وانما النزاع كان في الإفراد فإنهم يتركون الآل معه ويقولون صلى الله عليه انتهى ما أردناه.

الثاني هل الآية الكريمة تفيد وجوب الصلاة على الرسول أم لا؟ وقد جنح بعضهم الى القول بالوجوب وفي الكشاف والذي يقتضيه الاحتياط الصلاة عند كل ذكر لما ورد من الاخبار انتهى. المحقق الأردبيلي بعد الإشارة الى الاخبار الواردة عن طرق الخاصة ولا شك ان احتياط الكشاف أحوط وأختار في كنز العرفان الوجوب. انتهى.

أقول محل الكلام انما هو دلالة الآية على الوجوب اما الاخبار فيشكل استفادة الوجوب الشرعي منها فان التوعيد الواردة في بعض الاخبار انما هو بالعنوان الثاني وافادة الاستحباب بالعنوان الاولي منها ما رواه في القلائد عن الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) قال إذا ذكر النبي فأكثروا الصلاة فإنه من صلى على النبي صلاة واحدة صلى عليه ألف صلاة في ألف صلاة من الملائكة ولم يبق شيء مما خلقه الله الا صلى على العبد لصلاة الله وصلاة ملائكته ومن لم يرغب في هذا فهو جاهل مغرور وقد برء الله منه وملائكته ورسله وأهل بيته.

أقول قوله (ع) إذا ذكر النبي (ص) فأكثروا الصلاة عليه ـ الى آخره ـ قرينة واضحة على الاستحباب فلو كان المراد الوجوب في المقام فالواجب ليس إلا ماهية الصلاة لا الإكثار منه وكذلك الوعيد في ذيل الرواية على من لم يرغب في هذا الثواب انما هو على عدم الرغبة وعدم الاعتناء بهذه الكرامة الهنيئة من الله سبحانه ولشأن هذا الرسول المعظم (ص) لا تركها من حيث الرخصة فهذه الرواية وأمثالها لا يتمكن الفقيه من استفادة الوجوب منها ومن العجب ان القائلين بالاحتياط وبالوجوب مثل الكشاف والمولى الأردبيلي تمسكوا في إثبات الوجوب بالأخبار في تفسير الآية عند ذكر الاسم الشريف دون الآية الكريمة وقال في كنز العرفان والمختار الوجوب كلما ذكر لدلالة ذلك على التنويه بذكر شأنه والتشكر لإحسانه المأمور بهما ولأنه لولاه لكان كذكر بعضنا بعضا وهو منهي عنه في آية النور وهي قوله (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ) الآية (النور / ٦٣).

أقول ما ذكر من الوجهين لا يصلح لإثبات الحكم الشرعي المولوي واما للآية الكريمة فهي في مقام المنع والنهي عن دعوة الرسول الأكرم من دون مراعاة أدب الحضور والتكلم معه في محضره وهي أجنبية عن افادة الحكم الإيجابي فكم من

٢٢٥

فرق بين تحريم الإهانة وعدم مراعاة أدب الحضور وبين إيجاب التشريف له (ص) على جميع الأمة الإسلامية قال تعالى (الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) الحجرات. فتحصل أن ما ذكروه في استفادة الوجوب ضعيف جدا لا يمكن الركون اليه واما القائلين بعدم الوجوب فإنهم استندوا الى الأصل قالوا ولو كان فريضة لوجب ذكره عند الآذان وفي إقامة الشعائر الإسلامية وفي الخطب والمواعظ وليس في تعليم ذلك للمؤذنين وغيرهم اثر عن النبي (ص) ولم يقع إنكار على ترك ذلك كما هو كذلك الآن ولو كان كذلك لنقل إلينا هذا كله في صورة ذكر الاسم الشريف واما عند عدم الذكر فإثبات الوجوب فيه إشكال.

إذا تقرر ذلك فنقول الآية الكريمة مطلقة سواء ذكر الاسم الشريف أم لا ولا كلام في عدم وجوب الصلاة عليه ابتداء من دون ذكر الاسم الشريف واما عند الذكر فمع هذه الروايات الكثيرة المشحونة بقرينة الاستحباب ينهدم إطلاق الآية وظهورها في الوجوب بحسب الإطلاق فالمتحصل تأكد الاستحباب عند الذكر ودونه ابتداء وكذا الكراهة والتوبيخ على من بخل بالصلاة عليه عند ذكره (ص).

الثالث لا يخفى ان الآية الكريمة لا يمكن الاستدلال بها على وجوب الصلاة في التشهد وجزئيته في الصلاة سواء قلنا بالوجوب أو الاستحباب فإن الآية سيقت لبيان رجحان النفسي الاستقلالي للصلاة لا الغيري على نحو الجزئية ومع الغض عما ذكرناه لا يجوز تنزيل الآية مع إطلاقها على مورد خاص بالنحو الخاص لعدم الدليل على شيء من التقييدين على ان ذلك متوقف على ان الآية تفيد الوجوب وقد مر الكلام فيها فالأولى الاستدلال بوجوب الصلاة في التشهد بالأدلة الخاصة التي تقرر في محلها.

قوله تعالى (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) التسليم هو الانقياد والإذعان بالطاعة أي التسليم له في جميع ما جاء به من الشرائع والأحكام والتصديق بجميع ما جاء به من العلوم والمعارف والحقائق وبما بشر به وبما أنذر به وحذف المفعول به والعدول إلى الإطلاق وتأكيد الفعل بقوله تسليما فيه إشعار ان التسليم له (ص) لا التسليم عليه أي السلام اللفظي وقول السلام عليك فهذه الجملة في الآية نظير قوله تعالى (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) النساء (٦٤) وهذا هو محض الإسلام وحقيقة الايمان.

في نور الثقلين ج ٤ ص ٣٠٥ عن محاسن البرقي عن محمد بن سنان عمن ذكره عن أبي عبد الله (ع) في قول الله عزوجل أن الله ـ الآية ـ فقال أثنوا عليه وسلموا له (ص).

٢٢٦

في البرهان ج ٣ ص ٣٣٤ عن الكافي مسندا عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عزوجل (إِنَّ اللهَ) الآية قال الصلاة عليه والتسليم له في كل شيء جاء به.

في المجمع عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله (ع) عن هذه الآية فقلت كيف صلاة الله على رسوله فقال يا أبا محمد تزكيته له في السماوات العلى فقلت قد عرفت صلواتنا عليه فكيف التسليم فقال هو التسليم له في الأمور.

أقول لا يصح حمل التسليم وتنزيل الآية على وجوب السلام عليه في التشهد الثاني بقوله السلام عليك أيها النبي ولا على وجوب السلام الذي به يخرج المصلي عن الصلاة فإن الآية ـ بناء على أن المراد هو السلام اللفظي لا الانقياد ـ مطلقة لا دليل على تقييدها بشيء من الموردين مضافا الى ان السلام الأول قامت الأدلة على استحبابه والاستشهاد بالعطف بأن الصلاة عليه هو الصلاة اللفظي المتعدين بعلى وعطف سلموا على الصلاة يقتضي أن يكون المراد من التسليم هو السلام اللفظي عليه لا التسليم له قلت قد عرفت ما فيه وان الآية مشعرة بخلافه.

في المندوبات

(الآية الأولى)

قال تعالى (قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ).

أقول صدر الآية هكذا (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) (البقرة ـ ٣٢٨).

قد قدمنا في الأبحاث السابقة شرحا شافيا في تفسير الآية وتحليلها والنظر في المقام هو البحث عن القنوت وقد استدل في كنز العرفان بالآية على شرعية القنوت في الصلاة كلها لذكره عقيب الأمر بالمحافظة على جملتها وعطف القيام على حال القنوت على ذلك وفي القلائد قال ابن بابويه في الفقيه القنوت سنة واجبة من تركها متعمدا فلا صلاة له قال الله تعالى (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) يعني مطيعين داعين انتهى. وقيل معناه ذاكرين الله في قيامكن وقيل الدعاء وقيل السكوت وكانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت الآية ونهوا عن ذلك رواه الجصاص عن أبي عمرو الشيباني وأطال الكلام فيه وأصر عليه قال وقد روى الحارث بن شبل عن أبي عمرو الشيباني قال كنا نتكلم في الصلاة الى عهد رسول الله فنزلت (قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فأمرنا بالسكوت وأورد الجصاص أحاديث كثيرة في المقام في النهي عن التكلم في الصلاة وكلها خارجة عن حريم الآية وتفسيرها.

أقول والذي يقطع أعراق الشبهة عن أراضي الأوهام ان يقال ان قوله حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى الآية إنما يأمر ويحث على التحفظ والمراقبة والمواظبة الصلوات المكتوبات المرسومة المقررة عن أدلتها المفروغة شرعيتها

٢٢٧

بجميع اجزائها وشرائطها وجوبا وندبا وليست الآية في مقام تشريع الصلوات ولا اجزائها وشرائطها وضروري ان الأمر بالتحفظ أمر إرشادي والأمر الإرشادي بمعزل عن افادة الحكم المولوي التشريعي وكذلك قوله تعالى (قُومُوا) المعطوف على (حافِظُوا) ليس المراد منه القيام بمعنى الانتصاب والقيام المقابل للقعود والمراد منه اما نفس الصلاة لشيوع إطلاق القيام على الصلاة والقائمين على المصلين أو المراد منه الاقدام والتصدي بإتيان العمل لامتثال الأمر المتعلق بالطبيعة اي أدوها وأتوا بها والأمر بالإتيان والأداء أمر إرشادي والقنوت في اللغة بمعنى الرغبة والخشوع وإقبال الرجل على صلواته فقوله تعالى (قانِتِينَ) حال عن الفاعل في قوله (قُومُوا) وفي الحقيقة نعت للمصلين اي صلوا وأدوا الصلاة خاشعين راغبين وليس المراد هو القنوت المصطلح في عرف الفقهاء أي رفع اليدين بالدعاء حين القيام فعلى عهدة المصلي تحصيل القنوت بهذا المعنى في جميع حالات الصلاة مكبرا قارئاً راكعا ساجدا ذاكرا مسبحا حتى في حال القنوت المصطلح أيضا قال تعالى (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) (زمر ـ ٩) فتحصل أن الآية الكريمة لا اشعار فيها بوجه لشرعية القنوت وجوبا ولا استحبابا.

في تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) قال الصلاة الوسطى الظهر (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) إقبال الرجل على صلاته ومحافظته على وقتها حتى لا يلهيه عنها ولا يشغله شيء وفيه أيضا عن زرارة عن أبي جعفر (ع) في حديث ـ الى ان قال ـ (قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) مطيعين راغبين.

(الآية الثانية)

قال تعالى (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) الآية. (الكوثر / ٢) قال في زبدة البيان قيل المراد صلاة العيد فتكون دليلا على وجوبها وتكون الشرائط مستفادة من السنة الشريفة وتؤيده (وَانْحَرْ) على ان المراد نحر الإبل انتهى ما أردناه. وروى الجصاص عن عمل النبي في يوم النحر وتصريحه (ص) تقديم صلاة العيد على الأضحية واستشكل فيه بعدم وجوب الأضحية على المسلمين في الأمصار إجماعا وأجيب أن قيام الإجماع قرينة منفصلة باختصاص الوجوب في الآية عليه دون أمته (ص) وتكون الأضحية سنة مستحبة مؤكدة على الأمة وعن ابن الجنيد القول بوجوبها وعن الصدوق القول بوجوبها على الواجد فعلى هذا لا يكون في الآية دلالة على وجوب شيء من المندوبات في الصلاة.

وقيل ان المراد من الصلاة صلاة الفجر بالمشعر ومن النحر نحر البدن وفي كنز العرفان قال انس كان النبي (ص) ينحر قبل صلاة الغداة فأمره الله أن يصلي ثم ينحر.

٢٢٨

أقول هذه الاحتمالات والأقاويل عن الآية الكريمة ما ذكرنا منها وما لم نذكره انما هي بناء على ان الآية في مقام إيجاب صلاة العيد وتشريعها وإيجاب النحر بعد الغداة وتشريع صلاة الغداة قبل النحر وهو توهم بارد لا دليل عليه والآية الشريفة سبقت بتكريمه وتشريفه (ص) وتسليته حيث عابوه أعدائه ومبغضيه بأنه أبتر فشرفه تعالى بإعطاء الكوثر والكوثر الخير الكثير بحذف الموصوف والأمر بالصلاة والنحر تعريض لأعدائهم الوثنيين حيث يعبدون الأصنام أي اقبل على شأنك العظيم من تحمل أثقال النبوة واشتغل بالصلاة خالصا مخلصا لربك جل مجده واعرض عن أعدائك الشائنين فان الله سبحانه قد حكم وقضى قضاء حتما بقطع دابرهم وتبار عمرهم وخمود ذكرهم ونبشر نداء مجدك وجلالتك وعظمتك وفصحتك مشارق الأرض ومغاربها في غابر الزمان وفي أعماق القرون الآتية فعلى هذا يكون المراد من الصلاة مطلق الصلاة أو التي كان رسول الله مداوما عليها من الصلاة فتسقط جميع الاحتمالات التي ذكروها في الآية فليس هنا من إيجاب صلاة العيد والغداة ومن إيجاب النحر اسم ولا رسم فيكون هذا البيان قرينة على ان النحر انما هو شيء يرجع الى الصلاة وخصوصياتها لا نحر الإبل وذبح الانعام والأغنام.

قال في القاموس وداران متناحران متقابلان ونحر الدار استقبلها والرجل في الصلاة انتصب ونهد صدره أو انتصب نحره إزاء القبلة انتهى.

أقول قول القاموس نحر الدار الدار استقبلها ليس مراده مطلق استقبالها بل ارتفعت واستقبلها قال الشاعر :

أيا حكم أنت عم مجالد

وسيد أهل الأبطح المتناحر

فيكون النحر شاملا للانتصاب محاذيا القبلة ويكون شاملا للانتصاب بنحره ويكون بإطلاقه شاملا لرفع اليدين مستقبلا ببطونهما حذاء القبلة أيضا ولا بأس بالأخذ بإطلاق النحر الشامل لجميع ما ذكرنا من المعاني في تفسير الآية وتكون ما وردت في الروايات الكثيرة عن أئمة أهل البيت (ع) ان النحر رفع اليدين مستقبلا ببطونهما بإزاء الصدر والوجه والخد أو بإزاء الأذنين ولا يتجاوز انهما من باب ذكر أفضل المصاديق ومن إفراد المعنى العام اللغوي ويؤيد هذا الإطلاق ما في البرهان عن الكافي بإسناده عن رجل عن أبي جعفر (ع) قال قلت له (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال الاعتدال في القيام ان يقيم صلبه ونحره. الحديث. فهذه الرواية لا تنافي الروايات المفسرة النحر برفع اليدين إزاء للصدر والوجه وغيرها بل هذه مؤكدها ومؤيدها ان المراد في الآية هو المعنى العام اللغوي.

فروع : الأول ـ نسب الى المرتضى (قده) القول بوجوب النحر نظرا الى ظاهر

٢٢٩

الأمر في الآية بناء على ما ذهبوا اليه ان الأصل في الأوامر القرآنية الوجوب الا ما خرج بالدليل والى الروايات المفسرة إياه برفع اليدين والى الروايات الآمرة بالرفع والى الروايات الحاكية لعمل المعصوم وأيده في الحدائق قلت لا فرق في الأمر بين ما في القرآن والسنن وان الوجوب في كلا المقامين يستفاد من الإطلاق لا من صيغة افعل الا ان في المقام قرائن يصادم ذلك الإطلاق ويوهنه منها ان ظاهر بعض هذه الروايات الآمرة بالنحر في كل تكبيرة من دون اختصاص بتكبيرة الإحرام ولا يمكن القول به منها ظهور بعض هذه الروايات في استحباب الخرق.

في الوسائل عن العلل وعيون الاخبار عن الفضل بن شاذان عن الرضا (ع) قال انما يرفع اليدان بالتكبير لان رفع اليدين ضرب عن الابتهال والتبتل والتضرع فأحب لله عزوجل ان يكون العبد في وقت ذكره له متبتلا متضرعا مبتهلا ولأن في رفع اليدين إحضار النية وإقبال القلب على ما قال وقصد. الحديث. وفي بعض الروايات ان لكل شيء زينة وزينة الصلاة رفع اليدين فهذه الروايات شارحة وقرينة على المراد من الروايات الظاهرة في الوجوب بحسب الإطلاق منها ان في بعض الروايات اختصاص النحر بتكبيرة الإحرام ومن تتبع خلال هذه الروايات يظفر بقرائن أخرى غير ما ذكرنا فيسقط الإطلاق المتوهم في هذه الآية وفي هذه الروايات ويتعين الاستحباب حتى في تكبيرة الإحرام أيضا.

الثاني اختلفت الروايات الآمرة برفع اليدين ففي بعضها الى الصدور وفي بعضها إزاء الوجه وفي بعضها ان لا يتجاوز الأذنين والأمر عندنا سهل بناء على ما ذكرنا في تفسير الآية فإن هذه الفروض جميعها من مصاديق النحر الذي أمر به تعالى في كتابه ومنها ما ذكره في القاموس انتصب نحره إزاء القبلة ومنها ما ذكرناه في رواية الكافي في تفسير الآية الاعتدال في القيام ان يقيم صلبه ونحره الحديث.

ومع قطع النظر عما ذكرنا فلا بد من التعرض بالجمع بين هذه المتباينات أو الفحص والبحث عن قرينة الاستحباب لكل واحد منها والله الهادي.

الثالث مقتضى ما ذكرنا من الرضوي حيث قال انما ترفع اليدان بالتكبير ان الشروع بالرفع حين الشروع بالتكبير بحيث يبتدء بابتدائه وينتهي بانتهائه وهذا الحديث أصرح ما في هذا الباب ويظهر أيضا من غيره من الاخبار وقال بعضهم ان مقتضى اقتران الرفع بالتكبير ان يكون التكبير بعد انتهاء الرفع. انتهى.

أقول ليس في النصوص كلمة الاقتران واستظهار ما ذكره من الأدلة لا يخلو عن الاشكال وأضعف منه ما قيل ان الشروع بالتكبير بعد انتهاء الرفع وتحققه ويبتدأ به حين إرسال اليدين فتحصل من جميع ما ذكرنا ان المراد بحسب الظاهر من الآية استحباب رفع اليدين إزاء الصدر أو النحر أو الوجه أو الأذنين وأن تبدأ بالرفع حين يبتدأ بالتكبير

٢٣٠

وينتهيان معا والله العالم.

(الآية الثالثة)

قال تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) (المؤمنون ٢) بيان : إضافته تعالى الصلاة الى المؤمنين لبيان اختصاصهم بها وقيامهم بحقها واصطبارهم عليها حين غفل عنها المترفون وأعرض عنها المستكبرون ـ قوله تعالى (خاشِعُونَ) قد ذكروا في تفسيرها وجوها وأقوالا أعرضنا عن إيرادها للاختصار فالخشوع في الصلاة قلبا وقالبا وروحا وبدنا قد وردت في روايات كثيرة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وتكلم فيها فقهائهم قدس الله أسرارهم والآية مطلقة شاملة بإطلاقها جميع الموارد التي يصدق عليها الخشوع فالخشوع يتصف به القلب وبه الصوت والصبر والنظر فان لكل من ذلك الذي ذكرنا خشوعا يناسبه قال في الصوت والبصر التذلل والسكون انتهى أما الخشوع في القلب قال تعالى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) (الحديد).

فأدنى الخشوع إحساس الحاجة والافتقار الى الله والشعور والاستشعار بعظمته بحيث يجتمع فيه الرغبة والريبة والخوف والطمع والسكينة والاستكانة ففي زبدة البيان قال وروي ان النبي رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال اما انه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه.

أقول وفي هذا دلالة على إثبات الخشوع في الجوارح فلا وجه لترديد بعض المفسرين في إثبات الخشوع لها.

وأما الخشوع في الصوت قال تعالى (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) (طه ـ ١٠٧) فالخشوع فيه غضته في مقابل الإجهار به والخشونة به كما تضمنه الآيات في أدب المكالمة مع رسول الله قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) (الحجرات).

ويتصف به البصر قال تعالى (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) (القلم ـ ٤٣) المعارج ٤٤ (قال تعالى (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) ـ القمر ـ ٧) فالخشوع في البصر غضه في مقابل رفعه روي في كنز العرفان مرسلا كان رسول الله يصلي رافعا نظره الى السماء فلما نزلت التزم ببصره الى موضع سجوده في الوسائل عن الكافي مسندا عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال ـ الى ان قال ـ واخشع ببصرك ولا ترفعه الى السماء وليكن حذاء وجهك موضع سجودك.

وقد توهم بعض المفسرين ان المراد من الغض اطباق الأجفان قال وفي ما ذكر من غض البصر مطلقا تأمل إذ المستحب النظر الى موضع السجدة حال القيام انتهى.

أقول قد عرفت ان النظر الى موضع السجود انما هو بغض البصر أي عدم رفعه فلا منافات نعم قد يتوهم المنافاة بين ما ذكرنا من الأدلة المطلقة وهي ما ذكر في

٢٣١

رواية حماد بن عيسى المصرحة بغمض العين في الركوع وخاصة مع رواية زرارة المصرحة بالنظر بين القدمين حال الركوع وقد اضطرب كلماتهم في الجمع بينها والجواب عن الاشكال الوارد عليها أقول منشأ الاشكال انما هو بناء على ان الغمض هو إطباق الأجفان بالكلية وليس كذلك بل قال في القاموس انغماض الطرف انغضاضه انتهى. ومن أراد الاطلاع على أزيد من ذلك فعليه بالمطولات فتحصل ان قوله تعالى (فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) شامل بإطلاقه جميع ما ذكرنا من إفراد الخشوع والله الهادي.

(الآية الرابعة)

قال تعالى (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) النحل ـ (٩٨) أمر تعالى رسوله وحبيبه بالاستعاذة بالله سبحانه وبالاستغاثة به تعالى عند قراءة القرآن وقد أمره تعالى بالاستعاذة به تعالى في غير مورد القراءة أيضا. قال تعالى (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) (المؤمنون ١٠٠) (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) (١٠١).

تنقيح البحث في المقام في ضمن مسائل :

الأولى : أمر الله سبحانه حبيبه وصفية بالاستعاذة عند قراءة القرآن في هذه الآية وفي غيرها بالاستعاذة به تعالى من همزات الشياطين ومن حضورهم وهجومهم وتلبسهم والحال انه (ص) معتصم بعصمة الله المنيعة ومتحصن في حصن ولايته جل سبحانه ومصون في حرز امانة وليس هذه الاستعاذة والإلجاء به والسؤال والتضرع اليه الا لأجل ادامة العصمة وبقاء الأمان مثل قوله تعالى (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة ٦) وأمثالها من الآيات فان الناس كلهم واقفون موقف الافتقار والحاجة الى جوده وإحسانه لا بد ان يلتمس منه تعالى إبقاء ما أفاض وادامة ما وهب وطلب المزيد منه تعالى الى ما لا يعلمه الا الله.

الثانية : قد قيل أن الأمر بالاستعاذة لشخصه (ص) ويلزم على غيره بالتأسي له أقول هذا ليس بشيء فإن آداب العبودية وعرض الافتقار اليه تعالى والتشبث بأذيال عطفه وامانه وحفاظته ليس من الأحكام التعبدية بل هو وظيفة علمية وعقلية مطلقة لكل موحد يدرك ويشعر شأن موقفه مع الله وبين يدي الله وخاصة في مقام تلاوة القرآن فإنه المناجاة مع الله والوقوف بين يديه لاستماع مواعظه والالتذاذ بخطاباته والائتمار بمنشور ولايته جل ثناؤه وأوامره ونواهيه فالموقف من أجل مواقف الحضور والقرب منه تعالى ولا بد فيه من التحفظ الشديد والتوسل الصادق والالتجاء بالجد اليه تعالى لئلا يحرم القارئ من بركات القراءة وأنواره. نعم من حيث كون الاستعاذة جزء من الصلاة تدخل في باب التعبديات فحق القول فيه أيضا شمول خطابات القرآن

٢٣٢

للكل على نحو القضية الحقيقية إلا ما ثبت بالدليل اختصاصه به (ص).

الثالثة : لا اشكال بحسب إطلاق الأمر لزوم الاستعاذة عند قراءة كل قرآن ولو كان في الصلاة

الا ان هذا الإطلاق لا يكفي في ثبوت كونها جزء للصلاة بل يحتاج الى تعبد آخر ودليل أخر من قبل الشارع لإثبات جزئيتها فلو لم يوجد دليل بأعمال المولوية في كونها جزء لأمكن التمسك بإطلاق الأمر في الآية وقد قرر وثبت من فعله (ص) وفعل أوصيائه ان الاستعاذة في افتتاح الصلاة بعد التكبير عند الشروع في القراءة فما عن بعض العامة ان مقتضى القاعدة والقياس تكرر الجزاء عند تكرر الشرط ساقط جدا ولا يحتاج الى ما تكلفه بعض أعلام الشيعة ان المراد في الآية جنس القراءة والصلاة فعل واحد فيكفي الاستعاذة الواحدة في الصلاة الواحدة.

الرابعة : مقتضى إطلاق الأمر وان كان يقتضي الوجوب قبل الفحص والبحث الواجب عن المقيدات الا ان القرائن والأدلة المنفصلة قد قامت على هدم هذا الإطلاق وتبين بها ان المراد بالأمر في الآية الكريمة هو استحباب الاستعاذة لا وجوبها ففي الوسائل عن الصدوق انه قال كان رسول الله (ص) أتم الناس صلاة وأوجزهم كان إذا دخل في صلاته قال الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم.

وفيه أيضا عن الكافي مسندا عن فرات بن أحنف عن أبي جعفر (ع) في حديث قال إذا قرأت بسم الله الرحمن الرحيم فلا تبالي أن تستعيذ.

الخامسة : مقتضى إطلاق الأمر في الآية الكريمة هو التخيير بين الجهر والإخفات بالاستعاذة وكذلك النصوص الواردة في مشروعيتها واستحبابها بين مطلق وبين مصرح بالإجهار فلا دليل يقيد به في لزوم الأسرار بها إلا الإجماع الذي ذكره الشيخ (قده) في الخلاف ج ١ ويستفاد من كلام بعض الأجلة من الفقهاء انه يكفي هذا الإجماع في إثبات هذا الحكم نظرا الى التسامح في أدلة السنن.

أقول لا فرق بين الأحكام سنة كانت أو فريضة في انه لا بد في إثباتها وطور مشروعيتها من دليل شرعي قاطع.

السادسة : مقتضى صريح الآية الآمرة بالاستعاذة وكذلك بعض الروايات جواز الإنشاء بالاستعاذة من دون احتياج الى توصيف وتعبد بصيغة خاصة فيسقط الأبحاث الراجعة إلى تعيين الصيغة في الاستعاذة والتي ورد في الروايات من نقل فعل المعصومين لا يضر اختلاف الصيغة فيها بما ذكرنا فإنها مصاديق وإفراد لهذا الكلام فالأولى الإتيان بها بما ورد بالتعبير الوارد في الآية الكريمة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

(الآية الخامسة)

قال تعالى (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ

٢٣٣

أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) (٧) المزمل.

بيان : ـ السورة مكية وفي رواية عن ابن عباس ان أول ما نزل عليه بمكة «اقرأ باسم ربك ثم «ن والقلم» ثم المزمل وسيجيء الكلام في الآيات التي في آخر السورة والمزمل أصله متزمل قلبت تائه زاء وأدغمت الزاء في الزاء.

قال في الكشاف وكان رسول الله (ص) نائما بالليل متزملا في قطيفة فنبه ونودي بما يهجن الله الحالة التي كان عليها من التزمل في قطيفة واستعدا للاشتغال في النوم كما يفعل من لا يهمه أمر ويغنيه شأن الى ان قال فذمه بالاشتمال بكسائه وجعل ذلك خلاف الجد والكيس وأمر بأن يختار على الهجود التهجد وعلى التزمل التشمر والتخفف في العبادة لله لا جرم ان رسول الله (ص) قد شمر مع أصحابه حق التشمر انتهى ما أردناه.

أقول قد أخطأ الزمخشري وأساء الأدب إلى ساحة قدس الرسول الأعظم وليت شعري كيف رضي الله تعالى ذم رسوله وصفية بالتهجن اليه بالحالة التي كان يتكاسل فيها ويشتغل بعبادة ربه وبعدم تمرنه وضعفه في العبادة وقيام الليل واختياره النوم والفراغ عليها كيف وقد كان رسول الله قبل نزول الوحي عليه وبعده متعبدا ومتنسكا وقويا ومتمرنا وناشطا في عبادة ربه واجتهاده فيها. يقوم بين يدي ربه في آناء الليل وأطراف النهار راغبا راهبا وليس متكاسلا ولا متناعسا ولا متثاقلا قبل نزول الوحي عليه وكيف بعد نزوله.

قال في الكامل طبع بيروت ج ٢ ص ٢٩ في شرح حالة صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل البعثة الى ان قال ثم حبب إليه الخلأ فكان بغار حراء يتعبد بها الليالي ذوات العدد ثم يرجع الى أهله فيتزود بمثلها فجاءه الحق وجاء جبرائيل انتهى ـ فسنة الله سبحانه في تربية أوليائه وتأديب أصفيائه انه يؤدبهم ويربيهم حتى يقومهم على ما أراد منهم ويستأهلهم لذلك فيتخذهم عبدا فيسددهم ويؤيدهم لذلك فاذا تمكن في مقام العبودية وسلك تمام منازلها ومراحلها وقام بوظائفها وشئونها على طمأنينة وسكينة من ربه فيتخذه نبيا ثم يتخذه كذلك رسولا ثم يتخذه كذلك اماما فليس في سنته تعالى وتربيته أنبيائه وإفاضته العلوم والحقائق وتحميل وظائف العبودية عليهم مجازفة ولا طفرة.

فلا يزالون حملة العلم والوحي واقفون موقف العبودية مترصدون بحسب

٢٣٤

طبع روحانيتهم ونورانيتهم الى ما يلقى ويوحي إليهم من الأحكام والوظائف بما يناسب موقفهم كي يأخذوا بها ويمتثلونها عن جد ونشاط ، وقيل انه كان متزملا في مرط عائشة فنزلت وخوطب بقوله (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ). أقول. هذا الوجه غير سديد أيضا فليست اليوم كانت ثمة عائشة ولم يكن يتزوج بها رسول الله بعد.

عن ابن ابي الحديد قال تزوجها رسول الله قبل الهجرة بسنتين بعد وفاة خديجة (رض) وهي بنت سبع سنين وبنى عليها في المدينة وهي بنت تسعة ، وعشرة أشهر والظاهر انه لا خلاف بين أهل السير أن رسول الله (ص) بني عليها بعد الهجرة بالمدينة وذكر ان مولد عائشة كان في السنة الرابعة من النبوة.

وقيل أيضا في شأن نزولها كما في الكشاف دخل على خديجة وقد جثت خوفا أول ما أتاه جبرائيل وبوادره ترعد فقال زملوني زملوني وحسب انه عزوجل عرض له فبينا هو على ذلك إذ ناداه جبرئيل يا ايها المزمل انتهى ـ قوله جثت اي فزع قوله بوادرة البوادر اللحمة بين المنكب والعنق.

أقول هذا القول في نهاية الرداءة والوهن إذ لا وجه لفزعه وخوفه من جبرئيل واضطرابه وارتعاده حين يشرف عليه جبرئيل فإنه مع عظمة روحه وسعة وجوده وشدة عرفانه بالله تعالى ومعرفته بما سواه من الأشياء وأعيان الموجودات لم يكن لوحشته ودهشته من جبرئيل وجه معقول بل كان آنس شيء بجبرئيل وبما جاء به من الوحي فإن الظاهر من بعض الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت ان نزول ملك الوحي على الإنسان الرسول انما بعد استكماله في مراتب النبوة ووفود الملك وكلام الإنسان معه يسمى رسالة فحين نزل عليه الملك قد بلغ بحسب الكمالات والمعارف بحيث ان مشاهدة الملك وكلامه مرتبة ومتوقفة رتبة وزمانا على ما تقدمه من العلوم والمعارف الإلهية وهذا هو الحق المبين.

وقد أساء الزمخشري الأدب ساحة قدس رسول الله ولم يعرف أنه (ص) يدعو الناس الى الايمان بالله وباليوم الآخر وبالدار الآخرة وواضح عند أرباب الشرائع ان الدار الآخرة مع جميع ما فيها من الحقائق والأعيان وسكانها كلها حقائق وأعيان مادية لطيفة قبل مرتبة الدنيا والدنيا واقعة في مرتبة متأخرة في طول الآخرة وقد كشف القرآن الكريم عن هذه الحقيقة العقلية وهذه من أجل العلوم ونفائس المعارف الإلهية وقد تفرد القرآن الكريم بكشفها بأنحاء من البيان مجملا ومفصلا مع عناية واهتمام بالغ في شأنها ودعوة الناس إليها وقد عجز عن نيل عالم الآخرة بهذا المعنى أعاظم الفلاسفة وأكابر الصوفية ووقفوا في مهاوي الخرافات العجيبة وارتكبوا في تأويل الآيات الكاشفة عن عالم الآخرة المادية اللطيفة وأعيانها تأويلات باردة ركيكة وأصروا عليها.

٢٣٥

ولم يتفطن الزمخشري أنه (ص) مشرف على عالم الآخرة ومشاهد إياها ويدعو الناس الى الايمان وانما يدعو إليها على علم وعيان بها ولا محصل لقوله انه دهش واضطرب عن مشاهدة الملك وحسب انه قد عرض له.

أقول كان (ص) على طمأنينة وسكينة إلهية وقد كان على بصيرة وبينة وبرهان من ربه تعالى وفي معرفة ما نزل اليه من ملك الوحي ومعرفة ما أرسل إليه بوساطة الملك وانه أمين من أمنائه تعالى وعباده المصطفين وان ما أرسل به حق من عند الله سبحانه وكذلك في معرفة ما يأخذ من الله سبحانه مستقيما من دون وساطة الملك وقد تقرر في محله انه ما صار رسول رسولا ولا نبيا ولا إمام اماما الا مقارنا بوجدان روح القدس وحمل الاسم الأعظم وهو الحجة الواضحة المصونة بذاتها بين الرسول (ص) والنبي وبين ما ينزل عليه من الملك ومن الوحي والحقائق الأخرى في ذلك الباب فيؤيد بهذا الروح وبهذا الاسم الكريم فبه يعرف حقيقة الرسالة والنبوة وبه يأخذ النبوة والرسالة من الله وبه يعرفها ويحفظها ويحملها ويؤدبها ويبلغها والمراد بهذا الروح وبهذا الاسم هو العلم المفاض من الله سبحانه على الإنسان النبي والرسول مقارنا مع الرسالة والنبوة أو مقدما على ذلك فهو (ص) اعرف وأبصر بهذه الحقيقة يستحيل ان يعرض عليه اضطراب أو دهشة عند إشرافه بمشاهدة الملك ومعاينته وهذه كرامة عجيبة قد خص الله سبحانه بها أنبيائه ورسله وحججه هذا هو سر العصمة ووجه السكينة والطمأنينة الإلهية في الأنبياء والرسل والحجج وعلى ذلك شواهد شافية كافية في الكتاب والسنة وقد استقصيناها في بعض ابحاثنا في التفسير تحت عنوان الروح في القرآن الكريم وبذلنا الجهد في تفسير الآيات الماسة بذلك حسب الوسع والمقدور وأوردنا من الروايات الناصة ما فيها شفاء الصدور. انتهى.

أقول وأما قول الزمخشري في تقرير القول الثالث «وحسب انه عرض له» كلام ساقط لا يلائم بمقام الرسالة والنبوة فان إشرافه (ص) على مشاهدة الملك وعيان ما فوق عالم المادة الدنيوية من أجل العلوم الإلهية وأشرف المعارف الربوبية ولا يقاس علومهم بعلوم ما سواهم من البشر فان أعاظم العلماء البشرية ليس لعلمهم عصمة ذاتية بل يعلمون يخطئون ويصيبون بخلاف علوم الأنبياء فإن لهم علما بالواقعيات وعلما بإصابتهم فعلومهم مصونة بذاتها عن الخطأ بالعصمة والمصونة الذاتية وهل يرضى عالم منصف ان يقول ان رسول الله (ص) حين أشرف على مشاهدة الملك وحين تجلى له الملك من حجب الغيوب (حسب انه قد عرض له) نعوذ بالله.

وقيل ان المراد به المتحمل وفي أقرب الموارد ازمل الحمل مرة واحدة وفيه أيضا في معاني زمل الى أن قال الشيء حمله.

٢٣٦

أقول لا بأس بذلك لو كان هذا الاستعمال شائعا وثابتا في اللغة أي المتحمل لأثقال النبوة ولعظائم الأمور كما انه لا بأس ولا مانع انه خوطب بهذا الخطاب حين كان متزملا بثياب أو قطيفة حسب احتياجه اليه بحسب العادة.

قوله تعالى (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ). الآية ، الظاهر ان المراد من القيام هو الصلاة لشيوع إطلاق القيام على الصلاة والقائمين على المصلين والظاهر ان الأمر بالقيام كما في أمثاله ونظائره هو إنشاء الحكم على نحو الكلي وعلى نحو القضية الحقيقية مثل قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ). الآية ويشهد على ذلك الآيات الواردة في آخر السورة حيث قال تعالى (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ). لعدم خصوصيته بهذا التكليف. قوله تعالى (إِلَّا قَلِيلاً) استثناء من الليل وقوله (نِصْفَهُ) بدل من قليلا والضمير في منه وعليه يرجع الى النصف.

فالمتحصل من الآية إنشاء قيام الليل عليه (ص) وعلى المسلمين النصف أو ما زاد على النصف أو ما ينقص منه على سبيل التخيير في اختيار الوقت.

قوله تعالى (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) قال في القاموس الرتل محركة ، حسن تناسق الشيء ـ الى ان قال ـ ورتل الكلام ترتيلا أحسن تأليفه ترتل فيه ترسل وعن الكافي مسندا عن عبد الله بن سليمان قال سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عزوجل (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) قال قال أمير المؤمنين (ع) بينه بيانا ولا تهده هذا الشعر ولا تنثره نثر الرمل ولكن افرغوا قلوبكم القاسية ولا يكن هم أحدهم آخر السورة. أقول ترتيل القرآن سواء كان في الصلاة أو في الموارد الأخرى سنة مؤكدة وليس من الفرائض.

قوله تعالى (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) أقول الأشبه بالمقام ان القول الثقيل هو القرآن الكريم فان له في الاجتماع البشري وزنا لا يساويه شيء وموقعا لا يدانيه أمر وقد قال (ص) في الحديث المتواتر عنه بين الفريقين اني تارك فيكم الثقلين. الحديث. فالقرآن المبين أكبر الثقلين وأعظم الخليفتين فحيث أن هذه السورة المباركة نزلت في أوائل المبعث يكون هذه الآية أبهى بشارة وأجل كرامة أكرم الله بها حبيبه وصفية (ص).

قوله تعالى (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً). اي الناشئة في الليل بمثل نوم الليل وسياحة النهار وهي صفة ونعت الناشئة لعبادة واقعة وناشئة في الليل وذكر في القاموس في جملة معاني الناشئة وقال القومة بعد النومة فالظاهر ان العبادة الناشئة في الليل عند ما هدأت الأصوات ونامت العيون وتفرغت وعند ما أخذت البدن من نوم الليل جماما وقوة ونشاطا ورغبة أتم

٢٣٧

موافقة وأشد مواطئة للقلب مع اللسان والسمع على قراء أعد وأثبت للإقدام على قراءته وطأ أقدام القلوب وطمأنينة النفوس. (وَأَقْوَمُ قِيلاً) قيل أصدق قولا وأسد مقالا.

قوله تعالى (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) ـ واعلم ان الله سبحانه قد سمى نفسه بأسماء وأمر الناس ان يدعوه بها قال الله تعالى (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) (الأعراف ١٨) فهذه الأسماء منها ما يحكي عن نعوت ذاته مثل العلم والقدرة والحيات ومنها ما يحكي عن نعوت أفعاله الحكيمة الحميدة سواء كان من الأسماء التي يخاف مثل بأسه وانتقامه وقهره وسطواته على أعدائه أو من الأسماء التي يرجى مثل الحلم والرحمة والإحسان وأمثالها والقرآن الكريم قد تكفل لعدة مهمات من هذه الأسماء الكرام العظام ومرجع ذكر اسمه تعالى في قوله (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) أن دعائه تعالى وذكره سبحانه بهذه الأسماء تسبيح وتقديس وتمجيد وتحميد وتكبير وتعظيم وثناء للذات المقدسة للاولوهية وهو عبادة بالذات من غير احتياج الى جعل وتشريع محسنة بالضرورة والأوامر الواردة في الكتاب والسنة بالتسبيح والتقديس والتمجيد كلها أمر إرشادي وكذلك التبتيل والانقطاع اليه بالدعاء والتضرع والذكر بهذه الأسماء الكريمة وغيرها تواضع وتخشع وعبادة بالذات وحسن جميل بالضرورة.

في القاموس تبتل الى الله انقطع وأخلص «انتهى» وفي أقرب الموارد تبتل الى الله انقطع عن الدنيا اليه انتهى وقد وردت في تفسير التبتيل روايات يقرب مفاد بعضها من بعض منها ما قال في المجمع روى محمد بن مسلم وزرارة وحمران عن ابي جعفر وأبي عبد الله (ع) ان التبتيل هنا رفع اليدين في الصلاة وفي رواية أبي بصير رفع يديك الى الله وتضرعك اليه انتهى. ولا تنافي بين روايتي المجمع وغيرها من الروايات فان جمعها مصداق للتبتيل إذا تقرر ذلك فنقول :

ان الأمر بترتيل القرآن والحث والتشويق على ناشئة الليل وبيان شيء من فوائدها وآثارها لتشويق السامعين والأمر والإرشاد إلى ذكر اسم الله الكريم والانقطاع بكنه الهمة وحقيقة الإخلاص الى الله سبحانه والأدبار إلى الدنيا كلها فضائل ومكارم يحاول القرآن الكريم تربية الناس بهذه الفضائل وتأديبهم بهذه المكارم وقرائن وشواهد عند الفقيه ان لحن تلك الآيات الكريمة ليس لحن الإيجاب والفرض بل سيقت في سياق الاستحباب والرجحان والفضل وتكون تلك الآيات قرينة واضحة ان الأمر بوله قم في صدر السورة مسوقة بهذا السياق أمر ندبي والمراد به قيام الرجل في الليل إلى الصلاة وان قوله تعالى (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) عبارة أخرى عن مفاد الأمر وفي مرحلة التعليل وبيان شيء من حكمة هذا الأمر».

٢٣٨

فاتضح بفضل الله سبحانه غاية الوضوح ان الآية الكريمة في مقام تشريع نافلة الليل وهي محكمة لم تنسخ فيسقط ما ذكره الجصاص انها كانت فريضة ثم نسخت بقوله تعالى (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) فصارت طوعا وتسقط ما ذكره الزمخشري في تفسير (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) ان هذا ناسخ للأول ثم نسخا جميعا بالصلاة المكتوبات انتهى ملخصا.

وأما تفسير (فَاقْرَؤُا) فقد تقدم مفصلا

(في أحكام متعددة يتعلق بالصلاة)

قال تعالى (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) (النساء ٨٦).

بيان التحية مثل التذكرة والتخلية من باب التفعيل ومعناه مقدمة شيء من الدعاء والثناء والبر والإحسان إلى الغير والباء للتعدية إلى مفعول ثان وقيل أن التنوين فيها للتنويع ومن العجيب كما في المجمع والقاموس ان معناه السلام وأعجب منه تفسير السلام بالبقاء والسلامة من الموت ووجه هذا التفسير والتوجيه انهم لما قالوا أن معناه السلام والتحية مشتق من حي فلا بد من تسرية حقيقة الحياة ومفادها الى السلام أيضا).

والتحقيق ما ذكرناه أن معناه تقديم شيء من العطاء والإكرام والدعاء والثناء الى الغير فعليه يكون السلام من أفراد التحية ومصاديقها قال تعالى (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) الفرقان ٧٥ فعطف سلاما على تحية من باب عطف الخاص على العام فإن لأهل الجنة مواهب وعطايا تحية من عند الله ولهم من الله أو من الملائكة سلاما أيضا ففي كنز العرفان عن تفسير علي بن إبراهيم عن الصادقين (ع) ان التحية هنا السلام وغيره من البر وفي القلائد عن المناقب عن أنس قال جاءت جارية للحسن (ع) بطاقة ريحانة فقال لها أنت حرة لوجه الله فقلت له في ذلك فقال أدبنا الله عزوجل فقال (إِذا حُيِّيتُمْ). الآية.

وفيه أيضا عن الخصال فيما علم أمير المؤمنين (ع) أصحابه إذا عطس أحدكم فليقولوا يرحمكم الله ويقول هو يغفر لكم ويرحمكم قال الله تعالى (وَإِذا حُيِّيتُمْ). الآية.

فالآية الكريمة ظاهرة بحسب إطلاق الأمر في وجوب المقابلة بالأحسن أوردها بعين ما يماثلها كما إذا كانت التحية بتقديم عين من الأعيان لا بالقول واللفظ فقط. لاستحالة ردها بعينها في بعض الموارد والتحية أيضا مطلقة إطلاقا انواعيا اي نوع كان منها في جميع الأحوال والأوضاع.

٢٣٩

إلا ما خرج بالتقييد بحسب أدلة أخرى مخيرا بين الرد بالأحسن أوردها بما يماثلها فيكون الأحسن مستحبا عينيا وواجبا تخييريا من غير فرق بين السلام وغيرها من أنواع التحيات لما ذكرنا ان السلام من الإفراد الواضحة للتحية ومن غير فرق في السلام وغيره في حال الصلاة وغيرها والمراد بالأحسن ليس ما كان بالزيادة في الحروف والألفاظ بل المراد الحسن الزائد على أصل التحية بحسب المفاد وفي إفادة الإجلال والإكرام. غاية الأمر ان لا يتجاوز الحروف والجملات عن المتعارف سيما في حال الصلاة وعلى هذا يشكل التمسك في وجوب رد السلام بما يماثله في حال الصلاة بالآية الكريمة هذا كله بحسب إطلاق الآية واما الاخبار الواردة في هذا الباب وان ورد في كيفية الجواب أن يقال (بمثل ما قيل) الا انها قاصرة في إفادة المماثلة بحسب الألفاظ والصيغة وتعارضهما بما كان ظاهرها عدم لزوم المماثلة. فيشكل إطلاق الآية بها وسنزيد توضيحا لذلك.

فان قيل لازم ما ذكرت من عموم التحية في الآية الالتزام بوجوب كل تحية قولي أو عملي ولا اختصاص بالسلام وهذا خلاف السيرة القطعية المستمرة قلت كلا فان الوجوب ليس الا مفاد الإطلاق ونلتزم بتقييد الوجوب المستفاد من الإطلاق حسب ما وجد الدليل على عدم الوجوب ولا ضير في ذلك انما الإشكال فيما لو كان الوجوب مدلول اللفظ فيلزم منه استعمال اللفظ في الوجوب والاستحباب.

فتحصل ان الآية الكريمة لا دلالة فيها على وجوب الرد بالمثل من حيث الصيغة والألفاظ في حال الصلاة بل ساكتة مطلقة من هذه الحيث وانما تأمر الآية بالرد على الإطلاق أو بأحسن منها على ما قدمنا شرحه.

وأما الاخبار في هذا الباب منها ما تدل على أن الجواب بمثل ما قيل ومنها ما تدل على أن الجواب سلام عليكم مطلقا وهي لمكان تعارضها غير صالحة لتقييد إطلاق الآية بل الآية بإطلاقها حاكمة على جواز رد السلام بكل صيغة صريحة في رد السلام فيكون مبرئة للذمة بشرط أن لا يكون خارجة عن المتعارف سيما في الصلاة والجمع الذي تكلفوه بين تلك الاخبار لا يخلو عن الخدشة بل من الممكن جدا ان يقال ان الجواب بمثل ما قيل أقل ما يجري من رد السلام وقول سلام عليكم هو الأحسن والأفضل من إفراد الواجب التخييري فان التنافس بينهما ليس بالإيجاب والسلب بل كلها من أفراد السلام ومما ينطبق على الآية غاية الأمر ان الإتيان بصيغة الجمع في مورد المفرد يدل على التشريف والتكريم ما لا يدل عليه الإتيان بلفظ الإفراد من مواهبه تعالى وعناياته الإتيان بلفظ الإفراد.

من مواهبه تعالى وعناياته ومن الانبياء لأمته الموحدين

٢٤٠