بدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام

محمد باقر الملكي

بدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

محمد باقر الملكي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٣

١
٢

٣
٤

مقدمة الكتاب

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أحمدك اللهم يا من انزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا أحمدك اللهم أنزلته نورا وهدى وضياء وشفاء وجعلته مصدقا لكل وحي أرسلته ومهيمنا على كل كتاب أنزلته وفرقانا بين حلالك وحرامك وفرائضك وسننك وتهدي من اتبعه ويهتدي بهداه من ظلم الجهالة وتخرجه بنوره من مهاوي الخرافة والضلالة.

وصل اللهم على أشرف أنبيائك وأكرم أحبائك محمد الخطيب به وعلى آله الأوصياء الخزان له وصل اللهم على ملائكتك المقربين وعلى أنبيائك ورسلك المكرمين.

يقول أقل الخليقة محمد باقر الملكي لما كان القرآن أكبر الثقلين وأعظم الخليفتين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو جوامع الكلم وفيه أمهات الأحكام الدينية وأصول الشرائع الإلهية فالرجوع اليه والتفقه فيه فرض على كل من يريد التفقه في الدين ويحاول استنباط الأحكام والفرائض ، الحلال والحرام والسنن واني لقصور باعي وضيق مجالي وان لم أكن من أهل هذا الشأن الخطير الا ان ما لا يدرك كله لا يجوز أن يترك كله فشرعت في تفسير الآيات المشتملة على الأحكام بالبحث والتدريس والتحقيق فهذه لباب دروس وخلاصة أبحاث ألقيتها الى عدة من إخواني المحصلين والفضلاء المتفقهين فأحببت أن اجمعها في صحائف كي يكون تذكرة لي في مستقبل دهري وظننت أن أدعها مهملة يعرض عليها النسيان فيضل سعيي وقد تحريت في توضيح الآيات وتجزيتها بكل جهدي وبذلك في تفسيرها وتحقيقها غاية سعيي وأوردت فيها من الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ما لا يجوز للفقيه الاستغناء عنها من تخصيص العمومات وتقييد المطلقات وغيرها وعمدت في تفسير آية أحيانا إلى تفسير جميع ما تحتويه الآية من المعارف والحقائق غير الأحكام كما سيأتي إنشاء من أبحاث الإمامة والشفاعة وأتضرع الى الله تعالى وانصب اليه سبحانه مسألتي أن يجعل ذلك دون من سواه وما سواه وان يوفقني لإتمامه بالصلاح والسداد. وسميته ببدايع الكلام في تفسير آيات الأحكام.

في شهر رجب المرجب في قم المشرفة سنة ١٣٩٨.

٥

الآية الاولى

قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (مائدة ٦) قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية استشكل في توجيه الخطاب إلى المؤمنين بأن موضوع الخطاب عندنا أعم من الكفار والمؤمنين وأجاب عنه الفاضل المقداد (قده) وكذا الجزائري (قده) ان توهم الاختصاص بالمؤمنين متوقف على حجية مفهوم الوصف وهو ليس بحجة عندنا ووجه الاختصاص بالمؤمنين انهم المتهيئون للامتثال المنتفعون بالأعمال وقال الجزائري ويمكن أن يكون وجه ذلك كونهم الأشرف والاجدر بأن يوجه الخطاب إليهم انتهى.

أقول قد نسب إلى الإمامية ان الكفار مكلفون على الفروع كما انهم مكلفون على الأصول خلافا لأبي حنيفة والظاهر ان مورد البحث هو الأحكام الشرعية التعبدية لا الأصول ولا الأحكام الفرعية العقلية لا مطلقا وفي نسبة ذلك الى المشهور نوع خفاء وإبهام فإن الظاهر من كلماتهم كما صرح به الشيخ العلامة الأنصاري في كتاب الطهارة في بحث غسل الجنابة ووجوبه على الكافر بأقسامه ان مرادهم ان الكفار مكلفون بالفروع عقابا لا خطابا توضيحه : ان استبعاد توجيه الخطاب إليهم مع انهم منكرون للصانع وأصول الآيات وأمهات الشرائع وعدم صحة العبادات منهم مع كفرهم لا ينافي صحة عقابهم ومؤاخذتهم فان الممتنع بالاختيار لا ينافي الاختيار وقد بالغ الشيخ (قده) وأصر في إبطال أدلة القائلين بعدم توجه الخطاب الى الكفار منهم المحقق الكاشاني والمحدث البحراني في الحدائق في البحث عن غسل الجنابة.

وقد استدل للمشهور بآيات منها قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (بقرة ٢١) وفيه ان مورد الآية الحكم العقلي والدعوة الى التوحيد والنهي عن الشرك والتذكر أن يتدبروا في أسرار الخليقة وفي آيات التدبير العمدي والربوبية ومنها بقوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران ٩٧) وفيه ان المستدل قد غفل عن ذيل الآية (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) والمراد من الكفر كفر الطاعة لا الكفر بالربوبية ومنها قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) (نساء ١) وفيه ان الاتقاء والمراقبة التامة بجلاله تعالى وكبريائه فريضة عقلية ومنها قوله تعالى (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) (فرقان ٦٨) وفيه ان صدر الآية هكذا (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ

٦

وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) الآية فإن الشرك وقتل النفس من الكبائر العقلية ومنها قوله (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (المدثر ٤٣) والاستدلال بها متوقف على ان المراد من المصلين هو الصلاة المفروضة ويحتمل ان المراد منها انا لم نك من اتباع السابقين من الأنبياء المقربين والأئمة الموحدين واما لو قيل ان المراد في الآية هي الصلاة المكتوبة فالاستدلال بها في غاية الضعف فان جواب أهل سقر انا (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) انما قالوا انا (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) اي من الفريق الذين نجوا من النار لصلاتهم وصالحات أعمالهم فإن الصلاة من شعار المؤمنين وخصائصهم وكانت عليهم كتابا موقوتا في البرهان عن الكافي مسندا عن أمير المؤمنين (ع) كان إذا حضر الموت يوصي أصحابه بكلمات يقول تعاهدوا الصلاة ـ (أمر الصلاة نسخه نهج) وحافظوا عليها واستكثروا منها (وتقربوا بها وسائل) فإنها كانت على المؤمنين كتابا موقوتا وقد علم ذلك الكفار حين سألوا (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ). الحديث ولا يخفى ان مرجع كلا التفسيرين إلى أمر واحد. ومنها قوله تعالى (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (القيامة ٣١) والاستدلال بها متوقف على ان المراد من قوله تعالى ـ (صَلَّى) ـ هي الصلوات المفروضة ولكن الظاهر بقرينة قوله تعالى (وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) اي ما صدق ما يجب تصديقه ولا اتبع دعوة الحق بل كذب وأدبر إليها وتولى والمنقول في شأن نزولها انها نزلت في شأن معاوية ومغيرة به شعبة فحينئذ يخرج عن محل البحث.

ومنها قوله تعالى (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) (فصلت ٦) أقول : طرح البحث في الآية الكريمة نفيا وإثباتا يحتاج الى بسط من الكلام وسنتعرض إن شاء الله لتفسيره في البحث عن آيات الزكاة. ويحتاج أيضا الى تعيين المراد من لفظ المشركين لشيوع إطلاقه على من اتبع المبدعين كما في قوله تعالى (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) الآية وعلى المنافقين وعلى من نصب نفسه اماما من غير اذن الله فأطاعه في ما يأمر وينهى وغيرها من الموارد.

فالعمدة في إثبات المدعى هو الإجماع والدليل العقلي بأن يقال انه لا يجوز للكفار الإصرار على الكفر والإدامة عليه وسلب الصلاحية عن أنفسهم بالتقريب الى الله سبحانه بالعبادات فيجب عليهم بضرورة العقل التوبة من الكفر والايمان بالله المعروف بالفطرة والظاهر أناته والمتجلي بخلقه لخلقه فيحصل لهم الصلاحية لتوجيه الخطاب إليهم فعلى هذا يصح ان يقال لا مانع من شمول الخطابات عقابا لا خطابا لو قام دليل شرعي أو عقلي على ذلك فان الممتنع بالاختيار لا ينافي الاختيار

٧

وليس في البين دليل تعبدي يعتمد عليه فان الوجوه الاعتبارية التي أوردناها في صدر البيان عن كنز الفرقان وغيره في نهاية الضعف والإجماع لم يتحقق وعلى فرض تحققه هو إجماع تعبدي مستند إلى الأدلة التي أوردناها في المقام من الآيات وغيرها واما الآيات التي استدلوا بها على ذلك قد عرفت عدم دلالة بعض منها وعدم ظهور بعض منها.

قوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) ـ الآية قالوا إذا أردتم القيام إلى الصلاة قيام التهيؤ لا قيام الدخول وقد أقيم المسبب مقام السبب واستشكل عليه في كنز العرفان ان تأويل القيام إلى إرادة القيام تحليل عقلي خروج عن اللغة فإن إلى للغاية الزمانية أو المكانية فالأولى تقدير الزمان أي إذا قمتم زمانا ينتهي إلى الصلاة انتهى ملخصا أقول والاولى ما عليه المشهور صرح به الشيخ (قده) في التبيان والمحقق الأردبيلي والجزائري في آيات الأحكام وهذا استعمال شائع مثل (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ). قوله تعالى (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) الآية الغسل من أوضح المفاهيم العرفية لا يحتاج الى بحث وتدقيق الأكمل والكامل والأسبغ والسابغ ولا بأس بالأخذ بإطلاقه أي ما يسمى غسلا من أي مرتبة وأي فرد اختار المكلف.

وإطلاق الأمر بالغسل يدل على الوجوب واما القول بأن الأمر حقيقة في الوجوب كما صرح به بعض المفسرين فليس في محله وقد ثبت في محله ان الوجوب مستفاد من إطلاق الأمر لا من هيئته.

أقول اختلفوا في تفسير الآية فقال بعض من العامة بوجوب الوضوء عند القيام الى كل صلاة أخذا بالإطلاق محدثا كان أو متطهرا ونسبوه الى علي (ع) أيضا وقال بعضهم إذا كان محدثا لا مطلقا وهو قول كثير منهم والحق في المقام ان مطلقات الكتاب والسنة وعموماتهما لا يجوز الأخذ بهما قبل الفحص عن المخصصات والمقيدات فان العمومات والمطلقات المسوقة لبيان الأحكام الكلية على نحو القضية الحقيقية كلها في معرض التخصيص والتقييد سيما على ما هو المختار عند المحققين من جواز التخصيص والتقييد بالخبر الواحد الواجد شرائط الاعتبار فضلا عن تخصيصها بآيات أخرى في الكتاب فعليه يجب تقييد الآية بما علم من فعله (ص) وبما علم بالضرورة من عدم وجوب الوضوء للصلاة على من كان متطهرا ومنه يعلم ما في قضية النسخ فان الواجب ليس هو المطلق كي ينسخ بل الواجب بمعونة المخصصات هو الوضوء على من لم يكن متطهرا فتبين ان القول بوجوب الوضوء

٨

عند كل صلاة متطهرا كان أو محدثا من دون تبين من البيانات المنفصلة جزاف واضح والله الهادي.

فتلخص في المقام وجوب غسل الوجه واليدين بمعونة ما ورد في تخصيص الآية وتقييدها على من لم يكن متطهرا وهل هذا الوجوب غيري أو نفسي ظاهر الآية هو الأول وحيث ان هذا الوجوب من ناحية العبادة المشروطة بالوضوء يأتي به المكلف بقصد أمر تلك العبادة كما هو الحال في جميع الاجزاء والشرائط في كل عبادة مؤتلفة من عدة اجزاء وشرائط فيكفي في تحقق عبادية كل شرط وجزء إتيانهما بقصد أمر تلك العبادة وكذلك أيضا لو كانت من تلك الاجزاء والشرائط شيئا عباديا من ناحية أمر آخر مثل قراءة القرآن والأذكار والتسبيحات والسجدة فلا بد أيضا من إتيانها بقصد أمر تلك العبادة لا بقصد الأوامر المتعلقة بها أنفسها ثم لا يخفى انه لا يمكن تحقق العبادية في شيء من الأفعال غير ما كانت عبادة بالذات الا بقصد الأمر واما الدواعي الأخرى مثل خوفا من ناره ورغبة في جنته وما فوقها من الغايات فلا يمكن تحقق العبادية بها فان تلك الغايات كلها يقصدها المكلف بعد تحقق العبادية لانحصار الربط واضافة العبادة إليه تعالى بقصد امتثال امره سبحانه فقط. نعم بعد تحقق العبادية يكون كلها بالنسبة إلى تحقق الإخلاص في العبادة في عرض سواء وان كان بينها تفاضل بحسب الفاضل والأفضل فقصد الأمر من بين الدواعي يتحقق به الإخلاص أيضا كما يتحقق به العبادية.

قوله تعالى (بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) قيل الوجه مأخوذ من المواجهة فالآية الكريمة تدل على وجوب غسل ما يواجه به منه قال العلامة المجلسي (قده) قال والدي (قده) بل الأمر بالعكس والمواجهة مشتق من الوجه انتهى ما أردناه فالمتحصل من كلمات المفسرين أن الحد الذي ذكروه في الوجه من قصاص الشعر الى آخر الذقن طولا وما دارت عليه الإبهام والوسطى عرضا هو القدر المتيقن من حيث وجوب الغسل وما زاد على ذلك لم يعلم وجوب غسله سواء قيل انها من الوجه كما عن بعض في الصدغين والأذنين أو ما بين الأذنين كما عن بعض آخر هذا بحسب مجادلاتهم مع العامة واما بحسب فقه الإمامية فهو المتعين.

اليد وهو على إطلاقه يشمل من رءوس الأصابع إلى أطراف المنكب والحد الذي يجب غسله ما نص عليه الآية الكريمة من المرفق الى رءوس الأصابع قال في المرآت : اليد لغة لها معان منها معناها المتعارف اي الكف أو من أطراف الأصابع إلى

٩

الكف انتهى ما أردناه.

قوله تعالى (إِلَى الْمَرافِقِ) جمع مرفق قال في البحار بكسر اوله وفتح ثالثة أو بالعكس وهو مجمع عظمي الذراع والعضد لأنه يرتفق به في الاتكاء ونحوه انتهى أما القراءة فقراءة الجمهور الى المرافق على ما هو المثبت في المصاحف واما قراءة أهل البيت سلام الله عليهم من المرافق كما في بعض الروايات والى المرافق كما في بعض آخر أيضا فعلى قراءة من المرافق لا إشكال في دخول المرفق في المغسول واما على قراءة إلى فحيث انها رأس عظمي العضد والذراع فشيء منه داخل في الذراع وشيء منه داخل في العضد فقد اختلفوا في وجوب غسله أصالة فذهب جمع ان الى بمعنى مع مثل قوله تعالى (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) آل عمران آية (٥١). وقوله تعالى (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) (هود ٥١) وقوله (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) (نساء ٢). فعليه يجب غسل المرفق مع اليد ففيه ان الى في الآيات ليس بمعنى مع فما معنى قوله من أنصاري مع الله فهل يتوهم أحد ان عيسى الصديق وهو من أعاظم الموحدين ان يتفوه ويقول من أنصاري غير الله مع الله بل مراده صلوات الله عليه من أنصاري في الدعوة الى الله والسلوك الى بابه والعكوف الى حضرته كما قال إبراهيم عليه‌السلام (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) واما الآيتين الأخيرتين فهما أيضا تضمين معنى الإضافة فعليه يكون دخول المرفق في المغسول استنادا الى ظاهر الآية مورد الاشكال قال في كنز العرفان والحق أنها للغاية ولا يقتضي دخول ما بعدها فيما قبله ولا خروجه لوروده معهما اما الدخول فكقولك حفظت القرآن من أوله الى آخره ومنه (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) (الاسراء ١) واما الخروج (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) و (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) وحينئذ لا دلالة له على دخول المرفق انتهى وقال المولى المحقق الأردبيلي (قده) ولا يبعد وجوب غسل المرفق وان كان غاية وخارجا من باب المقدمة لأنه مفصل وحد مشترك كما ثبت في الأصول انتهى وقال العلامة المجلسي (قده) ومجيء إلى بمعنى مع كما في قوله تعالى (يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) وقوله (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) لا ينتفع فنحن انما استفدنا إدخال المرفق في الغسل من قول ائتمنا وقد أطبق جماهير الأمة أيضا على دخوله ولا يخالف فيه الا شرذمة شاذة من الأمة لا يعتد بهم انتهى.

أقول الظاهر ان الشائع في الاستعمال الدخول إذا كان ما بعد الى وما قبله شيئا واحدا بالحقيقة أو بالاعتبار مثل قرأت القرآن من أوله الى آخره واغسل بدنك من فرقك الى قدمك وهل الآية الكريمة سيقت ليعلم كيفية الغسل من رءوس الأصابع إلى المرفق أو لبيان حد المغسول الظاهر القطعي هو الثاني بداهة أن طور

١٠

الغسل وكيفيته من سنن العامة البديهية الفطرية عند عامة البشر مستغنى عن التعليم والتعلم والعجب انهم كيف رضوا ان ينسبوها الى شارع الإسلام سيما مع تصريح الرسول وآله (ص) اليه وتذكيرهم به وتعبيرهم كثيرا ـ بوضوء رسول الله (ص) في بياناتهم ولو كان مراد الشارع التعليم بكيفية الغسل استثناء من سنه الفطرة لوجب الردع ردعا شديدا بعناية أكيدة بالغة.

قوله تعالى (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) وفي بعض القراءات المنسوبة الى أهل البيت (ع) عليهم‌السلام فامسحوا بالفاء وعن القاموس كما في البحار في سياق معاني الباء «وللتبعيض عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً» (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) انتهى وقال ابن هشام في ترجمة الباء «الحادي عشر للتبعيض اثبت ذلك الأصمعي والفارسي والقيتبي وابن مالك قيل والكوفيون وجعلوا منه (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) وقوله شربن بماء البحر ثم ترفعت وقوله شرب النزيف ببرد ماء الحشرج قيل ومنه (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ») انتهى. قال في كنز العرفان ص ١٠ والتحقيق انها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق فكأنه قال الصقوا المسح برؤوسكم وذلك لا يقتضي للاستيعاب ولا عدمه بخلاف امسحوا رءوسكم فإنه كقوله (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) انتهى.

وفيه أولا انه لا محصل لالصاق المسح بالرأس وثانيا ان قوله لا يقتضي الاستيعاب ولا عدمه غير ناهض لإثبات ما يحاول من افادة التبعيض فإن الآية ليست مهملة ولا مجملة بالنسبة إلى إفادة التبعيض والاستيعاب.

والذي يمكن في توجيه كلامه قدس‌سره ان الآية الكريمة مسوقة لإفادة تشريع أصل المسح لا في مقام تشريع الاستيعاب أو التبعيض بل الاستيعاب والتبعيض لا بد أن يستفاد من دليل خارج وعلى فرض عدم الدليل فإطلاق الآية لا يتأبى عن الاستيعاب والتبعيض وهو كما ترى ضرورة انه على فرض سوق الآية في مقام أصل التشريع ـ للمسح لا يعقل فرض إطلاقها بالنسبة إلى الاستيعاب والتبعيض.

والتحقيق ان يقال ان الآية الكريمة ليست لإفادة تشريع المسح فقط من دون عناية إلى مقدار المسح وكيفيته وليست ساكتة عن وظيفة العمل بل لا بد ان يقال بالفرق لوجود الباء وعدمه فعلى فرض وجودها ظاهرة في التبعيض وعلى عدمه في الاستيعاب.

فتحصل مما ذكرنا ان (مسح) لكونه متعديا لا يحتاج في تحقق الإلصاق

١١

بالممسوح الى الباء فإنه يفيد الإلصاق مستوعبا لجميع الرأس من غير احتياج الى الباء الا ان يقال ان المفعول لامسحوا هو الضمير الذي كناية عن الأيدي والرؤوس مفعولا ثان لا بد من التعدية إليها من الباء فحينئذ يفيد الباء معنى الإلصاق كما ذكره في كنز العرفان وغيره في غيره وهذا غاية التوجيه بهذا البيان ويتفرع على ما ذكره ان إطلاق رءوسكم يقتضي كفاية المسح عليه في أي جزء منه وكفاية المسح عليه بمقدار ما سيصدق عليه المسح وهكذا من حيث كيفية المسح مبتدئا من الأعلى أو منكوسا وقد ذكرنا في صدر البيان ان هذه الإطلاقات حيث انها في معرض التقيد لا يجوز الأخذ والعمل بها الا بعد الفحص واليأس عن مقيداتها فيضم إليها المقيدات لو ظفرنا بها والا فالاطلاقات هي المرجع والحاكم الفاصل.

قوله تعالى (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فالمنقول عن الكسائي وابن عامر وحفص عن عاصم بنصب أرجلكم وحمزة وأبو عمر وأبو بكر عن عاصم بجرها فالقائلون بالجر يعطفها على رءوسكم وهم كافة الإمامية. في الوسائل عن الشيخ مسندا عن غالب بن هذيل قال سئلت أبا جعفر (ع) عن قول الله عزوجل (وَامْسَحُوا). (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) على الخفض هي أم على النصب قال بل هي على الخفض وجماعة من العامة الا انهم قالوا بالاستيعاب وابن عباس وقد قال ان الوضوء غسلتان ومسحتان من باهلني باهلته وانس ابن مالك قال حين سمع قول الحجاج اغسلوا القدمين وخللوا بين الأصابع صدق الله وكذب الحجاج وعكرمة والشعبي وجماعة من التابعين واعترف بذلك جماعة من الزيدية القائلون بوجوب الجمع بين الغسل والمسح ان الكتاب ورد بالمسح والسنة بالغسل فوجب الجمع بينهما).

وأما القائلون بالنصب فمنهم من عطف الأرجل على محل الجار والمجرور فان محله نصب على الجار والمجرور وهو أمر شائع قد تلقاه النحاة بالقبول نحو مررت بزيد وعمرا ومن القائلين بالنصب من عطف الأرجل على وجوهكم أو على أيديكم كما عن الزجاج أو بإضمار عامل آخر تقديره واغسلوا أرجلكم كما في قول الشاعر «علفتها تبنا وماء باردا» وتكلفوا في الجواب عن قراءة الجر وتوجيهه بجر الجوار يعني ان الأرجل وان كان منصوبا باغسلوا لكنه مجرور بمناسبة جوار المجرور مثل (عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ).

وقال بعضهم ان الأرجل معطوفة على رءوسكم في تعليم الوضوء الذي فيه المسح على الخفين فلا بد حينئذ من المسح على الخفين لا لبيان تعليم مطلق الوضوء وأعجب ما في المقام ما عن الكشاف قال فان قلت فما نصنع بقراءة الجر ودخول الأرجل في حكم المسح قلت الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة تغسل بصب الماء عليها

١٢

فكانت مظنة للإسراف المذموم المنهي فعطفت على الرابع الممسوح لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها فقيل الى الكعبين فجيء بالغاية إماطة لظن ظان يحسبها ممسوحة لأن المسح لم يضرب له غاية في الشريعة انتهى.

وبه قال البيضاوي بعد ما حكم بوجوب الغسل قال ويؤيده السنة الشائعة وعمل الصحابة وقول أكثر الأئمة والتحديد والمسح لم يحد وجرة على الجوار ونظيره كثير في القرآن والشعر كقوله تعالى (عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (١) (وَحُورٌ عِينٌ) (٢) بالجر في قراءة حمزة والكسائي الى أن قال وللنحاة باب في ذلك وفائدته التنبيه على انه ينبغي ان يقصر في صب الماء عليها ويغسل غسلا يقرب من المسح انتهى ما أردناه.

أقول فاعتبروا يا أولي الألباب كيف عملت العصبية عملها النكير وليس هذا التلاعب بالقرآن وأحكامه إلا التحفظ الشديد والدفاع عن سلفهم وما وقع منهم عن الجهل بكتاب الله وأحكامه والحال ان القرآن هو المرجع لكل ما قيل ويقال.

أقول وبالله التوفيق اما عطف الأرجل على الوجه قال المحقق الأردبيلي فمعلوم قبحه سيما في القرآن العزيز انتهى. وقال العلامة المجلسي وما تحمله القائلون في توجيه قراءة النصب من عطف الأرجل على الوجوه يوجب خروج الكلام عن حلية الانتظام لصيرورته بذلك من قبيل قول القائل ضربت زيدا وعمرا وأكرمت حامدا وبكرا بجعل بكرا معطوفا على زيدا بقصد الإعلام أنه مضروب لا مكرم ولا يخفى ان هذا الكلام في غاية الاستهجان عند أهل اللسان فكيف يحتج اليه أو يحمل الآية عليه انتهى.

وأما تكلفوا في توجيه النصب وإيجاب الغسل بإضمار اغسلوا ففيه ان التقدير خلاف الأصل فلا يصار اليه الا عند الاضطرار وعدم المندوحة لا بالتكلف العمدي وقد عرفت ان العطف على الرؤوس واضح ومذهب راجح.

وأما جر الجوار فلا يليق بكرامة القرآن والمجوزون بجر الجوار انما جوزوه بشرطين عدم وجود حرف العطف في الكلام وعدم الالتباس والمقام فاقد لكلا الشرطين كما لا يخفى.

وأما التوجيه ان الآية في مورد الوضوء الذي فيه المسح على الخفين ولتعليمه على الأمة لا لبيان مطلق الوضوء وتعليمه فلا يخفى ما فيه من الوهن والركاكة فإنه

__________________

(١) سورة هود آية ٢٦.

(٢) سورة الواقعة آية ٢١.

١٣

قول بغير علم على الله ولم يثبت عنه (ص) المسح على الخفين قال الصدوق في الفقيه : ولم يعرف للنبي (ص) خف الا خفا أهداه له النجاشي وكان موضع ظهر القدمين منه مشقوقا فمسح النبي على رجليه وعليه خفاه فقال الناس انه (ص) مسح على خفيه على ان الحديث في ذلك غير صحيح الاسناد. قال وروي عنها انها قالت لان امسح على ظهر بقر بالفلاة أحب إلى من أن امسح على خفي واما ما أوله الزمخشري والبيضاوي ان المراد من المسح الغسل الخفيف أمر الله تعالى به وعبر عنها بالمسح رعاية للاقتصاد وتحذيرا من الإسراف المذموم تأويل ركيك لا يقبل ويرد إلى قائله واما الشائعة في أعضاء الغسل غاية دون المسح فجيء بالغاية في الأرجل أعلاما بأنه من الأعضاء المغسولة لا يخفى ما فيه من البرودة فإنه أول الكلام والتعليل الذي ذكره غير تام فان الوجه من الأعضاء المغسولة ليس له غاية مثل الرؤوس من الممسوحة واما تأتي الغسل بقراءة الرفع كما نقل عنهم في كنز العرفان بقطع أرجلكم عن العطف وجعله مبتدأ. اي وأرجلكم مغسولة فلا دليل على هذا الإضمار ولا مجوز شرعا وعقلا.

قوله تعالى (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) ـ تنقيح البحث في المقام في ضمن مسائل :

المسئلة الاولى : بيان معنى الكعب الوارد في الآية الكعب في اللغة هو العظم الناشز ظهر القدم وفي أقرب الموارد «الكعب : بالفتح : كل ما ارتفع وعلا» قال الشيخ الأنصاري (قده) وادعى في الذكرى كما عن المدارك ان لغوية الخاصة متفقون على ان الكعب هو الناشز ظهرا لقدم الى ان قال وعن نهاية ابن الأثير ان قوما ذهبوا الى أنهما الكعبان اللذان في ظهر القدم وهو مذهب الشيعة ومنه قول يحيى بن الحارث : رأيت القتلى يوم زيد بن علي فرأيت الكعاب في وسط القدم. وعن المصباح انه ذهب الشيعة الى ان الكعب في ظهر القدم وحكى هذه النسبة في مجمع البحرين عن بعض آخر أيضا انتهى وفي القاموس قال كل مفصل للعظام والعظم الناشز فوق القدم والناشز من جانبيها وبالضم الثدي انتهى.

أقول ومن العجيب ما في كنز العرفان قال : والناتيان لا شاهد لهما لغة ولا عرفا ولا شرعا انتهى نعم القول بأن الكعب هو العظم الناشز في آخر القدم ملتقى الساق والقدم هو مذهب العامة إلا الشاذ منهم كما عرفت من القاموس تفسيره الكعب بقوله كل مفصل للعظام الشامل بهذا القول أيضا وقال الراغب في مفرداته : كعب الرجل العظم الذي عند ملتقى القدم والساق قال (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) انتهى. ولا يخفى ان بناءا على شمول الكعب على العظمين الناشزين من جانبي العقب كما هو

١٤

المستفاد من تفسير القاموس لا يصح أن يكون مرادا في الآية في الكعبين ولو كان المراد في الآية هما الناشزان من جانبي العقب لكان الواجب ان يقال الى الكعاب أو الكعبين من كل رجل من المكلفين فتعين ان يكون المراد هما الناشزان ظهر القدم أو المفصل بين الساق والقدم الظاهر هو الأول لما عرفت من تصريح اللغويين من الخاصة بحيث لم ينقل منهم خلاف في المقام واما بناء على تفسير القاموس الشامل لكلا الموضعين فكذلك أيضا لتحقق الامتثال بالكعب الأول وتوقف الامتثال على المسح الى الكعب الثاني وإلغاء الكعب الأول محتاج إلى عناية زائدة في المقام واما ما ينسب إلى العلامة الحلي (قده) من المخالفة قال الشيخ (قده) ما حاصله ان التشنيع على العلامة ممن تأخر عنه انه خالف الإجماع في هذه المسألة ليس في محله ثم أخذ في شرح كلمات العلامة وعدم صحة نسبة المخالفة اليه على نحو الكلية واما ما ذكره الراغب فإنما هو تفسير على مذهبه وقد ناقض ذيل كلامه مع أوله فتلخص مما ذكرنا ان الكعب هما العظمان الناشزان فوق القدم كما ذهب اليه المعظم من الفقهاء قدس الله أسرارهم.

المسألة الثانية : أن الى في قوله تعالى (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) هل هي لبيان حد الممسوح أو لبيان حد المسح وبيان طوره؟ فالإنصاف ان الآية غير ظاهر في شيء منهما بخصوصه ولا يقاس ذلك بما أسلفناه في تفسير قوله تعالى (إِلَى الْمَرافِقِ) فإن سنة الغسل سنة ضرورية بديهية عند كل أحد فلا يجوز حمل الآية على تعليم الغسل بخلاف المقام فليس للمسح طور متعين عادي فطري عند الناس فلو كانت الآية في مقام بيان حد الممسوح من الرجلين فيجوز الأخذ بإطلاق الآية من حيث طور المسح فيجوز المسح من رءوس الأصابع إلى الكعبين وبالعكس أيضا ولو قلنا ان الآية لبيان المسح فيتعين المسح من رءوس الأصابع إلى الكعبين الا ان الظاهر بحسب الأدلة المنفصلة عند بعض ان الآية لبيان حد الممسوح من الرجلين فعليها يجوز المسح من رءوس الأصابع إلى الكعبين كذلك لا بأس بالمسح من الكعبين الى رءوس الأصابع أيضا.

المسألة الثالثة : هل المسح على الرجلين الى الكعبين على الاستيعاب بحسب العرض؟ قال الشيخ (قده) في الخلاف : والكعبان هما الناتيان في وسط القدم وقال : من جوز المسح من مخالفينا انه يجب استيعاب الرجل بالمسح وقالوا كلهم ان الكعبين هما عظم الساقين الا ما حكي عن محمّد بن الحسن فإنه قال هما الناتيان ظهر القدم مع قوله بالغسل انتهى.

أقول حيث ان الأرجل معطوفة على رءوسكم المجرور بباء التبعيض فيكفي مسمى

١٥

المسح طولا كما حققناه في تفسير قوله تعالى (بِرُؤُسِكُمْ) فلا يجوز الاستيعاب فإنه خلاف التبعيض المستفاد من الباء قال الشيخ (قده) في الخلاف وقد ثبت ان الباء يقتضي التبعيض لأنه لا بد من أن يكون لدخولها في الكلام المفيد المستقل بنفسه فائدة وليست فائدتها إلا التبعيض أيضا ويأتي في المقام النزاع المتقدم في الى ودخول الغاية في الممسوح وخروجه وما اخترنا. ثم ان دعوى الظهور في دخول الغاية في المعنى إذا كانا من جنس واحد لا يخلو عن قوة.

(فروع)

الأول مقتضى حكم الشرط في قوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) الآية ـ الابتداء بغسل الوجه عملا بالشرط وهكذا غير الوجه المذكور الأول فالأول سواء قلنا ان الواو العاطفة لمجرد افادة الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه كما نسب الى المشهور من النحويين أو قلنا انها تفيد الترتيب كما هو المحكي عن بعض ضرورة ان المقام مقام ترسيم الوظيفة وتعيين التعبد فلا يجوز ان يقال ان الترتيب المذكور في الآية ليس فيه عناية به بل وقع تصادفا وجزافا وان الترتيب المذكور من أحد أفراد الواجب ولا يخفى في الآية إطلاق بالنسبة إلى تقديم اليمين على اليسار في غسل اليدين ومسح الرجلين فلا بد في تقديم اليمين على اليسار من دليل منفصل خارج فتحصل انه لا بد ان يبدء بما بدء الله سبحانه به. وان تقديم اليمين على اليسار المفتي به عند الأعلام انما استفيد من دليل خارج دون الآية.

الثاني إطلاق الأمر بغسل الوجه عدم وجوب تخليل اللحية والحاجبين وأشفار العينين إذا كانت البشرة مستورة باللحية والحاجبين.

الثالث إطلاق الأمر بالغسل والمسح يقتضي استيعاب أعضاء الغسل والمسح فلا يجوز التبعيض فيما يجب غسله ومسحه.

الرابع إيجاب الغسل والمسح على الإطلاق يقتضي غسل البشرة والمسح عليها فلا يصح الغسل والمسح وعلى الأعضاء حائل ما عدا الوجه والحاجبين على تفصيل تقدم.

قال تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) الآية وهل الجملة معطوفة على الشرط وهو قوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) فيكون جملة مستقلة تقديره إذا قمتم إلى

١٦

الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية وان كنتم جنبا فاطهروا أو هي معطوفة على الجزاء يعني إذا قمتم إلى الصلاة ان كنتم محدثين فتوضؤا وان كنتم جنبا فاطهروا. قال العلامة المجلسي في البحار كتاب الطهارة طبع قديم ص ٩٨ : فالجملة الشرطية في قوله سبحانه (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) يجوز ان تكون معطوفة على جملة الشرط الواقعة في صدرها وهي قوله عزوجل (إِذا قُمْتُمْ) فلا تكون مندرجة تحت القيام إلى الصلاة بل مستقلة برأسها والمراد يا ايها الذين آمنوا ان كنتم جنبا فاطهروا وتجوز ان تكون معطوفة على جزاء الشرط الأول أعني فاغسلوا وجوهكم فيندرج تحت الشرط ويكون تقدير الكلام إذا قمتم إلى الصلاة فإن كنتم محدثين فتوضؤوا وان كنتم جنبا فاطهروا وعلى الأول يستنبط منها وجوب غسل الجنابة لنفسه بخلاف الثاني وقد طال التشاجر بين علمائنا قدس‌سرهم في هذه المسألة لتعارض الاخبار بين الجانبين واحتمال الآية الكريمة كلا من العطفين انتهى ما أردناه قال بعضهم والأولى أنها جملة شرطية معطوفة على مثلها الى ان قال ويؤيده قول علي (ع) في قضية الأنصار أتوجبون عليه المهر والحد ولا توجبون عليه صاعا من الماء وقول الصادق (ع) إذا أدخله فقد وجب الغسل انتهى ما أردناه.

وقال المولى المحقق الأردبيلي بعد استظهار الوجوب النفسي وعطف الجملة على الجملة ويدل عليه الاخبار أيضا مثل إذا التقى الختانان وجب الغسل انتهى.

أقول الحق في المقام عدم صحة الاستدلال بالآية على الوجوب النفسي وما في سياقها من الروايات أيضا فإن الروايات مثل الآية الكريمة مطلقات وعموميات في معرض التقيد والتخصيص سيقت لبيان أصل التشريع والأدلة دالة على ان الغسل واجب لأجل العبادات تكون مخصصة ومقيدة بها لا معارضة بها هذا على فرض دعوى ظهور الآية في عطف الجملة على الجملة واما بناء على ظهور عطفها على جزاء الشرط الأول فالآية ناصة على ان الغسل واجب لأجل الصلاة وهو الظاهر والمختار. قال المحقق الأردبيلي : ويؤيده كون باقي الطهارات كذلك ويشعر به بعض الاخبار ويؤيده قوله تعالى ان والا كان المناسب (إذا) انتهى.

يؤيده ذيل الآية الشريفة فإن التيمم سواء كان بدلا عن الغسل أو عن الوضوء لا يجب إلا لأجل غاية وهكذا يستحب عند غاية مندوبة وسيجيء الكلام فيه ان وجوبه للصلاة والعبادات مستفاد من الآية أو عن أدلة منفصلة عنها.

قال بعض المحققين ان البحث عن الوجوب النفسي لغسل الجنابة قليل الجدوى في مقام العمل فإنه ليس واجبا فوريا ان قلنا بوجوبه ومن قال بوجوبه قال بأنه واجب

١٧

موسع وتظهر فائدة الخلاف بين القولين فيمن أتى به عند خلو ذمته من العبادة المشروطة به هل يأتي به بنية الوجوب أو الندب؟ وفي عصيانه فمن كان جنبا ويظن أو يعلم انه يموت قبل حلول وقت عبادة واجبة مشروطة بالغسل فلو تركه مات عاصيا وتاركا لهذا الواجب وقد نوقش في كلتا الفائدتين وقالوا لا إشكال في مشروعية الغسل قبل حلول الوقت ونية الوجه لم يعلم وجوبه فيصح الإتيان بغسل الجنابة بقصد امره من غير قصد نية الوجه سواء قلنا انه واجب أو مندوب. واما الفائدة الثانية فقلما يتفق موردها ولو اتفق أحيانا قال العلامة المجلسي (قده) يوقعه خروجا عن الخلاف انتهى.

ثم انه لا ينافي الوجوب النفسي بناء على القول به مع الوجوب الغيري وأخذ الغسل شرطا في صحة الصلاة مثلا كما انه كذلك بالنسبة إلى الاستحباب النفسي. فتحصل في المقام ان الآية الكريمة تفيد إيجاب الغسل للصلاة لا إيجابه لنفسه وأن استحبابه النفسي على ما هو التسالم عليه عند الفقهاء قدس الله أسرارهم انما هو بحسب الأدلة الأخرى غير الآية الكريمة.

قوله تعالى (جُنُباً) قال الراغب في مفرداته بعد تفسيره بالابعاد وقوله تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) أي أصابتكم الجنابة الى ان قال وسميت الجنابة لكونها سببا لتجنب الصلاة بحكم الشرع وقريب منه ما في بعض العبارات حيث قالوا أنه في اللغة بمعنى الابعاد وشرعا هو البعد عن أحكام الطاهرين.

أقول قد اشتبه الأمر على الراغب ومن قال بمثل مقالته ولازم ما ذكروه هو القول بالحقيقة الشرعية في لفظ الجنب وهو مكان من الوهن ، ضرورة أن الجنابة أمر واقعي ومن كان به جنابة بما له من اللغوي فهو موضوع بعده من الأحكام الشرعية الواجبة أو غيرها فلحاظ البعد والابعاد انما هو بحسب الوضع اللغوي لا بلحاظ حكم الشرع وأخذه قيدا في المعنى اللغوي.

والتحقيق ان الجنب قد استعمل في معان كثيرة منها البعد المكاني مثل قوله تعالى (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (قصص آية ١١) وقوله تعالى (وَالْجارِ الْجُنُبِ) قال في القاموس بضمتين اي اللازق بك من غير قومك والجار الجنب بضمتين اي البعيد وفي أقرب الموارد والجار الجنب أي جارك من غير قومك ومنه (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ) الآية (نساء آية ٣٦) اي البعيد وفي المفردات جنب فلان خير أو جنب شرا قال تعالى (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) (ليل ١٨ ـ ١٩) وإذا

١٨

أطلق فمعناه بعد عن الخير. إذا تمهد ذلك فنقول معنى الجنب والجنابة والعناية الملحوظة في الوضع في المقام ان الإنسان بعد عمل الاختلاط بالنسوان أو بعلل اخرى يحتاج الى تنظيف وطهارة في الجملة وفيه نوع من الاستقذار وهذه القذارة منها ما كان محسوسا ومنها ما ليست بمحسوسة لضعفها وخفتها وفي أقرب الموارد جنب الرجل من باب ضرب تنجس وفي القاموس الجنابة المني وفي الروايات أيضا إشعار بذلك في البحار عن الاحتجاج الطبعة القديمة عن الصادق (ع) الى ان قال السائل فما علة غسل الجنابة انما اتى الحلال وليس من الحلال تدنيس قال الى ان قال ان النطفة دم لم يستحكم ولا يكون إلا بحركة شديدة وشهوة غالبة فاذا فرغ الرجل تنفس البدن ووجد الرجل رائحة كريهة ، الخبر. عن القاموس تنفس الفرج نضخ الماء وفيه أيضا عن العلل والعيون مسندا عن محمد بن سنان عن الرضا (ع) قال وعلة غسل الجنابة النظافة وتطهير الإنسان نفسه مما اصابته من أذاه وتطهير سائر جسده لأن الجنابة خارجة من كل جسده الخبر فتبين مما ذكرنا ان الجنب هو المستقذر والبعيد بحسب الواقع لا بحسب لحاظ حكم الشرع في المعنى اللغوي وفي ما ذكرنا في الاستظهار كفاية في تأمين المدعي وان العناية المأخوذة في وضع هذا اللفظ للمعنى اللغوي غير محتاج الى لحاظ الحكم الشرعي وان أبيت مما ذكرنا وصعب عليك قبوله فعبر عن هذه الحالة المستقذرة بالحدث المعنوي وقد كشف عنه أمر الشارع ان الإنسان الجنب بما له من المعنى اللغوي موضوع لعدة من الأحكام الشرعية من الوجوب ـ والتحريم وغيرهما.

قوله تعالى (فَاطَّهَّرُوا) الطهارة والنظافة من المفاهيم الواضحة عند كل عاقل وحسن الطهارة والنظافة وكذلك ردائه القذارة مما يستقل به العقل بالضرورة وليست لهما حقيقة شرعية أو متشرعة. فالطهارة على إطلاقها وبحسب مراتبها ممضاة في نظر الشرع في التذكر بها والإرشاد إليها وردت آثار كثيرة الا ان الواجب منها في موارد قام الدليل بخصوصه على وجوبها وعلى اشتراطها صحة أو كمالا في بعض العبادات.

إذا تقرر ذلك فنقول المأمور به في الآية الكريمة هي الطهارة ومقتضى إطلاق الطهارة وعدم تقييدها بواحد من الأعضاء هو غسل تمام البدن من قرنه الى قدمه فمرجع هذا الإطلاق بالحقيقة هو الإطلاق في المتعلق اي متعلق التطهير لا في نفس التطهير فإن الإطلاق في التطهير غير وافي لإفادة المطلوب كما لا يخفى.

١٩

فروع

١ ـ مقتضى الإطلاق في التطهير هو الاستيعاب والإتيان بالغسل على تمام البدن من دون تبعيض في الأعضاء بل وجوب التخليل في اللحية والحاجبين وإيصال الماء إلى البشرة.

٢ ـ مقتضى الإطلاق ان يكون فعل الطهارة عملا عمديا اختياريا له فلو غمسه في الماء أو انغمس بنفسه من غير التفات لم يكن مجزيا.

٣ ـ مقتضى إطلاق الأمر بالتطهير عند القيام إلى الصلاة ان يكون الفعل صادرا بقصد أمر الصلاة إذا اتى بالغسل بعد دخول الوقت وهل يصح بعد دخول الوقت بقصد امره النفسي ، الظاهر الصحة إذا لم يقصد خلاف الأمر الغيري.

٤ ـ مقتضى إطلاق الأمر بالتطهير عند إرادة الصلاة صحة إتيان الصلاة بالغسل من غير احتياج الى الوضوء والظاهر ان هذا الإطلاق لم يرد به دليل منفصل كي يكون مقيدا لإطلاقه قال الشيخ (قده) في الخلاف وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) ان أهل الكوفة يروون عن علي (ع) انه كان يأتي بالوضوء قبل غسل الجنابة قال كذبوا على علي ما وجدوا ذلك في كتاب علي قال الله تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا).

٥ ـ مقتضى إطلاق الآية عدم وجوب الموالاة وعدم وجوب الترتيب الا أن الأخذ بهذين الإطلاقين متوقف على عدم ورود دليل منفصل يقيده فالآية الكريمة من حيث إطلاقها بالنسبة إلى الترتيب والموالاة في معرض التقييد.

قوله تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) إلخ. عطف على المحذوف من متعلقات الشرط الأول اي ان كنتم صحاحا حاضرين محدثين فتوضؤوا وان كنتم جنبا فاغتسلوا وان كنتم مرضى أو على سفر الآية والآية وردت لبيان حكم ذوي الأعذار فتنقيح البحث هنا في ضمن مسائل :

الاولى أن الآية متعرضة لحكم المحدث والجنب بالعنوان الثانوي وفي مرحلة كونهما معذورين ومسوقة في مقام الامتنان والإرفاق ولا يخفى ان عنوان المريض والمسافر من باب الأغلبية وليس للوصف فيهما مفهوم كي يتوهم منه اختصاص الحكم الارفاقي بهما والمنقول عن الشافعي ان الحاضر

٢٠