بدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام

محمد باقر الملكي

بدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

محمد باقر الملكي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٣

على الأحداث والإيجاد أيضا ولكل واحد مما ذكرنا من مصاديق العمران فضيلة ومثوبات عظيمة قد وردت السنن المعتبرة بالأمر بها والتشويق والتأكيد فيها وهي مدونة في جوامع الحديث والآية الكريمة صريحة في الحث عليها وان العبادة المذكورة من سنن المؤمنين الأخيار.

قوله تعالى (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) ليس المقام مقام تصريف الايمان وبيان شرائطه وحدوده كي يتوهم أن الايمان عبارة عما ذكر في هذه الآية وانما السياق سياق طرد المشركين وتبعيدهم عن هذه الساحة المقدسة وانهم غير مستأهلين لإقامة الشعائر وعمارة المساجد والتعبير (بانما) المفيدة للحصر ان هذه العبادات خاصة بأهل الإيمان فقط دون غيرهم والايمان هو الإقرار والإذعان بالله بعد المعرفة بالله الحق المبين وهو من أشرف الفرائض وأسناها فالاذعان بعد المعرفة والهداية هو الايمان وقد يطلق ويراد أحد الجزئين الهداية أو الإذعان تسمية للجزء باسم الكل وهكذا بالنسبة إلى غيرهما من الاجزاء أو الشرائط المقررة في أبوابه وهذا بناء على أن الايمان كله عمل والإذعان الذي هو من أشرف اجراء الايمان عمل أيضا غاية الأمر أن يقال انه مركب من الأعمال أي عمل الروح والبدن وهذا هو المستفاد من الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ومقابل هذا القول ان الايمان حقيقة بسيطة وهو الإذعان والأعمال شرط لصحتها وقبولها والقول الأول هو الحق الحقيق بالقبول.

قوله تعالى (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، مقابل الأول فالدنيا اليوم الأول وما بعد الدنيا هو اليوم الآخر والمراد منه ما بعد الدنيا لا المعاد فقط كما قيل ويوم المعاد موقف من مواقف يوم الآخرة فالآخر إذا وقع صفة لليوم فيذكر وإذا وقع صلة للدار فيؤنث فيقال الدار الآخرة فأول هذا اليوم وطليعته القبر فالقبر أول منزل من منازل الآخرة وفيها منازل ومواقف البرزخ والبعث والنشور والوقوف في عرصات القيامة الى أن ينتهي إلى الموقف الكبير وهو يوم العرض الأكبر على الله أي العرض على الله فالحساب ثم الى دار كرامة الله ونعيم مقيم أو دار هواته وهي الجحيم.

قوله تعالى (أَقامَ الصَّلاةَ) ـ الى آخره ـ اقامة الصلوات أخص من فعل الصلوات فالمراد من إقامتها إتيانها على حدودها وشرائطها التي لا ينفك عن كونها مقبولة عند الله سبحانه واتى الزكاة قرن الصلاة بالزكاة غالبا في القرآن مع كونها من أجل الفرائض وقرينا للصلاة.

قوله تعالى (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ). قال في الصافي ملخصا اي ما يرجع الى أمر الدين فان الخوف من المحاذير جبلي لا يمكن أن يتمالك عنه.

أقول الخوف من الله والخشية منه سبحانه ليس من هو ان النفس وذلتها ومن قبيل التأثرات في مقابل ما يهدده من الحوادث والمحاذير بل هي من أجل الكمالات

٢٠١

الروحية ومن أعلى مراقي النفس الإنسانية ومرجعه ان يعرف سبحانه نفسه القدوس بكبريائه وجلاله وعدله لعبد من عباده المؤمنين فيعرفه بالكبرياء فيخشى ويدهش في عين كونه مكينا في مقام القرب فيتعرف الله إليه تارة بكرمه فيرجو ويطمئن ويتعرف إليه تارة بأنه محسن متفضل فيسأل ويتملق في عين انه عزيز بعزة ربه وهكذا بالنسبة الى كل واحد من نعوته وأسماءه جل ثناؤه فقلب المؤمن بين إصبعي الرحمن يقلبه كيف يشاء فيستغرق في أنوار معرفته نورا بعد نور وعرفانا بعد عرفان ولا تناهي لها. فتبين ان مرجع الخشية والخوف استضاءة الروح واستنارة النفس بالمعرفة ونزول السكينة وانشراح الصدر وهذه الخشية التي عين اليقين والعرفان مباين ذاتا وسنخا مع الخوف من الأمور المادية في مرتبة ضعف النفس وعجزها.

قوله تعالى (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ). تقدم في الآية السابقة ان الرجاء والتمني منه تعالى إيجاب لمورد الرجاء وتذكر الى حكم العقل الضروري فالاهتداء بهداية الله بعد هدايته واجب ضروري وإنكاره والاستنكاف عنه إنكار للحق المبين والحجة الواضحة.

قال في كنز العرفان وهناك آيات أخر يتعلق بالمساجد يحسن ذكرها تابعة لهذه الآيات الى ان قال الاولى (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (الأعراف ٢٨).

أقول الظاهر ان اقامة الوجوه عبارة عن توجهها على نحو الاستقامة من دون تمايل إلى شيء من جانبيه فلا بد من تقدير المتعلق اي لإثبات ما يتوجه اليه قال في الكشاف (أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ) اي اقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين الى غيرها وقريب منه عبارة البيضاوي والمولى المحقق الأردبيلي (قده) وفي كنز العرفان تكون اقامة الوجه كناية عن الصلاة انتهى.

أقول قد ذكرنا ان اقامة الوجه عبارة عن توجيه الوجه ولا شاهد في الآية بشيء مما ذكروه من التأويل وقوله تعالى عند كل مسجد على ما سيجيء شرحه ظاهر في إثبات مكان التوجه وصريح قوله تعالى وادعوه في إثبات العبادة التي فيها التوجه فاذن لا مورد لتأويل أقيموا وجوهكم بالعبادة أو بالصلاة فتبين ان يكون المتعلق غير العبادة والصلاة ففي تفسير القياس عن أبي بصير في قول الله (أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ) قال هو الى القبلة وفي البرهان عن التهذيب بإسناده عن ابن مسكان عن أبي عبد الله (ع) قال سألت عن قوله الله عزوجل (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) قال هذه القبلة.

وفيه أيضا عنه مسندا عن الحلبي عن أبي عبد الله (ع) في قوله (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) قال مساجد محدثة فأمروا أن يقيموا وجوههم شطر المسجد

٢٠٢

الحرام.

قوله تعالى (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) قيل ان مسجد مصدر بمعنى السجود أو المراد منه الصلاة سميت به تسمية للكل باسم جزئه وقيل المراد به مكان السجود ومحله وهي المساجد أو مطلق وجه الأرض وقد تقدمت رواية الحلبي ان المراد هي المساجد المحدثة ففي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) في قوله تعالى (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) قال مساجد محدثة فالمراد ان يقيموا وجوههم شطر المسجد الحرام.

أقول لا بأس بالأخذ بعمومه مسجدا كان أو وجه الأرض وحمل الرواية على بيان أفضل الأفراد.

قوله تعالى (وَادْعُوهُ) عطف على قوله تعالى (وَأَقِيمُوا) وهذا قرينة اخرى ان المراد من المسجد هو ما ذكر في الروايات ولو كان المراد هو السجود أو الصلاة لكان الأنسب بنظم الآية تأويله بالفعل وعطف وادعوه اليه بخلاف ما لو قيل ان المراد منه المكان من دون احتياج إلى تأويل على أن في القول انه الصلاة ارتكاب مجاز بعناية علاقة الكل والجزء.

قيل في قوله (وَادْعُوهُ) أي واعبدوه وقيل انه الدعاء نفسه ولا تأويل وقوله تعالى (مُخْلِصِينَ) حال من فاعل أقيموا وادعوا اي مصونا ومحفوظا عن شائبة الرياء واستظهر بعض الأعاظم بهذا البيان استحباب الدعاء في المساجد وشرط الإخلاص وعدم الرياء فيه.

أقول لا ريب ان الدعاء من أجلي إفراد العبادة وكذلك الصلاة أيضا ولا وجه لحمل الدعاء على العبادة بعدم الدليل عليه نعم لا بأس بحمل الدعاء على الصلاة فإن من أهم اجزاء الصلاة الدعاء بعلاقة الجزئية والكلية لو قام دليل على ذلك واما القول بأن الآية تفيد اشتراط الإخلاص في الدعاء فممنوع جدا وقد ذكرنا شرحا شافيا في تفسير قوله تعالى (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (البينة ٥) ان الآية وأمثالها في مقام إبطال الأوثان وخلع الأنداد أي وادعوه موحدين ومعترفين بأن الدين لله لا شريك له فلا يصلح لأحد أن يضع دينا لأحد بل يجب على الجميع التدين بالدين الذي قرره سبحانه.

فان قيل فرق بين هذه الآية والآية في سورة البينة فإن الآية تأمر بتوجيه الموحدين وجوههم نحو القبلة وتأمرهم أن يدعوا ربهم في مساجدهم مخلصين بخلاف الاية في سورة البينة فإنها في مقام توبيخ أهل الكتاب والمشركين بأنهم أمروا أن يعبدوا الله موحدين.

قلت يجب على القائل ان يمعن النظر في ان المتعلق والمفعول بقوله مخلصين هو الدين ويجب الإخلاص في

٢٠٣

الدين لا في الدعاء أي أمروا أن يدعوا ربهم حال كونهم مخلصين الدين لله سبحانه وموحدين في ذلك فليس بمستنكر أن يأمر سبحانه العابدين والقانتين أن يخلصوا دينهم لله وحده ويكفروا بجميع ما سواه قال تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) (الزمر ٢).

قال تعالى (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) (الزمر ١١) قال في المجمع في تفسير الآية الأولى أي توجه بعبادتك الى الله وحده مخلصا له الدين اي من شرك الأوثان والأصنام انتهى وفي تفسير الآية الثانية أي موحدا له لا أعبد سواه انتهى.

أقول الإخلاص بهذا المعنى من الوظائف المقررة لأعلى درجات الايمان فعن الصادق (ع) في دعائه يوم عرفه اللهم أنت أقرب حفيظ وادنى شهيد ـ الى أن قال ـ والمهتدي من هديت والحلال ما حللت والحرام ما حرمت والدين ما شرعت والأمر ما قضيت. الدعاء. قال تعالى (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) / المائدة (٥٨). وفي الكشاف قيل وفيه دليل على أن ثبوت الآذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده انتهى.

أقول ليس في ظاهر الكتاب ما يدل عليه واستدل بعضهم بها على مشروعية الآذان.

في كتاب النص والاجتهاد للسيد المحقق شرف الدين (قده) وعن أبي العلاء كما في سيرة الحلبية قال قلت لمحمد بن الحنيفة انا لنتحدث ان بدء الآذان كان من رؤيا راها رجل من الأنصار في منامه قال ففزع لذلك محمد بن الحنفية فزعا شديدا وقال عمدتم الى ما هو الأصل في شرائع الإسلام ومعالم دينكم فزعمتم انه كان من رؤيا رجل من الأنصار في منامه يحتمل الصدق والكذب وقد يكون أضغاث أحلام قال قلت هذا الحديث قد استفاض في الناس قال هذا والله هو الباطل الى آخر كلامه. وقد كثرت رواياتهم في بدء الآذان انه كان منشأه المنام ولا يخفى بضرورة من الدين انه لا يجوز لنبي ولا لرسول الاعتماد في تشريع حكم على رؤيا الأشخاص ولا موجب لالتزام ذلك وقد صرحت أئمة أهل البيت على بطلان هذه الخرافة وشددوا الإنكار عليه ففي البرهان ج ٢ ص ٣٩٤ عن الكليني بإسناده عن ابن أذينة عن أبي عبد الله (ع) قال ما ترى (تروى) هذه الناصبة قلت جعلت فداك فيما ذا قال في آذانهم وركوعهم وسجودهم فقلت انهم يقولون أن أبي كعب رآه في النوم ـ في نسخة فقال كذبوا أن دين الله عزوجل أعز من أن يرى في النوم فقال ، فقال : سدير الصيرفي جعلت فداك فأحدث لنا منه ذكرا فقال أبو عبد الله (ع) ان الله عزوجل لما عرج بنبيه الى السموات السبع ـ الى ان قال ـ فقال جبرئيل اشهد ان لا إله إلا الله اشهد ان لا إله إلا الله. الحديث.

٢٠٤

وفي معناها روايات اخرى عن أئمة أهل البيت وهو المقطوع عن مذهب أوليائهم وفقهائهم.

واستشكل الجصاص عليه بأن معراجه (ص) كان بمكة وبدء الآذان كان في المدينة وفيه ان ذلك متوقف ان معراجه كان مرة واحدة وان الآذان انما شرع في المدينة بالنوم أو بالمشاورة وكلا الدعويين يطالب بالدليل بل الذي يظهر من روايات أئمة أهل البيت تعدد المعراج وأن الآذان انما شرع بالوحي ففي الصافي عن الكافي عن الصادق (ع) انه سأل كم عرج برسول الله؟ فقال مرتين.

أقول وتعدد معراجه شواهد أخرى في خلال روايات المعراج ولا دليل على ان معراجه مرة واحدة عن كتاب أو سنة أو عقل ومما يشهد على مجعولية أحاديث تشريع الآذان بالرؤيا ان البخاري ومسلم لم يخرجا تلك الأحاديث في كتابيهما وتكلف الشارحون في الاعذار عنهما بوجوه ضعيفة سخيفة لا ينبغي التعرض إليها ، من أرادها فليراجعها ففي صحيح مسلم ص ٧٥ في الجزء الثالث بإسناده عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر انه كان يقول ان المسلمين حين قدموا المدينة (كانوا) يجتمعون فيحيون الصلوات وليس ينادي بها أحد فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى وقال بعضهم قرنا مثل قرن اليهود فقال عمر أو لا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة قال رسول الله (ص) يا بلال قم فناد بالصلاة. ورواه البخاري في صحيحه أيضا ففي صحيح البخاري ص ٧٨ بإسناده عن انس قال ذكروا النار والناقوس فأمر بلال ان يشفع الآذان ويوتر الإقامة.

ولم يذكرها الحاكم في مستدركه أيضا وانما المذكور في المستدرك على ما ذكره السيد العلامة شرف الدين (قده) ان رسول الله شاور أصحابه فأشار عمر الى النداء فأمر رسول الله بلالا أن يؤذن للناس وذكر عن المستدرك أيضا وانما ترك الشيخان حديث عبد الله بن زيد في الآذان والرؤيا لتقدم فوت عبد الله بن زيد قلت هذا لفظه بعينه انتهى.

أقول حديث عبد الله بن زيد الأنصاري قد رواه مالك في الموطأ ورواه المحشون عن أبي داود أيضا وقد شاع واشتهر بينهم ففي الموطأ قال مالك عن يحيى بن سعيد انه قال كان رسول الله أراد ان يتخذ خشبتين يضرب بهما ليجتمع الناس للصلاة فأرى عبد الله زيد الأنصاري ثم عن بني الحريث بن الخزرج خشبتين في النوم الى أن قال فقيل الا تأذنون للصلاة فأتى رسول الله حين استيقظ فذكر له ذلك فأمر رسول الله بالأذان.

أقول مضافا الى ما ذكرنا من إسناده الحاكم على مجعوليته أحاديث الرؤيا

٢٠٥

لكاذبها مع أحاديث المشاورة وان عمرا أشار بذلك وان رسول الله رضي بقول عمر وأمر بالأذان وهكذا لكاذب أحاديث المشاورة مع حديث الرؤيا وروى الجصاص في تفسيره أحكام القرآن عن عمر انه قال طاف بي الذي طاف بعبد الله بن زيد ولكنه سبقني انتهى.

أقول الحق في المقام ان الآية الكريمة ليست في مقام تشريع الآذان في شيء وانما تحكي عن استهزاء الكفار بالأذان وقد سبق تشريع الآذان للآية وهي مثل قوله (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) فالآيتان حاكيتان ان الأذان كان مقررا ومرسوما قبل الآيتين.

قد تحصل مما ذكرنا انه يستحب على رسل الله الكرام وخاصة الرسول الأكرم (ص) ان يشاور أحدا من الناس في تشريع حكم من الأحكام فما ورد من هذا القبيل فمتقول على رسول الله (ص) جلت ساحة قدس الرسول الأمين على أحكامه تعالى أن يدخل أحدا في حريم التشريع الخاص لله سبحانه ولا يجوز لأحد الاعتماد على رؤيا أحد ولا على رؤيا نفسه ولا العمل به فضلا عن رسول الله الحامل لأثقال الرسالة بإلقاء الروح الأمين المكين والعالم بنبإ النبوة بأخذه من الله سبحانه بلا واسطة أحد.

(تشريع قول الصلاة خير من النوم)

ليس في أحاديث المشاورة ولا في أحاديث الرؤيا قول الصلاة خير من النوم في زمن رسول الله (ص) ولا في جميع أيام خلافة ابي بكر ولا في شطر من أيام خلافة عمر فقد روى مالك وغيره ان المؤذن جاء الى عمر بن الخطاب فوجده نائما فقال الصلاة خير من النوم فأمره عمر ان يجعله في نداء صلاة الصبح واما إسقاط حي على خير العمل قال الفاضل القوشجي في شرحه على تجريد المولى العلامة الطوسي (قده) نقلا عن عمر قال ثلاث كن على عهد رسول الله وانا أنهى واحرمهن وأعاقب عليهن متعة النساء ومتعة الحج وحي على خير العمل قال الشيخ (قده) في الخلاف الا وان عندنا ثمانية عشر كلمة الى ان قال وقال الشافعي الآذان تسع عشر كلمة في سائر الصلوات وفي الفجر احدى وعشرون كلمة التكبير اربع مرات والشهادتان ثمان مراتب مع الترجيع والدعاء إلى الصلاة والى الفلاح مرتين والتكبير مرتين والشهادة اجهارا وترديد الصوت في الخلق ذكره في القاموس والتنويب قول الصلاة خير من النوم.

في مقارنات الصلاة وفيه آيات

(الآية الأولى)

قال تعالى (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) (البقرة ٢٣٨) صدر الآية هكذا (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فاستدل بالآية على فروع في الصلاة الأول وجوب القيام وشرطيته في الصلاة وتقريب الاستدلال ان قوله تعالى (قُومُوا)

٢٠٦

بحسب إطلاق الأمر ظاهر في الوجوب ولا شيء من القيام بواجب إلا في الصلاة فإثبات الكبرى بحسب دلالة الآية وتعيين الصغرى بحسب الاستقراء وأيضا قوله تعالى (قُومُوا) عطف على حافظوا الدالة على وجوب المحافظة والمراقبة فيكون القيام أيضا واجبا وأيضا القيام مقرون بالقنوت والقنوت في عرف الفقهاء رفع اليدين بالدعاء حال القيام فتعين ان القيام الواجب بحسب الأمر هو القيام في الصلاة.

أقول قدمنا جملة كافية في تفسير الآية وخلاصة القول فيها ان المراد من القيام هو التصدي والإتيان بالعمل لا الانتصاب والقيام المقابل للعقود كي يكون شرطا أو واجبا في الصلاة هذا أولا ، ثم ان الآية الآمرة بوجوب المحافظة للصلاة ليست في مقام تشريع الصلاة واجزائها وشرائطها وانما تأمر بالتحفظ للصلوات المكتوبات المقررة المرسومة بحسب أدلتها وبديهي أن هذا الأمر أمر إرشادي في مرحلة الطاعة والانبعاث عن البعث القطعي والأمر الإرشادي لا يفيد حكما تعبديا مولويا فيسقط جميع الوجوه الذي ذكروها لانبعاث وجوب القيام.

وأما الاستدلال من ناحية القنوت بوجوب القيام ففيه ان قوله تعالى (قانِتِينَ) نعت للمصلين ومعنى القنوت الرغبة والخشوع وإقبال الرجل على صلواته لا القنوت الاصطلاحي فعلى عهدة المصلي تحصيل القنوت في جميع حالات صلواته مكبرا قارئاً قانتا راكعا ساجدا متشهدا قائماً جالسا داعيا ذاكرا مسلما مسبحا فلا دلالة في هذا القنوت على وجوب القيام ومما ذكرنا يعلم انه لا اشعار فيها بجزئية القنوت المصطلح في الصلاة لا وجوبا ولا ندبا بل اللازم تحصيل القنوت بالمعنى الذي ذكرنا في القنوت المصطلح أيضا كما لا يخفى قال تعالى (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ.) الآية (زمر ٩).

وأما الفرع الثالث وهو وجوب النية استنادا الى قوله تعالى لله ففيه ان الآية الكريمة مسوقة على الحث بالقيام لله في باب الصلوات المفروضة المشروعة المفروعة عن جميع اجزائها وشرائطها فتكون تذكرة للمراقبة التامة للإخلاص والاحترام الأكيد بجلاله تعالى وشأنه سبحانه وليس فيها لشأن النية إشارة وأشعار أصلا.

فمحصل مفاد الآية ان القيام لله في الصلوات لا بد فيها أن يكون المصلون قانتين.

(الآية الثانية)

قال تعالى (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً.) (الاسراء).

بيان قد أمر الله سبحانه رسوله وصفية (ص) بحمده تعالى ومعنى حمده تعالى كما أسلفناه مستوفى ومستقصى

٢٠٧

هو الثناء على الذات وعلى الصفات وعلى الأفعال وليس المراد منه هو الثناء المطلق كي يكون متساوقا ومرادفا بالتمجيد بل المراد هو الثناء على غلو الذات والصفات والأفعال عن كل ما يتوهم فيه من العيب ويستحيل تطرق نقص وشين في كمال ذاته وصفاته وأفعاله والذين فسروا الحمد بأنه الثناء على الجميل الاختياري أو قالوا انه بمعنى السكر اضطروا في المقام ان يعترفوا ويقروا بما ذكرناه في تفسير الحمد فينبغي أن يستدل بهذه الآية على صحة ما ذكرناه من التفسير ونقض ما قالوا عن البيان فقد أمر تعالى رسوله ان يوقع الحمد والثناء على نفس الذات المتوحد بالالوهية من حيث كونه مقدسا ومنزها عن اتخاذ الأبناء والأولاد فهو سبحانه محمود وحميد بلحاظ هذا النعت التقديسي والتنزيهي إبطالا وردا لما قال فيه الجاهلون والملحدون وقد قالوا عزيز بن الله والمسيح ابن الله والملائكة بنات الله.

فهذا التقديس مسوق لنفي الجسمية ولوازمها عنه تعالى وان مقامه تعالى أعلى وارفع من اتخاذ الولد والبراهين القائمة على نفي الجسمية وآثارها ولوازمها عنه تعالى قاضية وحاكمة في المقام ولا حاجة الى إبطال نفي الولد بخصوصه كي ينجر الكلام الى نفي الوالد أيضا.

قوله تعالى (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) تنزيه ثان وتصريح وتذكرة الى كمال آخر وتوحده وتفرده سبحانه بذلك لا شريك له في الملك بالضم وقد صرح البيضاوي وغيره ان الملك بالضم اي التصرف بالتدبير والسلطنة على الشؤون العامة والأمر والنهي واسم الفاعل منه ملك والملك بكسر الميم اي اختصاص التصرف في الأعيان والفاعل منه مالك.

وقالوا ان ملك أبلغ من المالك في إفادة المالكية لأنه عبارة عن السلطنة في الشؤون العامة والأمر والنهي فمن المالكين من يجري عليهم أحكام الملوك.

أقول لا دليل لهذه الدعوى ولا شاهد عليها لا بحسب المادة ولا بحسب الهيئة وموارد الاستعمال لا يساعد على ذلك فاستعمال الملك بضم في الأعيان والملك بالكسر في غيرها غير عزيز في موارد الاستعمال قال تعالى (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) آل عمران (٢٦) قال تعالى (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) الفاتحة قال (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) (زخرف ٧٧) في القاموس ملكه يملكه ملكا مثلثة وملكه محركه ومملكة بضم اللام ويثلث احتواه قادرا على الاستبداد به انتهى. والظاهر ان المراد في المقام هو اقتداره تعالى ونفوذ سلطانه على جميع ما سواه إيجادا وإبقاء ومنعا وعطاء وتشريعا وتكوينا وقبضا وبسطا فله ملك السموات والأرضين ملكا ذاتيا وله الحكم وبيده الأمر فيها وفي أهلها بما شاء كيف يشاء طبق التدبير العلمي العمدي الحكمي قال السيد (قده) في شرح دعائه بعد صلاة الليل في تفسير قوله واستعلى ملكك علوا. الدعاء. واستعلاه

٢٠٨

ملكه عبارة عن عظمته باعتبار كمال اقتداره وتمام استيلائه على مخلوقاته انتهى ما أردناه.

فتحصل ان الحمد لله بلحاظ الملك وتوحده تعالى في ذلك ومالك وملك ومليك من أشرف نعوته وأجل أسمائه وكل أسمائه جليلة.

قوله تعالى (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) الآية. قيل في معناه انه يستحيل ان يقع تعالى تحت ولاية أحد لغنائه بذاته عن الاستعانة بالغير وعن الانتصار بالأولياء قلت هذا معنى صحيح في حد نفسه يجب تقديس الصانع جل مجده عن الوزير والمعاون وعن الولي المعاضد الا انه غير ملائم لتفسير الآية فإن النفي متوجه الى عنوان القيد اي اتحاد الولي لأجل الذل والمهانة لنفي الولي على الإطلاق فقد اختار واصطفى سبحانه عن صفوة خلقه وكرام بريته أولياء لنفسه ليعتزوا به لا انه يعتز بهم فأوليائه لعزة يعيرون وبولايته يفتخرون فعلى هذا يكون المراد من الولي وهو المحب كما ذكره في سرد القاموس في ضمن معاني الولي لا الولي الذي يتولى أمر من يتولى عليه فأوليائه تعالى أحبائه اختارهم لكرامته وأعزهم بقربه تفضلا وإحسانا فهو سبحانه يحب المحسنين ويتولى الصالحين.

قوله تعالى (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) أي عظمه وجلله عما قال فيه الجاهلون فإنه سبحانه أكبر وأجل من ان يتخذ لنفسه ولدا أو يكون ما يساويه ومن يشاركه في الاقتدار والعظمة أو يتخذ لنفسه وليا من فاقة ومن هو ان وانما أعز أوليائه بعزة جل مجده.

فقد استدل بقوله وكبره على وجوب التكبير في الصلاة قالوا لا إشكال في إفادة الآية وجوب التكبير وليس بواجب إلا في الصلاة قطعا فتعين ان الآية تفيد وجوب التكبير فيها.

أقول هذا التكبير ليس قول الله أكبر وانما هو تعظيم وتجليل لله سبحانه والآية سيقت لتذكير العقول وتنبيه القلوب وللدعوة إلى الحق القدوسي المتعالي فهي بمعزل عن إيجاب قول الله أكبر بعنوان الجزئية التعبدية في الصلاة وله الحمد كما هو أهله.

(الآية الثالثة)

قال تعالى (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) المدثر أقول الكلام في سابقتها وقد أسلفنا البحث فيها في كتاب الطهارة من أراد فليراجعها.

(الآية الرابعة)

قال تعالى (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ

٢٠٩

يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) الآية المزمل (٢٠).

بيان : الآية الكريمة وسياقها في مقام التقدير والتشكر مما كان يفعله (ص) وأوليائه المؤمنون من القيام بالليل والتهجد والتعبد فيها بالعبادة واحصائهم ساعات الليل وأوقاتها بما ذكر في الآية بالثلثين والنصف والثلث وقد روي أن بعضهم لما لم يتمكنوا من إحصاء ساعاتها يقومون الليل كله فشف ذلك عليهم فشكر الله سبحانه سعيهم وحمد موقفهم الجميل ورضي مقامهم الحميد وأمر بالتخفيف على أنفسهم والتسهيل عليها ورضي عنهم بالعمل القليل من الكثير واعتذر سبحانه عنهم بفضله وكرمه انه (سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ) ابتغاء الرزق من فضل الله (وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) احياء لدينه وإعزازا لاسمه الكريم فقال جل مجده إرفاقا وترخيصا وتخفيفا (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ). الآية.

وضروري عند أولي الألباب ان الآية المسوقة للتشكر من فعله (ص) وفعل المؤمنين ما سيقت في مرحلة التشريع وافادة الوجوب المولوي لصلاة الليل على المسلمين بل فيها ما يدل على عدم الوجوب فان قوله تعالى (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) إن القائمين معه كانت عصابة خاصة من المؤمنين فيسقط ما ذكره الجصاص في كتابه أحكام القرآن ج ٣ ص ٥٧٧ ان الآية نسخ بها قيام الليل المفروض وما ذكره الكشاف أيضا حيث قال في تفسير المقام يريد فصلوا ما تيسر عليكم ولم يتعذر من صلاة الليل وهذا ناسخ للأول ثم نسخا جميعا بالصلوات المكتوبات. انتهى.

أقول لا دلالة في صدر الآية ولا في غيرها من الآيات على وجوب صلاة الليل كي يكون منسوخا بقوله تعالى (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) قال الشيخ (قده) في التبيان ج ١ ص ١٦٩ وقد قلنا في ان الأمر في أول السورة على وجه الندب فكذلك هيهنا فلا وجه للتنافي حتى ينسخ بعضها لبعض انتهى.

قوله تعالى (أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) أي ما يقل من الثلثين ويقرب منه (وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) بالنصب ورجوع الضمير الى الليل وفيه أيضا إشعار ان قيامهم كان على الندب وكذلك لو قرء بالجر اي يضيف الثلثين وثلثه فان عدم تعيين الوقت وإرسال الحكم معلقا على أحياءهم من حيث مقادير الليل وقيامهم فيها غير ملائم للواجب والوجوب

قوله تعالى (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) الآية الظاهر ان هذه الجملة بمنزلة التعليل لقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ) فإنه سبحانه خلق الليل والنهار وقدر ساعاتهما ولحظاتهما وآناتهما فهو تعالى يعلم ما يعمل العاملون فيهما.

قوله تعالى (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ). الآية أي لا تتمكنون من إحصاء الليل من حيث مقادير أوقاتها أو لا تتمكنون من إحصاء الليل واستيعابه بالعبادة.

قوله تعالى (فَتابَ). اي رجع عليكم بالفضل

٢١٠

والعطف والحنان بمعنى الرجوع فهي لازم يتعدى بحروف الجر فيتفاوت المعنى باختلاف الموارد فالثواب كما ذكره في القاموس وغيره من أسمائه تعالى الحسنى.

قوله تعالى (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ). الآية قد استدل بهذه الآية على وجوب القراءة في الصلاة وتقريب استدلالهم ان الأمر يدل على وجوب القراءة ولا واجب من القراءة إجماعا إلا في الصلاة فالكبرى يجب دلالة الآية وإحراز الصغرى بالإجماع. وأورد عليه بمعنى الموجوب في غير الصلاة فيجب قراءة القرآن للاستطلاع على المعجزة الباقية للرسالة الختمية وللاشراف بدلائل التوحيد وغيرها من المعارف الحقة وزاد بعضهم ما خلاصته لئلا يندرس القرآن ويترك.

أقول يحتاج تتميم هذا الاستدلال الى بيان أمور :

الأول : أن مخاطبة الرسول (ص) ومن معه ليست على نحو القضية الشخصية بل يجب تحليلها وتفسيرها بما يؤل إلى قضية حقيقية كلية فإن أوامر القرآن وآياتها وأحكامها حية لا تموت ولا يختص بزمان دون زمان ولا بأقوام دون آخرين بل يجري كما يجري الليل والنهار وكما يجري الشمس والقمر.

الثاني : ان المراد من الوجوب المستفاد من الأمر ليس هو الوجوب النفسي الاستقلالي بل المراد هي الجزئية المنتزعة من مفاد الأمر فلا يتفصل بما قيل من التفصيل من وجوب القراءة للاطلاع على المعجزة وتحصيل المعارف أو استنباط الأحكام والتفقه في الدين فان هذا الوجوب لو سلم فإنما هو نفسي استقلالي كفائي على أن الأمور المذكورة ليست متوقفة على القراءة وانما تمكن منها بالنظر والتدبر والتفكر وليس بواجب شرعي مولوي بل يمكن ان يقال انه من الواجبات العقلية وقول بعضهم لئلا يندرس ويهجر ويترك ففيه مغلطة واضحة فإنه على فرض تسليمه يكون ترك القرآن والاعراض عن القرآن حراما وامتثال ذلك انما يكون بالقراءة فالواجب في مرحلة الامتثال حكما مولويا بالضرورة.

فإن قيل غاية ما يمكن أن يقال ان الآية ترخيص وتخفيف في صلاة الليل من الأشد الى الأسهل فتدل على جزئية القراءة في النوافل فقط فأين هذا من وجوب القراءة في الصلاة مطلقا قلت لو قلنا أن القراءة شرط وجزء في النوافل فيتم الاستدلال بعدم القول بالفرق بين الفرائض والنوافل.

الثالث : ان المراد بقوله تعالى (فَاقْرَؤُا) هي الصلاة عبر عن الصلاة بالقراءة لأنها من أشرف اجزائها وهذا هو الظاهر من الآية وعليه أكثر المفسرين ويشهد على ذلك ويؤيده ان الظاهر من قوله تعالى تقوم الآية هو القيام إلى الصلاة لا القيام المطلق ولا القيام الخالي عن الصلاة فعلى هذا فالترفيع بالفاء في قوله (فَاقْرَؤُا) هو التخفيف والتسهيل في القيام الأشق إلى الأخف من سنخه لا الى ما ينافيه ويباينه.

٢١١

«فرعان»

ذكر العلامة في البحار ص ٣٣٢ عن بعض الأصحاب ان كلمة ما في قوله تعالى (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ) ـ الى آخره ـ عام شامل لما زاد عن الحمد والسورة الا أن الزائد منفي بالإجماع فيبقي وجوب السورة سالما عن المعارض انتهى.

أقول خلاصة ما ذكره (قده) في الجواب ان القول بالعموم متوقف على ان يكون (ما) موصولة بمعنى الذي فمن الجائز ان يقال انها نكرة موصوفة أي فاقرؤوا شيئا ميسورا من القرآن على ما أحببتم وكيف أردتم وهذا هو المناسب لغرض الآية وسياقها الواردة في مقام التخفيف والترخيص في ترك الأشق الى الأسهل.

الثاني روي عن أبي حنيفة وصرح به الجصاص ان الآية تدل على جواز ترك الفاتحة واجزاء قليل من القرآن غيرها والظاهر ان منشأ هذا الوجه هو توهم الإطلاق في الآية ولا يخفى وهن هذا الوجه وسقوطه فإن الإطلاق في أمثال المقام إطلاق عامي بدوي في معرض التقييد فلا ينعقد الإطلاق قبل الفحص عن القيد ولا يصح التمسك به بالضرورة فالآية الكريمة لا تدل على أزيد من جزئية السورة في الصلاة واما اشتراط الفاتحة وعدمها وبيان مقدار ما تجزى من السورة في النوافل والفرائض فخارج عن عهدة الآية يحتاج الى بيان آخر فالمتبع في هذا الباب هو السنن القطعية من أفعاله (ص) وأقواله وما ورد من عترته الهادين.

وقيل ان المراد من القراءة في الآية هو قراءة القرآن لا الصلاة فمنهم من قال بالاستحباب وبعض على الوجوب لان القارئ يقف على اعجاز القرآن ودلائل التوحيد وإرسال الرسل.

أقول الوجه الأرجح ما ذكرنا من ان المراد هو الصلاة ثم انهم اختلفوا في المقدار المأمور به عن القراءة على أقوال.

فعن سعيد بن جبير خمسون آية وعن ابن عباس مائة آية وعن جويبر ثلث القرآن لان الله يسره على عباده وقيل غير ذلك أيضا وأنت تعلم أن تعيين هذا المقدار يحتاج الى الدليل وما ذكره جويبر فإنه بناء على العموم وان ما بمعنى الذي وقد ذكرنا ما فيه من الوهن.

في الوسائل عن الكليني مسندا عن حريز عن أبي عبد الله (ع) قال القرآن عهد الله في خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم ان ينظر في عهده وان يقرأ منه كل يوم خمسين آية.

وفيه أيضا عن الشيخ مسندا عن معمر بن خلاد عن الرضا (ع) قال سمعته يقول ينبغي للرجل إذا أصبح ان يقرأ بعد التعقيب خمسين آية.

وقراءة القرآن من أهم العبادات ولها شرائط كثيرة مذكورة في جوامع الأحاديث

٢١٢

المروية عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ولها اثر عظيم في قرع القلوب القاسية الناسية لربها واللاهية بأباطيل نفسها وامنيتها الكاذبة وفي تأديب النفس وتطهيرها وسوقها الى المكارم والفضائل وكذا في انشراح الصدر وصفاء السر وطمأنينة القلب فيجب على أولي الألباب والأبصار الذين يعقلون جلاله تعالى وكبريائه ان يقرؤوا القرآن منيبين الى الله بترتيل وتدبر وتفكر وخضوع وحزن وإخبات ملتزمين ومتعهدين لقبول ما يعظه تعالى ويناصحه وخائفين من جميع ما يخوف به العصاة ويهددهم من سطواته وبأسه ، والاخبار والآثار في ذلك الباب كثيرة فعليكم بمراجعتها والاستضاءة من أنوارها فتتبركوا بما ورد عن علي (صلوات الله عليه) في وصف المتقين الى ان قال تالين لا جزاء القرآن يرتلونه ترتيلا يحزنون به أنفسهم يستشيرون به دواء دائهم فاذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا وتطلعت نفوسهم إليها شوقا وظنوا أنها نصب أعينهم وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنوا ان زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم (الخطبة).

(الآية الخامسة)

قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، الحج / ٧٧ بيان : في القاموس. ركع الشيخ. انحنى كبرا أو كبا على وجهه ـ الى ان قال ـ وكل شيء يخفض رأسه فهو راكع ، وفي مرآة الأنوار ما يقرب منه والسجود لغة الخضوع. في القاموس. سجد طأطأ رأسه وانحنى ـ الى أن قال ـ وقوله تعالى (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) اي ركعا فالمحصل في معناها الخضوع وخفض الرأس والانحناء فعلى هذا لا مانع من إطلاق الركوع في مورد السجود وبالعكس لتصادق كل منهما في مورد الآخر ويحتاج تشخيص المعنى المراد الفقهي إلى قرينة بينة الا ان المقام وعنوان مقارنة الركوع بالسجود وتعقيب الركوع به قرينة جلية على ان المراد في الأول غير المراد في الآخر بل أريد من كل منهما معنى خاصا فلا محصل لصدق كل واحد منهما على الآخر في هذا المقام كما انه لا يمكن أن يقال أن المراد منهما الصلاة تسمية للشيء باسم أعظم أركانه كما قال به بعض المفسرين ضرورة انه يكفي إحدى الكلمتين في إفهام ذلك من غير احتياج الى الآخر فظهر بحمد الله غاية الظهور ان المراد من المأمورية في هذا المقام هو المعنى الخاص لكل من هذين اللفظين لا المعنى المشترك العام بينهما فان قيل سلمنا أن المراد والمأمور به على سبيل الوجوب حسب إطلاق الأمر وأن كانت هي السجدة فمن الجائز أن يكون المراد هي سجدة التلاوة كما في السجدات الواجبة عند قراءة الآيات في سورة العزائم لما عن الشافعي. أو الأعم منها ومن سجدة الصلوات كما ذهب إليه في القلائد. قلت كلا فان السجدات

٢١٣

في العزائم لها قرائن خاصة لإيجاب السجدة بعينها على الفور بخلاف المقام لمقارنة الركوع بالسجود فلا يمكن انطباق الآية على سجدة التلاوة فلا محالة يكون المراد من الركوع والسجود الواجبين هو الواجب في الصلاة بالبيان الذي تقدم في القراءة اي أن الركوع الواجب مع السجدة الواجبة لا يوجد لها مصداق إلا في الصلاة. ففي القلائد قال : روى الشيخ في الموثق عن سماعة قال : سألته عن الركوع والسجود هل نزل في القرآن قال نعم قول الله عزوجل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) فقلت كيف حد الركوع والسجود فقال اماما يجزيك من الركوع فثلاث تسبيحات تقول سبحان الله سبحان الله سبحان الله ثلاثا ومن كان يقوى أن يطول الركوع والسجود فليطول ما استطاع يكون في تسبيح الله وتحميده وتمجيده والدعاء والتضرع فإن أقرب ما يكون العبد الى ربه وهو ساجد.

وفيه أيضا عن الكافي عن أبي عمر الزبيري عن أبي عبد الله (ع) في حديث طويل ـ الى ان قال ـ ان الله فرض الايمان على جوارح بني آدم وقسمه عليها وفرقه فيها وفرض على الوجه السجود له بالليل والنهار في مواقيت الصلاة فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). وهذه فريضة جامعة على الوجه واليدين والرجلين. الحديث.

فتحصل من جميع ما ذكرنا أن المراد في الآية الكريمة هو الركوع والسجود الواجبين في الصلاة وعلى نحو الإجمال وتفصيل الركوع والسجود وشرائطهما فموكول الى بيان آخر من الكتاب والسنة وهذه سنة القرآن في بيان الحقائق والأحكام فلا يستغني المفسر والفقيه بحسب الغالب في تفسير الآية من القرآن عن غيرها من الآيات والسنن من حيث تقييد مطلقاتها وتخصيص عموماتها.

قوله تعالى (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ.) الآية العبادة في اللغة بمعنى التذلل والإطاعة والانقياد ومقابلة الاستكبار فإتيان جميع الواجبات وامتثالها وكذا ترك جميع المحرمات إذا كان لله فهو عبادة لله فالناس أما عبدة الرحمن أو عبدة الشيطان قال (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ.) الآية فتعين ان العبادة معنى عام شامل لطاعة جميع الفرائض العقلية والشرعية مثل الايمان بالله ورسله وبما جاءوا به والالتزام والإتيان بما أمروا وكذا ترك جميع المحرمات وكذا ترك الكفر والفسوق والعصيان فمرتبة العبادة مرتبة الامتثال للواجبات وترك المحرمات.

وقد فسر العبادة في الآية بأنها الحج والصوم وفسرها بعضهم وقال (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) بفعل ما تعبدكم به من العبادات انتهى. أقول : الوجه ما ذكرنا وليعلم ان الأمر أمر إرشادي لا مولوي تعبدي.

٢١٤

(الآية السادسة)

قال تعالى (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (الجن ١٨) اختلف المفسرون في تفسير الآية على أقوال. الأول : ان المراد من المساجد هي المساجد الموضوعة لعبادة الله سبحانه وقد نهى الله سبحانه ان يعبد فيها غيره الثاني : الأرض كلها لقوله (ص) جعلت لي الأرض مسجدا. الحديث. الثالث : انها المسجد الحرام فإنه قبلة المساجد. الرابع : ان المراد السجود فان المساجد جمع مسجد وهو مصدر فيكون السجدات كلها لله. والخامس : ان المراد الأعضاء السبعة التي يسجد بها ولا يخفى ان الأقوال ما عدا الأول والأخير بعيدة عن حريم الآية وأجنبية عن سياقها لا ينبغي الخوض فيها والتعرض لها.

أقول : أما القول الأول فمآله بملاحظة التفريع في قوله (فَلا تَدْعُوا) ـ إلى آخره ـ هو النهي عن عبادة غير الله والشرك به في المساجد خاصة فلا يصلح هذا التفريع الا بتقدير الظرف اي لا تدعوا مع الله أحدا فيها والأصل عدم التقدير لا سيما مع عدم ملائمته لظاهر الآية وأما القول الأخير فمرجعه النهي عن عبادة غير الله والشرك به تعالى مطلقا متفرعا بأن الأعضاء السبعة لله خاصة فلا يجوز التصرف فيه بالعبادة في غير ما خلق له بناء على ان المساجد جمع مسجد بالفتح لا بالكسر كما هو معنى القول الأول وفي القاموس مسجد كمسكن الجبهة والآداب السبعة جمع مساجد انتهى.

أقول : إطلاق المساجد على الأعضاء السبعة إطلاق شائع. في الوسائل قال الراوي : سألت أبا عبد الله عن الحنوط للميت فقال اجعله في مساجده ونحوه في بعض الروايات أيضا فأجود الأقوال هو القول الأخير فإن فيه النهي عن الشرك على إطلاقه من حيث كونه في المسجد وفيه أيضا عدم الاحتياج الى كلمة (فيها) وفيه استقامة التفريع المذكور في قوله تعالى فلا تدعوا ـ الى آخره ـ مع صدر الآية وكمال ملائمته به. في القلائد عن الكافي بمسند حسن عن حماد بن عيسى عن أبي عبد الله (ع) في حديث طويل وفيه (وسجد) يعني أبا عبد الله على ثمانية أعظم الكفين وإبهامي الرجلين والجبهة والأنف وقال سبعة فرض يسجد عليها وهي التي ذكرها الله تعالى (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) وهي الجبهة والكفان والركبتان والإبهامان ووضع الأنف على الأرض سنة.

في نور الثقلين ج ٥ ص ٤٣٩ عن العياشي عن أبي جعفر انه سأله المعتصم عن السارق من أي موضع يجب ان يقطع فقال ان القطع يجب ان يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكف فقال وما الحجة في ذلك قال قول رسول الله (ص) السجود على سبعة أجزاء الوجه واليدين والركبتين والرجلين فاذا قطعت عن الكرسوع أو

٢١٥

المرفق لم يدع له يد يسجد عليها وقال الله (أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) يعنى به ـ بهذه ـ الأعضاء السبعة التي يسجد عليها (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) وما كان لله فلا يقطع. الحديث.

أقول : لا يخفى ما في الحديث من التصريح بالمقصود وقد صرح عليه‌السلام ان قوله تعالى (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) لا يمكن الأخذ بإطلاق اليد فيها فإنها مخصصة بهذه الآية فيكون المراد من اليد ما سوى الكف وخارجا عنه وهي الأصابع من أصولها.

قوله تعالى (لِلَّهِ) اي بالاستحقاق والاختصاص ومنشأ هذا الاستحقاق والاختصاص انه سبحانه يملك ملكا ذاتيا حقيقيا بجميع ما سواه فلا يجوز لأحد التصرف في ملكه الا بعد الاذن والتشريع منه تعالى.

وأما المساجد السبعة فلها شأن بخصوصها فإنه قد سبق الحكم من الله سبحانه عدم جواز السجود لغير الله تعالى واختصاص هذا التكريم والتشريف لله تعالى فقط فلا يمكن ورود حكم آخر لهذا المورد منافيا ومباينا للتشريع الخاص السابق فتحصل من هذا البيان ان هذا الاختصاص والاستحقاق غير الاختصاص التكويني والمالكية الحقيقية إيجادا أو ابقاء وانما هذا حق واقعي استخلصه لنفسه وارتضاه لذاته جل مجده وثناؤه.

وأما السجود لآدم : فليست سجدة عبادة له من دون الله أو مع الله قال علي أمير المؤمنين (ع) في خطبة رواها العلامة المسعودي في مبتدإ كتابه مروج الذهب قال ـ الى ان قال ـ فلما خلق الله آدم ابان فضله للملائكة وأراهم ما خصه به حيث عرفه عند استنبائه أسماء الأشياء فجعل الله لآدم محرابا وكعبة وبابا وقبلة سجد إليها الأبرار والروحانيين الأنوار. الخطبة.

وليست سجدة يعقوب وبنيه سجدة ليوسف بل سجدوا لله شكرا لما جمع الله شملهم وقر عينهم بيوسف وبعزة الملك ، في تفسير العياشي عن ابن عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (ع) في قول الله (رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) قال العرش السرير وفي قوله ـ (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) ـ قال كان سجودهم ذلك عبادة لله وفي معناها أيضا من الروايات الأخرى وفيها كان سجودهم شكرا لله وفي بعضها طاعة لله.

(الآية السابعة)

قال تعالى (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) ـ الواقعة ٧٤ بيان ـ التسبيح : معناه التنزيه والتقديس قال في القاموس وسبحان الله تنزيها لله من الصاحبة والولد انتهى. فتسبيحه تعالى وتقديسه عما لا يليق بجنابه من صفات ما سواه من الخلق ومرجعه الى السلوب ونفي النقائص عنه من حيث ذاته وصفاته ونعوته وأفعاله

٢١٦

ويتحقق بلفظ التسبيح وبما سواه من الألفاظ المفيدة لذلك. في البرهان عن الصدوق بإسناده عن هشام الجواليقي قال سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله سبحان الله : ما يعنى به؟ قال تنزيه ـ وفي معناها غيرها.

ويتحقق بالتكبير أيضا فإن معنى التكبير والله أكبر يعني انه تعالى أكبر وأجل مما قال فيه الجاهلون وهو سبحانه أكبر من أن يوصف أو يتوهم أو يحد والفرق بين التسبيح والتكبير ان التسبيح انما هو بالسلوب مستقيما مثل انه تعالى لم يلد ولم يكن له كفوا ولم يتخذ صاحبة ولا شريك له ولا ند له ولا ضد له وهكذا بخلاف التكبير فان مرجعه انه سبحانه واجد من الكبرياء ومن نعوت الكمال ما يجل ويكبر عن ان يحد أو يوصف فهذا التسبيح والتنزيه انما هو بعد تحقق التمجيد وبعد تثبيت نعوت الكمال والجلال لا مستقيما وقد طلعت دعوة القرآن الكريم بالتكبير قال تعالى (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (المدثر) فإن سورة المدثر مما نزلت في أوائل الدعوة أو انها أول ما نزلت.

ويتحقق التسبيح بالتحميد أيضا ـ قال تعالى (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) البقرة (٢٠) قال تعالى (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (زمر ٧٥) توضيح ذلك انه قد ذكروا في تفسير الحمد انه بمعنى الشكر وليس بشيء ومنشأ ذلك الوجه انه قد يستعمل الحمد في مورد الشكر ولم يتذكروا ان هذا الاستعمال بعناية خاصة روعيت في هذا المورد لا انه بمعنى الشكر والرضا وقالوا أيضا أن الحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري والظاهر بمعونة التتبع والفحص عن موارد استعماله ان الحمد لغة بمعنى الثناء ويعبر عنه بالفارسية (ستودن) ويقع على الذات وعلى الصفات وعلى الأفعال ومرجع ذلك الى الثناء والتمجيد على كماله ذاته وكمال صفاته وأفعاله جل ثناؤه لاستحالة تطرق نقص وعيب في ذاته وصفاته وأفعاله فهو سبحانه حميد الذات ـ الى آخره ـ قال السيد المحقق في شرح دعائه (ع) في التحميد الحمد هو الثناء على ذي علم لكماله ذاتيا كان كوجوب الوجود والاتصاف بالكمالات والتنزه عن النقائص أو وصفيا ككون صفاته كاملة واجبة أو فعليا ككونها مشتملة على الحكمة انتهى. وقريب منه ما في كتاب علم اليقين للمولى المحقق الفيض (قده) في تفسيره الأسماء الحسنى عن بعض في شرح الحميد ـ فتعين مما ذكرنا ان الحمد منه تعالى على نفسه وكذلك من الملائكة ومن أوليائه العارفين به انما هو بلحاظ قدس ذاته وصفاته وأفعاله عن كل نقص وعيب وبهذا الاعتبار يرجع الأمر عند التحليل الى الحمد الى نوع من التسبيح والفرق بينه وبين التسبيح. أن التسبيح بلحاظ نفي كل نقيصة وطرد كل عيب عنه تعالى مستقيما وبلا واسطة عناية أخرى والتحميد انما هو بلحاظ

٢١٧

علو الذات وارتفاعه عن النقائص ولازم ذلك الأمر الوجودي هو تنزيه الذات وتقديسة ويصح أن يقال ان التحميد نوع خاص من التسبيح وسيجيء مزيد توضيح لذلك في تفسير ذكر السجود.

قوله تعالى (بِاسْمِ رَبِّكَ.) الآية الاسم العلامة وكل شيء تدل دلالة ما على شيء آخر فهو اسم وعلامة وصفة ونعت لهذا الشيء سواء أكان لفظا وكانت دلالته على مسماه بالجعل والوضع مثل الأعلام أم تكوينيا مثل دلالة البناء على الباني والصنيع على الصانع والظاهر ان المراد سبح ربك بذكر أسمائه الدالة على قدسه وتنزيهه فيكون المراد تنزيه الذات وتسبيحه لا تنزيه الاسم ولو كان المراد تسبيح الاسم لما احتاج الى حرف التعدية فإن باب التفعيل لا يحتاج في تعديته الى مفعوله الى الجار اما بناء على ما ذكرنا فيكون قوله تعالى «باسم» مفعوله الثاني ويشهد على ما ذكرنا ما رواه في البرهان عن التهذيب بإسناده عن عقبة بن عامر الجهني قال لما نزلت (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال لنا رسول الله (ص) اجعلوها في ركوعكم ولما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال لنا رسول الله اجعلوها في سجودكم.

وفيه عن ابن شهرآشوب عن تفسير القطان قال ابن مسعود فقال علي يا رسول الله ما أقول في الركوع فنزل (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال ما أقول في السجود فنزل (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى).

أقول لا يخفى دلالة الخبرين على ما ذكرنا ودلالتهما أيضا ان التسبيح في قوله تعالى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) انما وقع على الذات وان الاسم انما هو بعنوان المرآتية والوسطية على المسمى والمدلول لا بعنوان الموضوعية

فتحصل مما ذكرنا ان الظاهر في الآية الكريمة المبحوث عنها هو الأمر بتسبيح الذات الاحدية اي سبح ربك بأسمائه الحسنى الدالة على قدسه ونزهه وكذلك بعينه الكلام في قوله تعالى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) الآية بالفرق الذي ذكرناه قال في المجمع في تفسير المقام اي فبرئ الله مما يقولونه في وصفه ونزهة عما لا يليق بصفاته وقال في تفسير قوله تعالى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) وقيل نزه ربك عن كل ما لا يليق به من الصفات المذمومة والأفعال القبيحة لأن التسبيح هو التنزيه عما لا يليق به انتهى.

فعلى هذا يكون معنى الذكر الواجب في الركوع والسجود سبحان ربي العظيم وبحمده بإضافة بحمده كما هو مفاد بعض الروايات ومورد فتوى الأعلام هو التسبيح بالحمد على ما شرحناه لا التسبيح المطلق بالسلوب والنفي ولا التسبيح بالتكبير وهذا

٢١٨

الذكر الشريف من أوضح الشواهد على ما ذكرناه من ان التحميد نوع خاص من التسبيح لا انه بمعنى الشكر لا انه ثناء وتمجيد على الجميل الاختياري من حيث انه تمجيد فمعنى الذكر اي سبحت الله سبحانا وسبحته بحمده ، وقوله ربك أقول الرب من أسمائه تعالى مشتق من ريب والفاعل منه ربب مثل. خشن. والمفعول منه مربوب.

ومن قال انه مشتق من التربية فقد وهم فان التربية مأخوذة من الربو فهو ناقص وأوى فالفاعل من التربية من باب التفعيل مربي ومن المجرد راب نعم لو أراد ان معنى الرب لغة هو المربي لكان ادعاء معقولا كما هو أحد الأقوال في المسألة فهو نزاع لغوي سيأتي تحقيق الكلام فيه.

وقد اختلف في معناه على أقوال أحدها انه بمعنى المالك وثانيها انه بمعنى السيد المطاع وثالثها انه بمعنى الصاحب ورابعها انه بمعنى المربي. أقول : لا شاهد لشيء مما ذكروه ومرجعها الى دعوى الترادف فان المالك مثلا اسم مستقل من أسمائه تعالى وله معنى خاص في باب نعوته سبحانه فتفسير الرب بالمالك يرجع الى الترادف وإلغاء المالك عن معناه الموضوع له وأعجب منه تفسير الرب بالمالك والمالك بالقيوم فلا مناص من حفظ العناية الخاصة التي تحكي عنها الأسماء مع وحدة المصداق لا إرجاع مفاهيمها بعضها الى بعض فمقابلة الرب بالمالك في قوله تعالى (رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وكذلك مقابلته بالملك في قوله تعالى (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ.) الآية أصدق شاهد على ما ذكرناه.

ثم انهم اختلفوا في استعماله وإطلاقه فقال بعضهم كما في القاموس ان الرب مع اللام لا يطلق على غيره تعالى وعن بعضهم أن المجرد عن اللام والإضافة أيضا لا يطلق على غيره تعالى وقال ان الذي يطلق على غيره تعالى ما كان بالإضافة واستثنى بعضهم عن هذا الأخير كما ذكره في المنار ان لا يرد نهي فيه عن استعماله مثل قول العبد لسيده يا سيدي.

أقول وأنت ترى ما في كلامهم من الوهن والاضطراب في هذا المقام وليت شعري كيف تكون الإضافة وعدمها ودخول اللام وعدمها فارقا للمعنى الموضوع لها اللفظ كي يصح الإطلاق مع اللام ولا يصح بدونها وكذلك الكلام في الإضافة أليست اللام انما ترد على اللفظ الموضوع للمعنى الخاص.

والذي يمكن استظهاره في معنى الرب هو قيامه تعالى بأمر الخلقة والتكوين من حيث العنايات التي دبرها وأحكمها وأتقنها وأصلحها وانتظمها فهو سبحانه رب العرش العظيم ورب السماوات والأرضين ولن تجد في أمر الخلق صغيرها

٢١٩

وكبيرها ودقيقها وجليلها امرا جزافا فهذا التدبير العلمي العمدي في أتقن نظام وأحكمه وأحسنه آية لربوبيته تعالى ومن علاماته وبيناته فهو سبحانه يتراءى للعقول وينجلي للقلوب من حيث ربوبيته بهذه البينة الصادقة النيرة فالرب يتصادق مع المالك والمدبر والمربي والقيوم والمصلح من حيث المتعلق والمصداق الا انه ليس مترادفا معها والعناية المأخوذة فيه غير ما في غيره.

عن محمد بن يزيد قال جئت الى الرضا أسأله عن التوجيه فأملى علي فاطر الأشياء إنشاء ومبتدعها ابتداء ـ الى ان قال ـ خلق ما شاء كيف يشاء لإظهار حكمته وحقيقة ربوبيته. أقول علل (ع) الكيفية في الخلق على ما شاء لإظهار الحكمة والربوبية. وفي معناها غيرها أيضا.

قوله تعالى (الْعَظِيمِ) في المجمع قال كل شيء سواه يقصر عنه وفي رياض السالكين (ص ٤٧٨) في تفسير دعائه (ع) في يوم عرفة في شرح قوله العظيم المتعظم قال : العظيم الذي جاوز حدود العقول ان تقف على صفات كماله ونعوت جلاله. انتهى ما أردناه.

(الآية الثامنة)

قال تعالى (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (الاسراء ـ ١١٠).

ذكر المفسرون في تفسير الآية وجوها وأقوالا أعرضنا عن إيراد جميعها في المقام لضعفها وعدم استنادها بشيء من ظاهر الآية والعمدة منها ما روي عن أبي مسلم واختاره في كنز العرفان وادعى انه قريب من ظاهر لفظ الآية وهو أن الموارد (لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) كلها (وَلا تُخافِتْ بِها) كلها (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) بان تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار.

أقول الظاهر من الآية الكريمة النهي عن الإجهار بالصلوات سواء كانت فريضة أو نافلة وسواء كان ليلا أو نهارا سواء كان في القراءة أو في جميع الأذكار وكذلك الكلام بعينه في التخافت وقد اختلط الأمر على ابي مسلم ومن تبعه حيث لم يفرقوا بين وجوب الجهر في القراءة والإخفات في بعضها على نحو الشرطية في الفريضة وبين المنع عن الإجهار والتخافت في الصلوات كلها قراءاتها وأذكارها على نحو المانعية فلا وجه لحمل الآية الظاهرة في تحريم الإجهار والتخافت على الإطلاق سواء كان على نحو المانعية أو من باب التحريم التكليفي على وجوب الجهر والإخفات على نحو الشرطية فلا جامع بين المعنيين بوجه أصلا.

توضيح ذلك ان التخافت كما في القاموس حيث قال خفت خفوتا وسكن وسكت

٢٢٠