بدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام

محمد باقر الملكي

بدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

محمد باقر الملكي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٣

في مقام التذكر إلى أهمية الصلاة وفي مقام التعليل لما دلت عليه الآية السابقة ان الصلاة لا تسقط بحال من الأحوال في الحرب والسفر والخوف فهذا التعليل لا يلائم ولا يناسب بأصل تشريع الصلوات وتشريع وجوبها ولا بضربها على أوقاتها المعنية ولا لما رواه الجصاص عن ابن مسعود أن الصلاة فرض موقت كالحج مع قطع النظر عن فساد أصل الدعوى وما استظهرناه من بيان مولانا الصادق (ع) أكثر سدادا وأحسن وللبيضاوي بيان آخر في بيان تعليل المذكور قال (مَوْقُوتاً) فرضا محدودا لأوقات لا يجوز إخراجها عن أوقاتها في شيء من الأحوال وهذا دليل على ان المراد بالذكر الصلاة وانها واجبة الأداء حال المسابقة والاضطراب في المعركة وتعليل للأمر بالإتيان بها كيفما أمكن انتهى. ولا يخفى مناقضية صدر كلامه مع ذيله وما ذكره في الذيل لعل هو المراد وقد اعترف به اضطرارا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا ان الآية الكريمة في مقام التذكر إلى أهمية الصلاة وعظم موقعها وشرف محلها وخاصة على المؤمنين فإنهم أولى وأحق بهذا التذكر وفيها إشعار ان المؤمنين هم الذين يحافظون عليها والخاشعون فيها ففي النهج قال (ع) تعاهدوا أمر الصلاة وحافظوا عليها واستكثروا منها وتقربوا بها فإنها (كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) الى ان قال وشبهها رسول الله بالحمة تكون على باب الرجل فهو يغسل منها كل يوم خمس مرات فما عسى أن يبقى عليه من الدرن. الخطبة قال في كنز العرفان وفي الآية أحكام الى أن قال ان الآية تدل على أن الصلاة على من يعقل ولا فرض على من لا يعقل إذ الإيمان هو التصديق فالمؤمنون هم المصدقون فالتصديق لا يصدر الا عن تصور وجزم وإذعان وذلك غير متصور إلا في من له تعقل فلا يجب على الصبي والمجنون والمغمى عليه. وفيه ان المؤمنين ليسوا في الآية موضوعا للوجوب الشرعي للصلاة بل في مقام النصح والتذكر مع الاشعار بترفع شأنهم. ثم ان ما ذكره من الدليل أعم من المدعى فيشمل المستضعفين والبلهاء فإنهم لا يقدرون على تنظيم برهان وقياس وتأليف مقدمات يوجب حصول اليقين والجزم لهم وقال أيضا ما ملخصه ان إيجاب الصلاة على المؤمنين لا يدل على أن الكفار ليسوا مكلفين بالفروع فلا ينافي الآية بثبوت الأحكام على الكفار أيضا بحسب الأدلة الأخرى. قلت نعم لا ينافي بين ثبوت الأحكام على المؤمنين وعلى الكافرين أيضا طبق الأدلة الواردة في كل من الموردين لعدم التنافي بين مثبت ومثبت آخر وانما التنافي بين المثبت والنافي إلا انا قد قدمنا البحث في ذلك وانه لا دليل على شمول الأدلة للكافرين خطابا وانما يشملهم عقابا هذا أولا ، وثانيا ان الآية ليست في مقام تشريع الصلاة على المؤمنين وليس للمؤمنين موضوعا لوجوب الصلاة كما شرحناه مفصلا وهذا الفرع كسابقه ساقط أصلا.

الآية الثانية

قال تعالى (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ)

١٢١

البقرة (٢٣٨) وفيها مسائل :

الأولى قوله تعالى (حافِظُوا) المحافظة الاهتمام الأكيد بشأن الصلاة مقابل التضيع والاستخفاف بها والمراد التذكر والإرشاد إلى المراقبة والمواظبة للصلاة وحدودها والتماس ما فيها من إسرارها وأنوارها ودرك فوائدها فإنها منهاج الأنبياء المقربين وقرة عين سيد المرسلين ومعراج المؤمنين وضروري انه لا مطمع لأحد في نيل أنوارها إلا بعد المراقبة التامة لأصلها وحدودها المقررة وليس التساهل والتسامح فيها الا من ضعف اليقين وعدم لياقة هذا المصلي بالتشرف بحريم القرب والمناجاة مع رب العالمين وفيه شيء من علامات النفاق فالمصلي يحتاج إلى رهبة ورغبة وخوف وطمع وخشوع وإخبات مع إتيانه بجميع الشرائط والحدود المقررة ولا بد للذين يرجون أيام الله ويخافون مقامه ان يجاهدوا أنفسهم ويراقبوها حتى يأهلوها شيئا فشيئا فليس من رحمة الله بعجيب ولا من كرمه بغريب ان ينظر الله إليهم بنظرة رحيمة ففي الروايات المروية عن أئمة أهل البيت (ع) شفاء لما في الصدور ودواء للداء المزمن في القلوب وقد ذكر شيخنا العلامة الشهيد الثاني (قده) جملة كافية في كتابه أسرار الصلاة على إخواني المحصلين الرجوع إليها فعن الرضا (ع) قال للصلاة أربعة آلاف باب ، وفي البحار عن فلاح السائل عن كنز الفوائد عن الصادق (ع) للصلاة أربعة آلاف حد.

وفي البحار عن فلاح السائل ذكر الكراجكي في كتاب كنز الفوائد قال جاء في الحديث ان أبا جعفر المنصور خرج في يوم جمعة متوكئا على الصادق جعفر بن محمد (ع) فقال رجل يقال له رزام مولى خالد بن عبد الله من هذا الذي بلغ من خطره ما يعتمد أمير المؤمنين على يده فقيل هذا أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق صلوات الله عليهما فقال أي والله ما علمت لوددت أن خد أبي جعفر نعل لجعفر ثم قام فوقف بين يدي المنصور فقال له اسأل يا أمير المؤمنين فقال المنصور سل هذا فقال أني أريدك بالسؤال فقال المنصور سل هذا فالتفت رزام الى الامام جعفر بن محمد (ع) فقال له أخبرني عن الصلاة وحدودها فقال له الصادق للصلاة أربعة آلاف حد لست تؤاخذ بها فقال أخبرني بما لا يحل تركه ولا تتم الصلاة إلا به فقال أبو عبد الله الصادق لا تتم الصلاة إلا لذي طهر سابغ وتمام بالغ غير نازع ولا زايغ عرف فوقف واخبت فثبت فهو واقف بين اليأس والطمع والصبر والجزع كان الوعد له صنع والوعيد به وقع بذل عرضه وتمثل غرضه وبذل في الله المهجة وتنكب اليه غير المحجة مرتغم بارتغام يقطع علائق الاهتمام بعين من له قصد واليه وفد ومنه استرفد فذا أتى بذلك كانت هي الصلاة التي بها أمر وعنها أخبر وانها هي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر فالتفت المنصور الى أبي عبد الله فقال يا أبا عبد الله لا نزال من بحرك نغترف وإليك نزدلف تبصر من العمى وتجلو بنورك الطحياء فنحن

١٢٢

نعوم في سبحات قدسك وطامي أو طامي بحرك.

المسألة الثانية لا يخفى أن المحافظة إنما تتعلق بالصلاة المجعولة من قبل أدلتها فلا تفيد هذه المحافظة الا الاهتمام بها في مرحلة امتثال أمرها وطاعة فرضها ان كان مفروضا بالوجوب العقلي من باب وجوب الطاعة بالكيفية الحسنى فلا يمكن الاستدلال بوجوب المحافظة على وجوب صلاة العيدين والجمعة كما في كلمات بعض الأعاظم ولا بوجوب الصلوات التسع المشهورة كما صرح به بعض آخر ضرورة ان الأوامر الإرشادية لا تصلح لإثبات جعل حكم شرعي من وجوب أو غيره فالأوامر الإرشادية تدور مدار الأمر المرشد اليه فلا تصلح لإفادة تشريع حكم أصلا وكذلك الأمر بالمحافظة لا ينافي استحباب شيء من الصلاة ان قلنا ان اللام فيها للاستغراق كما هو نظر المستدل فان الاستحباب والوجوب في متعلق المحافظة من الصلاة يدور مدار أدلتها فالمحافظة في مورد الواجب واجب وفي مورد الندب ندب.

فلا يصح الاستدلال بالمحافظة بوجوب كل ما يسمى صلاة إلا ما ثبت انه ندب فيبقى الباقي تحت العموم وهو المطلوب.

ثم ان الظاهر بحسب إطلاق الآية الكريمة شمول المحافظة لأصل الصلاة بحيث لا يلهيهم ولا يشغلهم شيء منها وشمولها لحدودها وشرائطها أيضا.

قوله تعالى الصلاة الآية الظاهر بقرينة المقام ان اللام للعهد وأن المراد من هذه الصلاة هي الصلاة اليومية لا مطلق الصلاة كما قدمنا نقله عن بعض المفسرين ضرورة انه لو كان اللام للاستغراق لكان شمولها شمولا انواعيا فحينئذ يجب ان تكون الوسطى المعطوفة على الصلاة نوعا من الصلاة ولم يقل بذلك أحد حتى من قال بالاستغراق أيضا وجميع الروايات الواردة عن طرق العامة والخاصة مع كثرتها كلها ناظرة الى الفريضة اليومية وان الوسطى فرد منها لا نوع منها والتفصيل الوارد في ذيل الآية (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ) الآية المعترضة لكيفية الصلاة في حال الخوف والأمن يؤيد ما ذكرناه ان المراد من الصلاة هي الفرائض وهذا البيان الذي ذكرناه من الشواهد على ما ذكرناه من بطلان قول من استدل من ناحية وجوب المحافظة على وجوب صلاة غير اليومية فبناء على ما ذكرنا أن المحافظة على الصلاة حكم عقلي إرشادي لا تعبدي ولا تأسيسي يكون المحافظة في مورد الحدود والآداب الواجبة واجبة وفي غيرها فضلا ورجحانا ما لم يؤد الى الإضاعة والاستخفاف وفي روايات أهل البيت الأمر الأكيد بالمحافظة والتحذير عن التضييع.

قال تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) (مؤمنون ٩) (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) (معارج ٣٤) قال تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) (إنعام ٩٢).

١٢٣

أقول التدبر في الآيات الكريمة بعد التدبر في ما ذكرنا من البيان في تفسير المقام يعطي ان مورد المحافظة فيها هي الفرائض أيضا وحكم المحافظة حكم إرشادي.

قوله تعالى (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) عطف على الصلاة وتخصيصها وأفرادها بالذكر بخصوصها للاهتمام الأكيد بها وفي هذه العناية دلالة على فضلها بخصوصها زيادة على ما سواها والوسطى مؤنث أوسط نعت لهذه الصلاة ومعنى الوسطية هي الوسطية من حيث العدد بحيث يكون طرفاه متساويين من حيث العدد وهذا هو الظاهر من الآية فإن الوسطية بمعنى الأفضلية وان استعمل في القرآن الكريم الا ان هذا الاستعمال بمعونة القرائن المتحفة به ولا قرينة في المقام بل في المقام ما يلوح به خلافه فإن الأفضلية بحسب الكتاب العزيز انما يستدل عليها بهذه الآية ولا دليل على أفضلية الوسطى قبل مرتبة هذه الآية كي تكون الآيات في مقام إيجاب المحافظة عليها واما تعيين الوسطى.

المسألة الثالثة في تعيين صلاة الوسطى وقد كثرت الأقوال في تعيينها وقال في المنار أن فيها ثمانية عشر قولا.

أقول هذه الأقوال مستندة الى وجوه ضعيفة والى اخبار مختلفة مروية عن طرق العامة لا جدوى في التعرض لها ولنقلها وقال في المجمع في ضمن ذكر الأقوال وسادسها إنها احدى الصلاة الخمس لم يعينها الله وأخفاها في جملة الصلوات الخمس المكتوبة كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان واسمه الأعظم في جميع الأسماء وساعة الإجابة في ساعات الجمعة عن الربيع بن خيثم وأبي بكر الوراق انتهى.

أقول هذا القول أضعف الأقوال المذكورة في هذا الباب لمخالفته لجميع الروايات المنقولة سندا لهذه الأقوال سيما الروايات المعتبرة المروية عن أهل البيت (ع) مع ضعفه في حد نفسه فإنه يدعي ان الله سبحانه أمر بالمحافظة وكتم متعلقها وليس للرسول وآله الطاهرين تفسيرها وتوضيحها وقياس هذا الحكم بالاسم الأعظم وليلة القدر في غير محله أيضا.

وحيث ان الوجوه التي ذكرها في تعيين هذه الصلاة موهونة ضعيفة ولا دليل ولا قرينة في ظاهر الآية لتعيينها ذكر بعض المفسرين ان الوظيفة المتعينة في هذا الباب الرجوع في تعيينها إلى السنة المعتبرة.

وفي عدة روايات من أئمة أهل البيت (ع) ان الصلاة الوسطى هي صلاة

١٢٤

الظهر وانها في وسط النهار ووسط صلاتين النهار الغداء والعصر واما القول بأنها صلاة العصر فضعيف جدا ولا شاهد ولا دليل لهذا القول الا ما رواه في الفقيه في حديث مرسل عن الحسن بن علي (ع) الى أن قال واما صلاة العصر فهي الساعة التي أكل آدم من الشجرة فأخرجه الله عزوجل من الجنة فأمر الله ذريته بهذه الصلاة الى يوم القيمة واختارها لأمتي فهي من أحب الصلوات الى الله عزوجل وأوصاني أن أحفظها من بين الصلوات. الحديث.

والاستدلال بها في غير محله لضعف الرواية بالإرسال وضعف العلل المذكورة فيها فلا تصلح للمعارضة بالروايات المعتبرة المصرحة بأن الوسطى هي الظهر هذا أولا. وثانيا ان الكلام في تعيين الوسطى في الآية الشريفة وهذه الرواية تحاول إثبات أن صلاة العصر أيضا مما أمر الله نبيه بحفظها ولا منافات بينهما بوجه.

ثم ان القراءة المشهورة ما هو المثبت الآن في المصاحف ووردت في كثير من الروايات المروية عن طرق أهل السنة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ـ وصلاة العصر وذكروا ان هذه القراءة كانت مثبتة في مصحف عائشة وحفصة وعن الكشاف انها مع الواو قراءة ابن عباس وعائشة وبلا واو في قراءة حفصة وفي رواية أخرى عن حفصة أيضا مع الواو وقال في البحار عن السجستاني ستة روايات كذلك اي مع الواو في مصحف عائشة وثمان أحاديث أنها كذلك في مصحف حفصة وحديثان انها في مصحف أم سلمة إذا تقرر ذلك فنقول ان هذه القراءة وردت في الروايات المروية عن أهل البيت (ع) أيضا تارة مع الواو واخرى بلا واو وبديهي أنها مع الواو لا تنافي الروايات الدالة على أن الوسطى هي صلاة الظهر قال بعض الأعلام ما خلاصته أن ورودها في روايات العامة يؤيدها انها كانت مع الواو وان القراءة كانت في الصدر الأول كذلك وان القراءة من غير واو سهو من النساخ.

أقول بعد ما عرفت تأييد الروايات العامة لهذه القراءة فالحق عندنا سوء الظن بها وبهذه القراءة وبالروايات التي وردت لإثباتها من طرق الإمامية أيضا ولعلها صدرت عن أئمتنا تقية سواء كانت مع الواو أو بدونها فلا تكون هذه القراءة بلا واو معارضة بما ذكرنا من الأدلة الدالة على ان الصلاة الوسطى هي الظهر ولا يمكن أن يستدل بها ان الصلاة الوسطى هي صلاة العصر كما هو المنقول عن المرتضى (قده) كما انها مع الواو لا يكون مؤيدة للأدلة الدالة على أن صلاة الوسطى هي صلاة الظهر فتبقى الروايات الدالة على انها هي الظهر سليمة عن المعارض من غير احتياج إلى تأييدها بالقراءة الواردة مع الواو قال في آلاء الرحمن وصحيحة زرارة عن الباقر (ع) وان وردت فيها بعد ذلك في الكافي والفقيه ما صورته وقال في بعض القراءات حافظوا على الصلوات والصلاة

١٢٥

الوسطى وصلاة العصر وبناء على هذه الرواية فلا يخفى ان الامام لا يتعلل ببعض القراءات الا محاذرة عن الوقت واهله انتهى. ويقرب من هذا البيان عبارة الجزائري في قلائد الدرر فان قيل أن مورد التقية ومورد الاخبار العلاجية انما هو باب الإفتاء لا نقل الروايات طبق روايات العامة وتعيين المدرك لفتاواهم كما في بعض الروايات حيث قال ما معناه ان رسول الله قرأها كذلك وفي بعضها القراءة من دون استناد الى أحد قلت نعم أكثر الروايات العلاجية ناظرة إلى معالجة الاختلاف في الفتاوى الا ان فيها شواهد ودلائل تدل على سقوط ما فيه الريب كلية في مقابل الموثق وانتفاء موضوع الحجبة عن كل ما فيه الريب.

ثم ان قراءة المشهور المثبتة في المصاحف ضروري الثبوت ولا يجوز رفع اليد عنها بالآحاد الضعاف كما ذكرنا تفصيل ذلك في تفسير قوله تعالى (فَإِذا تَطَهَّرْنَ.) الآية (بقرة ٢٢٢).

وهل الأمر بالمحافظة للصلاة الوسطى لفضلها وشرفها وعظم موقعها من بين الصلوات المكتوبات أو لأنها في الساعة الحارة.

وفي معرض الاستخفاف والضياع والناس في حوائجهم وقاعاتهم وانها كانت من أثقل الصلوات على أصحاب رسول الله (ص) كما ذكروا ذلك في شأن نزول الآية ففي النصوص اشعارات أكثر واوفى فقد تبين من جميع ما ذكرنا ان الصلاة الوسطى هي صلاة الظهر وفي بعض النصوص أنها أول صلاة صلاها رسول الله (ص) وانها في وسط النهار ووسط صلاتين بالنهار صلاة الغداة والعصر. قوله تعالى (قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) ـ الظاهر أن المراد من القيام ليس هو الانتصاب والقيام المخصوص في مقابل القعود بل المراد منه اما الصلاة والتصدي إلى الصلاة بل قيل ان إطلاق القائم على المصلي إطلاق شائع ولا يخفى ان المعنى الثاني الطف وأنسب بالمقام من المعنى الأول فإن القيام بين يدي الله متواضعا لجلالة مستكينا لعظمته وكبريائه عليه سكينة العابدين ووقار الصالحين بأنواع التعبد التحصيلي أجل معنى وأدق بالنسبة إلى القيام والانتصاب في مقابل القعود.

وأيضا لو كان المراد هو القيام في مقابل القعود لكان المراد منه القيام في الصلاة بعنوان الشرطية في الصلاة وظاهر الآية لا يلائم الشرطية بل مطلوبية القيام من حيث نفيه وسيأتي مزيد توضيح لذلك في ذيل البحث إن شاء الله.

المسألة الرابعة اختلفوا في القنوت المذكور في الآية فقيل انه القنوت المرسوم في الصلاة وفي القلائد قال قال ابن بابويه في الفقيه القنوت سنة واجبة من تركها متعمدا في كل صلاة فلا صلاة له قال الله تعالى (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) يعني مطيعين

١٢٦

داعين انتهى. وقيل معناه ذاكرين الله في قيامكم وقيل الدعاء وقيل السكوت وكانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت الآية ونهوا عن ذلك ، رواه الجصاص عن أبي عمرو الشيباني وأطال الكلام في ذلك وأصر عليه ونقل أحاديث كثيرة في النهي عن الكلام في أثناء الصلاة وليس في هذه الأحاديث في تفسير الآية من شيء إلا حديث أبي عمرو الشيباني وروي عن عبد الله بن مسعود أنا كنا نسلم على رسول الله في أثناء الصلاة قبل أن نأتي أرض الحبشة فلما رجعت سلمت عليه فلم يرد علي فذكرت ذلك له فقال ان الله يحدث من أمره ما يشاء وانه قضى ان لا يتكلموا في الصلاة. فلا يخفى خروج ذلك كله عن حريم الآية وتفسيرها والذي يحل العقدة ويحسم أصل الشبهة ما ذكرناه في صدر البيان أن الآية الكريمة تذكر وإرشاد وحث على المراقبة والمحافظة على الصلوات المكتوبات وخاصة الوسطى منها وأن يقوموا في هذه الصلوات أو الأعم منها قانتا مخلصا حنيفا وليست الآية في مقام جعل الصلاة ولا جعل الشرطية للقيام وجزئية القنوت لها وتقييد القنوت بالقيام والقيام بالقنوت فالمراد من القيام هو الصلاة والقنوت نعت لها مطلقا قائماً راكعا ساجدا مسبحا مذكرا قارئاً قال تعالى (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) (زمر ٩). في تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) قال الصلاة الوسطى الظهر (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) إقبال الرجل على صلاته ومحافظته على وقتها حتى لا يلهيه عنها ولا يشغله شيء.

وفيه أيضا عن زرارة عن أبي جعفر (ع) في حديث الى ان قال (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) في الصلاة الوسطى ـ الى ان قال ـ قال (قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) مطيعين راغبين.

قوله تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ). بعد تشديد الأمر بالمواظبة والمراقبة في شأن الصلوات سيما الوسطى والتذكر والإرشاد بخطر الموقف والتحذير عن الإضاعة والاستخفاف بها وشئونها والإتيان بجميع أجزائها وشروطها مستوفاة قانتا مطمئنا راغبا أجاز ورخص تعالى في حال الخوف المشي والركوب في حال الصلاة والخوف في المقام شامل لجميع أنواع الخوف العدو واللص والسبع وغيرها ولم يذكر تعالى في هذه الآية غير الترخيص في المشي والركوب في حال الصلاة ولم يبين طور الصلاة وعدد ركعاتها فان هذا الإرفاق والترخيص بالنسبة إلى التشديد المذكور في الآية واما غيره من التخفيف في بقية الصلوات لا بد من التماس ذلك من أدلة أخرى قال تعالى (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية (النساء ١٠١).

فقد اختلفوا في دلالة هذه الآية على وجوب قصر الصلاة بمجرد الخوف في

١٢٧

الحضر وما استدل على وجوب القصر في الخوف لا يخلو عن الضعف والقصور ويمكن الاستدلال بها على القصر بذيل الآية قال تعالى (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (النساء ١٠١).

فالأمر بإقامة الصلاة بعد زوال الخوف وحصول الاطمئنان ليس الا باعتبار حصول الاطمئنان وهو ظاهر في التمام ولا أقل من دلالتها عليه بالإطلاق هذا وقد أقر بعض المحققين من الفقهاء بضعف دلالتها على وجوب القصر في حال الخوف في الحضر وقالوا ان الاولى الاستدلال بالقصر بالروايات الواردة المصرحة بذلك.

في البرهان عن الشيخ بإسناده عن زرارة قال سألت أبا جعفر (ع) عن صلاة الخوف وصلاة السفر تقصران قال نعم وصلاة الخوف أحق أن تقصر من صلاة السفر ليس فيه خوف أقوى فالخوف في الآية المبحوثة عنها موضوع تام للترخيص والإرفاق في كيفية الصلاة مشاة وركبانا من غير فرق بين أنحاء الخوف وأنواعه من اي سبب كان من لص أو سبع أو عدو في موقف الحرب وغيره والفرق بين هذه الآية وما في سورة النساء ان هذه في مقام بيان حال شدة الخوف والترخيص في كيفية الصلاة وأدائها بحسب ما أمكن فهي نص في إبطال قول أبي حنيفة من قوله بسقوط الصلاة في حال شدة الخوف وعدم جوازه في حال المشي وحال الطعن والضرب على ما حكاه الشيخ (قده) عنه في كتاب الخلاف واستدل بذلك الجصاص الحنفي بعد إقراره بإطلاق الآية انها مقيدة بقوله (ص) يوم الأحزاب ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى وفيه انك قد عرفت فيما تقدم في تعيين الصلاة الوسطى ان هذا الحديث قد ابتلى بما يعارضه ويخالفه فلا يصلح لتقييد الآية وعند الإمامية لا حجية له سواء ابتلى بالمعارض أم لا. روى في الوسائل انه (ص) صلى يوم الأحزاب إيماء فالآية باقية على قوة إطلاقها ثم أن الجصاص قال بالفرق بين الطالب والمطلوب وقال ان الطالب غير خائف فلا يجوز له صلاة الخوف وفيه ان الطالب قد يكون خائفا أيضا فإنه لو لم يكن طالبا ليصير مطلوبا ثم انه لا يخفى ان الضرورات تقدر بقدرها فيجوز للخائف الصلاة حسب ما أمكنه وهذا هو مقتضى إطلاق الآية فقد رخص تعالى للخائف إتيان الصلاة راجلا وراكبا من غير تعرض بطور من أطوارها وقد وردت في روايات كثيرة عن أهل البيت (ع) التصريح لكلا الإطلاقين أي شمول الخوف بجميع أنحائه وأنواعه اللص والسبع والعدو في موقف الحرب وغيره وكفاية الصلاة كيفما امكنه في الوسائل من الشيخ بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (ع) قال قام علي يطلب الناس بصفين الى ان قال ثم نهض القوم

١٢٨

يوم الخميس فاقتتلوا من حين طلعت الشمس حتى غاب الشفق ما كان صلاة القوم يومئذ إلا تكبير عند مواقيت الصلاة. الحديث. وفيه أيضا عن الفقيه عن الصادق (ع) قال صلاة الخوف تهليل وتكبير يقول الله عزوجل (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً).

قوله (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ). فالظاهر ان المراد من الذكر الصلاة فإنها من مصاديق الذكر وذكر بالحقيقة.

قوله تعالى (فَإِذا أَمِنْتُمْ) لا باعتبار اشتمالها على الذكر اللساني كما توهمه الجصاص فاذا حصل الأمن والسكون فيجب إتمام الصلاة مستوفيا بجميع أجزائها وشروطها وأعداد ركعاتها هذا نظير ما ذكرنا في الآية في سورة النساء وهي قوله تعالى (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) والفرق بينهما ان في هذه الآية الأمر بإقامة الصلاة وإتمامها من حيث الذي رخص فيه وهو الإرفاق والتخفيف بالقصر في أعداد الركعات وفي الآية المبحوثة عنها الإرفاق والتخفيف بحسب الكيفية والإتيان بما تيسر من اجزائها وحدودها ثم بعد حصول الأمن والسكون الإتيان بجميعها مستوفيا ومستكملا بجميع ما علم من حدودها واجزائها.

قوله تعالى (كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا) ـ الى آخره ـ اي علمكم بتعليم الكتاب والسنة ما لا تعرفون من الصلاة وأحكامها أو يقال كما علمكم من الشرائع والعلوم والعبادات كما في قوله تعالى (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) (إنعام ـ ٩١) فعلى هذا يكون قوله وعلمكم ـ الى آخره ـ بمنزلة التعليل لقوله فاذكروا ويكون المراد من الذكر اللساني والظاهر هو الوجه الأول.

(الآية الثالثة)

قال تعالى (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) (طه ١٣٢) أهل الرجل من كان أشد اختصاصا به من خاصته وبطانته فهو القدر المتيقن من مفاد الآية وفي قوله تعالى (وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) دلالة على انه (ص) مأمور بتحميل الصبر على نفسه الشريفة بإقامة الصلاة مع الذين يأمرهم بالصلاة فهذا الأهل المأمور نريده في إقامة الصلاة غاية الأمر انه (ص) مأمور بالاصطبار على إقامتها واهله مأمور بالصلاة بأمره.

وفيه اشعار بنوع من المشاركة والمقارنة بينه وبين أهله في هذا التأديب الإلهي

١٢٩

وتميزهم عن الناس بخصوصهم إذ كان جميع الناس وأهله مأمورين بالصلاة عامة بخلاف الأمر في المقام فلا يتجاوز سواهم وهي فضيلة ومنقبة خاصة لهم وليس سياق الآية سياق قوله تعالى (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) ـ تحريم (٦٦) ولا سياق قوله تعالى (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) ـ شعراء (٢١٤) كما ذكره الجصاص وغيره من المفسرين فان سياق الاولى التهديد وسياق الثانية الانذار في مرتبة التصريح وطليعة الدعوة الى الله والمعاد بل المراد أخذ أهله بالصلاة واصطبار نفسه الشريفة عليها كي يكونوا متأدبين بآدابه وتأديبه ومتمرنين بتمرينه (ص) إياهم وعنايته الخاصة بهم.

وليس أيضا في مقام جعل الوجوب عليهم بالضرورة بل الآية في مقام الحث والترغيب بإقامة الصلاة الواجبة عليهم بحسب الأدلة الأخرى ويؤيد ما ذكرناه من تميز الأهل عن الناس بالفضيلة والكرامة صدر الآية وهو قوله تعالى (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) (طه ١٣٢) فالآية الكريمة في مقام تزهيده عن الدنيا وما تلعب به أبنائها وعبدتها من زخارف الدنيا وزينتها والأدبار إليها والزهد فيها زهد الراحلين عنها والنظر إليها بعين المستوحشين منها ويأمره تعالى بالاصطبار على إقامة الصلاة وان يأمر اهله بها.

فالمتحصل من الآية بعد التدبر فيها صدرا وذيلا تسليته تعالى رسوله عن الدنيا والزهد فيها والإقبال إلى العبادة والزهادة بنفسه الشريفة مع خاصته وبطانته فالآية الكريمة وان كانت في بدو النظر عامة شاملة لجميع اهله وأزواجه الا ان العناية الخاصة والكرامة المبذولة في حق الأهل المذكور تأبى عن شمولها الا لمن كان قرينه (ص) وتلوه وقريبا منه في الزهادة والعبادة والعبودية فيتزلزل الإطلاق المتوهم من الآية في بدو النظر كما لا يخفى بداهة ان الأخذ بالإطلاق خروج عن السياق وأعراض عن الغرض المسوق له الكلام.

في قلائد الدرر عن عوالي اللئالي عن الباقر (ع) انه قال أمر الله (أمره ـ في نسخة ـ) أن يخص أهله دون الناس ليعلم الناس أن لأهله منزلة ليست للناس فأمرهم مع الناس عامة ثم أمرهم خاصة ورواه في البرهان عن علي بن إبراهيم عن أبي الجارود ومع زيادة قال فلما انزل هذه الآية كان رسول الله يجيء كل صلاة الفجر يأتي باب علي (ع) يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ثم يأخذ بعضادتي الباب ويقول الصلاة الصلاة يرحمكم الله (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ

١٣٠

وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). الحديث وفي معناها روايات أخرى بأسانيد متعددة.

في البرهان عن العيون بإسناده عن الرضا (ع) في حديث مع المأمون وعلماء مجلسه الى ان قال فخصصنا الله تعالى بهذه الخصوصية إذا أمرنا مع الأمة بإقامة الصلاة (الصلوات) ثم خصصنا من دون الأمة فكان رسول الله يجيء الى باب علي وفاطمة صلوات الله عليهما بعد نزول هذه الآية تسعة أشهر كل يوم عند حضور كل صلاة خمس مرات فيقول الصلاة رحمكم الله وما أكرم الله أحدا من ذراري الأنبياء (ع) بمثل هذه الكرامة التي أكرمنا بها وخصصنا من دون جميع أهل بيتهم. الحديث. فان قيل : ان طه سورة مكية وما ذكرت من البيان وما حدثت من الأحاديث لا تلائم الا ان تكون الآيات مدنية. قلت : في بعض المصاحف المصرية أن آيتي ١٣٠ و ١٣١ مدنية وهذا غير عزيز في القرآن الكريم في درج الآيات المدنية في السور المكية واما الآية المبحوثة عنها فهي أيضا مدنية ففي المجمع قال قال أبو رافع نزل برسول الله ضيف فبعثني إلى يهودي فقال قل له ان رسول الله يقول بعني كذا وكذا من الدقيق وأسلفني إلى هلال رجب فأتيته فقلت له فقال والله لا أبيعه ولا أسلفه إلا برهن فأتيت رسول الله وأخبرته فقال والله لو باعني وأسلفني لقضيته وأني الأمين في السماء والأمين في الأرض اذهب بدرعي الحديد اليه فنزلت الآية تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أقول الحديث الشريف كما انها تدل على ان الواقعة ونزول الآية في المدينة تسلية له (ص) كذلك يدل على ما استظهرناه ان قوله تعالى وأمر أهلك مرتبط بقوله تعالى (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) اعني ان الأمر بالزهادة وإقباله (ص) وإقبال أهله إلى العبادة واقعان في صراط التكميل والتربية والوعظ من الله سبحانه في سياق واحد أي النصح والتذكير من الله سبحانه المتناسب بمقام الرسالة وساحة النبوة.

قوله تعالى (لا نَسْئَلُكَ) رزقا لغنائه عن الرزق ولغنائه عن الطلب الى ما سواه وقيل أي لا نكلفك رزقك.

أقول هذا هو الأنسب بمقام التسلية والعطوفة والحنان اي لا نكلفك الى نفسك ولا نكلفك رزقك.

قوله تعالى (نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) تسلية منه تعالى وتأييد وتعطف وحنان بعد أمره بالزهادة والعبادة وتضمين لرزقه وتكفل بأمر حياته وهاتان الجملتان سيما الأخيرة المصرحة بالتضمين بالرزق والوعد به بمنزلة التعليل لقوله تعالى (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ) الآية ولقوله تعالى (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) كما هو مقتضى حديث أبي رافع أيضا المصرح بأن الآية نزلت تسلية له (ص) عن الدنيا ولا يخفى ما في هاتين الجملتين من الشهادة والتأييد لما استظهرناه من دعوى التخصيص في الأهل وان

١٣١

الآية الكريمة تفيد تسليته (ص) وتسلية أهله تتبعه أيضا ثم لا يخفى ان هذا الوعد والتكفل بأمر رزقه انما هو بحسب سنته المقدسة العادية لا على نحو الاعجاز والكرامة فلا وجه لتوهم الاعجاز والكرامة في المقام ولا وجه لتوهم المعارضة بين الآية وما في سياقها من الأدلة وبين العمومات الدالة على وجوب التكسب والطلب فما ادعى رسول الله (ص) ولا أحد من أئمة أهل بيته الارتزاق على نحو الاعجاز والكرامة فيسقط ما استشكله بعضهم من اعمال المعارضة بين هذه الآية وأشباهها وبين ما يدل على وجوب الطلب وتخلص بعضهم عن هذا الاشكال ان هذا من خصائصه (ص) ولا يجب للإنسان التأسي به في هذا والوجه ما ذكرناه من عدم دلالة الآية وعدم سوقها لذلك والآيات التي توهم منافاتها لوجوب الطلب كلها من هذا القبيل وليس فيها ما يدل ان الرزق على نحو الكرامة وإلغاء التكسب والطلب مثل قوله تعالى (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ). (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الى آخر الآيات التي استدل بها على ذلك فتحصل ان الآية الكريمة وما في سياقها كلها واردة بالوعد والتكفل على مجاري العادة والطبيعة وان أمر اهله بالصلاة والقيام بها والاصطبار عليها ما أريد بها الاعراض عن الطلب والاعتماد بوعده تعالى من غير طلب كي يتنافى وتعارض بالعمومات الدالة على الطلب ولا احتاج الى القول ان هذا من خصائصه أولا يجب التناسي به في ذلك.

(الآية الرابعة)

قال تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) (المؤمنون آية ٢) الفلاح الفوز والظفر بالأماني والآمال قوله تعالى (الْمُؤْمِنُونَ) الإيمان هو الإذعان والتسليم في مقابل ما عرف وعلم بالله عزوجل وتوحيده ونعوته وكتبه ورسله وهو أمر بسيط وحداني والأعمال الخارجية الأهم فالأهم شرط لصحتها وقبولها وتمامها وقيل ان الايمان كله عمل والإذعان الذي هو أصل الايمان وأساسه من جملة ذلك العمل أيضا وهو أمر مؤتلف ومركب من الأعمال منبسط ومنبث على القلب والجوارح ولكل واحد منها وظيفة تخص بها غاية الأمر ان عدة مهمة من تلك الأعمال بمنزلة الأركان للإيمان والباقية شرط لكماله وتمامه وهذا الوجه الثاني هو الأنسب والأقرب بالكتاب والسنة ، إذا تقرر ذلك فالنعوت المذكورة للمؤمنين في هذه الآيات الكريمة هل هي من المعرفات الحقيقية بناء على شرطية الأعمال أو على جزئيتها بحيث يتوقف ثبوت الايمان وتحققه على تلك النعوت.

واعتمد في بقية الشروط والاجزاء على الأدلة المنفصلة من الآيات والروايات

١٣٢

كما هو سنة القرآن الكريم في تحقيق الحقائق أو تلك النعوت سيقت للتقدير من المؤمنين والتشكر من مساعيهم الجميلة ومحامدهم الجليلة والحكم بفلاحهم. الظاهر هو الثاني فليس سوق هذه الصفات الكريمة الا للترفيع بشأنهم والفهم بقدس مقامهم لا لتحقيق معنى الايمان وبيان دعائمه وأصوله وأجزائه أو شرائطه. فإن جملة من تلك النعوت من المستحبات والتصريح في آخرها بثوابهم والنيل بكرامات ربهم أصدق شاهد على المدعى.

قوله تعالى (فِي صَلاتِهِمْ) أضاف تعالى الصلاة الى المؤمنين لبيان اختصاصهم بها وقيامهم بحقها واصطبارهم عليها حين غفل عنها المترفون واعرض عنها المستكبرون.

قوله تعالى (خاشِعُونَ) الخشوع في الصلاة قلبا وقالبا وروحا وبدنا قد وردت في روايات كثيرة عن أئمة أهل البيت (ع) وتكلم فيها فقهائهم قدس الله أسرارهم. والآية الكريمة بإطلاقها تشمل كثيرا من تلك الفروع المذكورة الخشوع بالقلب والخشوع بالبصر والخشوع في النظر. فان لكل من ذلك الذي ذكرنا خشوعا يناسبه قال في القاموس والخشوع في الصوت والبصر التذلل والسكون انتهى. فالخشوع يتصف به القلب قال تعالى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) فأدنى الخشوع في القلب إحساس الحاجة والافتقار الى الله سبحانه والشعور والاستشعار بعظمته بحيث يجتمع فيه الرغبة والرهبة والخوف والطمع ويتصف به الصوت. قال تعالى (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) (طه ١٠٧) فالخشوع في الصوت غضة مقابل الإجهار والخشونة به كما نصت به الآيات الكريمة في أدب المكالمة مع رسول الله (ص).

قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) ـ الآية (حجرات ٤) ويتصف به البصر قال تعالى (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) (القلم ٤٣). قال (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) (القمر ٧).

فالخشوع في البصر غضه في مقابل رفعه روي في كنز العرفان مرسلا كان رسول الله (ص) يصلي رافعا نظره الى السماء فلما نزلت التزم ببصره الى موضع سجوده وفي معناه روايات أخرى عن أهل البيت (ع) في الوسائل عن الكافي مسندا عن زرارة عن أبي جعفر (ع) الى أن قال «واخشع ببصرك ولا ترفعه الى السماء وليكن حذاء وجهك موضع سجودك».

١٣٣

وقد توهم بعض المفسرين أن المراد من الغض هو الغمض اي اطباق الأجفان قال وفيما ذكر من غض البصر مطلقا تأمل أو المستحب النظر الى موضع السجود حال القيام انتهى. أقول لا ريب في استحباب الغض مطلقا في حال الصلاة ولا ينافي النظر أيضا كما هو مقتضى بعض الإطلاقات.

نعم ربما يتوهم المنافاة بين رواية حماد عن الصادق (ع) المصرحة بغمض العين وبين رواية زرارة في الوسائل عن الكافي عن زرارة عن أبي جعفر في باب كيفية الصلاة الى ان قال وليكن نظرك الى ما بين قدميك الحديث وقد حمل الشيخ الغمض على الغض وفي القاموس انغماض الطرف انغضاضه وحمل الأردبيلي الروايتين على الاستحباب التخييري.

أقول فبناء على ما ذكره القاموس ان المراد من الغمض هو الغض يرتفع المنافاة بين رواية حماد الآمرة بالغمض والمطلقات المصرحة بالنظر ويصح ما ذكره الشيخ (قده) ان المراد من الغمض هو الغض ويؤيده أيضا فتوى الأعلام في ما رأيناه من كلماتهم بما يستفاد من رواية زرارة من عدم الغمض والله العالم.

(الآية الأولى)

قال تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً).

قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ) ـ الى آخره ـ إقامة الصلاة لأدائها على صورتها التي وردت لها بل أدائها مع التحفظ لحدودها وشروطها وأركانها والتجنب عن تضييعها والاستخفاف بشأنها وأمرها للفرق الواضح بين قولهم انك أقمت الصلاة ويقيمون الصلاة وبين قولهم صليت ويصلون وقد استعمل التعبير الأول في مقام التكريم والمدح مثل قوله تعالى (لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ.) الآية (البقرة ٣). قال الشيخ عبده في المنار في تفسير المقام فاذا اختلت صورة الصلاة عن هذا المعنى لم يصدق على انه اقام الصلاة فإنه قد هدمها باخلائها عن عمادها وقتلها بسلبها روحها انتهى.

في الوسائل عن السرائر مسندا عن بريد العجلي قال قلت لأبي جعفر أيهما أفضل في الصلاة كثرة القرآن أو طول اللبث في الركوع والسجود في الصلاة فقال كثرة اللبث في الركوع والسجود في الصلاة أفضل أما تسمع لقول الله عزوجل (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) إنما عنى بإقامة الصلاة طول اللبث في الركوع والسجود الحديث.

١٣٤

قوله تعالى (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) ـ الى آخره ـ الدلوك الزوال والميل وهذا معنى شامل لجميع إفراد الميل والزوال سواء كان عن وسط السماء أو عن افقها وقد اختلف في تحقيق معنى دلوك الشمس سيما عند قدماء المفسرين من العامة وقد فسره بعض منهم بغروب الشمس واستدل الجصاص على ذلك بأن الغاية هو غسق الليل وهي لا تلائم الظهر لو كان الدلوك هو الزوال لعدم الارتباط بينه وبين غسق الليل الذي هي الغاية لكون العصر فاصلة بين المبدأ والمنتهى ، انتهى. فكان الأنسب ان يكون المبدأ لغسق الليل أول الليل لا الظهر فتعين ان الآية مسوقة لبيان فريضتي المغرب والعشاء أقول سيجيء بيان وهن هذا القول وضعف الاستدلال به وعن ابن عباس وابن عمر في أحد قوليه ان المراد من الدلوك هو زوال الشمس من وسط السماء وأطبقت على ذلك روايات أهل البيت.

الاولى بطور البحث في المقام ان الآية الكريمة هل سيقت لبيان أوقات الفرائض على التفصيل المقرر في بابه أو هي ساكتة من هذا المعنى ومسوقة لبيان الحد الأول والآخر وساكتة عما سواهما من الحدود والشرائط وقد توهم القوم ان الآية لبيان أوقات الفرائض وتكلفوا في استظهار ذلك واستنباطه من الآية وأصروا على ذلك والحال ان ذلك ليس مستندا الى ظاهر آية ولا معتمدا إلى قرينة واستنباط وانما هو تفسير بالرأي وهذا منشأ الاشتباه وسر اختلاف الأقوال.

فلا يستفاد من الآية الا ان الحد الأول هو الدلوك والآخر الغسق فعليه تكون الآية غير متعرضة لتفصيل الأوقات لا تفصيلا ولا إجمالا فسقط ما ذكروه من الأقوال ويبطل ما ذكره الجصاص من ان المراد من دلوك الشمس غروبها فإن القضية حقيقية والنوع البارز الأول زمانا وأجلي حقيقة هو الدلوك عن وسط السماء فلا يبقى لشمولها للدلوك الغربي مجال ضرورة ان هذا متوقف على ان الآية لبيان تفصيل الأوقات ولا شاهد ولا دليل لهذه الدعوى على ان إطلاق الدلوك على الغروب لا يخفى ما فيه من التكلف فان الظاهر من الدلوك هو الزوال والميل مع بقاء أصل التجلي والشروق واما الغروب فإنه من مصاديق الأفول والسقوط والغيبة.

قال الرازي ما ملخصه قال أهل اللغة معنى الدلوك في كلام العرب الزوال ولذلك قيل للشمس إذا زالت أو أفلت دالكة هكذا قاله الأزهري الى ان قال وجب أن يكون المراد من الدلوك هاينها الزوال من كبد السماء وذلك لأنه تعالى علق إقامة الصلاة بالدلوك والدلوك عبارة عن الميل والزوال وعند ما حصل الزوال وجب ان يتعلق به وجوب الصلاة وذلك يدل على ان المراد من الدلوك في هذه الآية

١٣٥

ميلها عن كبد السماء وهذه حجة قوية في هذا الباب استنبطتها بناء على ما اتفق عليه أهل اللغة ان الدلوك عبارة عن الميل والزوال والله العالم انتهى.

أقول : يحتاج تتميم هذا الاستدلال الى ما ذكرنا من كون القضية حقيقية وسكوت الآية عن تفصيل الأوقات وبعبارة اخرى ان دلوك الشمس هو الحد الأول لإيجاب الصلوات فيستحيل ان يكون المراد كل دلوك على نحو العموم إذ لا يجب عند كل واحد من دلوك الشمس وميلها عن محلها صلوات فتنحصر بالنوع الخاص من الدلوك اي ما كان الأول زمانا بالنسبة إلى الغروب واجلى مفادا أو حقيقة منه وحيث ان القضية حقيقية فيتحقق حد الوجوب ويستقر الوجوب يتحقق الحد والشرط سواء قلنا ان الغروب من مصاديق الدلوك أم لا وغاية ما يقال ان نلتزم ان تعيين الدلوك الذي هو الحد الأول يحتاج الى البيان المنفصل من الشارع.

عن زرارة في رواية عن الباقر (ع) في قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) قال زوالها غسق الليل نصف الليل وذلك أربع صلوات وضعهن رسول الله ووقتهن للناس الحديث.

وفي قلائد الدرر في الحسن عن زرارة قال كنت قاعدا عند أبي عبد الله (ع) فقال له حمران ما تقول فيما يقول زرارة وقد خالفته فيه فقال أبو عبد الله (ع) ما هو قال يزعم ان مواقيت الصلوات كانت مفوضة إلى رسول الله هو الذي وضعها فقال أبو عبد الله فما تقول أنت؟ قلت ان جبرئيل أتاها في اليوم الأول بالوقت الأول وفي اليوم الأخير بالوقت الأخير ثم قال جبرائيل ما بينهما وقت فقال أبو عبد الله يا حمران ان زرارة يقول ان جبرئيل انما جاء مبشرا الى رسول الله وصدق زرارة إنما جعله الله ذلك الى محمد فوضعه وأشار جبرئيل به عليه ويشهد على ذلك ما في تفسير العياشي.

أقول يظهر من الحديثين ان المواقيت أوحى إليه (ص) من غير طريق القرآن وان تفصيل المواقيت لا بد ان يطلب من السنن. ولا ينافي ذلك ما في مفاد بعض الروايات ان الله بين أوقات الفرائض فإنه تعالى قد بينها بلسان نبيه ولا ينافي ذلك ذيل الحديث لعدم المنافاة بين التفويض اليه (ص) واشارة جبرئيل (ع) الى ذلك أيضا قوله تعالى (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) غاية لوجوب اقامة الصلوات وظاهرها عدم تشريع الصلوات بعد الغسق الا انه في معرض التقييد بالنسبة الى بعض أنواع المكلفين.

والغسق قيل ظهور الظلمة وقيل سقوط الشفق وقيل انتصاف الليل وحيث ان الغسق غاية لوجوب الصلوات فعند من يرى ان الغسق ظهور الظلمة وهو أول المغرب الشرعي تكون الآية غير شاملة لصلاة المغرب فما أبعد بين هذا القول وبين

١٣٦

القول بأن دلوك الشمس غروبها.

وأما القولين اي سقوط الشفق وانتصاف الليل فلا مانع من شمول الغسق لكليهما الا أنه ورد تخصيصه بحسب السنن الكثيرة بانتصاف الليل وهو آخر وقتها وعند تراكم الظلمة واشتدادها فعن الأزهري يقال غسقت العين إذا امتلأت دمعا وغسقت الجراحة إذا امتلأت دمعا وغسقت الجراحة إذا امتلأت دما انتهى.

قوله تعالى (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً).

قوله تعالى (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) عطف على قوله للصلاة أي أقم قرآن الفجر وفيه إيماء ان الصلاة المعطوف عليها هي صلاة دلوك الشمس وهو صلاة الظهر وهي القدر الشيق من الصلاة الواجبة بحسب هذه الآية الكريمة.

وقال في القلائد أيضا ان أفراد قرآن الفجر بالذكر فيه إيماء إلى الحصر والتحديد وان الصلاة الواجبة كلها مفروضة الى غسق الليل وهذه المدة من أولها إلى آخرها مضروبة عليها (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) بعد الفجر خاتمة تلك الفرائض.

وقال البيضاوي ما ملخصه ان الآية نص في وجوب القراءة في صلاة الفجر وفي غيرها بالقياس أيضا قال وفي تسمية صلاة الفجر قرآنا دلالة على ركنية القراءة ورد بأن تسمية الشيء باسم جزأه وتعلق الأمر به بهذا العنوان لا دلالة فيها على وجوب ذلك الجزء فإنه قد يعبر عن الصلاة بالقنوت وعن المصلين بالقانتين مع كونه جزء مستحبا في الصلاة ومنه يعلم وهن ما استظهر البيضاوي ركنية القراءة.

أقول لا يخفى ضعف ما ذكره البيضاوي الا ان النقض غير وارد عليه فان تسمية الصلاة قنوتا ليست باعتبار الجزء المندوب وهو القنوت المصطلح بل الصلاة حيث انها عبارة عن التوجه والانقطاع الى الله سبحانه فالصلاة نفسها من إفراد القنوت.

قال في القاموس القنوت بالضم الطاعة والسكوت والدعاء انتهى ولا يخفى ان تفسير قرآن الفجر بصلاة الصبح انما هو بحسب الروايات والسنن الواردة فيها لا من حيث ظهور الآية وتنصيصها بها.

قوله تعالى (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) اي يشهدها ويحضرها المسلمون وملائكة الليل وملائكة النهار ففي روايات أهل البيت (ع) ان ملائكة الليل تحضر صلاة رسول الله قبل عروجها وملائكة النهار تحضرها بعد نزولها وذكر الفخر الرازي ان ملائكة الليل والنهار تحضر صلاة الإمام في صلاة الصبح وذكر في تفسير الآية وجوها عرفانيا لا دليل لها ولا اعتماد بها.

١٣٧

بيان : قوله تعالى (وَمِنَ اللَّيْلِ) اي بعضها منها قوله تعالى (فَتَهَجَّدْ بِهِ) اي بالقرآن وفي القاموس الهجود النوم الى ان قال هجده فتهجد أيقظه ونومه انتهى.

أقول قد أمر الله تعالى رسوله ان يسهر بعضا من ليله بقراءة القرآن وهو مطلق سواء كان التهجد بالقرآن في الصلاة أو في غيره من حالاته.

قوله تعالى (نافِلَةً لَكَ) قال في القاموس النافلة الغنيمة والعطية وما يفعله ما لم يجب انتهى.

أقول تفسير النافلة والعطية هو أظهر لمكان تعديتها باللام اي ان قيامه (ص) بالليل وانقطاعه الى الله أعظم غنيمة وموضع عطية كريمة من الله سبحانه.

قال في المجمع ج ٦ ص ٤٣٤ اي زيادة لك على الفرائض وذلك ان صلاة الليل كانت فريضة على النبي (ص) انتهى. أقول لو كان المراد من النافلة الزيادة لكان حق التعبير زيادة عليك.

وقوله تعالى (فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً) الآية فيه وجهان الأول انه أمر من الله سبحانه الى رسوله وإطلاق الأمر يقتضي وجوب التهجد عليه وحيث ان ظاهر الآية اختصاص الخطاب بدون غيره فلا محالة يكون الواجب مختصا به (ص) ويؤيد هذا الوجه ذيل الآية (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ) الآية على ما سيأتي من البيان. الثاني ان صدر الآية وهو قوله (أَقِمِ الصَّلاةَ) ظاهر في بيان أوقات الصلاة على نحو الكلي وعلى نحو القضية الحقيقية لكل من جمع شرائط التكليف وقوله تعالى (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ) وارد في هذا السياق وظاهرة في إفادة عموم الحكم على عموم المكلفين واما وجوب النافلة على رسول الله (ص) فإنما استفيد من الأدلة الأخرى لا من هذه الآية ولو لا قيام القرائن المنفصلة على ان الأمر بالتهجد ندبي لكان مدلول الآية هو الوجوب مثل قوله (أَقِمِ الصَّلاةَ) في أول الآية.

قوله (عَسى) الآية في مرحلة التعليل والتفريع لقوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ) وقوله تعالى (فَتَهَجَّدْ). وللأخير فقط كما ذكرنا والظاهر ان قوله عسى يفيد الرجاء والترجي وواضح ان رجائه تعالى شيئا لغيره ليس كرجاء غيره شيئا لنفسه ولغيره بل رجائه تعالى شيئا لغيره هو عين وعده الجميل وهو سبحانه صادق الوعد وافي القول فلا يخلف الميعاد البتة قال في المجمع ج ٦ ص ٤٣٤ عسى من الله واجبه انتهى.

أقول والتعبير الأحسن ما ذكرناه فان التعبير بالواجب بالنسبة إليه تعالى لا يخلو عن المناقشة. قوله تعالى (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ) الآية البعث من الألفاظ الشائعة في الكتاب والسنة فقد استعمل في موارد الأمور الحسية كما في بعث الجنود والجيوش ونظائرها في الأمور المعنوية القدسية قال تعالى (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) الآية

١٣٨

(البقرة / ٢١٤) وغيرها من الآيات والمراد في المقام هو المعنى الثاني فإذنه تعالى لرسوله وتمليكه هذا المنصب الخطير وتمكينه (ص) منه بحسب عطائه سبحانه هو عين بعثه تعالى إياه (ص) المقام المحمود وهو عين تشريفه تعالى رسوله بهذه الموهبة الكبيرة ومعنى كون المقام محمودا اي كونه حسنا جميلا مرضيا ومنزها عن كل نقص وعيب كما أوضحنا سابقا ان مرجع الحمد بحسب التحليل الى التنزيه والتقديس فهذا المقام مرضي ومحمود على الإطلاق بحسب الواقع وعند الله سبحانه وكذلك عند الخلائق وأهل الجمع أجمعين الولي والعدو اما أوليائه العارفون بشأنه (ص) فيرونه ويشاهدونه بهذا الجلال والبهاء فتصير معرفتهم عيانا ويقينهم شهادة فيحمدون مقامه (ص) حق التحميد واما أعدائه المتكبرون الحاسدون فيظهر لهم من عظمته وجلالته بضرورة العيان ما لا يقدرون على دفعه وكتمانه وعلى إنكار كون هذا المقام محمودا.

أقول الآية الكريمة وان لم تكن ناصة بهذا المعنى في تفسير المقام المحمود الا ان الروايات من طرق الخاصة والعامة كافية في تفسيرها بالشفاعة وقد روي في البرهان ج ٢ ص ٤٤٠ عدة كافية عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام من أرادها فليراجعها.

وفي تفسير الرازي ج ٢١ ص ٣٠ قال بعد استظهار هذا المعنى الذي ذكرناه من الآية ولما ثبت ان لفظ الآية مشعر به اشعارا قويا ووردت الاخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى وجب حمل اللفظ عليه انتهى.

وفي المجمع ج ٦ ص ٤٣٥ قد اجمع المفسرون على ان المقام المحمود هو مقام الشفاعة وهو المقام الذي يعطى فيه لواء الحمد فيوضع في كفه ويستجمع تحته الأنبياء فيكون (ص) أول شافع أول مشفع.

بحث وتحليل

الشفاعة مأخوذ من الشفع وهو ما يقابل الوتر وفي القاموس خلاف الوتر. وشفعت في الأشباح بالضم لضعف بصري وانتشاره.

أقول وكان المسائل مع ما فيه من الإصرار والإلحاح في إنجاح مقصده ومرامه يضم الى نفسه من يعينه ويعضده في الالتماس والالتجاء من كان أكرم وأوجه منه عند المشفوع.

١٣٩

وقد استشكل في تفسير المنار في معنى الشفاعة وإمكان تحققها خارجا وقال في القرآن آيات ناطقة بنفي الشفاعة مطلقا كقوله تعالى في وصف يوم القيامة (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) واخرى بنفي منفعة الشفاعة كقوله تعالى (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) الى ان قال وليس في القرآن نص قطعي في وقوع الشفاعة ولكن ورد الحديث به انتهى ملخصا. قال الشيخ عبده فما ورد في إثبات الشفاعة على هذا يكون من المتشابهات فمذهب السلف التعبد بمفادها وعدم الفحص عن حقيقتها ومذهب الخلف انها دعاء يستجيبها الله تعالى انتهى ملخصا ونقل هذا عن ابن تيمية وغيره ولم يعدوه تأويلا.

أقول : لا يخفى عند أولي الألباب ان تفرده وتوحده سبحانه في جميع شئون ألوهيته وربوبيته يقضي ويحكم ان أمر الخلق وجميع ما يرجع اليه من شأن التكوين والتشريع ملك طلق له تبارك وتعالى أزلا وابدا في الدنيا والآخرة ويكون ظهور تلك المالكية في الآخرة أظهر وأجلي لإبطال الاختيارات ورجوع الأمانات من القدرة والثروة والسلطة والنعمة إلى مالكها وواهبها الملك الحق القيوم فعنت اليوم له الوجوه وخشعت له الأصوات مطيعين (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ). إذا تقرر ذلك فالآيات المتعرضة بأمر الشفاعة منها ما تدلى على أن اليوم انقطعت عنهم الأسباب وتقطعت عنهم الحيل والتناصر بينهم لا بيع ولا خلة ولا شفاعة ولا نصرة ولا فداء قال تعالى (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (البقرة ٤٨) وفي سياقها آيات اخرى ومنها ما تدل على مالكيته تعالى لأمر الشفاعة وتوحده سبحانه فيها قال تعالى (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (الزمر ٤٤) ومنها ما تدل على إبطال الشركاء والأضداد والأنداد والأصنام والاعتماد والاتكاء على شفاعتهم مع التعرض والتحديد بمن قال بالشفعاء من دون الله وبالشركاء مع الله قال تعالى (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (إنعام ٩٤ م).

لا يخفى ان هذه الطوائف الثلاثة من الآيات وما يجري مجراها خارجة عن حريم البحث وغير ناهضة لنفي الشفاعة بمعنى نفي اذنه تعالى أو استحالة إذنه تعالى لأحد من عباده المقربين ان يشفع في من اذن له بالشفاعة.

ضرورة ان نفي التناصر والتعاضد والخلة والفداء وانقطاع الأسباب والحيل حق الكفار يوم القيامة وظهور سطواته على أعدائه وذلتهم وهوانهم في ذلك

١٤٠