بدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام

محمد باقر الملكي

بدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

محمد باقر الملكي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٣

يتيمم ويصلي ثم يعيد إذا وجد الماء وفيه انه ان كان من باب الأخذ بالمفهوم وان غير المسافر لا يجوز له التيمم فلا وجه لتيممه وان صح تيممه فلا وجه لإعادة صلواته.

الثانية صرح بعض الأعيان ان المراد من المريض من يتضرر باستعمال الماء والذي لا يجد الماء لعجزه عن السعي اليه وطلبه. أقول وفي شمول الآية لكلا القسمين من المريض إبهام وخفاء فان المستفاد من الآية الكريمة وجوب التيمم على المريض الذي لم يجد الماء واما المريض الذي يتضرر باستعمال الماء فخارج عن مفاد الآية ولذا أول عدة من الأعاظم قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) اي لم تقدروا على الطهارة المائية صرح بذلك المولى المحقق الأردبيلي والعلامة المجلسي في أحد الوجهين والفاضل المقداد وحيث ان المتبادر من قوله (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) هو الفقدان للماء لا عدم القدرة عليه على اي وجه كان فيشكل استفادة وجوب التيمم على المريض المتضرر باستعمال الماء من الآية بل يطلب حكمه من الأدلة الأخرى وقد التجأ بعضهم ان قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) قيد للمسافر فقط فيكون المريض على عمومه موضوعا لوجوب التيمم. غاية الأمر ان المريض الواجد للماء الغير المتضرر باستعماله يخرج عن التيمم بالمخصصات المنفصلة فعليه يدور وجوب التيمم مدار المرض الا ما أخرجه الدليل والتحقيق ان الموضوع هو المريض الفاقد للماء لا مطلق المريض فلا تعميم ولا تخصيص قال في الحدائق بعد نقل الوجه الأول وان المراد من قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) في تأويل لا تقدروا وقيل ان المراد كما هو ظاهرها الذي لا يحتاج الى ارتكاب تجوز ولا تأويل انما هو كون المكلف غير واجد للماء بأن يكون في موضع لا ماء فيه فيكون ترخيص متى وجد الماء ولم يمكن من استعماله في التيمم لمرض ونحوه مستفادا من السنة المطهرة ويكون المرضى ونحوهم غير داخلين في خطاب فلم تجدوا لأنهم يتيممون وان وجدوا الماء والظاهر انه الأقرب كما لا يخفى انتهى. وسيأتي مزيد توضيح بذلك في تفسير قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا) وفي تفصيل كلام الرازي.

فإن قبل ذيل الآية الكريمة وهو قوله تعالى (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) الآية فيه إشعار بأن المراد المرضى على العموم سواء كانوا واجدين للماء أو فاقدين فإن إيجاب الطهارة والغسل والوضوء للمريض المتضرر باستعمال الماء مرفوع من ناحية الحرج قلت كلا فان نفي الحرج في مورد فقدان الماء لا مطلقا ولو كان خارجا عن مفاد الآية وسيجيء مزيد بيان لذلك في تفسير الحرج المنفي على نحو الكلية وبيان تطبيقه على مورد البحث وما أرسله في المجمع قال والمروي عن السيدين الباقر والصادق (ع) جواز التيمم في جميع ذلك انتهى. ليس في مقام تفسير الآية بل بعد نقل الأقوال في جواز التيمم وعدمه في أقسام المرضى قال : والمروي إلخ وقد توهم بعض ان الغرض من إيراد هذه المرسلة تفسير الآية بها وهو كما ترى.

٢١

الثالثة هل المراد من المسافر من كان موضوعا لوجوب التقصير أو للأعم منه بمن لم يقصر الظاهر هو الثاني ضرورة ان من خرج من بيته وتسفر وتبرز يعد مسافرا لغة ووجوب القصر وعدمه شرعا أجنبي عن إطلاق اسم المسافر عليه كالعاصي بسفره ومن كان كثير المسافر.

الرابعة هل يجب على المسافر السعي والطلب بحيث يصدق عليه انه لم يجد ماء أو ان المراد انه بحسب الغالب يسير في الصحاري والبراري وكان فاقدا للماء بالطبع ولا يجب عليه السعي والطلب ولو مع احتمال وجوده لأنه حينئذ يصدق عليه انه لم يجد ماء وسقوط السعي والطلب إرفاق له. الظاهر الأول لعدم صدق عدم الوجدان مع عدم السعي والطلب ولا يكون مشمولا للامتنان والإرفاق بمحض عدم وجدانه الماء من غير طلب وسعي ، وأدلة نفي الحرج وغيرها من أدلة الامتنان والتسهيل لا ينفي هذا المقدار من الطلب بل لا بد من طلب الماء والسعي إليه بمقدار متعارف بحيث لم يبلغ مبلغ الحرج والضيق.

قوله تعالى (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) الآية : أو بمعنى الواو فان المجيء من الغائط ولمس النساء ليسا قسيما للمريض والمسافر بل من كان به حدث أو جنابة مقسم للمسافر والمريض وغيرهما أيضا والغائط الأرض المنخفض التي يقصدونها للتخلي بها عما يخرج من أحد السبيلين تجوزا وتسترا والكناية عن الأحداث المعلومة اما بإيراد الجملة أي جاء أحد منكم من الغائط كما هو ظاهر بعض الكلمات أو المراد منها الفراغ من التخلي والخروج عن المحل المعلوم أو ان المراد من الغائط الحدث المعلوم عبر عنها بالغائط تسميع للحال باسم محله.

ومن قال ان المراد في الآية هو الوجه الثاني تكلف فيها بتقدير موضعا وجعل من للتبيين اي جاء موضعا من الغائط ويكون المراد بناء على ذلك التأويل دخوله في الخلاء قاصدا للتخلي ولا يخفى ان التحقيق هو الوجه الأول ولا وجه لتصحيح الوجه الثاني ولا محصل لهذا التأويل ثم ان الآية شاملة على إطلاقها لجميع الأحداث الواقعة في الخلاء بحسب الغالب والعادة لا الغائط المصطلح عند الناس.

قوله تعالى (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) وقرء بعضهم لمس والمعنى واحد كما صرح به بعض المفسرين وهل المراد من الملامسة ما يوجب الجنابة أو المراد به هو المس والغسل باليد ونحوه والمنقول عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعطاء والشعبي هو الثاني واختاره الشافعي وقال انه يوجب الوضوء وقال مالك انه المس واللمس بشهوة والحق هو الأول ويشهد على ذلك ويستأنس به التعبير بأو الدالة على التنويع ومقابلة الملامسة وجعلها قيما للمعطوف عليه وهو المجيء من الغائط

٢٢

ويؤيده أيضا ان المذكور في صدر الآية وجوب الوضوء للاحداث ما سوى الجنابة والغسل للجنابة وفي وجوب التيمم بدلا عن الغسل والوضوء لا ينطبق على الجنابة إلا الملامسة فيدور الأمر بين أن يقال ان الآية ساكتة عن حكم التيمم للجنب بدلا عن الغسل أو ان المراد من الملامسة هي التي توجب الجنابة والقول بأن الآية ساكتة عن حكم التيمم للجنب خلاف ظاهر الآية وهي تصريح سياقها كما لا يخفى.

وانما عبر تعالى عما يوجب الجنابة بالملامسة تسترا وتعففا قال الباقر (ع) ان الله تعالى حي كريم عبر عن مباشرة النساء بملامستهن وفي المجمع اختلف الموالي والاعراب فيه فقالت الموالي المراد به الجماع وقالت العرب المراد به لمس المرأة فارتفعت أصواتهم الى ابن عباس فقال غلب الموالي المراد به الجماع انتهى.

قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) قد مر تفسيره فلا وجه لتكراره وهي قيد للشرط المذكور في أول الكلام وهو قوله تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) وبعبارة أخرى قيد لاسم كان وهو الضمير المتصل في كنتم وجواب الشرط قوله (فَتَيَمَّمُوا) واحتمال كونه قيدا للمسافر فقط كما توهمه الرازي ساقط جدا إذ ليس قيدا للمرضى والمسافر معا فكيف يكون قيدا لأحدهما وقياس ذلك بصورة تعقب الجمل المتعددة قيدا في آخر الكلام ولم يعلم ارتباطه بأحدها قياس مع الفارق كما لا يخفى وكذلك الأمر بالنسبة إلى المجيء عن الغائط والملامسة كما أشرنا إليه سابقا.

قوله تعالى (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) التيمم في اللغة بمعنى القصد أي التصدي إلى العمل مشرفا على الأخذ به لا القصد الباطني قال الراغب تيممت كذا وتيممته قصدته قال في القاموس التيمم التوخي والتعمد والياء بدل من الهمزة وتيممته قصدته.

أقول لا دليل على ان تيمم يائها بدل عن الهمزة وان أصلها كانت أمم غير استعمال كلاهما بمعنى القصد.

قوله تعالى (صَعِيداً طَيِّباً) اختلف أهل اللغة في معنى الصعيد فعن الجوهري انه التراب الخالص ونقل ابن فارس عن ابي عبيدة انه التراب الخالص عن السبخ والرمل وفي القاموس انه وجه الأرض وترابها وفي مرآت الأنوار انه وجه الأرض أو ما ارتفع منها أو خالطها من خلط السبخ وغيره والمنقول عن ابن الأعرابي والخليل والزجاج انه وجه الأرض واستظهر أن العناية في إطلاق الصعيد على وجه الأرض انه الصفحة والسطح المتصاعد منها اي السطح الأعلى منها ويقرب ذلك ويؤيده ما في الصافي عن المعاني عن الصادق (ع) قال الصعيد الموضع المرتفع

٢٣

والظاهر من القرائن والشواهد ان الصعيد هو وجه الأرض وبه صرح من المفسرين الفاضل المقداد في كنز العرفان وهو الظاهر من الطبرسي والجزائري والمحكي عن الرازي والبيضاوي وصريح تفسير نفحات الرحمن.

قال تعالى (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) (كهف ٤٠) فالجنة التي عليها أشجار ونخيل بعد ما أرسل الله عليها حسبانا من السماء يصير صعيدا أي أرضا ملسا يزلق عليها باستيصال نباتها وأشجارها كذا قيل قال تعالى ـ (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) (كهف ـ ٨) القمي خرابا وعن الباقر (ع) لا نبات فيها وفي القاموس ارض جرز الى ان قال لا تنبت أو أكل نباتها أو لم يصبها مطر انتهى. فتلخص ان الصعيد هو وجه الأرض الذي لا تعلو عليها ولا تغلبها سبخة ولا ينافي ذلك ان الله سبحانه جعل لهذه الأمة الأرض وترابها طهورا وفي بعض منها ان التراب أحد الطهورين فان جواز التيمم على التراب بحسب السنة لا ينافي جوازه على الصعيد بحسب الكتاب ضرورة عدم التنافي والتخالف بين المثبتين وانما التنافي بين المثبت والنافي على أن التراب من مصاديق الصعيد ومما ينطبق عليه فلا تنافي بين العام وبعض مصاديقه الغالبة وان أبيت الا ان تقول بالتخالف والتكاذب بين الدليلين فالجواب ما ذكرناه من عدم التنافي بل يعمل بكل منهما في مورده وهو دليل على كثرة التوسعة والتخفيف على هذه الأمة.

قوله تعالى (طَيِّباً) أقول فسره قوم بالحلال في مقابل الحرام وقوم بالطاهر في مقابل القذر والنجس وفسره بعض بأنها التي تنبت واستشهدوا بقوله تعالى (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) والظاهر ان الطيب يقابل الخبيث وهو ما يكون للنفس تمايل اليه طبعا يقال ريح طيب وغذاء طيب وفي ذيل رواية المعاني عن الصادق (ع) قال الطيب الموضع الذي ينحدر عنه الماء ومثله بعينه عبارة الفقه الرضوي في تفسير الصعيد الطيب ولعل الكتاب المنسوب الى الفقه الرضوي هو رسالة الصدوق الأول وكيف كان فالصعيد الطيب هي الأراضي البعيدة عن العوامل العمومي بقيت بكرا تنزل عليها الأمطار تجري عليها الرياح وتطلع عليها الشمس فتوصيف الصعيد بكونها طيبا من باب أفضل المصاديق وأفضل الإفراد لا يجوز الأخذ بمفهوم الطيب والقوم بعدم الجواز في غير موارد الصفة كما لا يخفى.

فالتيمم من ربي الأرض وعواليها الأفضل ثم الأفضل الى ان يبلغ مرتبة لا تميل اليه النفوس طبعا ويشمئز منها بما فيها من العوامل العمومي من الجص

٢٤

المطبوخ والأحجار الملقاة فيها وغيرها حتى كاد أن يخرج من إطلاق الصعيد والتراب.

قوله تعالى (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) الآية وهذه هي الطهارة الترابية التي من الله تعالى على هذه الأمة بدلا عن الطهارة المائية إرفاقا وتسهيلا وتخفيفا فأسقط منها المسحات مسح الرأس والرجلين وأثبت طهارة الوجه واليدين بالتراب والصعيد مع تخفيف بين واضح بحيث اكتفى فيهما بالمسح في الجملة توضيحه.

توضيح ذلك ان التيمم بدلا عن الوضوء والغسل بعد إسقاط المسحات في الوضوء اي المسح على رأس الرجلين انما هو على الوجه واليدين فقال الزهري انه يمسح من المناكب الى رءوس الأصابع والمحكي عن بعض الأعاظم المسح على أعضاء الوضوء كله الوجه من قصاص الشعر الى الذقن وعلى اليدين من المرفقين الى رءوس الأصابع والمشهور هو المسح على بعض الوجه وبعض اليدين وهو القول الفصل والحق المبين اما القول الأول فبطلانه غني عن البيان فان نص الكتاب في الوضوء هو الغسل من المرفقين فإيجاب التيمم من المنكبين بدلا عن الوضوء خروج عن مقتضى البدلية ولا دليل على مدعاه غير الآية الموجبة للتيمم بدلا عن الوضوء وكذلك فيما هو بدل عن الغسل واما القول الثاني وهو المسح على أعضاء الوضوء قضاء لحكم البدلية ففيه ما قدمناه في البحث في مسح الوضوء ان (مسح) متعد بنفسه الى الممسوح من غير احتياج إلى أداة التعدية وبعد دخول الباء لا بد اما من القول بزيادة الباء واستيعاب المسح أو القول بالتبعيض حفظا وصونا لكلام الحكيم عن اللغوية والهذر فتكون الآية بمكان الباء نصا في التبعيض فيبطل قول القائل بالمسح من المناكب وقول من قال بالمسح من المرافق وتعين مما ذكرنا أن ما يجب غسله في الوضوء مستوعبا يجب مسحه في التيمم مبعضا غاية الأمر عروض الإجمال في المقدار الممسوح فلا بد في تعيين المقدار الممسوح من الرجوع الى السنن المعتبرة الا ان يقال أن الآية الكريمة في مقام بيان المقدار الممسوح فسكوتها عن بيانه دليل على عدم التعيين من ذلك الحيث فيتخير في مسح اي قدر شاء من أي جهة من أعضاء الوضوء والتحقيق هو الأول لتعريض الروايات المفسرة والروايات البيانية للمقدار الممسوح وينسب الى المحقق التخيير في المعتبر بين المسح الاستيعابي والتبعيضي وعبارته في المعتبر تفيد الترخيص والجواز في مسح الذراعين بعد الإفتاء بالمسح التبعيضي وما رخصه من مسح الذراعين انما هو للعمل ببعض الاخبار ونسب الى المنتهى استحباب الاستيعاب ولم اتحصل من المنتهى الا وجوب استيعاب المسح على المقدار المفروض لا استيعاب المسح على العضو كله فيحتاج الى الفحص البالغ في عبارته.

(قوله تعالى منه) الظاهر ان (من) للتبعيض والضمير يرجع الى ما يتيمم به اي امسحوا بوجوهكم وأيديكم بعض ما يتيمم به والظاهر عدم دلالته على وجوب

٢٥

علوق شيء من التراب أو الصعيد باليدين عند التيمم وقيل ان من للسببية كما في قوله (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) الآية والضمير راجع الى الحدث كقولهم تيممت من الجنابة وقيل إنها للبدلية والضمير راجع الى الماء اي تيمموا صعيدا طيبا بدلا عن الماء وقيل انها لابتداء الغاية والمعنى ان المسح يبتدء منه اي من الصعيد أو من الضرب على الأرض والحق ما ذكرناه من التبعيض.

فافادت الآية الكريمة وجوب الوضوء والغسل من الجنابة للصلاة وان الجنابة موجبة للغسل والبول والغائط والريح موجبات للوضوء ان فقدان الماء مبيح للتيمم وان التيمم يباح به كل ما يباح بالغسل والوضوء وكفاية التبعيض في التيمم وعدم وجوب الاستيعاب وعدم وجوب التخليل فيه والبدئة في الوجه في التيمم كما في الوضوء.

«قوله تعالى (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ) الآية» أقول الحرج الضيق والظاهر انه لا ريب في اشتراط موضوع الأحكام وتقييدها بالقدرة والاستطاعة إنما الكلام ان الناس مكلفون على قدر استطاعتهم العقلية أو دون ذلك والمدعى هو الثاني وان الأحكام وضعت على قدر استطاعتهم العرفية والعادية وما فوق ذلك فهو موضوع ومرفوع عنهم تحقيقا وتسهيلا وامتنانا على هذه الأمة وما فوق ذلك وان كان مقدورا لهم ويتمكنون من إتيانه وامتثاله الا ان فيه ضيقا وإصرا فبدل الله الضيق بالوسع والإصر والمشقة بالتخفيف والراحة وما كلفهم الا بدون سعتهم قال تعالى (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (حج ٧٧) قال تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (بقرة ١٨٥) قال تعالى (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) (بقرة ٢٣٣) قال تعالى (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٢٨٦) قال (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) الآية (بقرة ٢٨٦) قال تعالى (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (إنعام ١٥٢) قال تعالى (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (مؤمنين ١٦٢).

في تفسير العياش عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أحدهما قال في آخر البقرة لما دعوا أجيبوا (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) قال ما افترض الله عليها (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) ، الحديث ، وزاد في الحدائق كما حكي عنه أي إلا ما يسعه قدرتها فضلا ورحمة وعن الكافي عن حمزة الطيار في رواية شريفة عن الصادق (ع) الى ان قال ما أمروا إلا بدون سعتهم وكل شيء أمر الناس به فهم متسعون له وكل شيء لا يتسعون له فهو موضوع عنهم ولكن الناس لا خير فيهم والروايات المفسرة في هذا الباب كثيرة والمتحصل من الآيات وإطلاقاتها وصريح الروايات ان جعل

٢٦

الأحكام على موضوعاتها انما هو على السعة والإرفاق وهو الحرج المنفي في الدين سواء كان لزوم الحرج في أصل التشريع أو بحسب العناوين الثانوية. وعروض الحرج والشدة بحسب الأوضاع والأحوال فيرتفع الحكم الأصلي ويقوم مقامه الحكم الاضطراري كما في الآية المبحوثة عنها ولا يخفى ان نفس الحرج انما هو في إتيان الواجبات واما في المحرمات فمورد الحرج النفسي في تركها والاضطرار إليها فعند الاضطرار الى ارتكابها فيرتفع أيضا ولا يخفى أيضا ان الحرج النفسي سواء كان في ارتكاب المحرمات المستقلات أو في إتيان الواجبات انما هو في الواجبات والمحرمات الشرعية التعبدية واما الأحكام العقلية اي المستقلات العقلية ففيها طور آخر من البحث ولعل الله يوفقنا للبحث عنها في الأبحاث الآتية ان شاء الله.

فتحصل في المقام ان الحرج المنفي هو مطلق الحرج سواء بحسب أصل الشرع أو بحسب الأحوال والأوضاع الطارئة وينطبق انطباقا تاما على الآية المبحوثة عنها اي الحرج الطارئ بطرو العناوين الثانوية ويشمل أيضا بإطلاقها جميع أنواع الحرج في الموارد كلها فلا يمكن أن يتوهم ان الحرج المنفي بالأولية والأولوية ما كان لازما بحسب أصل التشريع كما لا يخفى.

قوله تعالى (يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). ففي الكلام إبراز عطف وحنان منه سبحانه على المكلفين وتطييب لقلوبهم فسبحانه من إله ما ابره وما أوصله فذكرهم انه سبحانه ما يريد في جعل الأحكام الا ما هو الأسهل والأخف والأوفق لشأنكم وحالكم لا الضيق والحرج وقيل ان المراد في الآية انه ليس غرضه تعالى في تشريع الدين إيجادا لحرج وإيجاب الضيق والظاهر هو الوجه الأول (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) بالطهارات الثلاث بإيجابها وتشريعها عليكم قيل ان المراد التطهير من الذنوب وقيل التطهير من الحدث بالتراب وقيل تنظيف الأبدان بالوضوء والغسل وعن الحنيفية انها الطهارة عن النجاسة الحكمية وأورد عليه الشافعية بعدم إمكان الالتزام بالنجاسة الحكمية فإن حكم النجاسة وجوب غسل ملاقيها وبطلان صلاة من حملها وأجاب عنه الفاضل المقداد بان الشافعية لم يدركوا معنى النجاسة الحكمية وما ذكروه من التوالي هي آثار النجاسة العينية الى ان قال فإذا الأولى ما ذكره الحنيفة ويمكن أن يكون الثاني أيضا مرادا انتهى. أقول مراده من الثاني طهارة القلب الذي ذهب إليه الشافعية والحق في المقام والمناسب للتفسير واللغة هو النظافة والنزاهة الحاصلة بالطهارات الثلاثة أمر الله تعالى بها وجعلها من شرائط الصلاة.

قوله تعالى ـ (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ) الآية ـ المراد من النعمة هو الدين تفضل له

٢٧

سبحانه على عباده وهداهم به الى سعادتهم العاجلة والآجلة وهو تام كامل بحسب الأصول والفروع بحسب الأزمان والأدوار والظاهر ان المراد من إتمامه تعالى هذا الدين جعله تعالى الأحكام الاضطرارية وتبديل ما يلزم من إتيانه الحرج بالأخف والأسهل كي لا يقع المكلف في مضيقة الحكم الاولي لو امتثله ولا يقع في مخمصة مخالفته وعصيانه ولا يكون الموارد خاليا عن الحكم كي يحرم المكلف من فضيلة العبودية ونور الطاعة وتمامية الدين واشتماله على حكم كل واقعة وحادثة في جميع شئون المكلفين من الفارقات بين مذهب الإمامية وغيرهم من الفرق ، مبناء على مذهبهم لا يخلو واقعة من الحكم الشرعي لا بد من استنباطه وتفهيمه من الكتاب والسنة.

قوله تعالى ـ (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ـ ذكر بعض المفسرين في تفسيره ما خلاصته ان شكره تعالى ان يطاع ولا يعصى ويذكر فلا ينسى. أقول : هذا أعلى مراتب الشكر وصرف كل نعمة منه تعالى في عبادته وطاعته.

الآية الثانية

قال تعالى (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) الآية النساء (٤٣).

قوله تعالى ـ (وَأَنْتُمْ سُكارى) ـ حال من فاعل لا تقربوا وهو صريح على إطلاقه في حرمة الدخول في الصلاة واختلفوا في المراد من السكر في الآية الشريفة فقيل ان المراد من السكر سكر الخمر وان الآية نزلت في شأن جمع من الصحابة كانوا على مائدة في منزل عبد الرحمن ابن عوف فشربوا وسكروا وقاموا الى الصلاة وتقدم أحد منهم ليصلي بهم فقرأ أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد فنزلت وكانوا لا يشربون أوقات الصلاة وإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون الا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون وعن ابن عباس نزلت في جماعة من أكابر الصحابة قبل تحريم الخمر كانوا يشربونها ثم يأتون المسجد للصلاة مع رسول الله (ص) فنهاهم الله عنه وعن ربيع الأبرار للزمخشري قال انزل الله في الخمر ثلاث آيات (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) الآية (بقرة ٢١٩) فكان بين شارب وتارك الى ان شربها رجل فدخل في صلاته فهجر فنزل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) الآية فشربها من يشربها من المسلمين حتى شربها عمر فأخذ لحى بعير فشج رأس عبد الرحمن بن عوف ثم قعد ينوح على قتلى بدر بشعر الأسود بن يغفر (الاشعار) مبلغ ذلك رسول الله (ص) فخرج مغضبا يجر ردائه فرفع شيئا كان في يده ليضربه فقال أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسول الله فأنزل سبحانه (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) الآية (مائدة ٩٠) أقول وبهذا المعنى روايات عند أهل السنة وكلماتهم ورواياتهم في غاية الاضطراب لا يلائم صريح الآيات وظواهرها

٢٨

وزعموا ان الصحابة وخاصة عمر بن الخطاب لم يفهموا من الآيات المنع والتحريم الى ان نزلت الآية في سورة المائدة وقالوا ان الخمر كان حلالا بمكة يشربونها الصحابة نم نزل التحريم ونسخت الإباحة تدريجا وكانوا يستثقلون امتثاله وطاعته فلذلك نسخت الحلية تدريجا بالتحريم التدريجي فالآية المبحوثة عنها دالة على جواز شربها وتحريمها في حال الصلاة فنسخت بالآيات الدالة على التحريم. وفيه : أولا ان حرمة الخمر فمن المستقلات العقلية والآيات التي وردت في تحريمها انما وردت بلحن التذكر وبيان المفاسد لا بعنوان التعبد المولوي الشرعي فأول آية أعلنت بتحريمها قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) الآية (بقرة ٢١٩) والإثم في اللغة الجنابة وهو في عداد الفواحش والمنكرات والقول بغير علم والشرك بالله قال تعالى (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) الآية (الأعراف (٣٣) وكذلك قوله تعالى (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الآية (مائدة ٩٠) فهي ناصة على انها في عداد الأزلام والأنصاب وانها صد عن سبيل الله وعن ذكر الله ـ الى آخره ـ وفي صريح روايات أئمة أهل البيت انه ما بعث الله نبيا الا بتحريم الخمر. وثانيا : مع قطع النظر عما ذكرنا من التحريم الواقعي فلا معنى للنسخ أيضا فإن آية التحريم في سورة البقرة وآية الحلية في سورة النساء وهي متأخرة عن البقرة نزولا ومن عجيب ما قيل في المقام حين نزل التحريم في سورة البقرة قال عمر : اللهم انزل علينا بيانا شافيا ولما قرأ عليه قوله تعالى (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) ـ الى آخره ـ قال اللهم انزل علينا في الخمر بيانا شافيا ولما نزلت الآية في سورة المائدة إلى قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قال اللهم انتهينا. فانظر واقض العجب كيف انزل الله القرآن باقتراح عمر ولو كان له فقه بآيات القرآن يفهم التحريم من الآية في سورة البقرة ولو كانت في الآيات إبهام وإجمال لوجب عليه الاستيضاح من رسول الله (ص) وهو (ص) مبين وناطق عن الله وشارح لكلام الله فلا يصح له أن يقترح على الله في تشريع الأحكام وبيانها فتبين مما ذكرنا ان ما قيل في الآية المبحوثة انها منسوخة بآيات التحريم في نهاية الوهن والسقوط لما عرفت من التحريم الواقعي أولا والآية في البقرة نزلت قبلها وعرفت انها لو سلم ان هذه الآية قبل آية البقرة فلا دلالة فيها على الإباحة فغاية الأمر انها لم تجهر ولم تعلن بتحريمها فكم فرق بين الحلية والإباحة الشرعية من الله وبين عدم الإجهاد وعدم الإبلاغ بتحريمها فغاية ما يقال في تفسير الآية أنها بإطلاقها تدل على تحريم التلبس بالصلاة سكرانا وبطلان صلواته وسيجيء ما فيه أيضا

٢٩

في بيان القول الثاني وبطلان ما قيل في تحريمه أيضا.

ثم انهم استشكلوا في توجيه الخطاب الى السكران حيث لا يعقل فلا يعقل الخطاب وأجاب بعضهم ان المراد من السكر التمثيل وهو ما لم يبلغ الى حد يزيل العقل وأجيب تارة بأنه بسوء اختياره جعل نفسه بحيث لا يعقل الخطاب فهو مأخوذ بالخطاب فان الممتنع بالاختيار لا ينافي الاختيار والحق في الجواب ان ما ذكره من الجوابين على فرض كون القضية شخصية واما إذا قلنا ان القضية حقيقية مفروضة فلا يلزم الاشكال المذكور كما لا يخفى. القول الثاني ان المراد من السكر سكر النوم لا سكر الخمر توضيح ذلك ان القائل بأن المراد هو سكر الخمر أخذ بمفهومه البدوي العوامي حسب ما استأنس به الأذهان العامية وحمل اللفظ عليه اقتراحا بلا دليل وحمل النهي الوارد على النهي التحريمي والحكم التكليفي وهذا الدعوى باطل في حد نفسه بحسب مقام الثبوت فلا يحتاج إلى إبطاله في مرحلة الإثبات واما القائل بأنه سكر النوم وغلبة النفاس أخذ بمفهومه العام الشامل لجميع أنواع السكر ولا يدعي التبادر في سكر النوم ولا يدعي التجوز فيه بخصوصية وقيام قرينة على المجاز بل يدعى ان المنهي عنه عام مخصص ومرجع دعواه الى تخصيص العام وتقييد المطلق فالمنهي نوع خاص من العام أو المطلق بحسب الدليل الشرعي وهذه الدعوى أمر معقول في حد نفسه وبحسب مقام الثبوت فيجب الأخذ به لو قام عليه دليل في مقام الإثبات قال في أقرب الموارد سكر الإناء سكرا ملأه والنهر سد فاه ـ والريح سكورا وسكرانا سكنت بعد الهبوب ـ وعينه تحيرت وسكنت عن النظر ـ والحر والحار فتر ـ سكر الباب وسكره سده ـ سكرت أبصارنا مجهولا الى أن قال ولهم علي سكر. اي غضب شديد الى ان قال سكر سكرانا نقيض صحى انتهى ما أردناه وصرح ببعض ما ذكره في القاموس فالقدر المسلم عن هذه المعاني إذا نسب إلى الإنسان انسداد مشاعره وعروض حالة تعترض بين الإنسان وعقله ودركه قال تعالى (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (حجر ٧٢) قال تعالى (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (حجر ١٥) قال تعالى (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) (ق ١٩) قال تعالى (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) فارادة واحدة من هذه المعاني وترك ما سواه يحتاج الى دليل ومخصص بخصوصها فالقرينة العامية على انه لم يرد سكر الشراب تشريفهم بخطاب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وبعد التصريح في أية سورة البقرة بأن في الخمر اثم كبير وصرح في الأعراف وهي مكية بأن الله حرم الإثم في قوله تعالى (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) (الأعراف ٣٢) فلا يلائم ولا يناسب بأن المؤمنين يسكرون وفي هذا تهجين وإزراء عليهم قال المحقق الأردبيلي (قده) وفي الآية دلالة على عدم خروج المؤمن عن الايمان بشرب الخمر فتأمل فيه انتهى أقول ما ذكره (قده) في غاية الضعف سيما بناء على مفاد الأدلة القوية ان

٣٠

الايمان كله عمل والقول والإذعان أيضا من العمل سيما بملاحظة ما ورد في خصوص الخمر وانه يعمل في ايمان الرجل ما يعمل من الأفكار ولعل مراده عن الأمر بالتأمل ما ذكرناه وقال الفيض (قده) في توجيه هذا التشنيع على المؤمنين ما خلاصته بأن هذه الآية نزلت ولم يستقر حرمة الخمر بعد والا كان تهجينا لهم واما بعد استقرار التحريم على نحو الجزم فلا يصلح ان يخاطبوا بمثل هذا الخطاب وهو عجيب منه مع حذاقته ودقته في النظر وقد افتى موسى بن جعفر (ع) في جواب مهدي العباسي استنادا الى الآيتين في سورة البقرة ٢١٩ والأعراف ٣٣ بالتحريم الجزمي وبالجملة لا بد من الالتزام بلزوم هذا التشنيع والتهجين والذي ذكروه من التوجيهات لا ينفع في الجواب ويؤيد ما ذكرناه أيضا ما رواه العياشي في تفسيره عن الحلبي قال سألته عن قول الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية قال (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) الى ان قال وليس كما يصف كثير من الناس يزعمون ان المؤمنين يسكرون من الشراب والمؤمن لا يشرب مسكرا ولا يسكر والذي يترجح في النظر ان المراد من السكر هو سكر النوم والنهي الوارد لا يستفاد منها الا الحكم الوصفي وهو اشتراط صحة الصلاة بكونهم غافلين شاعرين لا الحكم التكليفي وعلى ذلك عدة من الروايات المصرحة بأن المراد سكر النوم وهي كافية في صحة تقييد العموم أو الإطلاق وما يقابله من المرسلات والضعاف لا يقاوم ما ذكرناه فلا بد من طرح ما يخالفه ويقابله أو تأويله وتوجيهه والعمل بما ذكرناه كما لا يخفى فان قيل فأي مانع لشموله النوم والخمر أيضا قلت لا يمكن فإن النهي عن سكر النوم شرط في صحة الصلاة وحكم وضعي والنهي عن الصلاة تحريم التلبس بالصلاة سكرانا نعم لا مانع من تعميمه بغير الخمر من المرقدات وغيرها ان لم يكن لحن الروايات المفسرة لحن الاختصاص.

قوله تعالى (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) اي لا تقربوها جنبا قيل الضمير إلى الصلاة وقوله تعالى (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) اي مسافرين مع اشتراط التيمم بحسب أدلة أخرى وضعف في المجمع هذا الوجه وان عنوان المسافر والمرضى قد ذكر في ذيل الآية مع كمال العناية بهما والتوضيح لأحكامهما فالقول به في صدر الآية مع انه لا دليل عليه ولا اشعار به مستلزم للتكرار وقيل ان المراد مواضع الصلاة والالتزام بإضماره واضع هناك أهون من إضمار التيمم في الوجه الأول وفي كلمات بعض الأعيان ان القول بأن المقصود في المقام هي مواضع الصلاة وان كان مخالفا للظاهر الا انه لا بأس بالالتزام به لمكان دلالة الروايات المعتبرة على ذلك. أقول : وأحسن ما قيل في هذا الباب ما ذكره الجزائري نقلا عن الصفي الحلي (قده) في كتاب الصناعات البديعية وهو أن يكون المراد في صدر الآية معناها الحقيقي ويراد بها عند قوله تعالى (وَلا جُنُباً) مواضعها الغالبة اعني المساجد وهذا نوع ثالث للاستخدام وعدم شهرة هذا النوع بين المتأخرين من أهل المعاني والبيان غير ضار فان صاحب

٣١

هذا الكلام من أعلام علماء المعاني والبيان انتهى. أقول : فبناء عليه لا تقربوا الصلاة وبكم نعاس وسكر من غلبة النوم ولا تقربوا مواضعها وأنتم جنب وهو المؤيد بالروايات عن أئمة أهل البيت (ع) وأضعف التفاسير ما تكلفه بعض المفسرين ان المراد من الصلاة المساجد عبر كناية عن المساجد بالصلاة لغلبة وقوعها فيها ووجه الضعف أن صراحة التعليل وهو قوله (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) ظاهر بل نص في إرادة نفس الصلاة لا أماكنها قوله تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) الآية قد مر تفصيل القول فيها.

قال تعالى (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة ٥).

استدلوا بهذه الآية على وجوب النية في العبادات وفي الطهارات والظاهر انهم أرادوا وجوب الإخلاص فيها فلا محالة يدل وجوب الإخلاص في النية على وجوب النية أيضا ومع قطع النظر عن هذا التوجيه ليس في ظاهر الآية ما يدل على وجوب النية في العبادات بالمعنى الذي ذكروه في نية العبادات في أبواب الفقه.

وقد استظهر بعضهم أصالة العبادية في كل ما أمر به من الواجبات بمعونة الحصر الوارد فيها الا ما أخرجه الدليل وسيجيء التعرض الى وهن هذا القول في ذيل البحث إن شاء الله تعالى.

(قوله تعالى (مُخْلِصِينَ)) حال من فاعل يعبدوا ومعنى الإخلاص كما في قلائد الدرر عن بعضهم انه تنزيه العمل من أن يكون لغير الله فيه نصيب وقيل هو إخراج الخلق عن معاملة الحق وقيل هو ستر العمل عن الخلائق وتصفيته عن العلائق وقيل هو ان لا يريد عامله عليه عوضا في الدارين وفي كنز العرفان فصل معنى كونه له تعالى ان يفعله خوفا من عقابه ورجاء لثوابه وقيل يفعله حياء منه أو حبا له وقيل تعظيما له ومهابة وانقيادا ولا يخطر بباله عوض آخر سواه الى ان قال في تأييد القول الأخير وهو الأقوى لأن عدا ذلك شرك مناف للإخلاص انتهى ما أردناه. ولا يخفى ما فيه من الضعف ففي الكتاب والسنة تصريح بان من أتى بالعبادات خوفا من ناره وطمعا في جنته وغيرها من الدواعي التي يرتبط بالآخرة إليه تعالى فلا إشكال في صحتها قال تعالى (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) (السجدة ١٧) قال تعالى (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) (أنبياء ٩٠) قال تعالى (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) (زمر ٩).

فالمتقين عند أعاظم الفقهاء قدس الله أسرارهم تنزيل تلك الآيات والسنن الكثيرة

٣٢

على مراتب مقامات العابدين المتقين من حيث الايمان والإيقان وهذا هو الحق الذي (أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ).

وقد أسلفنا في بحث الوضوء وعباديته ان بعد تحقق العبادية بقصد الأمر وارتباط المأمورية وانتسابه وإضافته إلى المولى الآمر يتحقق الإخلاص بجميع الدواعي التي في طول قصد الأمر ويتحقق الإخلاص بقصد الأمر أيضا فقصد الأمر من بين الدواعي كما انه يتحقق به العبادية يتحقق به الإخلاص أيضا بخلاف الدواعي الأخر فلا يتحقق بها الا قصد الإخلاص فقط فتبين أن الدواعي المذكورة لا ريب في كفاية كل واحد منها في صحة العبادة وتحقق الإخلاص.

(قوله تعالى (لَهُ الدِّينَ)) قالوا الدين بمعنى الجزاء اي مخلصين ما يوجب الجزاء والعبادة وسيجيء تفسير الدين بالمعنى المتعارف الذي يجب التدين به.

قوله تعالى (حُنَفاءَ) الحنيف اي المائل إلى الحق والمعرض عن الباطل وهو حال أيضا من الفاعل اي مخلصا مائلا إلى الحق ومعرضا عن الباطل.

قوله تعالى (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) إضافة الدين إلى القيمة للاختصاص والموصوف محذوف اي دين الملة القيمة وفي المجمع قال النصر بن شميل سألت الخليل عن هذا يقال القيمة جمع القيم والقيم القائم واحد فالمراد دين القائمين لله بالتوحيد وناقش في ذلك المحقق الأردبيلي وقال يحتمل كون الإضافة بيانية اي وذلك دين الذي هو القيمة.

أقول والإنصاف ان الآية الكريمة أجنبية عما ذكروه من دلالتها على وجوب النية ووجوب الإخلاص فيها بل هي في مقام التوبيخ على الذين أوتوا الكتاب وأنهم ما تفرقوا أو ما اختلفوا (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) وتمت عليهم الحجة في أمر الدين والآية الكريمة في سياق قوله تعالى (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) (الآية) «آل عمران» قال تعالى (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) «البقرة ٢١٢».

فالذين أوتوا الكتاب ما اختلفوا الا بعد البينة وما أمروا بذلك وانما أمروا ان لا يعبدوا الا الله وحده لا شريك له مخلصين في الدين ، الدين هو الإسلام الذي ارتضاه لأنبيائه ورسله لا يقبل من أحد غيره وهذا الدين هو التوحيد في ذاته تعالى وفي نعوته وكمالاته والتدين به وبما وضع من الشرائع وبما بين من الحقائق وهذا الدين خاص إله سبحانه لا نصيب لأحد فيه لا قليلا ولا كثيرا فيجب الإخلاص بأن الدين لله سبحانه

٣٣

ويجب الالتزام بأن الحكم ما حكم والدين ما شرع والسبيل ما أوضح والطريق ما بين وكل من وضع دينا أو تشرع حكما أو ادعى دعوة فهو افتراء وكذب وواضعه صنم وطاغوت يعبد من دون الله يجب ان يكفر به ويتبرء منه فتحصل ان الآية في مقام حصر العبادة لله ونفي الشركاء منه تعالى لا إخلاص العباد لله تعالى.

قال تعالى (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) (عنكبوت ٦٥) قوله تعالى (مُخْلِصِينَ) اي موحدين له تعالى بالالوهية والتدين بدينه فقط قال تعالى (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) «يونس ٢٢» قال تعالى (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) «لقمان ٣٢».

ويؤيد ذلك ما ذكره بعض المفسرين عطف قوله (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) عليه قال المولى العلامة الأنصاري في كتاب الطهارة : فالآية ظاهرة في التوحيد ونفي الشرك من وجوه. منها لزوم تخصيص العموم بأكثر من الباقي ، ومنها عطف إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على العبادة الخالصة عن الشرك وهو التوحيد الى ان قال : وبما ذكرناه فسره جماعة فعن مجمع البيان (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) اي لا يخلطون بعبادته عبادة من سواه وعن البيضاوي أي لا يشركون به وعن النيشابوري تفسيره بالتوحيد وجزم بذلك شيخنا البهائي في الأربعين انتهى.

ثم لا يخفى انه بناء على تسليم ما ذكروه في الآية انها مسوقة لإثبات الإخلاص انما هو لإثبات الإخلاص في العبادة المفروغ من كونها عبادة فليس سياقها افادة تشريع الإخلاص وإيجاب النية في العبادات فينهدم ما توهمه بعض عن أصالة العبادية في الواجبات مضافا الى سقوطه لسقوط أصل الدعوى وان الآية في مقام إثبات التوحيد ونفي الشرك.

ولا يخفى أيضا ان سبب هذا التوهم انما نشأ من لفظ يعبدوا وقد توهم المستدل ان المراد هي العبادة المصطلحة وظن ان ألفاظ القرآن لا بد ان يحمل على المعاني اللغوية ، والعبادة في اللغة بمعنى التذلل والتواضع وهو معنى عام صادق بالإقرار والاعتراف بالله لتوحيده ويتحقق بالتسبيح والتمجيد وكذلك جميع العبادات الذاتية ويتحقق أيضا بقصد الأمر في غير العبادات الذاتية فهذا التوهم ساقط بسقوط أصله أي كون المراد من العبادة هي العبادات المشروعة من قبل الشارع مع ما لها من الشرائط والاجزاء.

الآية الرابعة

قال تعالى (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا

٣٤

الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) الواقعة ٨٠.

استدلوا بهذه الآية على تحريم مس كتابة القرآن وخالف في ذلك بعض المحققين على ما سنشير إليه في ذيل البحث إن شاء الله.

«قوله تعالى (إِنَّهُ)» قالوا ان الضمير المنصوب راجع الى المتلو اي ما تلوناه عليك (لَقُرْآنٌ) وهو فعلان من قرء يقرء بمعنى المفعول سمي به الكتاب المجيد باعتبار كونه حروفا وألفاظا يتلى ويقرء (كَرِيمٌ) قيل اي كثير الخير والنفع لما فيه من أصول العلم وأمهات الشرائع وفي القاموس ما ملخصه كريم اي معظم ومنزه قوله (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) الكتاب بمعنى المكتوب المكنون اي المستور قيل المراد به اللوح المحفوظ وهو صفة للقرآن أيضا وفيه تصريح بأن المراد من الكتاب في المقام ليس هو القرآن كما في غير هذا المقام من إطلاق الكتاب على القران كثيرا ويحتمل ان يكون خبرا ثانيا لان قوله تعالى (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) صفة للقرآن أيضا أو خبر لان والجملة خبرية أريد بها الإنشاء والشاهد القطعي على انها نعت للقرآن قوله (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) فان التنزيل صفة للقرآن بلا ريب ، ولا معنى لكون التنزيل صفة ونعتا للكتاب المكنون فيسقط ما احتمله بعض المحققين من رجوع الضمير الى الكتاب وكون الجملة نعتا للكتاب ويشهد على ما ذكرنا لفظ المس أيضا فإن المس هو الإلصاق الظاهري وإطلاق المس على الإدراك سيما ادراك الحقائق الغائبة عن الحس غير معهود في إطلاق القرآن المبين ومحاوراته والمس الظاهري للكتاب المكنون لا محصل له.

والظاهر ان هذا التعبير بالنفي أظهر وأقوى في إفادة المنع والتحريم فحينئذ يكون المراد من المطهرين هم الواجدون للطهارة والنظافة الظاهرية ويشمل بإطلاقه وعمومه لمن تطهر من الأحداث وقد ناقش في ذلك المحقق الأردبيلي (قده) من احتمال رجوع الضمير الى الكتاب وقواه بعض بأن رجوعه الى الكتاب أولى لأنه أقرب وقد غفل هذا المحقق عما ذكرنا انه لو كانت هذه الجملة نعتا للكتاب لوجب ان يكون قوله تعالى (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) نعتا للكتاب أيضا وغفل أيضا عما ذكرنا من الاستبعاد من إطلاق لفظ المس على الإدراك العلمي وأوهن من هذا ما ذكره في قلائد الدرر عن بعض أن قوله تعالى (لا يَمَسُّهُ) الآية نعت للقرآن باعتبار ما كان في الكتاب المكنون قبل التنزيل وهذا اخراص من القول إذ لا شاهد عليه في ظاهر اللفظ وظاهر الآية صرح ان القرآن غير الكتاب المكنون وليس بمرتبة من مراتب الكتاب المبين كما زعمه الأعاظم من الصوفية ، فإن قلت ان المستثنى وهو المظهرون اي الواجدون للطهارة والطهارة في اللغة مطلق النظافة فأي دلالة في الآية على

٣٥

اشتراط الطهارة من الأحداث قلت نعم وانما تدل الآية على جواز مس كتابة القرآن لكل من كان مطهرا ويشمل لعمومه من كان مطهرا من الأحداث أيضا وهذا عام في معرض التخصيص كغيرها من عمومات القرآن فيخصص بالأدلة المنفصلة بالقربة والإخلاص وغيرهما من القيود فيتم ما ذهب اليه المشهور من الفقهاء والمفسرين من تحريم المس لغير المتطهر من الأحداث قال الشيخ في التبيان (٥١٠ ج ٩ ط نجف) واستدل بهذه الآية على انه لا يجوز للجنب والحائض والمحدث ان يمسوا القرآن الى ان قال وعندنا ان الضمير راجع الى القرآن وان قلنا أن الكتاب هو اللوح المحفوظ فلذلك وصفه بأنه صون. ويبين ما قلناه قوله (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ). انتهى.

وقريب منه عبارة الطبرسي في المجمع قال وقالوا لا يجوز للجنب والحائض والمحدث مس المصحف. عن محمد بن علي الباقر (ع) وطاوس وعطا وهو مذهب مالك والشافعي فيكون خبرا بمعنى النهي وعندنا ان الضمير يعود الى القرآن ولا يجوز لغير الطاهر مس كتابة القرآن انتهى. ثم انه لا خفاء في صحة إطلاق القران على الخطوط فلا محصل لما عن بعض من ان القرآن عبارة عما يقرء ويتلى ويشكل صدقه على المصحف والكتابة.

فتحصل في المقام انه لا ريب في بحث الطهور إفادة الآية عدم جواز المس للقرآن وعليه شواهد من الروايات أيضا في الحدائق قال في رواية إبراهيم بن عبد الحميد عن ابي الحسن (ع) قال المصحف لا يمسه على غير طهر ولا جنبا ولا يمس خطه ولا تعلقه ان الله يقول (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ). ورواه في الوسائل مسندا ، واشتمال الرواية على المنع في غير الكتابة لا يضر في دلالتها على التحريم فالمنع من تعليق من ان القرآن ما يقرء ويتلى ويشكل صدقه على المصحف والكتابة.

ثم انه لا خفاء في صحة إطلاق القرآن على الخطوط فلا محصل لما عن بعض من أن القرآن ما يقرء ويتلى ويشكل صدقه على المصحف والكتابة.

فتحصل في المقام انه لا ريب بحسب الظهور في إفادة الآية عدم جواز المس للقرآن وعليه شواهد من الروايات أيضا وفي الحدائق قال في رواية إبراهيم بن عبد الحميد عن ابي الحسن (ع) قال المصحف لا يمسه على غير طهر ولا جنبا ولا يمس خطه ولا تعلقه ان الله يقول (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) ورواه في الوسائل مسندا واشتمال الرواية على المنع في غير الكتابة لا يضر في دلالتها على تحريم المس فالكراهة في تعليق القرآن لقيام الأدلة على جوازه لا ينافي المنع عن مس كتابته.

قال الشيخ (قده) في الخلاف روى حماد عن حريز عمن أخبره عن أبي عبد

٣٦

الله (ع) قال كان إسماعيل ابن ابي عبد الله عنده فقال يا بني اقرء المصحف فقال اني لست على وضوء فقال لا تمس الكتابة ومس الورق وأقرئه.

أقول وهو مذهب الشافعي ومالك وابي حنيفة مع زيادة تحريم المس للحاشية أيضا عند الشافعي.

الآية الخامسة

قال تعالى (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (التوبة ١٠٨).

قوله تعالى (فِيهِ) الضمير راجع الى مسجد قباء فان صدر الآية هكذا (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ) إلخ.

قوله تعالى (رِجالٌ) هؤلاء قوم من الأنصار كانوا يحبون التطهير بالماء والظاهر انه كان من عادتهم وسنتهم ذلك ـ فنزلت الآية وأحسن الله الثناء عليهم وربما يتوهم في بدو النظر ان الآية نزلت في تشريع الاستنجاء بالماء أو في مقام إمضاء ما صدر من أهل قباء في أول الأمر وليس كذلك بل الظاهر ان رسول الله (ص) أمر بالاستنجاء وابتلى رجل من الأنصار فأكل طعاما ولان بطنه ولم يستغن عنه الأحجار فاستنجى بالماء فنزلت فيه قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) البقرة (٢٢٢) فالمتحصل في المقام ان الناس كانوا يستنجون بالكرسف والأحجار فأمر رسول الله بالماء ثم نزلت الآية (في البقرة) وهي أول ما نزل بالمدينة ثم نزلت بعد سنين الآية في التوبة وقد اختلط تفسير احدى الآيتين بالأخرى وكذا مورد نزولهما ووجه ذلك ان مطهرية الماء وطهارته كانت عند عامة البشر من فطرياتهم المعلومة لا بد من إيقاظ فطرتهم وتربيتهم بالنظافة والوضائة حتى ان اليوم لم يستكمل أمر النظافة في جميع الناس. في تفسير العياشي عن جميل قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول كان الناس يستنجون بالكرسف والأحجار ثم أحدث الوضوء وأمر به رسول الله (ص) وأنزله في كتابه (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ). قال الجزائري ونقل هذه الرواية في الكافي بسند صحيح أو حسن.

وعن دعائم الإسلام عن علي (ع) قال الاستنجاء بالماء في كتاب الله وهو قوله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) وهو خلق كريم. وفي تفسير هذه الآية روايات أخرى أيضا. واما الآية في سورة التوبة في تفسير العياشي عن الحلبي عن ابي عبد الله (ع) قال سألته عن قول الله عزوجل ـ (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) ـ قال الذين يحبون ان يطهروا نصف الوضوء هو الاستنجاء قال قال نزلت هذه الآية في أهل قباء.

وفي رواية ابن سنان عنه قلت له ما ذاك الطهر قال نصف الوضوء إذا خرج

٣٧

أحدهم من الغائط فمدحهم الله تعالى بتطهرهم ـ أقول في تفسير هذه الآية روايات من العامة والخاصة.

وههنا مسائل :

الأولى ـ المستفاد من إطلاق الآيتين كفاية مطلق الوضوء والنقاء من غير احتياج إلى الأحجار ومن غير احتياج الى تعدد الغسلات وتكرارها واما استحباب الجمع بين الماء والأحجار فبالأدلة المنفصلة.

الثانية ـ إطلاق الآيتين تشمل الطهارة المطلقة الحسية المعلومة سواء كان من الأحداث أو من الأقذار واما الطهارة المعنوية وهي الطهارة من درن الآثام ودنس المعاصي كما ادعاه بعض فبديهي عدم صحة هذا الإطلاق في الآية الأولى اعني الآية في سورة البقرة فإن مقابلة التوابين بالمتطهرين قرينة واضحة على ان المراد من المتطهرين هي الطهارة من الأقذار ومن الأحداث فان التوابين هم المتطهرون من قذارات الكفر والعصيان واما الآية في سورة التوبة فقد توهم بعض ان المراد فيها هي المعنوية غير شاملة للطهارة الحسية استنادا الى ان الآية ناصة بالمدح والثناء لأهل مسجد قباء الذي (أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) في مقابل مسجد ضرار الذي أسس (إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ) فالذين في مسجد قباء رجال صالحون كما ان الذين في مسجد ضرار رجال مفسدون فهذه المقابلة بين المسجدين ينتهي بالآخرة الى مقابلة من يسكنون فيهما بالكفر والايمان والطهارة والخباثة والإصلاح والإفساد فلا محالة تكون الآية ظاهرة ان الذين (يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) اي من المعاصي والقبائح والفضائح وفيه ان ما ذكر من البيان لا يصلح لصرف اللفظ عن معناه اللغوي وما ذكره من المعنى أي الطهارة من القذارات العقلية ليست في عرض الطهارة الظاهرية إلا بضرب من التأويل والمناسبة فغاية ما يقال انها من المصاديق ومن أنواع الطهارة فلا وجه لاختصاص اللفظ بها ورفع اليد عن العموم والإطلاق واما لو قلنا ان إطلاق الألفاظ في مورد المعاني الظاهرية على المعنوية من باب التأويل فتخرج الطهارة المعنوية عن مصب الإطلاق والعموم فلا يصار إليها إلا بدليل قطعي.

الثالثة ـ يستفاد من الآية استحباب الكون على الطهارة كما اختاره في كنز العرفان وعلله بأن الطهارة شرعا حقيقة في رافع الحدث. أقول الحق انها من مصاديق المعنى اللغوي فقوله تعالى (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) ليس المراد حدوث الطهارة محضا بل المحبوب نفس الطهارة وكذلك يستفاد محبوبية مطلق النظافة واستمرارها.

قال المحقق الأردبيلي (قده) وفي سبب النزول دلالة الى ان قال والمبالغة في الاجتناب عن النجاسات انتهى وهو كما قال فإن الآية صريحة انه تعالى (يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ).

٣٨

الرابعة ـ قالوا محبة الله لعباده المتطهرين ان يرضى عنهم ويحسن إليهم وليس ببعيد فقد ورد في الروايات ان رضاه ثوابه وسخطه عقابه.

توضيح وتفصيل : قد تقرر ان القرآن الكريم وآياته الشريفة لم يجعل لزمان دون زمان ولا لقوم دون قوم وعن أبي عبد الله (ع) ان القرآن حي لم يمت وانه يجري كما يجري الليل والنهار وكما يجري الشمس والقمر الحديث. فان القرآن قضاياه قضايا حقيقية ينحل فالآية النازلة في شأن إفراد بخصوصها لا بد من تطبيق تلك الإفراد على ذلك الكلي وكذلك لو نزلت الآية في شأن نوع خاص لا بد من تطبيق ذلك النوع على ذلك الكلي لا حمل الكلي على الفرد والنوع وهذا هو الأصل المسلم في باب التفسير ان النظر بعموم اللفظ لا خصوصية المورد وهذا معنى ما قالوا ان الموارد لا يكون مخصصا للعموم أصلا. نعم لا بد من الالتزام ان لا يخرج شأن النزول ومورده عن هذا العموم ولا ينافي إرادة نوع خاص منها عند قيام القرآن وعند تخصيصها وتقييدها بالمخصصات والمقيدات فان للشارع أخذ نوع من العام والمطلق موضوعا لحكم أو متعلقا له أو قيدا أو شرطا لحكم أو لصحة عبادة أو مانعا لتعلق عبادة أو مبطلا لها فعلى عهدة الفقيه التحري والاجتهاد في الموارد الواردة بلحاظ الشرائط والمانع وغيرها على نحو المولوية.

ولا يخفى أيضا أن استعمال لفظ الطهارة والنجاسة وما يشتق منهما في الطهارة والنجاسة المعنوية أو في الأعم منهما ومن الحسية ليس من باب التأويل بل من باب استعمال الكلي في أنواعه أو في بعض أنواعه ومن باب تطبيق هذا النوع على هذا الكلي وان أبيت استعمالها في المعنوية إلا بعد التذكر والإرشاد فلا مضايقة.

فعلى هذا لو قلنا ان الآية الواردة في شأن أهل قباء صريحة وناصة في الطهارة العقلية المعنوية لوجب الأخذ بعموم الطهارة بأنواعها وأقسامها وكذا لو قلنا انها نص في الطهارة الحسية أو الاستنجاء بالماء لوجب الأخذ بعموم الطهارة حسية كانت أو معنوية ثم لا يخفى ان الطهارة كما نبهنا عليه غير مرة انها من الأمور الحسية الواقعية وليس من الأمور الانتزاعية الاعتبارية وكذلك القذارة والخباثة ففي حديث أربعمائة عن علي (ع) ان الله يبغض العبد القاذورة (الحديث) فحسن النظافة وقبح الخباثة من الضروريات البديهية العقلية والأمر يزيد وضوحا وبيانا في الطهارة المعنوية مثل الطهارة من رجس الكفر والشرك والفسوق والعصيان وكذلك في الخباثة والنجاسة المعنوية فإنها من المستقلات العقلية فيجب الاجتناب من الكفر والفسوق بالضرورة ويحسن النظافة والنزاهة من الرجس رجس الكفر والنفاق. فكل ما

٣٩

ورد في الكتاب والسنة في هذا الباب فهو إرشاد وتذكر الى ما أدركه العقل تدور تلك الخطابات مدار ما أرشد إليه العقل فيسقط الأخذ بالعموم التعبدي فالخباثة قبيح ورجس بجميع أقسامها حسية كانت أو معنوية بحسب مراتبها شدة وضعفا. وكذلك النظافة والوضائة حسن جميل بحسب مراتبها شدة وضعفا حسية كانت أو معنوية.

الآية السادسة

قال تعالى (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) (فرقان ٤٩) المستفاد من موارد الاستعمال ان طهورا قد استعمل في ثلاثة معان :

الأول ـ للمبالغة من الطاهر مثل أكول وضروب ومعنى المبالغة فيه مع ان مادة طهر لازم غير متعد إلى شدة الطهارة والوضائة فيه مثل قوله تعالى (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً).

الثاني ـ بمعنى المصدر ومنه قوله (ع) لا صلاة إلا بطهور.

الثالث ـ انه اسم لما يتطهر به كالسحور لما يسحر به والوقود لما يوقد به مثل قوله تعالى (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) (البقرة ٢٤) وذهب الى كل من هذه المعاني فريق فالحنفية إلى انها بمعنى المبالغة لا غير.

والحق ان المعاني المذكورة كلها صحيحة وقد وردت في الاستعمال وصرح به اساتيذ اللغة فلا وجه لإثبات واحد ونفي ما سواه قال في القاموس الطهور المصدر واسم لما يتطهر به والطاهر المطهر. وفي أقرب الموارد الطهور المصدر واسم لما يتطهر به كالوضوء والوقود لما يتوضأ به ويوقد به (ما عندي طهورا تطهر به اي وضوء أتوضأ به يقال التوبة طهور للمذنب) وقيل الطاهر المطهر ومنه أنزلنا من السماء ماء طهورا اي مطهرا اطلب لي ماء طهورا اي بليغا في الطهارة لا شبهة فيه وعن الصحاح الطهور ما يتطهر به كالسحور وعن الفاضل الفيومي في كتاب مصباح المنير حيث قال : وطهور قيل مبالغة وانه بمعنى طاهر والأكثر انه لوصف زائد قال ابن فارس قال تغلب الطهور في نفسه والمطهر لغيره وقال الأزهري أيضا الطهور في اللغة الطاهر المطهر وفعول في كلام العرب لمعان منها فعول لما يفعل بل مثل الطهور لما يتطهر به انتهى ما أردناه.

أقول وقد كثر التشاجر والاختلاف بين المتأخرين في ان الطهور بمعنى الطهر وعندي ان هذا النزاع قليل الجدوى وقد أعرضنا عن إيراده في المقام فان الطهور بمعنى ما يتطهر به يرجع عند التحليل ان الماء طاهر ومطهر فلا ينبغي ـ بعد ثبوت ان المراد منه ما يتطهر به ـ النزاع في ان طهورا ليس بمعنى الطاهر المطهر ويصير النزاع لفظيا والحق في المقام أن الظاهر

٤٠