بدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام

محمد باقر الملكي

بدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

محمد باقر الملكي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٣

السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ولن تجد موردا استعمل فيه الرحيم الا مقارنا بغفور وودود وتواب على كثرتها إلا في مورد واحد وهذه الحقيقة القرآنية ليست امرا منكرا حتى يطرح أو يؤول هذا أولا وعرض الاخبار على القرآن كما هو مفاد عدة من الروايات في الاخبار العلاجية في المتعارضين وكذلك في غيرها أجنبي عن هذا الذي ذكره من تعيين المفاهيم الإفرادية واللغوية فإن ذلك يرجع الى النزاع اللغوي في تعيين مفاد اللفظ وتشخيص معنى الأفرادي في الكلام دون المعنى التركيبي. فتوهم ان عرض الاخبار على الكتاب في تشخيص المعاني اللغوية والمعاني الإفرادية بحسب اللغة كما ترى هذا ، ثانيا بل مورد عرض الاخبار على الكتاب فيما تكون المخالفة بينهما بالتباين الكلي في مفادهما هذا ، ثالثا ومع قطع النظر عن جميع ما ذكرنا يكون مفاد الأخبار الدالة على ان معنى الرحيم بعباده المؤمنين خاصة أخص بالنسبة إلى القول بعموم متعلقة ومخالفة العام مع الخاص لا يعد مخالفة هذا ، رابعا واما الذين قالوا بالاشتراك المعنوي في أمثال المقام فمنهم من صحح أيضا ان الرحمن اسم للرحمة العامة والرحيم اسم للرحمة الخاصة فتلخص ان الآية المبحوثة عنها من الموارد التي استعمل فيها الرحيم في الرحمة الخاصة وفي مورد شمول رحمته تعالى عليهم.

(الآية الثالثة)

قال تعالى (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) البقرة (١٤٤).

قوله تعالى (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها). الآية.

الظاهر ان تقلب وجهه في السماء كان التماسا وابتهالا وطلبا من الله سبحانه ان يصرفه عن قبلة اليهود كي يستريح عن تعييرهم وإلقاء الوسوسة والتشكيك عنى العوام بان محمد (ص) أخذ بقبلتنا وتنسك بنسكنا ولولانا وقبلتنا ما يدري ان يصلي وما رضي (ص) ان تفتتن أمته بعده بأهل الكتاب في مشاركة القبلة وقد أخبر تعالى أن رسوله وحبيبه يقلب وجهه الى السماء ويتضرع الى الله سبحانه في إنجاح مأموله وفي هذا التعبير من الاستعطاف والإكرام والتحبب والتودد ما لا يخفى.

قوله تعالى (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها). التولية : كما ذكرنا سابقا إذا استعمل مع من نفيد صرف الوجه عن الشيء والاعراض عنه وإذا استعملت بدونه تفيد معنى التوجه إلى الشيء والتمكن منه. فهذا وعد منه سبحانه ان يستجيب دعائه ويتحقق أمله وان يكرمه بإعطائه ما يرضاه. فان قيل ان المستفاد من قوله تعالى (تَرْضاها) : ان الرسول ما كان راضيا بقبلة بيت المقدس التي جعلها له قبلة كارها لها ورضيا

١٨١

بقبلة ما سواها وكان متمايلا إلى الكعبة محبا لها قلت : قد استشكل ذلك وتكلم الرازي في تفسيره وأطنب القول فيه وفي معنى تقلب وجهه. وقد عرفت معنى تقلب وجهه (ص) في السماء واما عدم رضائه (ص) بقبلة بيت المقدس فليس امرا مستنكرا حتى يستوحش منه وقد سئل رسول الله في التخفيف عن أمته في موارد شتى قال تعالى (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ.) الآية البقرة وقد استجاب الله دعوته وخفف على أمته ورفع عنهم. وفي بعض الروايات ان هذا كان من دعائه ليلة المعراج وأعلن استجابة دعائه بقوله (ص) رفع عن أمتي تسعة الخطأ الحديث فليس في هذا استكشاف واستعجاب بان حكما من أحكامه تعالى وقضاء من قضائه الجارية تكوينا أو تشريعا أن يسأل ولي من أوليائه سبحانه تحويله ورفعه وتبديله بحكم آخر وقضاء جديد يكون فيه فرجه وعافيته وقد ابتلى رسول الله بمردة اليهود وتعييرهم وإيذائهم وأصيب بتعرضهم إياه وللمؤمنين وقد صاروا فتنة عليهم ومحنة عليه (ص).

ومن العجيب ما ذكره الرازي عن بعضهم انه استأذن جبرائيل في ان يدعو الله تعالى بذلك فأخبره جبرائيل ان الله قد اذن له في هذا الدعاء لأن الأنبياء لا يسألون الله شيئا إلا بإذن منه لئلا يسألوا ما لإصلاح فيه فلا يجابوا حتى لا يقضي ذلك الى تحقير شأنهم فلما اذن الله تعالى في الدعاء علم انه يستجاب فكان تقلب وجهه في السماء ينتظر مجيء جبرائيل (ع) بالوحي في الإجابة انتهى. وليت شعري كيف تدل الآية على انه استأذن جبرائيل وكيف تدل على ان تقلب وجهه الى السماء كان بعد المشاورة والتباني مع جبرائيل حتى ينتظر جبرائيل. وما الدليل على ان الأنبياء لا يدعون الا بعد اذن خاص من رد دعائهم وقد قضى الله سبحانه وحكم على جميع عباده ان يدعوه لحوائجهم ويفزعوا إليه في آمالهم والدعاء عبادة ذاتية ، ولأوليائه تعالى وأحبائه فيه قدم راسخ ومقام مكين ولكل باب مسألة الى الله منهم يد قارعة يدعون ربهم تضرعا وخيفة ورغبة ورهبة. فلا تصغ الى ما قيل أو ما يقال فقوله تعالى : (تَرْضاها) صريح انه (ص) يرضى قبلة سيجعل الله قبلة ويكره ما سواها فإنه (ص) من أفضل أوعية المشيئة لله سبحانه فلا يشاء الا ما شاء الله ولا يرضى الا ما يرضى الله فقد رضي الله بهذه القبلة ويرضاها الرسول من أجل رضائه تعالى بها.

في البرهان عن تفسير الامام (ع) قال وجعل قوم من مردة اليهود يقولون والله ما يدري محمد (ص) كيف صلى حتى صار يتوجه الى قبلتنا ويأخذ في صلاته بهدينا ونسكنا فاشتد ذلك على رسول الله (ص) ما اتصل عنهم وكره قبلتهم وأحب الكعبة فجاءه جبرائيل فقال له رسول الله يا جبرائيل لوددت لو صرفني الله عن بيت المقدس إلى الكعبة فقد تأذيت بما يتصل بي من قبل اليهود من قبلتهم فقال جبرائيل

١٨٢

فاسأل ربك ان يحولك إليها فإنه لا يردك عن طلبتك ولا يخيبك عن بغيتك فلما استتم دعاءه صعد جبرائيل ثم عاد من ساعته فقال أقرأ يا محمد (ص) (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ). الآية.

قال تعالى (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.) الآية :

بيان : إنجاز لما وعد الله سبحانه حبيبه وصفية ان يعطيه قبلة يرضاها فقد استجاب الله دعوته وأكرمه بإعطائه أمله وسؤله وأمره تعالى ان يصرف وجهه شطر المسجد الحرام وجعلها قبلة له (ص) ولأمته ونسخ بها قبلة بيت المقدس التي كان يصلي إليها وما جعلها الله تعالى قبلة له (ص) الا تمحيصا (لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) وقد كان التسليم لهذا الحكم وامتثاله ثقيل على العرب سيما على القريش والحق انه كما قال تعالى (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) ولذلك كان في تحويلها شأن خاص وانعكاس شديد بين أعداء الإسلام سيما اليهود الذين تركت قبلتهم ونسخت واستقل المسلمون بقبلة مخصوصة وانفردوا بها عنهم وعن غيرهم فما رضي الله سبحانه ان يشترك المسلمون معهم في قبلة واحدة.

«إيقاظ وإزاحة أوهام»

(١) قد عرفت ان الآيات ناصة وناطقة ان قبلة بيت المقدس فرضت وجعلها الله قبلة لرسوله (ص) ولا يرتاب فقيه في دلالة هذه الآيات على انها فرض من الله سبحانه فما روي عن بعض المفسرين ان بيت المقدس كانت قبلة له (ص) بحسب ـ السنة لا بحسب الكتاب فقوله تعالى (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) نسخ للسنة وليس هذا النسخ من باب نسخ القرآن بالقرآن ، ضعيف ، غايته ، فهذا اللجاج والخصام عن اليهود والمنافقين وتعرض الآيات لدفع سنتهم ودحض حججهم تارة وإثبات ان كلتا القبلتين فرض من الله سبحانه دليل واضح على ما ذكره لا يتطرق الشك والوهم اليه.

(٢) الآيات الكريمة دالة وحاكمة على ان قبلة البيت المقدس كانت فريضة حتمية وواجبة بعينها عن الله سبحانه وانها شرعت لأجل الامتحان والاختبار فما عن قتادة انه (ص) كان مخيرا بينها وبين الكعبة في غاية السقوط كيف ولو كان واجبا تخييريا لما وقع التمحيص ولما وقع الاعتراض من اليهود فقوله تعالى (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) ، شاهدة ان الكعبة لما شرعت بعد وفي شرف التشريع والجعل بحسب هذا الوعد

١٨٣

الصدق الذي وعد تعالى رسوله وكذلك قوله (فَوَلِّ وَجْهَكَ) التعبير بالفاء عقيب الوعد المذكور وروى الجصاص ان نفر من أهل المدينة قصدوا رسول الله (ص) في مكة للبيعة وفيهم البراء بن معرور فصلى براء إلى مكة والى أصحابه فلما قدموا رسول الله (ص) سألوه فلم يأمره باستيناف صلواته.

أقول بعد ما عرفت ان ظاهر الآيات ان كل واحد من القبلتين فريضة في وقته فلا يصغي الى هذه الآحاد الضعاف المخالفة لظاهر القرآن.

(٣) روى الجصاص عن ابن عباس ان هذه الآية نسخت بها قوله تعالى (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ). / البقرة (١١٠) وكان المسلمون قبل ذلك يصلون الى حيث كان من الجهات وقال بعض الأعيان ان القائل بذلك قتادة.

أقول لازم ذلك القول انه تعالى ما جعل لرسوله قبلة بعينها وهذا خلاف صريح الآيات والسنن القطعية وسيجيء إن شاء الله ان قوله تعالى (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ليست بمنسوخة بل محكمة يعمل بها في موردها ونسبة هذه الآية المبحوثة عنها نسبة العام الى الخاص لا للناسخ والمنسوخ والله الهادي.

قوله تعالى (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) التولية التحير والتمكن من التصرف اي صرف وجهك وإطلاق الأمر يقتضي الوجوب مطلقا سواء كان في الفرائض أو في النوافل وفي جميع الحالات بالعناوين الأولية وغيرها من حال الشك في القبلة والتحير فيها وهذا الإطلاق في معرض التقييد فلا ينافي ما ورد في تخصيصه من عدم اشتراط الاستقبال في النوافل ـ ما يشاء ـ وفي غيرها من العناوين الثانوية (مثل صلاة الخوف).

والشطر : فسره بعضهم بالنصف والبعض وذكر ان وجه التعبير عن الكعبة بشطر مسجد الحرام فإن الكعبة بعض من المسجد الحرام ولا يخفى ما فيه من التكلف قال في القاموس الشطر نصف الشيء وجزئه الى ان قال والجهة والناحية وهذا المعنى الأخير هو المراد في المقام اي اصرف وجهك نحو المسجد الحرام وتصريف الوجه نحو المسجد الحرام باعتبار احتوائه الكعبة المكرمة لا انه قبلة في قبال الكعبة وإلغاء كونها قبلة كما قد يوهمه بعض الكلمات ان الكعبة قبلة لمن في المسجد والمسجد قبلة لمن في الحرم والحرم قبلة لأهل الدنيا ومنشأ هذا التوهم هو الأخذ بظاهر الآية وبظاهر عدة من الروايات ضرورة ان الآية وما في مساقها من روايات عمومات سيقت لأهل التشريع قبلة فلا ينافي ما ورد من تخصيصها وتعين حدود القبلة وما يرجع الى شأنها ومنه يعلم انه لا وجه لإعمال المعارضة بين ما دل على ان القبلة عين الكعبة

١٨٤

وما ورد انهما المسجد الحرام أو الحرم ولعل سر هذا التعبير في الآية الكريمة وفي هذه الروايات هي التوسعة من حيث الاستقبال فعين الكعبة هي القبلة مطلقا الا ان التوسعة في استقبالها وإحرازها وإحراز الجهة التي هي فيها تسهيلا للأمر على العامة والطرق التي وردت في الروايات ليست على الدقة العلمية لإحراز العين بل جميعها لإحراز الجهة التي هي فيها فلا مناص من القول ان التوجه نحو المسجد الحرام بلحاظ الطريقة إلى الكعبة لا من أجل استقلالها من كونها قبلة فلا بد من تأويل كلام القائلين ان الجهة قبلة البعيد بما ذكرنا من البيان ولو كان آبيا عن التأويل فالأولى الإعراض عنه وتخصيص الخطاب بالرسول (ص) إيذانا بإكرامه في إجابته دعائه وإنجاح أمله وان الأمر انتهى الى رضائه (ص) برضائه تعالى وفي هذا غاية التشريف والتكريم ثم عمم الحكم لجميع المسلمين وقال تعالى وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره بالتعبير بحيثما تصريح للاستغراق وعموم الحكم لجميع الناس في كل زمان ومكان في البراري والجبال والبحار والاسفار والحضار على الرواحل والسفن وغيرها فلا ينبغي التوهم أن الآية نزلت في المدينة وهو (ص) والمسلمون في صلواتهم وحولوا نحو الكعبة ، انها مختصة بالمدينة ومصلين فيها.

(الآية الرابعة)

قال تعالى (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة ١٤٥) الآيات.

قد عاد الكلام منه تعالى بعد تشريع القبلة ونسخ قبلة بيت المقدس لتقريع المخاصمين وتوبيخهم ومفاد الآيات ولحنها تحكي وتشهد ان اللجاج والخصام والعصبية قد بلغ غايته وعمل عمله النكير فمست الحاجة الى التعرض لشأنهم والاحتجاج عليهم وبيان إصرارهم على دفع الحق بالباطل وجحودهم الحق مع عرفانهم وايقانهم به واحتاج في المقام الى تثبيت المؤمنين وتأييد قلوبهم فقال تعالى (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥٠) قد اضطرت كلمات المفسرين في تفسير هاتين الآيتين ووجه إعادتهما بعد تشريع الحكم ونسخ قبلة بيت المقدس وذكروا فيه وجوها وأقوالا وأطالوا

١٨٥

وأطنبوا وقد أغمضنا عن إيرادها والنقض والإبرام فيها حذرا من الإطالة وأقول : بعد ما قرع تعالى المبطلين من أهل الكتاب والمشركين والمنافقين شرح سبحانه وأعاد الكلام في أمر القبلة ثانيا وهذه الإعادة ليست للتكرار والتأكيد كما توهم ضرورة انها ليست لأجل التشريع ثانية وثالثة بل وجه الإعادة بالآيتين أنهما سيقا للتشديد في امتثال الأمر وتسلية لرسوله وتأييدا فقال (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) الآية رغما للمخاصمين (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) وانك وأوليائك لعلى حق مبين واما أعدائك الذين يريدون إطفاء نورك فما الله بغافل عنهم فسيكفيكهم ويظهرك عليهم ويقطع دابرهم وفي الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة لتحذيرهم وتهديدهم ثم خاطبه وخاطبهم ثالثة قال (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) الآية فخلطه مع المؤمنين وأمرهم بالامتثال وحذرهم عن الوهن والفشل وعلله بقوله (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) أي اضطرابكم في الأمر وزلزالكم في المقام يوجب تقوية شبهة المبطلين وقيل في وجه تقوية حججهم انهم عرفوا في كتبهم ان النبي الموعود يصلي الى القبلتين وتكون قبلته النهائية الكعبة وهذا البيان أقوى حجة على ما ذكرنا فان التعليل المذكور لا يلائم التشريع بوجه أصلا فإن التشريع فعله تعالى لا فعل المؤمنين انظر الى موقع قوله تعالى (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) فهذه الجملة وهذه النصيحة من الله صريحة في التعليل المذكور اي ان الله سبحانه أولى بأن تخشوا منه لعموم قدرته وسلطانه وشدة بأسه لأعدائه المخاصمين فإنهم لن يضروكم أصلا إلا بإذن من الله فلا تعصوه تعالى بمخالفة أمره واطاعة أعدائه فاختلفوا في مصداق هذه النعمة التي يريد تعالى إتمامها وإكمالها جزءا لامتثالهم ولعلها انتشار الدعوة وغلبة الحجة وتكبيت العدو واهتداء الناس الى روح الشريعة والانتفاع بها والاستضاءة بأنوارها والحمد لله الذي هدانا لهذا.

(الآية الخامسة)

قال تعالى (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (البقرة ١١٥) قوله تعالى (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) اللام للملك وكون المشرق والمغرب ملكا لله تعالى ليس أمرا اعتباريا مثل الملك الموجود في الاجتماع فإنه إما اعتباري محض وكناية عن جواز الانتفاع من العين بحسب العقل والشرع على ما ذكروه أو من الأمور الواقعية مثل مالكية الإنسان لأفعاله من القبض والبسط والفعل والترك الا ان الإنسان لمكان مملوكيته لله تعالى من حيث ذاته ومن حيث ما كان واجدا لمواهبه تعالى من الحياة والعلم والقدرة ليس ملكه لذاته بذاته وكذلك بالنسبة إلى المواهب التي يجدها والأفعال التي يصدر عنها فلا يكون مالكا لذاته ولا لمواهبه ولا لأفعاله بذاته بل هو مالك بالغير بخلاف مالكيته تعالى للمشرق والمغرب ولجميع ما سواه فان مالكيته ذاتية وهذه المسألة من أغمض المسائل الكلامية وقد عبر عن هذه الحقيقة بعض المحققين عن القيومية لعدم نيلهم

١٨٦

المالكية بالمعنى الذي ذكرناه وأولوا جميع ما في الكتاب والسنة من لفظ المالك والمليك وغيرها الى القيومية.

إذا تقرر ذلك فنقول : ذكر بعض المفسرين كما في تفسير الرازي ان المراد من قوله تعالى (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) هي المالكية التكوينية وردها المحققون وقالوا ان المراد في المقام هو الملك التشريعي أي أن له تعالى حق التصرف بشارعيته وله سبحانه حق التقنين والتشريع فيها بما شاء وكيف أراد ويشهد على ذلك التفريع المذكور في الآية وهو قوله (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) فان التفريع المناسب والملائم على المالكية التكوينية حق الإيجاد والإبقاء والافناء وأمثالها لا توليه الوجوه وأمثاله من الأحكام التعبدية.

فتلخص ان الآية الكريمة سيقت في مساق تشريع القبلة وأجاز ورضي تعالى بتولية الوجوه الى حيث ما أرادوا وأينما تولوا ففيها مرضاته سبحانه وبديهي ان الآية في غاية الظهور في إفادة الوسعة من حيث الجهة فما عن الكشاف وجنح اليه بعض المحققين ان الآية سيقت لبيان التوسعة في المكان والإجمال من حيث الجهة فيقيد بقوله (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) الآية في نهاية الوهن والسقوط وقد أفادت الآية الكريمة حكما عاما كليا فيسقط ما ذكروه فيها من الوجوه والأقوال وقد أنهاها الرازي في تفسيره إلى سبعة أقوال وحيث ان الآية الكريمة في معرض التخصيص فلا محذور بعد خروج موارد التخصيص في الأخذ بعمومها. ومن مخصصاتها قوله تعالى (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) الآية. بعد تخصصها وتوضيحها بالأدلة المنفصلة فإن الآية سيقت على ما صرح به أهل البيت (ع) في الفرائض خاصة وهكذا. فعلى عهدة الفقيه الفحص والبحث عن المخصصات وبعد اليأس الأخذ على ما بقي من عمومها. قال بعض الأعاظم في هذا المقام : ومن هنا استدل بها أهل البيت (ع) على الرخصة للمسافر ان يتوجه في نافلته الى أي جهة شاء وعلى صحة صلاة الفريضة إذا وقعت بين المشرق والمغرب خطأ وعلى صحة صلاة المتحير إذا لم يدر أين وجه القبلة وقد تلاها سعيد بن جبير رحمه‌الله لما أمر الحجاج بذبحه إلى الأرض وهذه الآية مطلقة وقد قيدت بالصلاة الفريضة بلزوم ـ التوجه فيها الى بيت المقدس تارة والى الكعبة أخرى انتهى ما أردناه.

أقول : لا تنافي بين الروايات التي ذكرها في الموارد المذكورة. فإنها من إفراد المعنى العام المطلق وجميعها مما ينطبق على الآية الكريمة ولا تنافي بين المثبتات وانما التنافي بين المثبت والنافي ثم ان من عجيب الأمر ما روي عن قتادة انها منسوخة بقوله تعالى (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وأعجب منه ما عن ابن عباس وجماعة من العامة أنها منسوخة بقوله تعالى (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) الآية وفيه.

أولا ان لازم ذلك القول انه (ص) والمسلمون كانوا قبل قبلة الكعبة مخيرين أينما

١٨٧

صلوا وليست لهم قبلة متعينة وقد ذكرنا بطلان ذلك القول وان بيت المقدس كانت قبل الكعبة فريضة متعينة.

وثانيا : ان نسبة هذه الآية المبحوثة عنها بالنسبة إلى قوله تعالى (فَوَلِّ وَجْهَكَ) الآية نسبة العام الى الخاص فلا تعارض بين العام والخاص حتى نلتزم بالنسخ.

وثالثا ان القول بالنسخ متوقف على العلم بتقدم نزول هذه الآية قبل قوله تعالى (فَوَلِّ وَجْهَكَ) ولا دليل على ذلك غير ان هذه الآية كتبت في المصحف قبل قوله تعالى (فَوَلِّ وَجْهَكَ) وهو لا يعد دليلا فليست هذه الآية في صلاة الفريضة كما ذكرنا التنصيص بذلك عن أئمة أهل البيت (ع) وعن طريق العامة عن ابن عمر ان الآية في نافلة المسافر وفي من صلى خطأ الى غير القبلة ذكرهما الرازي في تفسيره وعن الطبري أنها نزلت في المتحير وعن بعضهم انها في الدعاء وقد تبين مما ذكرنا ان الآية محكمة ليست بمنسوخة وتبين أيضا بطلان قول من قال ان هذه الآية ناسخة لقبلة بيت المقدس وهو (ص) والمسلمون مخيرون بعد رفع قبلة بيت المقدس في الصلوات الى حيث ما شاءوا الا انه (ص) يختار بيت المقدس نقل ذلك عن قتادة وابن زيد.

قوله تعالى (إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) قيل انه سبحانه واسع الفضل والرحمة لم يشدد عليكم في أمر القبلة (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). عليم يضع ويجعل من الأحكام ما يصلحكم وتنتفعون بها في دنياكم وآخرتكم.

«مقدمة الصلاة»

(الآية الأولى)

قال تعالى (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (الأعراف ٢٥).

بيان : الآية في مقام الامتنان والتذكار بالنعمة والاستدلال بها على فضله ورحمته تعالى بعباده وقيل استدلال على توحيده وذكروا في تفسير الإنزال في هذا المقام وأمثاله وجوها والأحسن منها ما قال في المنار عن شيخه عبده لان كل ما كان من الحضرة العلية الإلهية يسمى إعطائه انزالا انتهى وقال في القلائد وما أعطاه الله بعبده فقد أنزله عليه وليس أن هناك علوا ولكن كان المراد العلو الرتبي والتعظيم انتهى والمواراة التيسر والسوأة العورة ومقابح البدن وريش ورياش قال في القاموس ما حاصلة مثل اللبس واللباس الثياب الفاخرة وفسره بعضهم بلباس التجمل وقال بعضهم بمعنى الأثاث من الفرش والآثار. والظاهر ان ما ذكروه من مصاديق المعنى العام اللغوي قال أبو عبد الله الحسين (ع) في دعائه في يوم عرفة لم ترض لي يا إلهي بنعمة دون اخرى ورزقتني من أنواع المعايش وصوف الرياش بمنك العظيم الأعظم علي. الدعاء فهذه الآية لمكان كونها في مقام الامتنان والتذكر

١٨٨

بنعمة اللباس والرياش والاستفادة والتمتع بهما بأنواع التمتع وفي مقام الاستدلال به على مواهبه سبحانه فليست في مقام الجعل والتشريع وجوبا أو قد يشعر الاستدلال بها على وجوب ستر العورة الا ان يقال باستقلال الفعل بوجوب ستر العورة ومقابح البدن فالآية تذكر وإرشاد إلى حكم العقل.

قال الجصاص في كتابه أحكام القرآن (ج ٣ ص ٣٧) وقوله تعالى (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) الآية قوله تعالى (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) الآية (أعراف ٢٣) يدل على فرض ستر العورة لاخباره انه انزل علينا لباسا نواري به سوءاتنا الى ان قال وقد اتفقت الأمة على معنى ما دلت الآية من لزوم فرض ستر العورة انتهى.

وقال المحقق الأردبيلي : ففي الأول إشارة إلى وجوب ستر العورة مطلقا لقوله (يُوارِي سَوْآتِكُمْ) فإنه يدل على قبح الكشف وان التستر مراد الله تعالى وفي الثاني إلى استحباب التجمل باللباس ويمكن فهم اشتراط كون اللباس مباحا لان الله لا يمن بإعطاء الحرام. انتهى.

أقول ما ذكره من فهم اشتراط الإباحة فلا كلام فيه للاستقلال بحرمة الظلم والغصب ، هذا عن دلالة هذه الآية. إنما الكلام في دلالتها على وجوب ستر العورة مع قطع النظر عن الأدلة القطعية الواردة في الكتاب والسنة فاستناد الوجوب الى هذه الآية لا يخلو عن الاشكال.

ثم انهم ذكروا أن الآية تدل على ثلاثة أنواع من اللباس على الترتيب المذكور في الآية ١ ـ اللباس المطلق ٢ ـ اللباس للتجمل ٣ ـ لباس التقوى ـ وذكروا لتعيين مصداق لباس التقوى أمثلة منها ما يجب لدفع الضرر وما يجب في مقام الحرب وأمثاله أقول اللباس الواجب بالعناوين الثانوية ليس قسما رأسا في مقابل الأولين ضرورة أن اللباس بهذا العنوان له أحكام خمسة مثل غيره من أفعال المكلفين فهذا التقسيم والتسمية لا يرجع الى محصل ومما ذكرنا يعلم ضعف ما قيل ان لباس التقوى لبس البياض ولباس الزهد مثل لبس الصوف والشعر فان لباس الزهد على فرض استحبابه من باب انقسام اللباس بلحاظ الأحكام الخمسة باعتبار نفسه انما الكلام في لباس الزهد واما المعنى الذي ذكروه وليس في الإسلام للزهد لباس آخر وسيجيء إشباع الكلام في هذه المسألة في تفسير قوله تعالى (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) والظاهر ان الآية أشارت إلى مسألة اخلاقية وهي ان الله عز اسمه انزل عليكم لباسا يواري به سوآتكم والمقابح الظاهرية في أبدانكم ورياشا تنتفعون بها في حوائجكم وتتحملون بها في أعيادكم وجمعاتكم فالتقوى من الله والخضوع لكبريائه وتطهير النفوس من قبائح الأخلاق والتحلي بمكارمها تواضعا له تعالى وطلبا لمرضاته وتحصيل قربه أولى وأوجب فالآفات الروحية والفضائح النفسية أحوج بالستر وسترها تطهيرها فعليها إذا

١٨٩

التعبير بلباس التقوى لاشتماله على واقع الأمر ظاهرا وباطنا لكونه مطهرا للعيوب والعوار في الستر والعلن فعن الباقر عليه‌السلام في تفسير هذه الآية قال واما اللباس فالثياب التي تلبسون واما الرياش فالمتاع والمال واما لباس التقوى فالعفاف ان العفيف لا تبدو له عورة وان كان عاريا من اللباس والفاجر بادي العورة وان كان كاسيا من الثياب ان الله يقول (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ).

أقول قوله عليه‌السلام بادي العورة أي عورات شخصه ونفسه وعن الكافي عن علي (ع) في بعض خطبه قال الجهاد لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنته.

فتحصل ان الآية ساكتة من حيث الحكم الشرعي وجوبا واستجابا ضرورة أن الآيات المسوقة في مقام الامتنان مثل قوله تعالى (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (البقرة / ٢٩) ومثل قوله تعالى (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) (النحل ١٢) وأمثالهما. لا تفيد حلية ما ذكره تعالى في مقام الامتنان وليست هذه الموارد آبية ومناقضة بتعلق حكم من الأحكام الخمسة عليها بل مورد الأحكام ومتعلق الحلال والحرام وغيرهما هذه الموارد بعينها من دون احتمال تعارض وتزاحم بين أدلة الأحكام وبين الآيات المسوقة للامتنان ومما ذكرنا يعلم وهن ما في الكشاف في تفسير قوله تعالى (خَلَقَ لَكُمْ) الآية حيث قال قد استدل بقوله تعالى (خَلَقَ لَكُمْ) على ان الأشياء التي يصح ان ينتفع بها ولم تجر مجرى المحظورات العقلية خلقت في الأصل مباحة مطلقا لكل أحد ان يتناولها وستنتفع بها انتهى ما أردناه. وتمام الكلام موكول الى محله.

قوله تعالى (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ). الآية أي إنزال أنواع اللباس وصنوف الرياش مما يحتاج اليه الناس الذي يشكل فيها إحصائها من حيث كثرة الأنواع والأصناف مما يستدل به على فضله تعالى ورحمته والآية العجيبة اهتداء الناس إليها والعمل بأنواع الصناعات والانتفاع بها في إدامة حياتهم بحسب احتياجاتهم في جميع الأعصار والأزمان

(الآية الثانية)

قال تعالى (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (أعراف آية ٣١). بيان الآية الكريمة بحسب سياقها ظاهرة في تشريع الحكم والإلزام بأخذ الزينة عند كل مسجد فإن إطلاق الأمر يدل على الوجوب والمراد من أخذ الزينة اتخاذها وأعمالها لا رفعها وسلبها والمراد من الزينة هي اللباس اي لباس الذي يتجملون به عند الخروج الى الاجتماع والجماعات بالزي المرغوب والمقبول اي بأحسن ما يمكن لهم ويكون في مقدرتهم فالآية

١٩٠

في مقام التشويق والترغيب بأخذ الزينة للورود في المساجد والتهيؤ للصلاة والعبادة من الألبسة الجيدة بحسب وسع كل أحد من الناس والتطيب والتمشط كما صرح بذلك عدة من الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

وقيل ان الآية في مقام إيجاب التستر لأجل الصلاة وتقييده بالله تعالى الى المسجد تسمية الحال باسم المحل وقالوا في شأن نزولها ان من سنن الجاهلية الطواف بالبيت عريانا ويتعللون لذلك انا لا نطوف بلباس عصينا الله فيه وقيل ان من طاف بلباسه يجب عليه التصدق باللباس فينزعونه ويطوفون عريانا وقال في كنز العرفان فطافت امرأة بالبيت وعلى فرجها خرقة أو ستر وهي تقول اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله ، فنزلت الآية انتهى.

أقول لا يمكن الاعتماد بما ذكروه في شأن النزول من المرسلات الضعاف فلا شاهد على تفسير الزينة في الآية بستر العورة عند الصلاة وقد ذكر علي بن إبراهيم قصة المرأة التي طافت عريانة بوجه ابسط مما ذكروه مسندا عن الصادق (ع) في ذيل قوله تعالى (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) (التوبة).

ووردت في عدة روايات انه لما بعث رسول الله (ص) عليا بسورة برأيه إلى مكة وأمره أن يقرأها في الموقف على المشركين قال في المجمع وروى عاصم بن حميد عن ابي بصير عن أبي جعفر (ع) قال خطب علي الناس واخترط سيفه فقال : لا يطوفن بالبيت عريان ولا يحجن البيت مشرك. الخطبة.

وفي تفسير العياشي عن حكيم بن الحسين عن علي بن الحسين في حديث الى ان قال فكان فيما نادى به ان لا يطوف بعد هذا العام عريان ولا يقرب المسجد الحرام بعد هذا العام مشرك.

ونظير هاتين الجملتين في عدة روايات قد وردت عن علي (ع) في هذا الموسم. ولا يخفى ان النهي والمنع عن الطواف عريانا ومنعهم عن المسجد الحرام انما وقع في سنة التسع من الهجرة وسورة الأعراف مكية لا يلائم ما ذكروه من شأن نزول الآية وتفسير الزينة المذكورة بستر العورة في الطواف فالمتعين في تفسير الزينة الأخذ بظاهر الآية من تفسير الزينة وعدم تأويلها بشيء مما ذكروه والاعتماد في شرحها وبيان مصاديقها بما ورد من الروايات عن أئمة أهل البيت (ع).

في تفسير العياشي عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا (ع) : خذوا زينتكم عند كل. قال اي الثياب.

١٩١

وفيه أيضا عن خثيمة بن أبي خثيمة قال : كان الحسن بن علي (ع) إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه فقيل له يا بن رسول الله لم تلبس أجود ثيابك فقال ان الله جميل يحب الجمال فأتجمل إلى ربي وهو يقول (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) فأحب أن ألبس أفضل ثيابي ولا يخفى أن تفسيره بالمشط والطيب والغسل في بعض الروايات من باب بيان المصداق ولا منافات بينها.

بحث وتحليل

قد يتوهم ان مفاد هذه الآية الكريمة المبحوثة عنها من استحباب التجمل بأجود ما يقدرون عليه من اللباس ينافي ما هو المتسالم من فضيلة الزهد وإيثار الآخرة عن الدنيا والاعراض عنها والإقبال لكل همته الى الله سبحانه والانقطاع التام إلى جنابه جل شأنه والرغبة والاشتياق إلى الآخرة ودار الكرامة ومحل الرحمة قلت نعم هذه المسألة من أغمض المسائل الخلاقية وقد وقعت مشاجرات واحتجاجات بين متصوفة العامة وبين الأئمة الأبرار من آل الرسول منها ما في معايش الكافي من المناظرات والاحتجاجات التي وقعت بين الصادق (ع) وبين السفيان الثوري وأصحابه من الصوفية حين أنكر سفيان على الصادق عليه‌السلام ما لبسه من الثياب لا مجال للخوض فيها وإيرادها في المقام. فعند متصوفة العامة ان الزهادة هو التقشف وعبارة عن لبس الخشن وأكل العشب وأما عند ال الرسول ان الدنيا إذا أقبلت واراخت غزاليها فالابرار والاطهار من أوليائه تعالى اولى بها والاستفادة منها من الفجار والأراذل والأشرار وان الله لا يبغض طعاما ولا لباسا. قال تعالى (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ). فاستدلوا بهذه الآية في إبطال مقالة متصوفة العامة. وقالوا ان الله سبحانه جمع الوهد في كتابه في كلمتين وقال (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ). فخلاصة قولهم في المقام ان الزهد من أعلى مراتب الايمان وأفضل الإيقان بحيث ان يخرج حب الدنيا وما يتعلق بها عن قلب المؤمن وينحصر همه وغرضه وجه الله الكريم والتشرف بقربه والوقود الى حريم كبريائه وهو يرى نفسه أجل وامتع من الدنيا وما فيها وليست الدنيا التي تمد الرجال إليها أعناقهم وأعينهم عند ولي من أوليائه تعالى لا كفيء الظلال أو قطعة لحم في يد مجزوم أو لماظة قذفها من فمه متكبر جبار وأما التمتع من نعم الدنيا والطيبات من أرزاقها ونعيمها فهي أهون عند الله سبحانه واخزى من أن يمنع أوليائه وأحباءه منها.

١٩٢

في نور الثقلين عن الكافي بإسناده في احتجاج أمير المؤمنين (ع) على عاصم بن زياد حين لبس العباء وترك الملا وشكاه اخوه ربيع بن زياد الى أمير المؤمنين (ع) انه قد غم اهله وأحزن ولده بذلك فقال أمير المؤمنين علي به فلما رآه عبس في وجهه فقال اما استحييت من أهلك أما رحمت ولدك أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أخذك منها أنت أهون على الله من ذلك الى أن قال فبالله ان ابتذال نعم الله بالفعال أحب إليه من ابتذالها بالمقال وقد قال عزوجل (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) الحديث.

ثم لا يخفى ان الآية الكريمة في مقام افادة التزين والتجمل من حيث المعنى المصدري لا في مقام إفادة الحلية والإباحة للأعيان التي يتجملون بها فمساق الآية ليس الأمر بأخذ الزينة المفروغة عن شرعيتها والتزين والتجمل بها وساكتة عما توهم من دلالتها على حلية الأعيان التي يتجملون بها فلا يمكن دعوى الإطلاق في الآية بالنسبة إلى أنحاء التجمل وبالنسبة إلى الأعيان أيضا فحلية الأعيان وعدمها أجنبية عن مفاد الآية فلا بد من التماسها من أدلة أخرى وسيأتي مزيد توضيح بذلك إن شاء الله

فعلى هذا لا بد أن يكون المقيدات للآية الكريمة من حيث الذي سيقت الآية لأجلها من إطلاق أنواع التجمل وأرقامه مثل لباس الشهرة ولبس الرجال لباس النسوان وبالعكس. قوله تعالى (كُلُوا وَاشْرَبُوا) الآية عطف على قوله تعالى (خُذُوا زِينَتَكُمْ) وحدة السياق وان كانت تقتضي ان يكون الأمر بالأكل والشرب مثل المعطوف عليه من حيث الوجوب أو الاستحباب الا أن تقيد المعطوف عليه بقوله عند كل مسجد كاف في تفكيك السياق وان قوله تعالى (كُلُوا وَاشْرَبُوا) في مقام تشريع الترخيص والتسويغ ولا يخفى أن هذا الترخيص ترخيص شرعي واباحة مولوية في قبال الأحكام الأربعة الأخرى.

فصدر الآية الآمرة بأخذ الزينة وجوبا أو استحبابا وذيلها الناهية عن الإسراف كاف في تأييد ما ذكرناه وقرينة في إثبات ما استظهرناه. فلا مجال لتوهم أن الآية في إثبات حلية الأشياء ورفع الحظر قبل ورود الشرع كما تقدم ذكره عن الكشاف في الآية السابقة فإنه مضافا الى بطلانه من أصله وفي حد نفسه فرق بين بين الآيتين.

فالآية السابقة في مقام الامتنان وهذه الآية في مساق التشريع وهل يمكن ان يقال بإطلاق الآية وشمولها بالنسبة إلى المطاعم والمشارب أيضا كي يمكن الاستدلال بها بحلية ما يمكن ان يؤكل ويشرب ما عدا موارد التقية أو أن الإطلاق المذكور بالنسبة خصوصيات الأكل والشرب بمعناهما المصدري فقط. الظاهر هو الثاني وزعم بعض الأعيان ان الإطلاق من كلا الوجهين وخلط تفسير هذه الآية بالآية التالية وهي

١٩٣

قوله تعالى (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ). الآية الأعراف / ٣١.

وزعم بعض الأعيان ان الإطلاق من كلا الوجهين وخلط تفسير هذه الآية بالآية التالية وهي قوله تعالى (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ.) الآية (أعراف ٣١) الصريحة بحسب المورد والمفاد في جنس الملبوس والمأكول والمشروب وقال ان هذه الآية المبحوثة مؤكدة بهذه الآية.

وقال الجصاص ج ٣ ص ٤١ في كتاب أحكام القرآن بعد ذكر الآية التالية وفيه تأكيد لما قدم إباحته في قوله (خُذُوا زِينَتَكُمْ) الآية انتهى.

أقول فاللازم تفكيك تفسير الآيتين والأخذ بصريح الآية التالية في موردها في جنس المأكول والملبوس ما عدا موارد التقييد والأخذ بالآية المبحوثة بمقدار شمول إطلاقها من حيث خصوصيات الأكل والشرب والشاهد القطعي على ما ذكرنا ذيل الآية قوله تعالى (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) فإن النهي عن الإسراف لا يخلو من أن يكون باعتبار الأعيان والطيبات فلا معنى للنهي عنها بلحاظ أنها أعيان طيبة واما باعتبار الأعيان التي لا يوكل مثل الخبائث وأمثالها فلا معنى للنهي عنها فإنها كانت قبل الإسراف حراما فتلخص ان مفاد قوله تعالى (كُلُوا وَاشْرَبُوا) أي ما طاب وأحل لكم (وَلا تُسْرِفُوا) فيما يصرفون من المطاعم والمشارب وقد بينوا تفصيل ذلك في الكتب الموضوعة لذلك وكذلك الكلام بعينه في قوله تعالى (خُذُوا زِينَتَكُمْ) الآية على ما قدمنا تفسيرها.

قوله تعالى ولا تسرفوا الآية قد يتوهم في بدو النظر اختلاف معنى الإسراف بحسب الاستعمالات الواردة في الكتاب والسنة مثل قوله تعالى (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) (إسراء ٣٣) (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ.) الآية (زمر ٥٣) الإسراف في المعصية وهكذا من الموارد وبديهي ان هذا الاختلاف ناشىء من ناحية متعلق الإسراف مثل القتل والطغيان والعصيان وغيرها من حيث المعنى الموضوع له فالإسراف على ما في القاموس ضد القصد وفي كلمات بعض المفسرين التجاوز عن الحد.

إذا تقرر ذلك فنقول ان محل البحث هو الإسراف في الأكل والشرب والتجاوز عن الحد والقصد المطلوب ولا ريب ان ظاهر إطلاق النهي يقتضي التحريم وظاهر عبارة بعض المحققين الاستدلال على التحريم بقوله تعالى لا يحب قال أي يبغضه. وأنت ترى ما فيه من الضعف فان عدم المحبة أعم من البغض وعدمه وليس بنص ولا ظاهر في التحريم والتعبير الأحسن عبارة البيضاوي قال اي لا يرضى فان عدم الرضا لا يخلو عن الظهور في التحريم كما في وله تعالى (لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) الا ان تفسير عدم المحبة بعدم الرضا يطالب بالدليل لعدم ترادف بين اللفظين وخاصة في أفعاله تعالى الخارجة عن حدود التصور والتوهم.

١٩٤

ولعل ما ذكرنا من الاستظهار كاف في إثبات التحريم.

ففي تفسير العياشي عن أبان بن تغلب قال قال أبو عبد الله (ع) أترى الله اعطى من اعطى من كرامته عليه ومنع من منع من هوان به عليه لا ولكن المال مال الله يضعه عند الرجل ودائع وجوز لهم ان يأكلوا قصدا ويشربوا قصدا ويلبسوا قصدا وينكحوا قصدا ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين ويلموا به من شعثهم فمن فعل ذلك وكان ما يأكل حلالا وينكح حلالا ومن عدا ذلك كان عليه حراما ثم قال (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أترى الله ائتمن. الحديث. تفسير عياشي ص ١٣. واما قوله تعالى (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) (إسراء ٢٧ ـ ٢٦) فلا يصح الاستدلال بها في المقام فإن الآية الكريمة في مقام حدود البذل والعطاء وتبذير المال اي تفريقه.

في البرهان عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله في قوله تعالى (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) قال بذل الرجل ماله ويقعد وليس له مال قلت فيكون تبذيرا في حلال؟ قال نعم. وهكذا قوله تعالى (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (إسراء ٢٩) وأما قوله تعالى (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (فرقان ٦٧) فلا يجوز الاشهاد بهذه الآية في المقام فان المراد بالإسراف هو التجاوز في الإنفاق على نفسه وعياله زائدا على قدر المندوب من التوسعة على نفسه وعياله والإقتار هو التضييق على نفسه وعياله ما دون الحد المطلوب.

فحيث أن التبذير من أنواع الإسراف وكذلك في الإنفاق مقابل الإقتار فلا مانع من الاستدلال بتحريمها بالآية المبحوثة عنها وبعمومها.

(الآية الثالثة)

قال تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) (المائدة آية ٤) بيان أول ما نزل تحريم الميتة في سورة النحل وهي مكية قال تعالى (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) الآية (النحل ١١٥) ثم في سورة الانعام قال تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) (إنعام ١٤٥) ثم في البقرة وهي مدنية قال تعالى (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ.) الآية (١٧٣).

ثم في هذه السورة وهي مدنية أيضا ويظهر من بعض الروايات انها آخر سورة نزلت على النبي (ص) وليس هذا التحريم تشريع جديد ولعل الفرق والعناية المنظورة بين الآيات ان الآيات التي نزلت قبلها بعضها في مقام الامتنان بعد ذكر عدة من الطيبات وتحليلها وإباحتها ذكرهم بأن الله انما حرم عليهم الخبائث مثل الميتات والمضرات

١٩٥

وخاصة ما ينافي التوحيد مثل أكل ما أهل لغير الله كما في سورة النحل والبقرة وفي بعضها بعد توبيخ الذين قالوا بتحريم عدة من المباحات افتراء على الله ثم ذكر عقيبه (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ.) الآية. كما في سورة الانعام والفرق الآخر الإجمال في الآيات السابقة والبسط والتفصيل في هذه الآية على ما سيجيء والآيات السابقة متعرضة للحرمة من غير مستقيم ضمنا بخلاف هذه الآية فإنها سيقت لإفادة الحرمة مستقيما

قوله تعالى (الْمَيْتَةَ) قيل انها كل حيوان مباح أكله إذا مات من غير تذكية شرعية وقيل ان المراد منها كل حيوان طاهر العين مات من غير تذكية شرعية وعلى كل تقدير فجميع ما ذكر بعد الميتة في هذه الآية وعطف عليها من الدم وما أهل لغير الله الى آخره من إفراد الميتة والوجه في ذكرها وبسط الكلام فيها لدفع توهم إباحتها على ما هو المرسوم في أدوار الجاهلية ومن السنن الثابتة عندهم وخاصة ما أهل لغير الله وما ذبح على النصب.

لا يخفى انه لا بد من تقدير متعلق للتحريم ضرورة أن الأعيان مع قطع النظر عن أكلها والانتفاع بها لا يعقل ان يكون حراما فمقتضى الإطلاق الذي لا ريب فيه عموم الانتفاعات الدائرة عند القائلين بحليتها ولا وجه لتخصيص التحريم بالأكل فإنه خلاف الظاهر وخلاف إطلاق الآية وتخصيص من غير مخصص فيندفع ما أحتمله بعض المفسرين ان المنسبق الى الذهن عند إطلاق اللفظ ما يراه من تلك الأعيان كما ينسبق الى الذهن في قوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) الآية (نساء ٢٢) تحريم النكاح. وجه الاندفاع وضوح الفرق بين المقيس والمقيس عليه أولا وعموم الانتفاعات مما ينسبق الى الذهن أيضا هذا ثانيا ، وثالثا ان الانسباق المذكور انسباق بدوي غير معتد به فالمتبع هو الأخذ بالإطلاق في موارد الإطلاق وبالعموم في موارده حيثما سرى.

نعم يمكن أن يكون ذكر الدم ولحم الخنزير قرينة أن المضاف المقدر هو الأكل ولا يخفى ضعفه وعلى فرض عموم المضاف فمن جملة الانتفاعات المتعارفة الانتفاع بجلودها وهو محرم بحسب إطلاق الآية سواء اتخذها فرشا أو ظرفا أو لباسا أو أثاثا أو غيرها فيحرم لبسها والانتفاع بها والصلاة فيها وأما بطلان الصلاة فيها فيتوقف على ارتكاب كل محرم في الصلاة مبطل لها فبمعونة الروايات الواردة في جلد الميتة واجزائها ومنع الصلاة فيها ولو بشع نعل يتم القول ببطلان الصلاة فيها.

وبناء على ما ذكرنا من إطلاق التحريم فالآية الكريمة قاضية بالتحريم مطلقا سواء دبغت أو لم يدبغ وليس في الكتاب والسنن المعتبرة ما يصلح للتقييد. قال الجصاص في أحكام القرآن فقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح وسفيان الثوري وعبد الله بن الحسن الغبري والأوزاعي والشافعي يجوز بيعه بعد الدباغ والانتفاع به وروي بإسناده عن النبي (ص) انه أتى في غزوة تبوك على بيت وبفنائه قربة معلقة

١٩٦

فاستسقى فقيل انها ميتة فقال ذكاة الأديم دباغه وفي معناها روايات أخرى عن طريقهم وعندهم روايات أخرى أيضا مخالفة للطائفة الاولى وكيف كان فالمرجع هو إطلاق الآية.

وعن أئمة أهل البيت (ع) لا يصلي فيها وان دبغت سبعين مرة. ثم الظاهر من الآية الكريمة أن التحريم من حيث نفس الميتة لا من حيث كونها نجسة وان كانت النجاسة والخباثة محرمة في القرآن أيضا قال تعالى (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ.) الآية (أعراف ١٥٧) فالآية الكريمة ساكتة عن إفادة إثبات النجاسة للميتة. فلا يمكن القول ان التحريم من ناحية النجاسة فقط.

في الوسائل عن الكافي بالإسناد عن مفضل بن عمر قال قلت لأبي عبد الله (ع) لم حرم الله الميتة والدم ولحم الخنزير قال أن الله تبارك وتعالى لم يحرم ذلك على عباده وأحل لهم ما سواه من رغبته منه فيما حرم عليهم ولا زهد فيما أحل لهم ولكنه خلق الخلق فعلم ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم فأحله لهم وأباحه تفضلا منه عليهم به لمصلحتهم وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه وحرمه عليهم ثم اباحه للمضطر فأحله له في الوقت الذي لا يقوم بدنه الا به فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك ثم قال إمام الميتة فإنه لا يدنو منها أحد إلا ضعف بدنه ونحل جسمه وذهبت قوته وانقطع نسله ولا يموت آكل الميتة إلا فجأة. الحديث.

فالرواية الشريفة ناصة بأن التحريم من ناحية المفاسد الأخرى لا من أجل القذارة والنجاسة.

فقد تبين مما ذكرنا ضعف ما قيل يلزم من تحريم الانتفاع النجاسة إذ لو كان طاهرا ينتفع به وهو باطل انتهى. أقول تحريم الانتفاع غير مستلزم للنجاسة بل هو أعم منها كما لا يخفى.

ويستثني من تحريم الانتفاع بالميتة كل ما لا تحله الحياة من الميتة مثل الشعر والقرن مما لا يجري فيه الدم فيغسل منها ما يلاقي الميتة ويمسها ويجوز الانتفاع به.

(الآية الرابعة)

قال تعالى (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) النحل آية ٦) وقال تعالى (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) النحل آية ٨٠) وقال تعالى (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) النحل ٨١).

١٩٧

(الانعام) قيل كل ذي أربع من دواب البر والبحر وفي أقرب الموارد الإبل والشاة وفيه أيضا عن المصباح المال الراعي وهو جمع لا واحد له وأكثر ما يقع على الإبل انتهى. قوله تعالى (دِفْءٌ) ضد البرد والمراد ما يدفء به من الأكسية والألبسة (والظعن) بالسكون وقرء بفتح العين أيضا الحركة والارتحال (الأثاث) ما ينتفع به في البيت والمتاع أعم منه (الأكنان) جمع كن الكهوف والمغامرات (السرابيل) القميص ومطلق اللباس بقي من الحر والظاهر أن المراد الوقاية من حرارة الشمس لئلا يشوه الخلقة ويتأذى بها ولباس الحرب الذي يقي من بأس العدو.

قوله تعالى (يُتِمُّ نِعْمَتَهُ) اي إتمام النعمة بما ذكر في هذه الآيات وكذلك المذكور في غيرها رجاء أن تسلموا وتذعنوا لله جل شأنه وهذا الرجاء منه تعالى مصداق الإيجاب وتذكر الى الحكم الضروري ببداهة العقل من وجوب الانقياد والخضوع والتسليم في مقابل ما عرف وعلم من الحقيقة وهذه التذكرة منه تعالى لإيجاب التسليم اما ان الآيات الواردة في سوق الامتنان تذكرة بآلائه ومواهبه ولا مناص للتشكر والتحميد من أولياء النعم فالله سبحانه يتحبب الى عباده بنعمة الجليلة ويتودد إليهم بآلائه الكريمة ويتعرف إلى خلقه بمواهبه العظيمة فسبحانه من الله ما أبره وما أوصله.

واما ان هذه النعم من الآيات والبراهين الدالة على وجود الإله الودود الرؤوف بحيث يشهد أعلام الوجود على إقرار قلب ذي جحود وقد أخذ بمجامع قلوبهم في تعريفهم نفسه القدوس إليهم بآياته ونعمائه فلا يبقى لذي عناد مجال ولا مقال فقد استدلوا بهذه الآيات على جواز لبس الصوف والشعر والجلود في حال الصلاة وغيرها وجواز الصلاة في الجبال والصحاري والبراري إلا ما أخرجه الدليل.

أقول قد مر مرارا ان الآيات الواردة في مساق الامتنان لا يستفاد منها الإباحة الشرعية المولوية وجميع ما ذكر فيها من الأعيان متعلق للاحكام وليست هذه الآيات عمومات ، وأدلة الأحكام مخصصة لها فلا بد ان يستدل بالحيلة بقوله (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) و (يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ) وأمثال ذلك.

(الآية الخامسة)

قال تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٥) البقرة. تنقيح البحث في الآية في مسائل :

الأولى : اختلف المفسرون في شأن نزول هذه الآية على أقوال : الأول ان الآية

١٩٨

نزلت في بيت المقدس حين غزى بخت النصر بني إسرائيل وخرب بيت المقدس مع معاونة النصارى واغرائهم له على ذلك والثاني في بيت المقدس حين خربها ملوك النصارى والثالث منع المشركين الرسول (ص) عن المسجد الحرام ومكة في الحديبية. والرابع إخراج المشركين الرسول والمسلمين عن مكة والجائهم إلى الهجرة وخرابهم المساجد الصغار التي كانت للمسلمين بفناء الكعبة وأرسل في المجمع رواية عن أبي جعفر (ع) في ذلك وفي البرهان رواية عن تفسير الإمام أبي محمد العسكري الا انها ظاهرة في تطبيق تلك الحادثة على الآية لا في شأن نزولها. والخامس للرازي ان الآية حق اليهود في أمر القبلة وفي شأن مكة وان اليهود يخالفون الرسول في أمر القبلة وهمهم وغرضهم خراب مكة ومنع الناس عنها وأنها ليس بمعبد.

وأوردوا على الوجوه ان بخت نصر كان قبل المسيح ست مائة وأزيد وأين النصارى اليوم حتى تغريه على تخريب بيت المقدس والثاني ان النصارى كانت من سنتهم وتشريعهم احترام بيت المقدس أزيد مما كان يعتقده اليهود وذكر المنار عن شيخه ان هذا ليس مستندا إلى اسناد تاريخي يشهد عليه وعلى الثالث والرابع ان المشركين وان منعوا الرسول والمسلمين عن المسجد الحرام والجأوهم إلى الهجرة ومنعوهم عن زيارة مكة في عام الحديبية الا انهم ما سعوا في خرابها واما ما زعمه الرازي فلا يخفى ما فيه من التكلف.

الثانية : أقول لا وجه ولا موجب للالتزام بما ذكروه في شأن النزول فظاهر الآية ليس متعرضا لأمر حدث وحادثة ستقع حتى يتكلف في تعيين تلك الحادثة بل الآية الكريمة في سياق مبارزة الكفر مع التوحيد ومقاتلة الكفار مع الموحدين وان الكفار يحاولون إطفاء نور الله ويمنعون من إعزاز اسمه الكريم وانهم يجدون في تخريب المساجد والمعابد والمشاهد والبيوت التي يذكر فيها اسم الله وبنيت من أول يوم على التوحيد بنيانه وأسست على التقوى أساسه وهذا عام شامل لكل معبد ومسجد ومشهد وبيوت وكنائس وصوامع وبيع يذكر فيها اسم الله بالغدو والآصال.

ولا اختصاص بالمسجد المصطلح عند الفقهاء وهذه المبارزة مع الموحدين وإبطال دعوة الأنبياء حرام عقلي ضروري ليس بأمر تعبدي فالذين يحاولون إبطال شعائر الله ومظاهر توحيده من أي ملة ومن أي دين كان أو شعائر الإسلام خاصة وشعائر التشيع خاصة بتخريب البيوت المعظمة ومنع الناس عن العبادة فيه فمن أظلم الناس ومن أراد ذل الجناة والعصاة فهم يريدون ان لا يعبد الله في أرضهم وان لا يتواضع لجلالة ومجده وكذلك تصرفاتهم في أعيان المعابد أحجار أو جدرانها وأثاثها وفرشها وسرجها حرام محرم بالضرورة والحوادث المنطبقة على ذلك قبل الإسلام وبعد

١٩٩

الإسلام كثير. قال في المنار نقلا عن شيخه ولا ينافي ذلك ما عساه يطرأ على العبادة أو يوجد في المساجد من الأشياء المبتدعة التي لم يأمر بها الكتاب فمن علم الأرض لما في ذلك من الفساد الذي أشرنا اليه. وهذا هو السر في حكم الشريعة بهذه البدع فعليه أن ينكرها ويسعى في إزالتها ولا يجوز له السعي في إزالة المعابد من الإسلامية باحترام كنائس أهل الكتاب وبيعهم وصوامعهم. انتهى محل الحاجة

(أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ).

الظاهر ان الآية تهديد لهؤلاء الجبابرة والمفسدين في الأرض لا في مقام المنع التشريعي إياهم وأمرهم بدخول المساجد خاضعين خائفين فالله سبحانه يخوفهم ان يصيبهم مثل ما أصاب الظالمين من قبلهم وتحل بساحتهم ما حل بساحة المتكبرين من أمثالهم (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) فإن الظلم له تبعات ونكبات وضعية في حياة الناس وعمران الأرض سينتقم الله منهم بسلب مواهبه المعنوية والروحية كما هو المشاهد المحسوس.

المقام الثالث قد استدلوا بهذه الآية على عدة من الفروع الفقهية : منها وجوب اتخاذ المساجد ووجوب عمارة ما استهدم منها ووجوب شغلها بالذكر وتحريم تخريبها واستحباب اتخاذها على الأعيان واستحباب دخولها بالخشوع والخضوع وفيه ان شيئا مما ذكر لا يستفاد من الآية وتحريم التخريب عقلي ليس شرعي وخاصة بالمعنى الذي ذكرناه قال المحقق الأردبيلي (في زبدة البيان ص ٧٨) قبل في الآية أحكام ما عرفناها بل لم يظهر كون بعضها حكما.

(الآية السادسة)

قال تعالى (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) ـ التوبة (١٩).

تعريض للمشركين الذين كانوا يفتخرون بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام مع إقامتهم على كفرهم وشركهم معترفين بالشرك شاهدين على أنفسهم به انه كيف يصح ذلك وكيف يستقيم لهم أن يعمروا مساجد الله وهم لا يقرون بالله الواحد الأحد فأعمالهم من الحسنات الاجتماعي والعبادي كلها حابطة باطلة وانما يتمشى تعمير المساجد وتعظيم المشاعر ممن آمن بالله واليوم الآخر ـ الى آخره.

قوله تعالى (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ). الآية. تعمير المساجد عام شامل وصادق بترميم ما انهدم منها وكنسها وتنظيفها والإسراج فيها وفرشها واشغالها بذكر الله وتطيرها من البدغ والأباطيل والوفود إليها للعبادة ولا مانع من عمومها لإعادة بنائها أيضا ولم يذكر المفسرون بنائها أو تجديد بنائها كأنهم زعموا ان بناء المساجد غير تعمير المساجد وخارج عن عنوان عمارة المساجد ولا يخفى ضعف هذا التوهم فان العمران صادق

٢٠٠