بدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام

محمد باقر الملكي

بدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

محمد باقر الملكي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٣

الله يقول (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) ومفارقتي إياكم خير لكم فقالوا يا رسول الله (ص) مقامك بين أظهرنا خير لنا فكيف تكون مفارقتك خيرا لنا أما مفارقتي إياكم خير لكم فإن أعمالكم تعرض علي كل خمسين واثنين فما كانت من حسنة حمدت الله عليها وما كان من سيئة استغفرت الله لكم. وقريب منها نظائرها في تفسير الآية

الأمر الثالث : مقتضى إطلاق بعض هذه الآيات وصريح بعضها في الجملة انه لا تنحصر مورد الشفاعة ومتعلقها بغفران الذنوب فقط بل الأعم منها ومن نيل الطلبات وكشف الكربات ورفع الدرجات وقضاء الحاجات وكذلك الروايات الدالة على قبول الشفاعة ومضيها سيما الأدعية المأثورة عن أئمة أهل البيت (ع) وهكذا في جواز الاستشفاع.

الأمر الرابع : الآيات الدالة على جواز الشفاعة وكذلك الروايات في هذا الباب لا دلالة فيها على أزيد من قبول الشفاعة ومضيها في غير المذنبين من أهل التوحيد فلا يتجاوز عنهم بمن سواهم ولا يخفى ان هذه الأدلة لا تنافي عن ورود التقييد والتخصيص عليها فعلى عهدة الفقيه التحري والتحقيق واستقصاء الفحص عن المخصصات والمقيدات.

الأمر الخامس : ـ يمكن ان يستشكل في الشفاعة بوجوه :

الأول : ان استيهاب جرم المجرمين والشفاعة في حقهم وفي إسقاط العقاب عنهم ينافي الحكم التشريعي ويضاد مصلحة التشريع.

قلت كلا فان هذه الشبهة بناء على قول من ذهب أن صدور الأفعال منه تعالى على نحو الإيجاب عليه سبحانه عند الشفاعة التي هي بمنزلة المرجح لطرف العفو وفي مرتبة يكون العفو واجبا عليه سبحانه واما إذا قلنا بعدم الإيجاب وهو الحق المبين الذي لا ريب فيه انه سبحانه مالك للعفو والأخذ من دون إيجاب أحد من الطرفين فاذا قام الشفعاء فشفعوا للمذنبين فالشفاعة التي هي مرجحة لطرف العفو فقدرته ومالكيته تعالى لا تنفعل عن الشفاعة ولا توجب الشفاعة تحديد مالكيته وقدرته فهو سبحانه مالك للعفو والعقاب في مرتبة الشفاعة أيضا وقد كان مالكا للعفو من غير شفاعة ولما كانت الشفاعة مرجحة في طول المالكية لا في عرضه فالمالكية حاكمة على الشفاعة دون العكس فلو عفى سبحانه عند الشفاعة فالعفو معلول للمالكية والقدرة وليس معلولا للشفاعة ويستحيل صدور العفو عن الشفاعة مع فرض المالكية للعفو والعقاب فتحصل ان العفو بفضله ورحمته وإكرام أوليائه وتشريف أوليائه في قبول شفاعتهم مستندا الى مالكيته وحريته في أفعاله من غير إلزام ولا إيجاب فالحكم التشريعي أوجب بعد عصيانه استحقاق العاصي للعقاب من غير إلزام العقاب عليه والعفو عن العاصي في هذه المرتبة أيضا والشفاعة في

١٦١

مرتبة متأخرة عن استحقاق العاصي مرجحة لطرف العفو من غير إلزام فتعين ان الشفاعة مما يؤكد الحكم التشريعي ويؤيده لا يضاده ولا ينافيه كما توهمه المستشكل فالعصيان في طول الحكم التشريعي والاستحقاق في طول العصيان والعفو والأخذ في طول الاستحقاق والشفاعة مرجحة لطرف العفو الذي كان مملوكا له تعالى قبل الشفاعة.

فإن قلت فما فائدة الشفاعة إذا كان العفو مملوكا له تعالى من دون تأثير الشفاعة في إيجاب العفو. قلت ـ قد عرفت ان المرجحات بأسرها منها الشفاعة في المقام لا يوجب تحديد المالكية والقدرة الا ان الفاعل العاقل المالك المختار يختار الفعل لغايات فاضلة حكيمة فيمجد ويحمد بها ويتنزه عن الأفعال الردية القبيحة فيقدس به فالعفو عند الشفاعة إكراما لأوليائه بقبول شفاعتهم يزيد على حسن العفو حسنا ومزيدا وكرامة.

أما الجواب النقضي فنقول ـ ان حكمه تعالى وقضائه الحكيم بالعفو بعد حكمه بالعقاب غير عزيز في سنته تعالى مثل العفو الابتدائي قال تعالى (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) الآية (الزمر ٥٣) ومثل محو السيئات بالحسنات قال تعالى (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) (نور ١١٤) ومثل غفران الصغائر باجتناب الكبائر قال تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) الآية (النساء ـ ٣١) ومثل محو الذنوب بالتوبة.

الثاني : يمكن ان يقال الشفاعة تحميل ارادة الشفيع على الحكم الذي يريد ان يأخذ المجرم ويعاقبه فلا محالة يعدل بشفاعة الشفيع عن إرادة العقاب.

قلت ـ كلا فان المتحصل من الآيات التي تلوناها عليك ان الشفاعة المقبولة بتشريعه تعالى وباذنه ومشيئته ورضائه فلا يشفع أحد من المقربين إلا بإذنه ضرورة انه لا يملكها أحد إلا بعد تمليكه سبحانه قال تعالى (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (زمر ٤٤) فعليه يكون تعالى هو الشافع وأشفع الشافعين فاتضح في المقام انه لا محصل لما يقال أن الشفاعة تحميل ارادة الشفعاء على الله سبحانه وقد أجاد المحقق الطوسي (قده) حيث قال ونفي الشفيع المطاع لا تستلزم نفي المجاز انتهى ـ أقول أراد (قده) أن تحميل الإرادة إنما يتصور من الشفيع المطاع على من هو دونه وتحت نفوذه وسلطانه لا من الشفيع المجاز المجاب فالمذنبون يستشفعون بأمره والشافعون يشفعون باذنه ورضاه جل ثناؤه.

١٦٢

فإن قيل فما فائدة الشفاعة إذا كان له العفو من غير شفاعة وقبل الشفاعة وهو سبحانه أشد رأفة ورحمة من رحمة الشفاعة. قلت له سبحانه أن يجعل طريقا الى عفوه ومغفرته كما في غير الشفاعة من أسباب المغفرة مثل الدعاء والاستغفار والتوبة فيقال إن اجابة دعاء المسيئين تقريب لهم الى بابه وكذلك قبول توبة النادمين إنقاذ لهم من العصيان في ساحة الرب وإرغام لأنف الشيطان وقبول الشفاعة من أوليائه إكرام لهم وإعلان لكرامتهم عند الله سبحانه وفي قبولها تثبيت لرجاء المذنبين وعدم انقطاعهم عن ربهم ودفع ما يرد عليهم من رذيلة القنوط على ان الجواب الذي ذكرناه عن الاشكال جار في المقام إن شاء الله.

الثالث : ـ قد يقال أن القول بالشفاعة يوجب إغراء الناس على العصيان والتساهل والتسامح في امتثال الواجبات والاجتناب عن المحرمات لاعتمادهم واتكالهم على الشفاعة وهو مناف لمصالح التشريع والغرض الأصيل في بعث الرسل وإنزال الكتب لتزكية الناس وسوقهم الى الكمالات والمعارف الربوبية وسوقهم الى مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب أقول فيه أولا انه منقوض بالآيات الدالة على سعة رحمته تعالى ومغفرته ومواعيده الحسنة الجميلة لعباده في كتابه الكريم قال تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) النساء ـ ٤٨ قال في المجمع ج ٣ ص ٥٧ وجاءت الرواية عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انه قال ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية. أقول روي في البرهان ج ص ٣٧٥ عن الفقيه مسندا عن علي (ع) قال ما في القرآن آية أحب الى من قوله عزوجل (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) ـ أقول هذه الرواية الشريفة وان كان مما اختلف فيها الانظار من حيث انها تدل على ان هذه الآية أرجى آية في كتاب الله في المذنبين أو ان أرجى الآيات هي قوله تعالى (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) الآية زمر ٥٣ أو ان أرجى الآيات قوله تعالى (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) (الضحى) الا ان هذا الاختلاف لا يضر فيما نحن بصدده من نقض قول من يقول ان الشفاعة توجب إغراء الناس على المعاصي قال في المجمع ج ٣ ص ٥٧ لا معنى لقول من يقول من المعتزلة ان حمل الآية على ظاهرها وإدخال ما دون الشرك في المشيئة يوجب إغراء الناس لأن الإغراء انما يحصل بالقطع على الغفران واما إذا كان الغفران متعلقا بالمشيئة فلا إغراء بل يكون عبد واقفا بين الخوف والرجاء على الصفة التي وصف الله تعالى بها عباده المرتضين في قوله تعالى (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) يحذرون الآخرة ويرجون رحمة ربهم ، وبهذا وردت الاخبار الكثيرة عن طرق الخاص والعام وانعقد عليه إجماع سلف أهل الإسلام انتهى.

إذا تقرر ذلك فاعلم أن الآيات الكريمة الدالة على مطلق الشفاعة لا تسجل

١٦٣

الشفاعة والمغفرة لأحد بعينه وبشخصه ولا لأقوام بصفاتهم وأعيانهم ولا في موقف خاص دون آخر بل أبهم وأجمل فيها وواضح ان ذلك ليس بمتعين بحسب الواقع وانما أبهم وأجمل لأنه متعلق ومتوقف على مشيئته تعالى واذنه ورضاه لمن يشاء من المقربين في الشفاعة ولمن يشاء من المجرمين في ان يشفع له وكذلك بحسب الموارد والمواقف وليس ذلك الا مثل غيره من مواعيده تعالى بالمغفرة والرحمة على نحو الإطلاق بالأسباب التي توصل بها سبحانه وجعلها طريقا الى عفوه وغفرانه أو من غير سبب ابتداء مستندا الى فضله ورحمته.

فتحصل ان المؤمن الموحد العارف بربه المعتقد للشفاعة ولغيرها من مواعيده تعالى ومعلقا على مشيئته تعالى واذنه لا يزال واقفا بين الخوف والرجاء وبين الرغبة والرهبة وبين الخوف والطمع يناجي ربه ويدعوه ويسأله أن يرزقه رحمته وكرامته ويسأله أن يرزقه شفاعة نبيه وصفية فان الشفاعة وغير الشفاعة من مواعيده تعالى لأهل التوحيد في صغائر المعاصي وكبائرها معلقا على المشيئة لا يوجب إغراء على الذنوب ولا اغترار أو غفلة عن الله سبحانه بل فيه إيقاظ للغافلين واشتعال نور الرجاء في قلوب المذنبين يتخلصوا وينجوا من ظلمات اليأس وسوقهم الى مراتب الصلاح والسداد وله الحمد كما هو أهله.

الرابع ـ العبادة من الألفاظ الدائرة في الكتاب والسنة وهي بتصريح أهل اللغة عبارة عن التذلل والخضوع ، قال في مرآة الأنوار ص ٢٣٢ اعلم ان العبادة لغة الطاعة والانقياد والخضوع والتذلل انتهى.

أقول لا ريب الأخذ بها بما لها من المفهوم اللغوي من دون أعمال حقيقة شرعية أو متشرعية في هذا المفهوم اللغوي وهي حقيقة اضافية كانت مرسومة عند العرب المنتصرة واليهود والوثنيين وتوضيح ذلك ان الأفعال الاختيارية العمدية قسم منها عبادة أي خضوع وتذلل بذاته مثل السجدة والتعفير إذا أتى بهما عن اختيار يفيد التعظيم للغير وخضوع الفاعل وتذلله في مقابل الغير من دون احتياج الى قصد التعظيم ومن دون احتياج الى قصد الأمر فلو القي إنسان من شاهق وقع في مقابل الغير على طور السجود والتعفير لما يفيد تعظيما ولا يصدق عليه انه خضوع وتذلل من الفاعل ومن هذا القبيل اي من قبيل العبادات الذاتية الثناء على الله سبحانه وتقديسة وتمجيده والدعاء والسجود له سبحانه والأوامر الواردة في الكتاب والسنة للتسبيحات والتمجيدات والدعاء والسجود كلها أوامر إرشادية يكون الإتيان بها عبادة وتواضعا لله سبحانه من غير احتياج الى قصد أمرها نعم بعد تحقق العبادة

١٦٤

يحتاج إلى الإخلاص في العبادة بتخليص الغرض والغاية لله سبحانه وحده لا شريك له وأما الأفعال التي ليست عبادة بذاتها ولا لون لها في حد نفسها من هذا الحيث يحتاج تحقق العبادة فيها ان تكون متعلقا للأمر وأن يأتي بالمتعلق بقصد الأمر فإن امتثال أمر المولى وإتيان متعلق أمره بقصد امره انبعاث من بعثه وتحريك ببعثه وفي المحرمات انزجار عن زجره ونهيه ويكون تعظيما للمولى وخضوعا له بالضرورة وتكون بتلك النسبة عبادة منسوبة اليه ومرضاته مرتبطة به بقصد امره فلا يمكن اضافة الفعل وارتباطه الى المولى إلا بالأمر فإن الأمر في مرتبة العلة للامتثال ومقدم عليه رتبة وزمانا واما الدواعي الأخرى مثل خوفا من ناره وطمعا في ثوابه.

واما الدواعي الأخرى مثل خوفا من ناره تعالى وطمعا في ثوابه وغير ذلك وان كانت من الغايات الشريفة الحسنة الا انها قاصرة عن افادة ارتباط العمل وإضافته إلى المولى الآمر وانها تفيد إخلاص العبادة المحققة بقصد الأمر ضرورة ان الغايات المحصلة لإخلاص العمل لله في طول قصد الأمر لا في عرضه نعم قصد الأمر كما يتحقق به العبادة يتحقق به الإخلاص أيضا إذا انحصر الغرض به فقط.

فاتضح من جميع ما ذكرنا أن كل عمل وفعل أمر به تعالى بقصد الأمر فيه على ما هو المقرر في الأصول وأتى به بقصد امره تعالى فهو عبادة بالحقيقة وإذا كانت خالصة ممحضة لله سبحانه فهي عبادة مرضية لله سبحانه مثلا تقبيل الحجر الأسود واستلامه والطواف حول البيت الذي بنى من الحجر مستند إلى أمره تعالى عبادة لله جل ثناؤه وكذلك سجود الملائكة لله وإكرامهم لآدم بأمره تعالى بالحقيقة وليست عبادة لآدم بالضرورة والاستنكاف عن إكرام استكبار على الله سبحانه وكفر به ـ ففي نور الثقلين ج ٢ ص ٩ في حديث عن الصادق الى ان قال قال إبليس يا رب اعفني من السجود لآدم وانا أعبدك عبادة لم يعبدها ملك مقرب ولا نبي مرسل فقال الله تبارك وتعالى لا حاجة لي إلى عبادتك إنما أريد أن أعبد من حيث أريد لا من حيث تريد الحديث.

وفي مروج الذهب ج ١ ص ٣٣ في خطبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام قال الى ان قال فلما خلق الله آدم ابان فضله للملائكة وأراهم ما اختصه به من سابق العلم عند استنبائه أسماء الأشياء فجعل الله آدم محرابا وكعبة وبابا وقبلة وسجد إليها الأبرار والروحانيين الأنوار ، الخطبة.

وكذلك التعبد باستقبال بيت المقدس مدة ثم التعبد باستقبال الكعبة ليس الا

١٦٥

عبادة لله بالحقيقة وإكراما وتعظيما للبيت وكذلك الاستشفاع بالنبي الأعظم عبادة لله حيث انه مستند إلى أمر الله تعالى فقط وليس لرسول الله فيه أمر ولا بعث من عند نفسه مستقلا به والاستنكاف والتأبي عنه استكبار عليه تعالى واشراك به واستخفاف بساحة قدس الرسول (ص) قال تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ). المنافقون.

وقد تقدمت الرواية في تفسير قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ). الآية النساء (٦٤). الموافقة لصريح الآية في الحث على الاستشفاع من الرسول (ص) وفي مفادها أيضا زيارات لرسول الله عن طريق أهل السنة وقد أوردها العلامة الاميني قدس‌سره في كتابه الغدير ج ٥ ص ١٣٩ عن شرح بنلالي الحنفي في المراقي قال السلام عليك يا سيدي يا رسول الله الى ان قال وقد جئناك من بلاد شاسعة وأسعد بعيدة نقطع السبل والوعر نقصد زيارتك والفوز بشفاعتك والنظر الى مآثرك ومعاهدك والقيام بفضلك بعض حقك والاستشفاع بك الى ربنا فان الخطايا قد قصمت ظهورنا والأوزار قد أثقلت كواهلنا وأنت الشافع المشفع بالشفاعة العظمى والمقام المحمود والوسيلة وقد قال تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ) الآية.

أقول وقريب منها زيارات اخرى من أرادها فليراجعها فتحصل في المقام أمران الأول ـ ان له تعالى ان يتعبد خلقه بما يراه ويريد ولا يرى ويريد لخلقه الا ما هو الأصلح والأنفع لهم فيجب التدين والتعبد به والامتثال فيه ـ الثاني ـ ان العبادة حقيقة اضافية متقومة بقصد أمر المولى وتحصيل الإخلاص في العبادات التعبيدية بداعوية أمرها فقط وفي طولها من الدواعي وكذلك في العبادات الذاتية بواحدة من تلك الدواعي مثل طلب مرضاته تعالى على ما قررناه سابقا في السجدة وذكر الله تعالى وثناؤه تعالى يأتي بها طلبا للثواب أو مرضاته تعالى فقط فتعين ان الشفاعة والاستشفاع مما ورد تشريعه في الكتاب والسنة من الحقائق الاصيلة القرآنية فالشافعون يشفعون باذنه والمذنبون يستشفعون بأمره ومنشأ هذه الأقاويل هو الجهل بالكتاب والسنة أو أغراض نفسانية أخرى.

إذا تقرر ذلك فنقول الآيات الدالة على توبيخ الكفار وعبادتهم لأصنامهم على طوائف ،

الأولى : ما يستظهر منها ان الكفار يعبدونها بعنوان أنها آلهة مستحقة للعبادة قال تعالى (أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) الصافات ٤٥ والظاهر ان عبدة الكواكب من هذا القبيل.

الثانية : ما يستظهر منها أنهم انما قصدوا عبادة تلك الأصنام كي

١٦٦

تكون لهم شفعاء عند الله قال تعالى (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) يونس ١٨ أقول الظاهر ان المراد بقوله من دون الله اي سواه تعالى أي ان العبادة وقعت خاصة للأصنام فقط دون الإله الحق المبين.

قال في القاموس دون بالضم نقيض فوق الى ان قال وبمعنى سوى انتهى أقول وهذه الطائفة الثانية من الأولى أيضا اي أن عبادتهم لأصنامهم على سبيل الاختصاص بها دون إله الحق المبين ولا يجعلونه تعالى شريكا في العبادة مع أصنامهم كما هو ظاهر هذه الآيات وأن أبيت الا ان تقول ان هذه الآيات تدل أنهم يجعلونه تعالى شريكا في عبادتهم للأوثان فعليه تكون هذه الآيات في القسم الثالث على ما سنشير إليه إن شاء الله.

الثالثة : ـ صريح عدة من الآيات ان من الكفار من يتخذ آلهة يعبدونها ويجعلونها شريكا مع الله رب العالمين ويجعلونه تعالى في عرض الأصنام قال تعالى (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) آل عمران ، ولا يخفى عند اولي الألباب والإنصاف ان الشفاعة والاستشفاع الذي ثبت تشريعه بحكم الكتاب والسنة يجب التدين والتعبد به ويحرم الاستنكاف والاستكبار عليه تعالى في مخالفة أمره وتشريعه كيف يكون شركاء بالمعاني الثلاثة التي ذكرنا وأي مناسبة بين هذا التشريع المقدس وبين هذه الطوائف الثلاثة من الآيات وضروري انه لا دلالة لهذه الطوائف الثلاثة من الآيات ولا اشارة ولا اشعار على ذلك فمن نسب الشيعة وعامة المسلمين الذين يستشفعون لرسول الله الى الغلو والشرك فقد خالف محكم الكتاب حيث أمر تعالى المذنبين أن يأتوا رسول الله كي يستشفع لهم فما اختلف هؤلاء إلا بعد ما جاءهم العلم جهلا أو حسدا فعدو الله إبليس امام المتكبرين وسلف المستكبرين ابى عن السجود لآدم استكبارا أو حسدا وهؤلاء الجهلاء يأبون عن الاستشفاع بالرسول وينسبون الشيعة وعامة المسلمين الى الغلو والشرك بالمغالطات التي سموها فقاهة وتفقها والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

ختام فيه تذكار :

لا يخفى أن صريح الآيات والروايات دالة على إثبات الشفاعة إن الشفاعة أمر اختياري للمقربين وخاصة في ما يقع منها في الدنيا فالأنبياء والصديقين انما يشفعون بأمر الله واذنه.

وليس كما زعم بعض المفسرين ان الشفاعة أمر تكويني وعبارة عن تأثير نفوس الأنبياء سيما نبينا (ص) في متعلق الشفاعة وهذا التأويل فعل الله والأنبياء وسائط فعله تعالى بناء على العلية والمعلولية وأنت تعلم انما يتم هذا على القول بالإيجاب في أفعاله تعالى وعلى الجبر في أفعال العباد. وانما تأول تلك الآيات والروايات تحفظا على أصول العلية والمعلولية. والآيات الكريمة والروايات المباركة تنادي بأعلى صوتها على بطلان ذلك التأويل وتتأبى عنها.

١٦٧

(الآية الثانية) (١)

قال تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) (هود آية ١١٥) قوله تعالى :

(أَقِمِ الصَّلاةَ) الآية تقدم تفسيرها في الآية السابقة ـ قوله تعالى ـ (طَرَفَيِ النَّهارِ). ذكر في القاموس من معاني الطرف والناحية ومنتهى الشيء ولا مانع من أن يكون من نفس الشيء أو خارجا عنه مماسا به قريبا منه كقولهم كريم الطرفين أي أبا واما ، انتهى ، فعلى هذا يكون المراد من طرفي النهار الغداة والمغرب.

وزلف. جمع زلفة. في القاموس. الزلفة بالضم. الدرجة والمنزلة الى ان قال الطائفة من الليل جمع زلف كغرفة وغرف والزلف ساعات الليل الآخذة من النهار وساعات النهار الآخذة من الليل. فقوله تعالى (زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) بعد بيان صلاة المغرب يكون المراد العشاء الآخرة وفي تفسير العياشي عن حريز عن أبي عبد الله (ع) (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) قال طرفاه المغرب والغداة (وَزُلَفاً) وهي صلاة العشاء الآخرة وعن ابن عباس والحسن والجبائي طرفي النهار. وقت صلاة المغرب والفجر وقد تكلف بعض المفسرين في استخراج أوقات الفرائض الخمس من هذه الآية.

وقال في المجمع قالوا وترك ذكر الظهر والعصر لأحد أمرين اما بظهورهما انهما صلاة النهار فكأنه قال أقم الصلاة طرفي النهار مع المعروفة من صلواة النهار وأما لأنهما مذكورتان بالتتبع للطرف الأخير لأنهما بعد الزوال فهما أقرب إليه انتهى ما أردناه.

ولا يخفى فيه من الضعف بعدم اعتماده على ظهور آية أو دلالة رواية وفي التبيان قال الزجاج يعني الغداة والظهر والعصر وبه قال مجاهد والضحاك ومحمد بن كعب القرطبي لان طرف الشيء من الشيء وصلاة المغرب ليست من النهار انتهى. وروى الجصاص هذا القول عن الحسن وقال قد انتظمت الآية الصلوات الخمس

أقول الظاهر ان هذا القول مختار الجصاص ما فيه من الوهن ، فان الوقت المضروب على صلاة الظهر الزوال بنص الكتاب الكريم وهو قلب النهار ووسطه وكذلك العصر بعدها فحمل الطرف وتفسيره بالوسط ليس إلا إخراج اللفظ عن معناه وقوله طرف الشيء من الشيء اجتهاد في اللغة لا ينبغي الإصغاء إليه فتبين في المقام ان الأظهر في معنى الآية أن المراد من طرفي النهار المغرب والغداة وزلفا صلواة العشاء الأخيرة وعرفت تفسير الآية بذلك في رواية حريز عن أبي عبد الله وفي معناها رواية أخرى عن الباقر (ع) قوله تعالى (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) قيل المراد بالحسنات الصلوات المذكورة في الآية واللام للتعريف أقول في ظاهر الآية

__________________

(١) الاية من (آيات تبحث فيها عن وجوب الصلاة وحدودها) مضت الآية الاولى في صفحة ١٣٤.

١٦٨

إشعار بذلك أيضا فقوله تعالى (إِنَّ الْحَسَناتِ). الآية يميز له التعليل بقوله (أَقِمِ الصَّلاةَ) إلا ان في الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (ع) استدلال واستشهاد في غير مورد الصلاة.

ومعنى إذهاب الحسنات السيئات ان الله سبحانه يعطي الحسنة ويضاعفها بفضله وكرمه أضعافا مضاعفة كثيرة لمن يشاء (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) اي سيئات المحسنين تكرما وتعطفا عليهم وتفسير ذلك انه من باب الحبط والتكفير المصطلح في علم الكلام كما احتمله المولى المحقق الأردبيلي (قده) ومعنى الحبط عندهم إسقاط استحقاق ثواب الطاعة المتقدمة بالكبيرة المتأخرة مطلقا سواء كان أحدهما أقل أو أكثر وقال بعضهم بالموازنة وهي ان يسقط من الأكثر ما يساوي الأقل ويبقى الزائد على حاله من غير تزاحم والتكفير عبارة عن إسقاط استحقاق عقاب الذنب المتقدم بالطاعة المتأخرة وقد أسلفنا الكلام في ذلك في بطلان الحبط والتكفير بالمعنى الذي ذكروه في هذا الباب مستوفى في تفسير الآية ٢٢ من آل عمران من أرادها فليراجعها وقيل المراد من ذهاب السيئات بالحسنات شدة توفيق المحسنين في الاجتناب عن السيئات مثل قوله تعالى (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت ٤٥) ولا يمكن حمل الآية عليه.

(الآية الثالثة)

قال تعالى (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) (الروم ١٧).

قوله تعالى (فَسُبْحانَ اللهِ) تسبيح وتقديس لله جل ثناؤه عن كل ما لا يليق به من حيث ذاته وصفاته وأفعاله وقد تكاثرت في الكتاب والسنة التسبيحات والتقديسات بأنحاء مختلفة وعبارات متنوعة في العبادات والأذكار والأدعية والخطب وقد طلعت دعوة القرآن الكريم بالتكبير والتسبيح قال تعالى (قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) والتكبير هو تسبيح الذات على ما أسلفناه في بعض أبحاثنا ولرتلت في القرآن الكريم حقه لوجدت أن هذه التسبيحات في معرض تشبيه الملحدين وتوهم الجاهلين وتوصيف الواصفين قال تعالى (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) الأنبياء (٢٢) قال تعالى (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الصافات ١٥٩).

قوله تعالى (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) قيل انه أمر بالتسبيح على صورة الاخبار اي سبحوا الله تسبيحا وسبحانا حين تدخلون في المساء وسبحان مصدر مثل غفران ووردت في تفسير قوله تعالى (وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف ١٠٩) عدة روايات منها في البرهان عن الصدوق بإسناده عن بريد الأصم قال سأل رجل عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين فما تفسير سبحان الله قال ان في هذا الحائط رجلا كان إذا سأل أنبأ

١٦٩

وإذا سكت أنبأ فدخل الرجل فاذا هو علي بن أبي طالب (ع) فقال يا أبا الحسن ما تفسير سبحان الله قال تعظيم جلال الله وتنزيهه عما قال فيه كل مشرك. الحديث. وسيأتي بقية الكلام فيه في ذيل البحث.

قوله تعالى وله الحمد الآية قالوا ان الحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري وذكر بعضهم في تفسيره انه بمعنى الشكر والرضا وأقول الظاهر أن الحمد في اللغة بمعنى الثناء الذي يعبر عنه بالفارسية «ستودن» ويقع على الذات وعلى الصفات وعلى الأفعال فيرجع ذلك الى التمجيد على كمال ذاته وكمال صفاته وأفعاله جل ثناؤه لاستحالة تطرق نقص وعيب في ذاته وصفاته وأفعاله قال السيد المحقق في رياض السالكين في شرح دعائه عليه‌السلام في التحميد الحمد هو الثناء على ذي علم لكماله ذاتيا كان كوجوب الوجود والاتصاف بالكمالات والتنزه عن النقائص أو وصفيا ككون صفاته كاملة واجبة أو فعليا ككونه مشتملة على الحكمة انتهى. وقال المولى الفيض في شرحه للأسماء الحسنى نقلا عن بعض في تفسير الحميد قال الحميد هو المحمود المثنى عليه والله تعالى هو الحميد بحمد نفسه ازلا وأبدا ـ الى أن قال ـ يرجع هذا الى صفات الجلال والعلو والكمال انتهى. فملخص ان الحمد منه تعالى لنفسه وكذلك عن الملائكة والأولياء العارفين به انما هو بلحاظ قدس ذاته وصفاته وأفعاله عن كل نقص وعيب وعند التحليل يرجح الحمد الى نوع من التسبيح والفرق ان التسبيح انما هو بلحاظ نفي كل نقيصة وطردها عنه تعالى مستقيما وبلا واسطة عناية أخرى والتمحيد انما هو بلحاظ علو الذات وارتفاعه عن النقائص ولازم ذلك الأمر الوجودي التسبيح ويصح ان يقال ان التحميد نوع خاص من أنواع التسبيح وفي كثير من الآيات تعقيب التسبيح بالحمد قال ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك البقرة (٢٠) قال تعالى (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (زمر ٧٥) فمعنى قوله (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) بالتعبير بالجملة الاسمية ثبوت استحقاق الحمد له تعالى فهو المحمود بكل لسان في كل مكان وفي كل زمان بالاستحقاق على الإطلاق.

قد اتضح من جميع ما ذكرنا وتحصل ان التسبيح تنزيه الذات الاحدية عن كل ما لا يليق به.

والتكبر هو تعظيمه وتجليله تعالى بنفي توهم ما يكون قرينا ومساويا له وإبطال ما توهم فيه من الحدود والأوصاف (والتحميد هو الثناء على علوه وارتفاعه ذاتا وصفاتا وأفعالا عن كل نقيصة وعلة) واما التمجيد خارجا عن حد التعطيل والتشبيه (إذا تقرر ذلك فنقول المنقول عن ابن العباس والمجاهد ان المراد من قوله تعالى (حِينَ تُمْسُونَ) وقت الصلاة المغرب والعشاء ومن قوله (حِينَ تُصْبِحُونَ) وقت

١٧٠

صلاة الفجر (وَعَشِيًّا) العصر (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) وقت الظهر. ونقل الجصاص ذلك عن الحسن أيضا.

أقول وهذا في نهاية الإشكال فإن قوله تعالى (وَعَشِيًّا) بناء على أنه عطف على قوله في السماوات والأرض يكون المعنى وله الحمد في السموات والأرض وفي العشاء وحين الصباح وحين الظهر فاستحقاقه تعالى للحمد وكونه محمودا في السموات والأرض لا يعقل ان يكون صلاة حين العشاء وحين يدخلون في الصبح والظهر فبطل الاستدلال بالآية لاستنباط الأوقات للفرائض الخمسة وأما بناء على عطف عشيا على قوله تعالى (حِينَ تُمْسُونَ) فيكون قوله تعالى (وَلَهُ الْحَمْدُ) ـ الى آخره ـ جملة معترضة فيندفع اشكال المذكور الا أنه يحتاج القول بان المراد من التسبيح هو التسبيح الموظف المسمى. بالصلاة من باب تسمية الكل باسم الجزء الى دليل معتبر من آية ورواية واما النوى فقد رواها في البرهان عن الصدوق بالإسناد عن حسن بن علي عليهما سلام وساقها الى ان قال فصلى آدم ثلاث ركعات ركعة لخطيئته وركعة لخطيئة حواء وركعة لتوبته وافترض الله عزوجل هذه الركعات الثلاث على أمتي وهي الساعة التي يستجاب فيها الدعاء فوعدني ربي عزوجل ان يستجيب لمن دعاه وهي الصلاة التي أمرني بها ربي في قوله عزوجل (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) فهي مع ضعف متنها معترضة لصلاة المغرب فقط واما غيرها من الصلوات فهي معللة بعلل اخرى فلا تصلح سندا لما ذهب اليه عبد الله بن عباس والله الهادي.

(الآية الرابعة)

قال تعالى (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) (طه ١٣٠) وقوله تعالى (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) اي من تكذيبك وايذائك بألسنتهم وأفواههم قوله تعالى (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ). الآية ، في التبيان قبل طلوع الشمس يعني صلاة الفجر (وَقَبْلَ غُرُوبِها) يعني صلاة العصر (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) يعني صلاة المغرب والعشاء (وَأَطْرافَ النَّهارِ) يعني صلاة الظهر في قول قتادة انتهى.

أقول قوله تعالى (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) الظاهر ان المراد سبح ربك بحمده فان التحميد لله تعالى نوع خاص من أنواع التسبيح كما قدمنا بيانه على التفصيل وما ذكره قتادة من تفسيره بصلاة الفجر وهكذا الى آخر ما قال غير مستند الى ظاهر الآية ولا الى دليل سمعي ففي البرهان عن الصدوق بالإسناد عن إسماعيل بن فضل قال سألت أبا عبد الله عن قول الله عزوجل (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها) قال فريضة على كل مسلم ان يقول قبل طلوع الشمس عشر مرات وقبل غروبها عشر مرات لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت

١٧١

وهو حي لا يموت قال فقلت لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت ويميت ويحيي له الملك وله الحمد وهو حي لا يموت فقال يا هذا لا شك ان الله يحيي ويميت ويميت ويحيي ولكن قل كما أقول.

أقول الظاهر ان الأمر والترغيب بمطلق ذكر الله سبحانه وتحميده جل ثناؤه ولا دليل على انها لبيان وقت فريضة الفجر والعصر.

قوله تعالى (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) الآية قالوا الآناء جمع انى أو إناء بالفتح والمد ومن بمعنى في وآناء الليل ساعاتها قدم الطرف لمزيد العناية به فإن العبادة بالليل أشق وأبعد عن تطرق الرياء فيها وظاهر الآية وإطلاقها عدم التوقيت للتسبيح المذكور بل يأمر تعالى بالتسبيح والحمد في أي ساعة منها وهذا البيان ينافي التوقيت وتقييد فريضة من الفرائض بها نعم لا بأس بحمل الآية على نوافل الليل لو قام دليل صالح لتقييد الآية وتخصيصها كما في قوله تعالى (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) الآية.

قوله تعالى (وَأَطْرافَ النَّهارِ) الآية قد تقدم تفسير الطرف انه ناحية الشيء ومنتهاه سواء كان من الشيء أو ما يقاربه والأطراف بإطلاقه شامل للغد والمغرب وأوائل النهار وأواخره وهذا النحو من الإطلاق والإرسال ينافي التقييد والتوقيت أيضا على ما ذكرناه في إناء الليل فلا محالة يحتاج توقيت فريضة من الفرائض بها الى دليل ما طبق من آية أو رواية والآية بإطلاقها شاملة التسبيحات وصلواة التطوع الابتدائي. في الوسائل عن علي بن إبراهيم مسندا عن زرارة عن أبي جعفر قال له (آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) قال يعني صلاة الليل قال قلت له (وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) قال تطوع بالنهار. الحديث. قوله (ع) تطوع بالنهار لعله بيان للمصداق لا بيان للمراد والمراد بالتطوع التطوع الابتدائي.

قوله تعالى (لَعَلَّكَ تَرْضى) أمر تعالى رسوله وحبيبه أن يسبحه ويحمده تعالى بالعشي والأبكار وبالغدو والآصال وفي آناء الليل وأطراف النهار لعله (ص) ينال من رحماته وكراماته تعالى ومواهبه الخاصة المكنونة ما يرضى به (ص) وبناء على فرائد المسنى للمعلول اي لعل الله سبحانه ينيل حبيبه ورسوله من عطاياه وألطافه ما يرضيه.

أقول في ذلك ذكري للذاكرين وعظة لقوم يعقلون فعلى أولي الألباب والأبصار أن يذكروا الله ويراقبوه ويهابوه ويعظموه في السر والعلن.

(الآية الخامسة)

قال تعالى (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) (ق / ٣٩ ـ ٤٠).

١٧٢

تقدم الكلام في تفسير تلك الفقرات قوله تعالى (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) بفتح الهمزة وكسرها فعن ابن عباس التسبيح والدعاء عقيب المفروضات وعن الحسائي النوافل بعد المفروضات.

في نور الثقلين عن الكافي : عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال قلت له (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) قال ركعتان بعد المغرب».

وفيه أيضا مسندا عن أبي نصر قال سألت الرضا (ع) عن قول الله (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) قال أربع ركعات بعد المغرب وفي القلائد عن الحميري بالإسناد إلى إسماعيل بن عبد الخالق مثل ما رواه زرارة عن الباقر (ع) وفي القلائد أيضا في الصحيح عن ابن أبي عمير عن الرضا (ع) قال أدبار السجود أربع ركعات بعد المغرب أقول تفسير ادبار السجود بنافلة المغرب كما هو مفاد تلك الروايات هل هو على سبيل بيان المصداق أو هو من باب بيان المراد والاحتمال الأول أرجح وأولى ومن العجيب ما في القلائد ان هذا قرنية على أن المراد من التسبيح في قوله فسبحه صلاة المغرب وليت شعري كيف يكون تعين أدبار السجود وتفسيره بنافلة المغرب قيدا للتسبيح في قوله تعالى فسبحه ولو صح كونه مقيدا فإنما يكون مقيدا لأدبار السجود فتعين أن أدبار السجود أريد منه نافلة المغرب اما على التعين أو من باب أنه إحدى المصاديق ولا يستلزم ذلك تخصيص التسبيح بصلاة المغرب ولا تعين أدبار السجود بنافلة المغرب.

(الآية السادسة)

قال تعالى (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) (طور ٤٩).

قوله تعالى الى حين تقوم اختلفت الكلمات في تفسيره وأوجه الأقوال ما قال علي بن إبراهيم حين تقوم بصلاة الليل فسبحه قال صلاة الليل انتهى وفيه ان قوله تعالى (وَمِنَ اللَّيْلِ) عطف على قوله (حِينَ تَقُومُ) وبديهي ان مقتضى العطف المغايرة فالتسبيح حين القيام غير التسبيح بالليل وهما غير التسبيح في ادبار النجوم والأوفق للقواعد التسبيح المطلق حين القيام ثم التسبيح في الليل في أي ساعة من ساعاته وهذه الجملة من الآية تصلح الانطباق بصلاة الليل الا انه يحتاج ويتوقف على دليل معتبر فتحصل ان كلتا الجملتين مفادها التسبيح المطلق والظاهر من قوله تعالى (حِينَ تَقُومُ) القيام من النوم أو القيام للعبادة. قوله تعالى (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) اي حين ان ينقض النجوم اي فسبح عقيب النجوم والمقدار المسلم منه بين الفجر الأول الكاذب والصادق الثاني الى ان تشتبك النجوم وفي صحيحة ابن أبي عمير عن الرضا (ع) قال أدبار النجوم ركعتين قبل صلاة الصبح.

أقول يعني التسبيح أدبار النجوم صلاة ركعتين قبل

١٧٣

صلاة الصبح وفي نور الثقلين عن الكافي عن علي بن إبراهيم مسندا عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال قلت له (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) قال قال ركعتان قبل الصبح وفي القلائد عن قرب الاسناد مسندا عن إسماعيل بن عبد الخالق قال سمعت أبا عبد الله يقول الركعتان بعد الفجر هي إدبار النجوم.

أقول قوله (ع) بعد الفجر أي بعد طلوع الصبح وقبل فريضة الصبح. واعلم ان الآيات التي سبقت للبيان أوقات الفرائض مثل قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) وقوله (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ.) الآية. على التفصيل الذي تقدم فيها دلالة على توسعة الوقت للفرائض وليست في الآثار المروية عن الرسول وآله الأئمة الأبرار ما يدل على التضييق في واحد من الفرائض.

«في القبلة»

(الآية الأولى)

قال تعالى (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) البقرة آية ١٤٢.

بيان : الظاهر من سياق الآيات مورد قوله تعالى (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) بيان. السفه : خفة العقل. والتولية : الاعراض عن الشيء إذا استعمل بعن. والإقبال إلى الشيء إذا استعمل بالى. والظاهر من سياق الآيات أن قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ) الآية شروع في التكلم في أمر القبلة والبحث والنظر فيها والاحتجاج على المعترضين لتحويلها. وفيها أعلام لأمر سيقع ويقع الاعتراض عليه وليس مورد الآية الكريمة بعد الآيات الدالة على تحقق النسخ والتحويل كما زعمه بعض المفسرين وحيث ان أمر القبلة لها شأن وانعكاس خاص بين أعداء الإسلام سيما الاعراب الوثنية وقد ترك الرسول (ص) قبلتهم واليهود الذين صلى الى قبلتهم مدة من عمره الشريف وقد وقعت المخالفة لكلا القبيلين وكلتا القبلتين وكانوا يتشبثون لإغواء المؤمنين والتشكيك في عقائدهم بكل حشيش يتربصون بهم الدوائر ويترقبون في كل يوم وساعة حادثة ليرجفوها بين الناس. فشرعوا في الطعن والهمز واللمز. فان العدو اللجوج إذا وجد مجالا لم يترك مقالا.

وانظر الى قولهم ما ولاهم عن قبلتهم ، فلم يسندوا التحويل الى الله والى الرسول والى الوحي والى المسلمين وأبهموا كمال الإبهام كي يبهموا على العامة ، فعبروا بلحن من القول ورديء من البيان. سيما اليهود فإنهم مع لجاجهم وعنادهم قائلون باستحالة النسخ في الأحكام واستحالة التغيير في التكوين وفي شيء من النظام الموجود ولهم في هذه الخرافة شبهات ومغالطات بصورة البرهان.

وقد ورد في القرآن الكريم التوبيخ عليهم. قال تعالى : (قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ

١٧٤

مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) وقدس تعالى نفسه عما نسبوا اليه (تعالى) قال تعالى (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ). (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) وقد رد عليهم أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وأبطلوا مقالهم في روايات كثيرة وفي أبواب الدعاء وغيرها.

قوله تعالى (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ). الآية يملكهما وغيرهما من الاحياز والأمكنة المتبركة ليست لها اختصاص ذاتي بهذه التشريفات وانما هي بجعل من الله سبحانه اني لا يمكن لأحد التصرف والمداخلة في سلطان التشريع لله سبحانه ولا يمكن الاعتراض من أحد عليه تعالى لقصور علم غيره تعالى عن الإحاطة باسرار التشريع وانما يجب على العباد الخضوع والتسليم في مقابل ما أمره سبحانه سواء كان في دين نبي واحد أو أنبياء كثيرين.

قال تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) وليس ذلك من باب الاختلاف بين الأنبياء ولا الاختلاف في دين واحد. والإسلام دين الأنبياء المقربين الأولين والآخرين وقد تكون لكل منهم شرعة خاصة ومنهاجا مخصوصا بحسب الأوقات والأشخاص وكذلك بالنسبة إلى نبي واحد. في البرهان عن الإمام أبي محمد العسكري (ع) قال : ـ الى ان قال : ـ فقال اليهود عند ذلك. ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها. فأجابهم الله أحسن الجواب. فقال (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) وهو يملكهما وتكليفه التحول الى جانب كتحويله لكم الى جانب آخر الحديث.

قوله تعالى (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). الظاهر انها بهداياته وتوفيقاته الخاصة.

قال تعالى (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) البقرة (٣٤١).

بيان : المكة المكرمة أقدم بيت وأول مسجد وضع للناس للعبادة وإظهار شعائر التوحيد وقد كان معبدا للأبرار ومطافا للاطهار. وليس في الدنيا من الهياكل والكنائس وبيوت النار اسم ولا رسم.

قال تعالى (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ.) الآية آل عمران (٩٧) فالآية الكريمة صريحة في ان البيت الذي وضع للناس مباركا وهداية للعالمين ، من غير اختصاص زمان دون زمان ، الكعبة المعظمة. العياشي عن زرارة قال سأل أبو جعفر (ع) عن البيت كان يحج اليه قبل أن يبعث النبي (ص) قال نعم لا يعلمون أن الناس يحجون ونخبركم أن آدم ونوح وسليمان قد حجوا البيت بالجن والانس والطير ولقد حجه موسى على جمل أحمر يقول لبيك لبيك فإنه كما قال تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ).

١٧٥

في البرهان عن المفيد في الاختصاص عن النبي وقد سئل عن أول ركن وضع الله في الأرض قال الركن الذي بمكة وذلك قوله (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً). الحديث.

في الوسائل عن أمير المؤمنين في خطبة قال : ـ الى أن قال ـ الا ترون ان الله قد اختبر الأولين من لدن آدم الى الآخرين من هذا العالم بأحجار ما تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع جعلها بيت الحرام. الخطبة.

في البرهان رواية مرسلة عن ابن شهرآشوب في تفسير الآية ان مكة ليست أول بيت وضع للناس بل كان قبلها بيوت وهي لأجل ابتلائه بالمعارض لا تصلح لتقييد الآية الكريمة بها والكنيسة العظمى والمسجد الأقصى ببيت المقدس بناها سليمان بن داود وهو من أحفاد إبراهيم. بعد إبراهيم بسنين كثيرة. والأحاديث على هذا النمط غير عزيزة فعلى عهدة الباحث الفحص والبحث والاستطلاع عليها من مظانها قال تعالى (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) إبراهيم آية (٤١) فنزل إبراهيم مع إسماعيل وهاجر بفناء البيت وأسكنهما فيه وقد حان الحين ان يجدد الله بناء البيت على يدي خليله وصفية مع خضوع وتعبد وإخلاص فالآية الكريمة صريحة في ان إبراهيم سرح إسماعيل وهاجر عند البيت.

«هل كانت الكعبة قبلة قبل ان يبعث الرسول (ص) أم لا»

الظاهر من بعض الروايات ان الكعبة كما انها معبد للأبرار ومسجد للطيبين الاطهار وقد بوركت وقدست أمم من أفاضل البشر وأعاظم الهداة بالوفادة إليها والتعبد بنسكها كذلك وهي قبلة لأهل التوحيد وللمصلين اليه.

فعن النهج عن علي أمير المؤمنين (ع) قال في خطبة ان الله فرض عليكم حج بيته الذي جعله قبلة للأنام. الخطبة. في الوسائل في حديث مناظرة الصادق (ع) مع من أنكر عليه الطواف قال : هذا بيت أستعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه وحثهم على تعظيمه وزيارته وجعله محل أنبيائه وقبلة للمصلين اليه. الحديث.

فظاهر قوله عليه‌السلام : فرض عليكم حج بيته الذي جعله قبلة للأنام وكذلك قول الصادق (ع) : وجعله قبلة للمصلين اليه : ان جعل الكعبة قبلة غير منفك عن كونها بيتا له سبحانه بل مساوي ومقارن لكونها بيتا لله وان أبيت عن الظهور اللفظي فلا أقل من الإطلاق أي إطلاق الجعل للقبلة مع التنصيص ولعموم الأنام وعموم المصلين

١٧٦

في الوسائل مسندا عن أبي إبراهيم عن أبي عبد الله (ع) في حديث قال ان الله بعث جبرائيل إلى آدم (ع) فانطلق به الى مكان البيت فانزل الله إليه غمامة ما أظلت مكان البيت فقال يا آدم خط برجلك حيث أظلت هذه الغمامة فإنه يستخرج لك بيت من مهاة يكون قبلتك وقبلة عقبك من بعدك. ورواه عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله (ع) الى ان قال : خط برجلك حيث أظلت هذه الغمامة فإنه قبلة لك ولآخر عقبك من ولدك.

(الآية الثانية)

ومن قوله تعالى (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) البقرة ـ ١٤٤ الآية الكعبة التي هي أقدم بيوت التوحيد هل صلى اليه الرسول (ص) قبل بيت المقدس أم لا؟ لم يتعرض أحد من المفسرين له الا في تفسير هذه الآية فقال بعضهم أن المراد من القبلة المجعولة هي الكعبة التي كانت قبلة له (ص) قبل بيت المقدس ولم يفصلوا أزيد من ذلك. فخلاصة القول في المقام ان أخبار الباب على طوائف.

الاولى : انه صلى الى بيت المقدس من بدو رسالته.

الثانية : انه جعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس ولم يستدبرها ولما هاجر الى المدينة استدبر الكعبة واستقبل بيت المقدس.

الثالثة : انه ما صلى الى بيت المقدس إلا في المدينة تأليفا لليهود.

الرابعة : انه صلى الى بيت المقدس مدة مقامه بمكة أي قبل رسالته أيضا فإنه (ص) كان نبيا ولم يكن رسولا وذلك بناء على ما هو التحقيق ان الرسول من أرسل إليه ملك الوحي فيكلمه قبلا ومشافهة بما جاء به من عند الله من الشرائع والأحكام وما عدا ذلك من أنحاء التكلم ـ الإلهي في الشريعة والدين فجمعها من أنحاء النبوة.

وما قيل من الفرق بين الرسول والنبي ان الأول من أوحى اليه وأمر بالتبليغ والثاني من أوحى الله ولم يؤمر بالتبليغ فلا محصل له ضرورة أن البلاغ وعدمه أجنبي عن مفهوم الرسول والنبي لغة وأجنبي أيضا عن نفس الحقيقة والعلم المفاض من الله سبحانه على الإنسان الرسول والنبي وقد أوضحنا ذلك في تفسير قوله تعالى (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) البقرة.

إذا عرفت ذلك فاعلم. ان الظاهر من الآية أن القبلة المجعولة في المقام هي بيت المقدس لا الكعبة كما أصر عليه الرازي واستدل عليه بأن الفتنة والامتحان والاعتراضات الشديدة إنما وقعت في المدينة في نسخ بيت المقدس وجعل الكعبة قبلة ثانية حتى ارتد أناس ممن آمن ويشهد على ما ذكرناه أمور.

١٧٧

١ ـ أن المراد من القبلة المعرفة باللام ما سبق في الآية السابقة في قوله تعالى. (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) فمورد اعتراض السفهاء عليه (ص) وعلى المسلمين انما ترك القبلة التي كانوا عليها.

٢ ـ أن المراد من الجعل في الآية هو التشريع والأمر وهو لا يمكن الا بعد الرسالة وبعد الأمر بالبلاغ حتى آمن به جمع من الناس يريد تعالى بهذا الجعل امتحانهم واختبارهم لكي يميز المؤمن من المدبر واما قبل الرسالة والبلاغ في زمان نبوته أو رسالته ولم يؤمر بالتبليغ سيما تبليغ الأحكام فليس هناك جعل ولا تشريع ولا بلاغ فلا محالة يكون بعد الرسالة بزمن يسير أو كثير. فعليه يبطل ما قيل انه (ص) صلى الى البيت المقدس مدة مقامه بمكة وكذلك قول من زعم انه صلى اليه من بدو رسالته مقارنا معه الا أن يكون تسامحا في التعبير.

٣ ـ ان الجعل الثاني للكعبة ونسخ بيت المقدس قوله تعالى (فَوَلِّ وَجْهَكَ) الآية لم يتحقق بعد فيبطل ما قاله الرازي.

٤ ـ ان هذه القبلة حيث ما شرعت انما شرعت للاختبار والامتحان لا تأليفا لليهود بالنسبة إلى جعل بيت المقدس ولا تأليفا للمشركين بالنسبة إلى جعل الكعبة للمشركين فلا محالة يقع المجعول امتحانا للمؤمنين لا اليهود فان الامتحان لليهود يكون في رفعها ونسخها وصريح الآية ان الامتحان في جعل القبلة لا في نسخها فتبين من جميع ما ذكرناه. ان المراد من القبلة المجعولة هي بيت المقدس بمكة والممتحن المؤمنون من العرب وقريش ومن يريد ان يؤمن من المشركين وانه (ص) ومن معه من المسلمين يصلون إلى الكعبة إلى حين حتى حولت الى بيت المقدس ثم نسخت وأعيدت إلى الكعبة.

في الوسائل مسندا عن معاوية بن عمار قال قلت لأبي عبد الله (ع) متى صرف رسول الله الى الكعبة قال بعد رجوعه من بدر وكان يصلي في المدينة إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا ثم أعيد إلى الكعبة.

أقول : قوله (ع) أعيد إلى الكعبة ظاهر في انه (ص) كان يصلي قبل بيت المقدس إلى الكعبة ثم أعيد إليها أيضا والغرض من هذا البيان بيان صرفه (ص) الى الكعبة فلا ينافي ما استظهرنا من الآية ان هذا الجعل وقع في مكة ولا ينافي أيضا للروايات المصرحة بذلك وانه يصلي في مكة إلى بيت المقدس ففي بعض منها انه يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس وفي بعض منها ثلاثة عشر سنة.

ومما يستأنس ان الرسول (ص) يصلي في مكة إلى الكعبة في أوائل أمره ما في البحار عن أعلام الورى عن دلائل النبوة مسندا عن عفيف انه قال كنت امرء تاجرا فقدمت منى أيام الحج وكان العباس بن عبد المطلب امرء تاجرا فأتيته والمتاع

١٧٨

أبيعه قال فبينا نحن إذ خرج رجل من خباء يصلي فقام تجاه الكعبة ثم خرجت امرأة فقامت تصلي وخرج غلام يصلي معه فقلت يا عباس ما هذا الدين ان هذا الدين ما ندري ما هو فقال هذا محمد بن عبد الله يزعم ان الله أرسله وكنوز كسرى وقيصر تستفتح عليه وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به وهذا ابن عمه علي بن أبي طالب آمن به. الحديث.

قوله تعالى (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ).

فقد تقدم منا في بعض المباحث ان المراد في أمثال المقام ليس حدوث العلم بل تبين المعلوم على رءوس الاشهاد مثل قوله تعالى (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) الآية (البقرة) اي ليميز المؤمن من غير المؤمن.

قوله تعالى (مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) العقب مثل كتف. مؤخر القدم اي يرجع مدبرا ومعرضا عن دعوة الرسول ولا مانع من شموله للاعراض المتمائلين والمقدمين على الايمان وللمرتدين أيضا والآية الكريمة ناصة بأن جعل بيت المقدس قبلة اختبار وامتحان للمؤمنين وتمحيص وإياهم عن غيرهم وإبطال لما ذكره بعض المفسرين انه كان التحويل الى قبلة اليهود تأليفا لهم ثم نسخه وجعل الكعبة قبلة ثانية ـ تأليفا للمشركين.

قوله تعالى (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ). الضمير راجع إلى القبلة أو الى تحويل القبلة المستفاد من الكلام وكون التحويل الى بيت المقدس كبيرة عند أهل الحجاز وخاصة عند قريش فإن الكعبة أساس مجدهم ومفاخرهم لخضوع جميع العرب لها. فكل من الفرق يدعي الانتساب إلى إبراهيم الحنفاء الوثنيون ومن غيرهم أيضا وهؤلاء خاضعون للكعبة ولمجاوريها وسدنتها وحجابها وبوابها وقد وقعت حروب عظيمة في سدانة الكعبة وتوليتها قبل الإسلام. فترك رسول الله قبلتهم ليس بأهون عندهم من سب آلهتهم وتحميقهم وتحميق آبائهم وأبطال عاداتهم الجاهلي ورسومهم القومي فقد صار امتحانا بليغا وتحميصا شديدا.

قوله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) الآية لما صرف الله المسلمين من الصخرة إلى الكعبة وكان صلاتهم إليها ثلاثة عشر سنة بمكة وسبعة عشر شهر بالمدينة وكان التحويل في نصف من رجب بعد رجوعه (ص) من بدر شكى المسلمون الى الرسول انا صلينا الى قبلة الصخرة فما حال صلاتنا إليها فأنزل الله. وما كان الله الآية فإن حكم المنسوخ لا يصير باطلا في طرفه بالنسخ فالمراد من الايمان هنا الصلاة وقد سمى الله الصلاة إيمانا. واستدل القائلون بأن الإيمان كله عمل بهذه الآية. توضيح ذلك أن الآية وصريح عدة من الروايات أن الايمان كله عمل والايمان مثبوت

١٧٩

على الجوارح كلها. فعمل القلب الإذعان وعمل اللسان الإقرار وهكذا كل عضو موكل بما أمر به وهو ايمانه فعليه يكون الايمان مركبا ومؤتلفا من عدة اعمال. غاية الأمر أن للأعضاء وهكذا للأعمال أصول ورءوس فلا يخرج الرجل من الايمان بترك بعض هذه الأعمال ما لم يترك من أصولها ورءوسها).

وفي مقابل هذا القول قول آخر ولعله هو المشهور ان الايمان عمل بسيط وهو العلم والإذعان والأعمال شرط لصحته وقبوله فقوله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) اي صلاتكم ، تدل على صحة القول الأول.

في القلائد عن الكافي : في حديث رواه عن الصادق (ع) يذكر فيه قسمة الايمان على جوارح ابن آدم الى أن قال ان الله عزوجل لما صرف نبيه إلى الكعبة عن بيت المقدس فانزل (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) فسمى الصلاة ايمانا.

قوله تعالى (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

هذه الجملة بمنزلة التعليل لمضمون الجملة السابقة أي : ان الله سبحانه بفضله ورأفته ورحمته على الناس المصلين لا يضيع صلاتهم فعليه يكون المراد من الناس المؤمنين خاصة بقرينة ذكر هذا الاسم المبارك (الرؤوف) مع ذكر الاسم الكريم «الرحيم» فإنه لا معنى لشمول رحمته ورأفته تعالى للكافرين. وذكر بعض المفسرين في تفسير الفاتحة ما خلاصته : انه لا فرق بين الرحمن والرحيم من حيث المادة وانما تدل صيغة فعلان الموضوعة للمبالغة على كثرة الرحمة وعمومها والرحيم الفعيل موضوعة للسجايا والصفات الغريزية فيكون فيه تعالى دالا على ثبوت الرحمة ودوامها فعليه لا يكون لما قيل ان الرحمن بجميع خلقه المؤمن والكافر والرحيم للمؤمنين خاصة معنى محصلا وتكون الروايات الدالة على ذلك المعنى مخالفة للقرآن فتطرح أو تأول وهو عجيب فإن القائل بأن الرحمن بجميع خلقه والرحيم بالمؤمنين خاصة يرى أن الأسماء الدالة عليه تعالى وعلى صفاته ونعوته موضوعة بالوضع المستقل توفيقا وتوضيفا. فبناء على ذلك تكون كلها معارف فالرحمن تعبير عن مطلق عطائه تعالى سواء كان مصداقا للاستدراج والإملاء وعن سخط أو غيرها. قال تعالى (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) الأعراف (١٨٢) وقال تعالى (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أعراف آية (١٨٣) وقال تعالى (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) الآية آل عمران آية (١٧٨) في الصافي : قال في تفسير الرحمن : وفي رواية : العاطف على خلقه بالرزق لا يقطع عنهم مواد رزقه وان انقطعوا عن طاعته. الحديث ، والرحيم تعبير على عطائه تعالى لأهل كرامته إعزازا وثوابا وهي الرحمة الخاصة والنظرة الرحيمية قال تعالى (وَالَّذِينَ عَمِلُوا

١٨٠