بدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام

محمد باقر الملكي

بدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

محمد باقر الملكي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٣

اليوم كما هو مفاد بعض هذه الآيات أو التحفظ على أصول التوحيد من مالكيته تعالى لأمر الشفاعة ولجميع شئون الخلق تشريعا وتكوينا في الدنيا والآخرة أو تقبيح عقائد المشركين من عبادة الأصنام من دون الله وجعلها شفعاء من دون الله ومن دون اذنه بالاستقلال لا مساس لهذه الآيات الطوائف الثلاثة لأمر الشفاعة بالله وباذنه وبأمره نفيا وإثباتا وإمكانا واستحالة وها أنا أتلو عليك من الآيات الدالة على الشفاعة.

(الآية الاولى)

قال تعالى (قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ـ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) ـ الأنبياء ٢٨.

أقول قوله تعالى (لا يَشْفَعُونَ) نفي على الإطلاق أي لا يشفعون لأحد من الخلق وقوله تعالى (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) استثناء من النفي المذكور وضروري أن الاستثناء من النفي إثبات لشيء من الأمر المنفي وقوله تعالى (لِمَنِ ارْتَضى) مفعول أي يشفعون لمن ارتضى والمعنى ان هؤلاء المقربون يشفعون لمن ارتضى الله ـ في المجمع ج ص عن مجاهد قال الا لمن رضي الله عنه انتهى. وفي البرهان ج ٤ ص ٥٧ عن الصدوق بإسناده عن حسين ابن خالد قال الى أن قال قلت للرضا (ع) يا بن رسول الله فما معنى قول الله عزوجل (لِمَنِ ارْتَضى) قال لا يشفعون الا لمن ارتضى الله دينه.

أقول الدين المرضي عند الله سبحانه هو الإسلام وهو الدين الذي ارتضاه الله تعالى لأحبائه وأنبيائه دينا.

(الآية الثانية)

قال تعالى (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) (النجم ٢٦) أقول وتقريب الاستدلال كما في الآية السابقة اي يشفعون لمن يشاء الله ويرضي دينه والحصر المستفاد من قوله الا في الآيتين متوجه الى المشفوع له وهو من كان له دين مرضي عند الله سبحانه.

(الآية الثالثة)

قال تعالى (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) طه ١٠٩ أقول وجه الاستدلال واضح أي تنفع الشفاعة لمن اذن في الشفاعة له والحصر المذكور لقوله الا من حيث الانتفاع بالشفاعة متوجه الى المشفوع له بشرط الاذن والمشية من الله وأن يكون له دين مرضي عند الله فان الظاهر من

١٤١

القول المرضي هو الدين المرضي عند الله سبحانه التوحيد الخالص وما يستلزمه من العقائد الحقة وقد أطلق القول على الدين والايمان قال تعالى (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) الآية (إبراهيم).

وفي الآية وجه آخر وهو ان يكون المنفي نفي شفاعة الشفعاء والحصر بقوله الا لمن بالنسبة إلى الشفعاء والمعنى لا تنفع شفاعة أحد من الشفعاء الا شفاعة من اذن له في الشفاعة قال في الجوامع ص ٢٨٦ (من) يجوز فيه الرفع والنصب فالرفع على البدل من الشفاعة بتقدير حذف المضاف اي لا تنفع الشفاعة الا من أذن له الرحمن والنصب على المفعولية ومعنى أذن له رضي به لأجله انتهى. أقول وعلى كلا الاحتمالين سواء كان الاذن للشافعين أو للمشفوعين لا كلام في أن الآية نص في ثبوت الإذن للشفاعة من الله سبحانه.

(الآية الرابعة)

قال تعالى (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً ـ لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) مريم ٨٧ ـ بيان الضمير في قوله تعالى (لا يَمْلِكُونَ) راجع الى المجرمين اي أن المجرمين لا يملكون نيل الشفاعة والاستفادة من شفاعة الشافعين وقوله (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ). الآية ، الاستثناء منقطع أي أن الذين اتخذوا عند الله سبحانه عهدا فلهم حظ من شفاعة الشافعين فالحصر متوجه الى المشفوع لهم.

ويمكن أن يقال ان المجرمين لا يملكون الشفاعة لأحد فلا يقبل ولا ينفذ شهادتهم في حق الغير كائنا من كان فالاستثناء منقطع والحصر متوجه الى الشافعين فينحصر تمليك حق الشفاعة للذين لهم عهد عند الله سبحانه.

ويمكن أن يقال بالإطلاق في قوله لا يملكون اي ليس للمجرمين حق الشفاعة لأحد فلا ينفذ ولا يقبل شفاعتهم ولا يقبل شفاعة أحد في حقهم فلا يشفعون ولا تنفع لهم والاستثناء منقطع فالذين لهم عهد الله يشفعون ويشفعون والأظهر هو المعنى الأول وعلى جميع الوجوه فالآية صريحة في إثبات الاذن من الله سبحانه في شفاعة المذنبين من أهل التوحيد.

(الآية الخامسة)

قال تعالى (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ.) الآية (سبأ) ٢٣.

بيان قوله تعالى (وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) أي أن الله سبحانه أعلى وأجل من ان يكون له معاون ووزير وظهير من خلقه في شيء في شئون إلهية وفي أفعاله وفي

١٤٢

سننه وقوله تعالى (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ) أقول قد اضطربت كلمات المفسرين في تفسير المقام فان قوله تعالى لا تنفع متعد بنفسه ولا يصح تعليق اللام في قوله. لمن اذن له به وأحسن ما قيل في تأويله ما ذكره في جوامع (ص ٢٨٢) قال لا ينفع الشفاعة إلا كائنة لمن اذن له انتهى. أقول أي لمن اذن الله سبحانه ان يشفع شافعون في حقه فالحصر متوجه الى المشفوع له والاستثناء من النفي المطلق صريح في إثبات نفع الشفاعة لمن اذن تعالى أن يشفع الشافعون له فقط.

(الآية السادسة)

قال تعالى (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (زخرف ٨) بيان الالهة التي تعبد وتعظم من دون الله على قسمين الأول ما لا يعقل ولا يشعر ان الكفار يعبدونها من دون الله.

الثاني من يعقل ويدرك ان الكفار يعبدونهم من دون الله ويرضى بذلك مثل بعض الفراعنة والجبابرة يدعون الناس الى عبادتهم قال تعالى حكاية عن فرعون (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ).

فلا ريب أن العابد والمعبود كلاهما في النار قال الله تعالى (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (الأنبياء ٩٨) ومنهم من يشعر بذلك ولا يرضى به ويتبرء منهم ومن عبادتهم وينكر ذلك عليهم أشد الإنكار ولا تنتقص بذلك منزلتهم عند الله مثل عيسى بن مريم وغيره من المقربين فإنهم ينهون الكفار وأهل الغلو فيهم عن عبادتهم كما ينهونهم عن عبادة الأصنام.

قال الله تعالى (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المائدة ١١٧) فهذه الآيات الكريمة تنزيه لساحة عيسى الصديق عما الحد فيه النصارى وشهادة منه سبحانه على قرب منزلته عند الله وقوله تعالى (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) الآية فالظاهر ان المراد بالشهادة في هذه الآية ونظائرها في القرآن هو العلم عن عيان وإحاطة فهؤلاء الأعاظم المقربون يسمون شهيدا باعتبار مقام التحمل وبلحاظ احاطتهم وعيانهم مورد الشهادة أي اعمال العباد ويسمون شهيدا وشاهدا باعتبار

١٤٣

مقام الأداء في موقف القضاء فيشهدون بالحق والصدق في موطن القضاء طبق ما عرفوا وعاينوا من ذنوب المجرمين وحسنات المحسنين فعلى عهدة المفسر التفكيك بين المقامين والتحفظ على كلا المعنيين وعدم خلط أحدهما بالآخر»

قال تعالى (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) النساء ـ ٤١ وغيرها من الآيات.

فتحصل في المقام ان قوله تعالى (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) استثناء من قوله تعالى (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ) الآية وضروري ان الاستثناء من النفي المطلق إثبات لشيء من الأمر المنفي فالآية الكريمة صريحة في إثبات الشفاعة اي شفاعة الذين أكرمهم الله وأيدهم بروح القدس وأفاض عليهم من العلم من يشهدون من أعمال العباد في الدنيا ويشهدون لهم أو عليهم في الآخرة فهؤلاء شفعاء دار البقاء وشهداء دار الفناء.

وحيث ان الآية في إبطال مقالة المشركين من شفاعة ما يدعون من دون الله فالحصر متوجه الى الشافعين دون المشفوعين.

قال في المجمع ج ٩ ص ٥٩ وقيل معناه لا يملك من الملائكة وغيرها الشفاعة (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) اي يشهد ان لا إله إلا الله انتهى.

أقول لا يخفى ضعفه بعد الإحاطة بما ذكرناه وكذلك ضعف ما يقال في تفسير قوله تعالى (يَعْلَمُونَ) اي يعلمون بقلوبهم ما يشهدون بألسنتهم وفي هذا دلالة على ان حقيقة الإيمان هو الاعتقاد بالقلب والمعرفة انتهى.

أقول وجه الضعف في الأول ان فيه توجه الحصر الى المشفوعين اي ان هذه الالهة لا يملكون الشفاعة للمشركين الذين يعبدونها من دون الله وانما يملكون الشفاعة للمؤمنين الموحدين فقط وهذا كما ترى خلاف صريح السياق على ما عرفت ان الآية في مقام إبطال مقالة المشركين من إثبات حق الشفاعة لأصنامهم وآلهتهم وحصر الشفاعة بعباد الله المقربين الذين ألحدوا بعباداتهم الغالون.

ووجه الضعف في الثاني ان قوله (يعلمون ويشهدون) ان كان مراد القائل أن ضمير الفاعل في (يعلمون ويشهدون) راجع الى الشافعين كما هو الظاهر

١٤٤

فيلزم منه اشتراط الإسلام وعدم النفاق في الشافعين وهو كما ترى يشمل المسلم المذنب أيضا وثانيا ان قوله بالحق ليس مفعولا لقوله شهد كما توهمه القائل وانما هو من نعوت الشهادة ومتعلق به اي من شهد شهادة حقة صادقة في مقابل شهادة الكذب والباطل.

في تفسير العياشي ج ١ ص ٣٥١ عن ثعلبة بن ميمون عن بعض أصحابنا عن أبي جعفر (ع) في قول الله تبارك وتعالى لعيسى (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) ـ قال لم يقله وسيقوله ان الله إذا علم ان شيئا كائن أخبر عنه خبر ما قد كان وفي مضمونها رواية سليمان بن خالد عن الصادق (ع)

(الآية السابعة)

قال تعالى (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) يوسف (٩٨).

أقول قد استشفع أولاد يعقوب من أبيهم أن يستغفر لهم من ربهم وهذا نص على جواز الاستشفاع من الغير ومعنى شفاعته في حق المستشفع مع الشرائط التي نشير إليها في طي الأبحاث إن شاء الله.

في البرهان ج ٢ عن الفقيه مسندا عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) قال في قول يعقوب لبنيه (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) قال أخرهم إلى السحر من ليلة الجمعة.

(الآية الثامنة)

قال تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) النساء ـ ٦٤.

بيان : قد حث الله سبحانه الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي على الاستغفار من الله تعالى لذنوبهم صغائرها وكبائرها وهذا ليس حكما مولويا تأسيسيا وانما هو تذكر وإرشاد الى ما تدركه بداهة العقول من الرجوع اليه تعالى والاعتذار منه جل ثناؤه فيما تجاسروا في ساحته وهذا الاعتذار وتأكد وجوبه انما يتفاوت حسب مراتب معارف الناس لمقام الرب ودرك احترامه وتعظيم شأنه سبحانه ثم حثهم الله على المجيء والتشرف بحضور رسوله (ص) والاستشفاع عنه (ص) وأن يستغفر لهم عند الله من ذنوبهم ولا يخفى ان الاستكشاف عن الحضور والإباء عن المجيء استكبار على الله سبحانه واستخفاف بشأن رسوله وصفية كما استكبر إبليس عنه ورد عليه تعالى ما أمر به من تكريم آدم واستخف بشأن آدم وبمقام كرامته عند الله قال تعالى حكاية عن إبليس (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ) الآية الحجر ٣٣.

ولا يخفى ان الآية الكريمة نص على اذنه تعالى لرسوله (ص) في الشفاعة.

١٤٥

وفيها دلالة على قبول شفاعته واجابة دعوته وفيها شهادة على كرامته تعالى عليه (ص) وقربه ومكانته عند الله سبحانه.

في كتاب كامل الزيارات لابن قولويه القمي ص ١٥ بإسناده عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (ع) قال إذا دخلت المدينة فاغتسل قبل أن تدخلها أو حين تريد ان تدخلها ثم تأتي قبر النبي (ص) فسلم على رسول الله (ص) وساق الزيارة والدعاء الى أن قال اللهم انك قلت (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) واني جئت نبيك مستغفرا تائبا من ذنوبي وأني أتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة محمد (ص) يا محمد إني أتوجه الى الله ربي وربك ليغفر لي ذنوبي الحديث.

(الآية التاسعة)

قال تعالى (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (غافر ٩).

في البحار ج ٥٨ ص ٢٩ مسندا عن ابن أبي عمير عن أبي عبد الله (ع) في حديث قال : الى ان قال ـ والعرش هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره.

أقول تحقيق معنى العرش خارج عن محل الكلام وخلاصة القول فيه بحسب الروايات الواردة في تفسيره ان العرش هو العلم والذين يحملونه هم العلماء الواجدون إياه وهؤلاء العلماء على ما يستفاد من بعض الروايات عدة من أعاظم الأنبياء والأئمة الصديقين من آل الرسول (ص) ومن الملائكة المقربين على تفصيل موكول الى محله.

قوله تعالى (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ـ أقول تسبيحه تعالى هو تنزيهه سبحانه عن كل ما لا يليق بجنابة من الضد والشريك والوزير وغير ذلك من العيوب والنقائص الموجودة في خلقه من حيث ذاته ونعوته وأفعاله فالتسبيح بالحمد من أجل أنواع تسبيحه تعالى ونوع خاص بارز منه توضيح ذلك ان الحمد ليس كما يقال هو الثناء على الجميل الاختياري فقط من ذوي العقول بل هو الثناء على كل جميل ذاتيا كان أو وصفيا أو فعليا ومعناه بالفارسية بمعناه الاسم المصدري (ستودگي وپسنديدگي) قال في القاموس ص ١٢٠ الحمد الشكر والرضا ـ الى ان قال ـ وحمده كسمعه الى

١٤٦

أن قال وفلانا رضي فعله ومذهبه انتهى. فقوله رضي فعله ومذهبه عبارة عن عدم نقص وعيب فيه بحيث صار مورد الرضا قال السيد قدس‌سره في كتابه رياض السالكين ص ٣٢ في شرحه على الصحيفة المباركة السجادية في تفسير قوله (ص) الحمد لله الأول بلا أول الدعاء الى ان قال ان الحمد هو الثناء على ذي علم بكماله ذاتيا كان كوجوب الوجود والاتصاف بالكمالات والتنزه عن النقائص أو وصفيا ككون صفاته كاملة واجبة أو فعليا ككون أفعاله مشتملة على الحكمة انتهى. إذا تقرر ذلك فنقول قد سمى الله سبحانه في كتابه الكريم بأنه حميد في غير واحد من الآيات فهو سبحانه حميد على الإطلاق من حيث ذاته وصفاته وأفعاله فلا يتطرق اليه نقص وعيب وآفة وعلة فمرجع هذا الثناء بحسب التحليل الى تنزيه الذات الاحدية على الإطلاق وهذا الثناء في عين كونه تمجيدا تسبيح وتقديس له تعالى وهذا معنى ما ذكرناه في صدر البيان ان التسبيح بالحمد من أجل أنواع التسبيح نوع بارز وخاص منه.

والآيات والأدعية والأذكار المأثورة عن أئمة أهل البيت (ع) مشحونة بالتسبيح بالحمد قال تعالى ونحن نسبح بحمدك الآية البقرة وفي ذكر الركوع والسجود سبحان ربي الأعلى وبحمده أي أسبحه بحمده وحيث ان الحمد يفيد تنزيهه تعالى ذاتا ووصفا وفعلا فنحمده تعالى في جميع أفعاله فنحمده تعالى على غضبه وسخطه على أعدائه وانتقامه منهم قال تعالى (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أقول قد اثنى تعالى على نفسه وحمده سبحانه على هلاك الظالمين وقطع أصولهم وكذلك يحمد تعالى على السراء والضراء وعلى العافية والبلاء لأوليائه لأن كلها مطابق للحكمة ، حسن جميل.

قوله تعالى (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) ـ أي هؤلاء المقربين الحاملين لعرش العلم والمستضيئين حوله بنوره والمسبحين لله سبحانه بحمده يؤمنون به تعالى واضح ان هذا الايمان ليس هو الابتدائي الذي يخرج به الإنسان عن حد الكفر الى حريم الايمان بل المراد ايمان من عرف الله ووحده وعظمه وسبحه وخاصة سبحه بحمده.

قوله تعالى (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) الآية أي يشفعون عند الله سبحانه للمذنبين من المؤمنين رأفة وحنانا لهم ومنشأ هذه الرأفة والحنان هي القرابة الدينية والايمان بالله وسيأتي مزيد توضيح لذلك إن شاء الله وتقريب الاستدلال انه تعالى ذكر لهؤلاء الأفاضل الأبرار نعوتا جليلة وصفاتا كريمة من حمل العرش والتسبيح والايمان بالله وذكر في عدادها الشفاعة للمؤمنين والتحنن عليهم وفي هذا دلالة على ارتضائه تعالى لشفاعتهم وقبوله عنده تعالى.

١٤٧

قوله تعالى (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) ـ يحكي تعالى عن هؤلاء البررة الكرام انهم يقولون ربنا إلخ تمجيد وثناء على الله تعالى بالربوبية عليهم وعلى جميع ما سواه.

قوله تعالى (وَسِعْتَ) الآية ـ تمجيد وتعظيم لله بسعة رحمته وعمومها وسعة علمه سبحانه ونفوذه كل شيء والتعبير بالفاء في قوله تعالى (فَاغْفِرْ) الآية في مرحلة التفريع بقوله (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) فان علمه ورحمته سبحانه وان عمت وشملت كل شيء من دون تحديد هذا العلم والرحمة لمعلوم دون معلوم ومرحوم دون مرحوم الا ان هؤلاء الأفاضل المقربين انما أرادوا من تمجيدهم لله سبحانه بسعة العلم والرحمة شمول العلم والرحمة مورد سؤالهم اي إدراج مورد الشفاعة في عموم الرحمة والعلم فلا يضيق عن المذنبين فضله ولا تقصر دون المسيئين رحمته وقالوا (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) فتضرعوا الى الله سبحانه في مغفرتهم ووقايتهم من عذاب الجحيم.

وهناك وجهان آخران الأول ان رحمته تعالى مبدأ لكل نعمة وبهجة لكل محتاج ومنشأ لكل خير وفضل لكل فقير الثاني ان المراد عد اختصاص العلم والرحمة بمعلوم دون معلوم ومرحوم دون مرحوم.

أقول : الوجهان وان كان كلاهما حقا في بابه وفي حد نفسه إلا أنهما خارجان عن مفاد الآية فإن الآيات الكريمة صدرا وذيلا صريحة أن حملة العرش كانت من سنتهم وسيرتهم الحسنة الاستغفار للمؤمنين والشفاعة في التائبين في غفران الذنوب والتخلص من الجحيم وتقريب الاستدلال بهذه الفقرة من الآيات كما ذكرناه في السابقة.

قوله تعالى (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا) الآية ـ أقول التوبة بمعنى الرجوع وله إطلاقات بحسب موارد استعماله.

الأول : توبته تعالى على أوليائه أي رجوعه تعالى إليهم بكراماته وعواطفه الخاصة قال تعالى (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) الآية التوبة (١١٧) قال تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل صلوات الله عليهما (وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة ١٢٨).

الثاني : توبته تعالى على الكفار والفساق إذا آمنوا وتابوا عن كفرهم وفسقهم فيتوب الله عليهم بالمغفرة عما سبق منهم من الذنوب والآثام فالتواب من أسمائه

١٤٨

تعالى الحسنى فيطلق عليه تعالى في مقام الثناء عليه وتمجيده سبحانه فلا يشترط في صدق مفهوم التواب وإطلاقه عليه ان يكون رجوعه بعد إعراضه عنهم وسخطه عليهم.

الثالث : توبة الكفار والفساق إذا تابوا عن كفرهم ورجعوا الى ربهم واستغفروا من ذنوبهم.

الرابع : توبة الصالحين والمتقين واستغفارهم فلا يشترط في صدق مفهوم التائب عليهم أن يكون بعد ارتكاب الذنوب بل التوبة تجديد ايمان وتحكيم ميثاق بينهم وبينه تعالى كل ما تذكروا لعظمة الله وكبريائه جددوا أيمانا وأحكموا ميثاقا قال تعالى (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) ـ النصر ـ وواضح ان إطلاق التواب والتائب بالمعنيين الأولين لا يجوز على غيره تعالى كما أن إطلاقه بالمعنيين الأخيرين لا يجوز عليه تعالى.

والظاهر في قوله تعالى (لِلَّذِينَ تابُوا) هو الوجه الثالث بقرينة استغفار حملة العرش لهم من ذنوبهم والشفاعة لهم في الوقاية عن نار الجحيم.

قوله تعالى (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) الآية. عطف على قوله تابوا وسبيله تعالى هو منهاج النبيين وشرائع المرسلين قال تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً). وكذلك ما يدركه الناس ببداهة الفطرة وصراحة العقول من الواجبات الذاتية الضرورية والمحرمات الضرورية مثل وجوب الايمان والتصديق على من عرفه تعالى وحرمة الاستكبار عليه ونظائر ذلك والمحسنات والمقبحات وبالجملة الأحكام التي يعبر عنها عند الفقهاء بالمستقلات العقلية وهذا باب واسع وأساس في علم الأخلاق وليس بلاغ الشارع وبيانه بحسب الكتاب والسنة حكما شرعيا مولويا بل تذكرة وإرشاد لأحكام العقول واثارة لانوار الفطرة الإلهية.

قوله تعالى (وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ) الآية هذا دعاء آخر وشفاعة حسنة أخرى يسألون الله سبحانه دخول هؤلاء التائبين والسالكين سبيل الحق والرشد والجنة واستنجاز ميعاده تعالى ان الجنة للمؤمنين وأن يلحق بهم (مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) فيقر بذلك عيونهم ويتم به سرورهم.

وفي هذا دلالة على ان الله يجمع بين المؤمن واهله في الجنة قال تعالى (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) ، انشقاق. قوله تعالى (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ). الآية أقول السيئة

١٤٩

اي المكاره والمصائب الواردة على الإنسان يؤذيه ويؤلمه واسم فاعل على وزن فعلية مأخوذ من الفعل اللازم والمراد في دعائهم ان يحفظهم الله في مواقف القيامة من كل بلية وكريهة وقد اشتبه الأمر على بعض المفسرين وزعم أن المراد بالسيئات المعاصي وحاول في المقام ان المراد جزاء السيئات وعذابها بحذف المضاف وغفل ان السوء ما يقابل الحسن وبالفارسية (بدو خوب) فالمعاصي والذنوب من مصاديق السيئات لا انها معناه لغة فالسيئة بمعناه العام الوسيع يشمل البلايا والمصائب والمكاره والعذاب وغيرها فعلى عهدة المفسر التحري في كل مورد ومورد وتعيين المراد بحسب السياق وبقرائن المقام قال تعالى (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ) اي الرخص والرفاه (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) الآية أعراف ١٣١ اي القحط والغلاء والبلاء وهكذا ومما ذكرنا تعرف ضعف الأقوال المذكورة في المقام من أرادها فليراجعها فالمتحصل في المقام ان الآيات الكريمة ناصة في طلب المغفرة والوقاية من عذاب الجحيم ودخول الجنة والوقاية من السيئات وصريحة في جواز الشفاعة وقبولها ورضائه تعالى بذلك والآيات مطلقة بالنسبة إلى المشفوعين سواء كانوا أمواتا في الدنيا والآخرة وفي أي مواقف الآخرة على ما سيجيء تفصيله إن شاء الله.

فان قلت كيف يستقيم الاستغفار والشفاعة للذين تابوا واتبعوا سبيل الرشد والصلاح والتائبون يقبل الله توبتهم ويغفر ذنوبهم من غير شفاعة وكذلك الذين وعدهم الله سبحانه لهم ان يدخلهم الجنة والقيام بالوعد واجب على الله فلا يبقى مورد للشفاعة قلت :

أولا : ـ ان الظاهر من التوبة في المقام هو التوبة عن الكفر واتباع سبيل الله اي الإسلام الذي ارتضاه دينا لأنبيائه ورسله وهكذا الظاهر من وعده تعالى لهؤلاء التائبين التابعين انما هو بتركهم الكفر واختيارهم الايمان وأتباعهم سبيل الحق يكون الشفاعة لهم التائبون والتابعون بالمعنى الذي ذكرناه لا التوبة عن الذنوب فقط بعد الايمان وكذلك ما وعدهم الله الجنة بايمانهم بالله سبحانه بالشرائط المقررة في بابه فلا تنافي بين هذه الآيات وبين الآيات الدالة على أن مورد الشفاعة هو المؤمن المجرم.

وثانيا : ـ نقول ان الله سبحانه مالك العفو ووليه فله تعالى العفو عن ذنوب عباده ابتداء وتفضلا وهو المالك فان عفى فبفضله وأن أخذ فبعد له ولا يجب القيام بالوعيد وأعماله في كل مورد وله تعالى العفو عن عباده المذنبين أيضا بالأسباب التي جعلها طريقا الى عفوه ووصلة الى غفرانه مثل التوبة والشفاعة وغيرها من الأسباب التي ذكرها في الكتاب الكريم قال تعالى (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (هود ١١٤) قال تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) النساء ـ ٢١ وغيرها من الآيات فله تعالى أن يتوصل بكل واحدة من هذه الأسباب وله تعالى أعمال

١٥٠

الفضل والرحمة لو اجتمعت جميعها أو عدة منها فلا تزاحم ولا تضاد بينها غاية الأمر كفاية واحد منها لا المزاحمة والممانعة بينها لو اجتمعت فان مورد الشفاعة هو المؤمن المذنب والله العالم بمعاني كلامه والظاهر ان الجواب الأول هو الأولى.

(الآية العاشرة)

قال تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (المنافقون ٥) بيان قد ذم الله سبحانه المنافقين على نفاقهم وكفرهم بالله وبرسوله (ص) وعلى ارصادهم لرسوله وإيجاد العوائل عليه (ص) في أمر دعوته الحقة وعلى امتناعهم من التوبة وعلى استكبارهم من الاستشفاع برسوله كي يسأل ربه مغفرتهم وواضح أن الآية الكريمة تدل دلالة واضحة انهم لو رجعوا وتابوا عن كفرهم ونفاقهم وجاءوا الى رسول الله (ص) واستشفعوا واستغفر لهم رسول الله (ص) (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) اما مع إصرارهم على كفرهم وتفاهتهم وسيئاتهم فلا يستغفر لهم رسول الله (ص) فإنه يوالي أعداء الله ولا يستشفع للذين خرجوا عن ولاية الله سبحانه لقبحه وحرمته عقلا وقد نهاه تعالى عن ذلك قال تعالى (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ). التوبة ـ ٨٥.

(الآية الحادية عشرة)

قال تعالى (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) آل عمران ـ ١٥٩.

بيان : قد ذكر الله سبحانه حلم رسوله وحسن خلقه (ص) مع جماعة من أصحابه الذين صدر منهم ما لا يرضى به رسول الله كما يحكيه تعالى عنهم في الآيات السابقة فاستحقوا بذلك أن يعاملهم (ص) معاملة من أساء الأدب في ساحته فحلم عنهم وتساهل معهم فرضي سبحانه بذلك وأحسن الثناء على رسوله (ص) فقال (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) إلخ والفظاظة قيل أن يكون الإنسان جافيا في كلامه سيء الخلق والغلظة في القلب عديم الرأفة والرحمة فأمر الله سبحانه رسوله بالعفو عنهم والاستغفار لهم لئلا يبقى فيهم دنس مخالفة الرسول ومعصية الله سبحانه توجب سقوطهم وانحطاطهم عن درجات الايمان وحرمانهم عن مواهب الله سبحانه التي يختص بها من يشاء من المهتدين ثم زاد الله سبحانه على الفضل فضلا وعلى الإحسان إحسانا فأمر رسوله أن يدخلهم في جملة أصحابه المخلصين المشاورين له (ص) في مهام الأمور في ذلك ترفيع لأقدارهم وتأليف لقلوبهم إلى الإسلام وتطييب صدورهم من الغل بالآية الكريمة ناصة في أمره تعالى بالشفاعة وطلب المغفرة ابتداء من غير استشفاع من طرف المذنبين والقدر المتيقن من الأمر تشريع الشفاعة والترخيص فيها ونفوذها وقبولها عند الله سبحانه واما دلالة الأمر على الوجوب

١٥١

بحسب إطلاقه الأمر عليه وعلى أمته في أمثال المقام فخارج عن محل الكلام وعلى عهدة الفقيه ثم ان امتثال هذا الأمر وقيامه (ص) بالشفاعة هو عين الطاعة لهذا الأمر وهو عين التزامه (ص) بأن الله سبحانه هو مالك الشفاعة ووليه وهو مالك للأمر بها وتشريعها ويستحيل بالضرورة عند من عرف الله ووحده في أمر الخلق تكوينا وتشريعا إنكار إذنه تعالى أي استحالة إذنه تعالى بذلك والآية نص قاطع على ان موطن هذه الشفاعة في الدنيا وفي حال حياة المذنبين فلا دليل على اختصاصه بالآخرة وبالموقف النهائي منها.

(الآية الثانية عشرة)

قال تعالى (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (الاسراء ـ ٧٩).

أقول : قد قدمنا البحث في ذلك عند البحث عن أوقات الصلاة في تفسير قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (الإسراء ـ ٧٨).

(الآية الثالثة عشرة)

قال تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (البقرة ـ ٢٥٥) بيان الاستفهام استفهام انكاري اي لا يقدر أحد ولا يجوز لأحد ان يشفع عنده تعالى لأن الشفاعة هي المداخلة والتصرف في شئون التكوين لا يمضي ولا ينفذ إلا بإنفاذه تعالى ولا يجوز أيضا المبادرة إلى الشفاعة لأن الشفاعة تصرف في شئون الخلق من دون اعتناء الى تشريع مالك الشفاعة.

وقوله تعالى (إِلَّا بِإِذْنِهِ) استثناء من النفي المطلق والنهي المطلق وضروري ان الاستثناء من الأمر المنفي إثبات لشيء من الأمر المنفي واستثناء لشيء من الأمر الممنوع والمحرم. فالآية الكريمة ناصة وصريحة في معنى الشفاعة ونفوذها وفي جوازها باذنه تعالى والترخيص فيها وبعد تمليك حق الشفاعة لأحد من عباده الصالحين.

(الآية الرابعة عشرة)

قال تعالى (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) (٥).

بيان ـ الواو للقسم وفي القاموس الضحاء بالمد قرب انتصاف النهار وبالضم والقصر الشمس وأتيتك ضحوة وضحى واضحى صار فيها انتهى.

أقول الظاهر ان مراد القاموس وبالضم والقصر الشمس أي ضوئها فعلى هذا يكون المراد من الشمس مطلق النهار المقابل لليل فالمراد من الضحى ما دامت

١٥٢

الشمس ضاحية مشرقة ويؤيد ذلك ما ذكره في المجمع ج ١٠ حيث قال وقد اقسم سبحانه بنور الشمس كله من قولهم ضحى فلان للشمس إذا ظهر لها انتهى. وقيل الضحى صدر النهار والأظهر هو الوجه الذي ذكرناه.

قال تعالى (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (الأعراف ٩٨) فالضحى في هذه الآية الكريمة ما يقابل البيات الواقع في الليل قوله تعالى (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) قال في القاموس سجي سجوا سكن ومنه البحر والطرف الساجي انتهى أقول أن المراد من سكون الليل سكون ما فيها من الأصوات أو سكون من فيها وما فيها من الحركة والعمل أو ركود ظلامها.

قوله تعالى (ما وَدَّعَكَ) الآية هو من التوديع بالتشديد لأنهم اماتوا ماضي يدع ويذر في التبيان ج ١٠ عن سيبويه انهم استغنوا (بترك) عن ودع ولم يستعملوه انتهى. أقول معناه ترك الشيء والوداع من باب المفاعلة الترك من الجانبين وقوله تعالى قال بمعنى أبغض وكره فقوله تعالى (ما وَدَّعَكَ) الآية جواب للقسم المذكور في صدر السورة. وقد اضطربت كلماتهم في تفسير المقام وارتباط هذه الآية بقوله تعالى (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) وفي بيان حقيقة الأمر في قوله تعالى (ما وَدَّعَكَ) إلخ فقالوا وأطالوا ولم يأتوا بشيء مبين وقول فصل وذكروا في شأن نزولها أشياء عجيبة قال الرازي في تفسيره ج ٢١ ص ٢٠٩ قال المفسرون وابطأ جبرئيل على النبي (ص) فقال المشركون قد قلاه الله وودعه وانزل الله تعالى هذه الآية وقال السدي ابطأ عليه أربعين ليلة فشكى ذلك الى خديجة فقالت لعل ربك نسيك وقلاك وقيل أن أم جميل امرأة أبي لهب قالت له يا محمد (ص) ما أرى شيطانك الا قد تركك انتهى أقول وروي غير ذلك أيضا وفي نور الثقلين ج ٥ ص ٥٩٤ عن علي ابن إبراهيم رواية احتباس الوحي أن خديجة قالت لعل ربك قد تركك فلا يرسل إليك فأنزل الله تبارك وتعالى (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) أقول وروى غير تلك الا ان هذه الروايات ضعاف وما رووه عن طريق العامة مرسلات تاريخية مختلفة في مفادها وذلك غير ناهضة لإثبات احتباس الوحي على رسول الله على وجه إعراضه تعالى عنه (ص) ولو كان أياما قلائل والوجوه التي ذكروها في علة احتباس الوحي انه كان ذلك تأديبا وتقريعا مكذوبا لان صريح الآية أنه تعالى ما ودعه وما قلاه ثم على فرض صحة جميع ذلك كيف يصح ارتباط هذه الآية بقوله (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى)

قال في الكشاف ج ٤ ص ٦١١ كيف اتصل قوله (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى)

١٥٣

وبما قبله.

قلت : قد كان في ضمن معنى التوديع والقلي ان الله مواصلك بالوحي إليك وأنت حبيب الله ولا يرى كرامة أعظم من ذلك ولا نعمة أجل منه وأخبره ان حاله في الآخرة أعظم من ذلك وهو السبق والتقدم على جميع أنبياء الله ورسله وشهادة أمته على سائر الأمم ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته وغير ذلك من الكرامات السنية انتهى.

أقول لا يخفى ما فيه من الوهن والاختلال ولم يأت بقول فصل في توجيه قوله تعالى (ما وَدَّعَكَ) الآية ولم يعين الغرض المسوق له الكلام فكأنه رضي بما ورد في رواياتهم ان الآية نزلت في تكذيب من قال ان الله تعالى ودعه وقلاه وأيضا أن قوله وأخبره ان حاله إلخ أي هو وعد من الله سبحانه أو اخبار ان الله سبحانه أراد ذلك وسنشير الى توضيحه في ذيل البحث إن شاء الله. فالآيات الكريمة وظاهر سياقها انها في مقام تزهيده (ص) عن الدنيا ونعيمها وزينتها زهد الراحل عنها وتشويقه تعالى رسوله وصفية إلى الآخرة وترغيبه (ص) الى ما أعد الله سبحانه لأوليائه وأهل الوفاء به من كراماتها الجليلة السنية من جملتها هذه الكرامات وعده تعالى وعدا جميلا أن يعطيه من مواهبه ما يرضى.

وأعلمه وأخبره أن تزهيده عن الدنيا وعدم اختياره تعالى لرسوله ليس إلا لأجل احتقار الدنيا وانها تليق ولا تناسب لعلو شأنه وكريم مقامه لا لأجل انه تعالى ودعه وقلاه ومن اللطائف في هذه السورة المباركة انه سبحانه اقسم بنور الشمس وبالليل الساجي انه تعالى ما ودع حبيبه ورسوله وما قلاه وأكرمه بتشريف المخاطبة الحضورية بكاف الخطاب مرة بعد اخرى. قوله (وَلَلْآخِرَةُ) الآية ـ عطف على قوله تعالى (ما وَدَّعَكَ) الآية واللام للتأكيد وقوله تعالى (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) الآية اقسم تعالى بضحى النهار وبالليل الساجي وهذه الجملة بلام التأكيد للاهتمام الأكيد بتزهيده (ص) وطيب نفسه عن الدنيا. والظاهر أن المراد هي دار كرامته تعالى لأحبائه المقابلة للدنيا والمراد بالدنيا هي الدنيا الزائلة المقابلة للآخرة وليس سياق الآية الأخبار المحض والوعظ والنصح بل الظاهر انها أعلام منه تعالى انه اختار ورضي لرسوله وصفية الدار الآخرة إكراما وتجليلا وضروري أن اختياره ورضاه شيئا سبحانه لرسوله هو اختيار الرسول (ص) ورضاه لا يعدل عنه الى غيره.

في الدر المنثور ج ٦ ص ٣٦١ واخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله (ص) انا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا (وَلَسَوْفَ

١٥٤

يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى). وفي المجمع ج ١٠ ص ٥٠٥ عن الصادق (ع) قال دخل رسول الله (ص) على فاطمة (ع) وعليها كساء من جلة الإبل وهي تطحن بيدها وترضع ولدها فدمعت عينا رسول الله (ص) لما أبصرها فقال يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة فقد انزل الله علي (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى). وفي البرهان ج ٤ ص ٤٧٢ مسندا عن حماد بن عيسى عن الصادق (ع) عن جابر بن عبد الله قال دخل رسول الله على فاطمة وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من جلة الإبل فلما نظر إليها بكى وقال لها تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة فأنزل عليه (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى).

في نور الثقلين ج ٥ ص ٥٩٤ عن المناقب تفسير الثعلبي عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام وتفسير القشيري عن جابر الأنصاري قال رأى النبي (ص) فاطمة (ع) وعليها كساء من جلة الإبل وهي تطحن بيديها وترضع ولدها فدمعت عينا رسول الله (ص) فقال يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة فقالت يا رسول الله الحمد لله على نعمائه والشكر لله على آلائه فأنزل الله (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى).

أقول الروايات الشريفة صريحة في تعيين الغرض المسوق له الكلام وشاهدة صدق على ما ذكرناه ان الآية في مقام تزهيده (ص) عن الدنيا وزينتها ونعيمها وعلى ترغيبه (ص) وترغيب عترته الطاهرة وأوليائه المخلصين إلى الآخرة فإنه (ص) لما رأى الزهراء الصديقة وشاهد ما كانت فيها من مرارة الدنيا فرضي بها وأمرها بالصبر والتحمل في هذه الأيام القلائل وفي هذا ذكري وبلاغ لقوم يعقلون.

وأما اختلاف الروايات من حيث وقت نزول الآية فرواية المجمع فقد انزل علي (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ) الآية يؤيده ما قيل ان السورة مكية وبناء على مفاد غيرها ظاهرة ان السورة مدنية فالأمر فيه سهل لان تسليته (ص) فاطمة (ع) بقراءة الآية عليها وأمرها بالصبر وتزهيدها عن الدنيا ونزول الآية في شأنها متحدة المفاد مع رواية المجمع في ما نحن بصدده من تعيين الغرض المسوق له الآيات.

ومما ذكرنا يعلم وهن ما ذكره الرازي في تفسير المقام ج ٢٢ ص ١١٠ قال وثانيها ما يخطر ببالي وهو ان يكون المعنى وللأحوال الآتية خير لك من الماضية انتهى ما أردناه.

أقول لا دليل على هذا التأويل ولما يعلم وجه لترجيح أحواله الآتية على أحواله الماضية والظاهر أن معنى كون الآخرة خير له (ص) كما هو مفاد الروايات أيضا انه سبحانه اختار له الآخرة وحيث انه (ص) وأوصيائه الصديقون (عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ)

١٥٥

تعالى في شيء فلا محالة يكون اختياره تعالى ورضاه عين اختيارهم ورضائهم فيكون المراد من الآية اختياره ورضائه تعالى تشريعا اي إقباله إلى الآخرة والتزود لها وإدباره إلى الدنيا والاعراض عنها لا المفاضلة بينهما كي تكون الآخرة أفضل من الدنيا.

قوله تعالى (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) : عطف على سابقتها ومسوقة في سياقها الا انها أصرح وأوفى منها وبيان لما أجمل فيها فإنها إبراز عطف وحنان فكان هذا العطاء الخطير جبران لما فات منه من نعيم الدنيا وزينتها وثواب عن زهده في هذه الدنيا وللأم في قوله تعالى ولسوف للتأكيد والسين لتخليص صيغة المضارع للاستقبال وفيه إشعار إن موطن هذا العطاء انما هو في الدار الآخرة المستقبلة وقد أطلق تعالى هذا العطاء من حيث الأنواع والأقسام وكذلك من حيث الحدود والمقدار ولم يقيده بشيء إلا رضي رسول الله (ص) وحيث انه سبحانه صادق الوعد فلا محالة يقوم بإنجاز وعده فلا يخلف الميعاد البتة فعلى هذا تكون هذه الآية مطلقة من حيث المشية أيضا لأن الله سبحانه قد شاء وقضى ان يعطي هذا العطاء مطلقا ولم يقيده الا برضى رسوله فما من آية في كتاب الله تدل على سعة رحمته تعالى وعموم مغفرته للمذنبين الا ويدخل فيه المشية مثلا قوله تعالى (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (الزمر / ٥٣) أي ان شاء يغفر فلا يزال المؤمن واقفا بين الخوف والرجاء فلا يجوز له ان يقول اني مغفور استنادا الى هذه الآية بخلاف الآية المبحوثة عنها فان العطاء الموعود لرسول الله منجز معلوم في حقه (ص) لان الله سبحانه قد شاء أن يعطيه (ص) على الإطلاق وقضى بذلك من دون قيد لإرضائه (ص).

في نور الثقلين عن حرث ابن شريح عن محمد بن الحنفية انه قال يا أهل العراق تزعمون أن أرجى آية في كتاب الله عزوجل (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) إلخ وانا أهل البيت نقول ان أرجى آية في كتاب الله (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) وهي الشفاعة وانه يعطيها في أهل لا إله إلا الله حتى يقول رب رضيت.

في المجمع ج ١٠ ص ٥٠٥ عن الصادق عليه‌السلام رضي جدي ان لا يبقى في النار موحد أقول هذا البيان عن الصادق عليه‌السلام لا ينافي ما ذكرنا من الإطلاق في العطاء من حيث أنواعه واقسامه للإمكان أن يقال ان ذلك من باب بيان المصداق لا من باب بيان تمام المراد في الآية الكريمة.

فإن قلت كيف يمكن أن يقال ان العطاء في الآية الكريمة مطلقة من حيث المشية

١٥٦

فان من أنواع العطاء الشفاعة وهي مقيدة بمشيئة الله سبحانه في الشافعين والمشفوعين كما أوردنا الآيات الراجعة الى ذلك وانه لا يقدر أحد ان يشفع لأحد إلا بإذن الله ومشيئته ولا ينتفع أحد من شفاعة أحد الا من ارتضاه ويأذن سبحانه له بخصوصه.

قال تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (البقرة / ٢٥٦) قال تعالى (قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) الى قوله (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (الأنبياء ٢٩).

وغيرها من الآيات فهذه الآيات ونظائرها دالة وشاهدة على أن الشفاعة من المقربين انما هو بعد اذن الله وكذلك انتفاع المشفوعين من الشفاعة متوقف على اذن الله سبحانه ورضاه ـ قلت ليس في هذه الآيات ما ينافي الآية المبحوثة عنها فان الآيات انما تدل على توقف تأثير الشفاعة على اذن الله ومشيئته سبحانه وكذلك انتفاع المشفوعين تحفظا على التوحيد وانه لا مالك الا هو والتصرف في ما يملكه تعالى ليس الا بيده ولا يعقل إلا باذنه وامره والآية المبحوثة عنها تدل دلالة واضحة على حصول الاذن وقد شاء الله ذلك وقضى به بحسب وعده الجميل وسينجز ذلك لرسوله فإنه سبحانه صادق الوعد ووافي القول فتحصل في المقام ان الآية وان لم تكن ناصة بالشفاعة بخصوصها الا انها دالة عليها بحسب إطلاقها والرواية المنقولة عن الصادق عليه‌السلام الظاهر انها لبيان مصداق بارز من العطاء لا انها للتقييد ولبيان تمام المراد من الآية نعم ما ذكرناه عن محمد بن الحنفية نص في التخصيص والتقييد الا انه لا ينبغي تقيد مطلقات القرآن الكريم بها ونظائرها هذا تمام الكلام في تفسير الآيات الدالة على الشفاعة وفيها غنى وكفاية عن استقصاء جميع الآيات الدالة على الشفاعة وتفسيرها وتحليلها فقد ظهر بفضل الله سبحانه وتأييده غاية الظهور انه لا ريب في دلالتها وصراحتها في إفادة معنى الشفاعة ومضيها عند الله سبحانه وبقي في المقام أمور لا بد من التذكر بها والإرشاد إليها.

الأمر الأول : المستفاد من هذه الآيات عموم الشفاعة وشمولها في جميع الموارد وعدم اختصاصها بموطن دون آخر فمنها ما يدل على وقوع الشفاعة في الدنيا قال تعالى (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا) الى قوله (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يوسف ٩٨) قال تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً).

ومنها ما يدل باختلافها على شمولها لجميع المواقف قال تعالى (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ

١٥٧

رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (غافر ٧).

قال تعالى (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) الى قوله (لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) الآية الأنبياء (٢٩) فالآيتان كما ترى مطلقتان من حيث الموقف من غير تقييدهما بموقف دون آخر ومنها وهي أكثرها ما يدل على وقوع الشفاعة في القيامة قال تعالى (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) (الضحى) قال تعالى (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (الاسراء) قال تعالى (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (المدثر ٤٨) قال (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) (الشعراء ١٠٠) فان الآيتين الأخيرتين تحكيان قول أهل النار وفيهما دلالة على أن هناك شفعاء قد أنجى الله المذنبين من الموحدين بشفاعتهم من النار وبقي فيها الكافرون فلا شفيع لهم وفي تفسير الآية الأخيرة عدة من الروايات الصريحة يؤيد مفاد الآية ولا يخفى انه لا مجال لتوهم التنافي والتعارض بين هذه الآيات ضرورة انه لا تنافي بين مثبت ومثبت الا مع الحصر في أحدهما أو في كليهما فلا مجال لتقييد مطلقات هذه الآيات بمقيداتها فان ثبوت الحكم للمقيد بعناية خاصة لذكره لا يوجب نفي الحكم عن الأنواع الأخرى للمطلق فيجب الأخذ بالآيات المطلقة وإثبات الشفاعة المقبولة عند الله سبحانه في كل واحد واحد والالتزام بمفاد كل واحد من الآيات مطلقاتها ومقيداتها فان قلت يكفي في تقييد هذه المطلقات بعض النصوص الدالة على نفي الشفاعة في البرزخ فتنحصر الشفاعة المقبولة بعد الموت بالقيامة قبل دخول النار أو بعدها البرهان ج ٣ ص ١٢٠ في تفسير قوله تعالى (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) عن الكليني مسندا عن عمر ابن يزيد قال قلت لأبي عبد الله (ع) الى ان قال قلت جعلت فداك ان الذنوب كثيرة كبار فقال اما في القيامة فكلكم في الجنة بشفاعة النبي المطاع ووصي النبي صلوات الله عليهم ولكنني والله أتخوف عليكم البرزخ قلت وما البرزخ قال القبر منذ حين موته الى يوم القيامة.

في نور الثقلين ج ٣ ص ٥٥٣ تفسير علي ابن إبراهيم قوله عزوجل (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) قال البرزخ هو أمر بين أمرين الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة وهو قول الصادق (ع) والله ما أخاف عليكم الا البرزخ فأما إذا صار الأمر إلينا فنحن اولى بكم.

وفيه أيضا عنه (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) قال الصادق عليه‌السلام البرزخ القبر وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة والدليل على ذلك قول العالم عليه‌السلام والله ما يخاف عليكم الا البرزخ أقول لا يخفي ما في متن الرواية الأخيرة من الاضطراب مع احتمال ما أرسله على ابن إبراهيم هو عين رواية الكافي فيكون مرجع جميعها إلى رواية واحدة وثانيا ان هذه الروايات مع قطع النظر عما ذكرناه معارضة بطوائف مع الروايات فلا يصلح لتقييد الآيات المطلقة التي أشرنا إليها.

١٥٨

الطائفة الأولى : ما ثبت بالضرورة من حضور النبي والأئمة صلوات الله عليهم الصلوات على جنائز المؤمنين والترحم والاستغفار في حقهم وكذلك الفريضة الثابتة في الدين من تشريع الصلوات على جنائز المؤمنين والمبالغة في الاستغفار والترحم عليهم.

وكان من سنته (ص) انه يصلي على جنائز المؤمنين ويقوم على قبورهم وقد نهى الله سبحانه إياه ان لا يفعل ذلك بالموتى المنافقين.

الثانية : ما نقلت من زيارته (ص) بقبور المؤمنين وصارت ذلك سنته ثابتة في المؤمنين وكان يترحم ويستغفر لهم ففي البحار ٦ (٢١٧) حديث ١٠ عن كتاب حسين ابن سعيد قال أبو بصير سمعت أبا عبد الله (ع) يقول ان رقية بنت رسول الله (ص) لما ماتت قام رسول الله على قبرها فرفع يده الى السماء ودمعت عيناه فقالوا يا رسول الله انا قد رأيناك رفعت رأسك إلى السماء ودمعت عيناك قال إنني سألت ربي أن يهب لي رقية من ضغطة القبر!! وقريب منه رواية قيامه على قبر فاطمة بنت أسد رضي الله عنها.

الثالثة : ما ورد من الروايات الكثيرة من حضور النبي (ص) والأئمة عند المحتضر ورؤية المحتضر إياهم وفي بعضها امره (ص) ملك الموت بالإرفاق والتخفيف للمؤمن في قبض روحه وبالجملة يكون حضورهم عنده مسرة ورفاها وراحة له وفي بعضها الشفاعة له في البحار ج ٦ (١٩٤) عن تفسير فرات بن إبراهيم عن عبيد بن كثير معنعنا عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما‌السلام قال قال رسول الله (ص) يا علي ان فيك مثلا من عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) يا علي انه لا يموت رجل يفتري على عيسى بن مريم (ص) حتى يؤمن به قبل موته ويقول فيه الحق حيث لا ينفعه ذلك شيعا وانك على مثله لا يموت عدوك حتى يراك عند الموت فتكون غيظا وحزنا حتى بقي بالحق من أمرك ويقول فيك بالحق ويقر بولايتك حيث لا ينفعه ذلك شيئا واما وليك فإنه يراك عند الموت فتكون له شفيعا وبشرا وقرة عين أقول فالمحصل في المقام ان الرواية النافية بشفاعتهم (ص) لاوليائهم في البرزخ معارضة بما يدل على دعائهم واستغفارهم للمؤمن الميت في صلواتهم على جنائز المؤمنين أو زيارتهم لقبورهم ودعائهم واستغفارهم للمؤمن المقبور وخاصة لاستخلاصه من ضغطة القبر أو شفاعتهم للمؤمنين المحتضرين وحضورهم عنده في احتضاره فان الظاهر من بعض هذه الروايات أن هذه الشفاعة ليست لاستخلاصه من شدة النزع فقط بل شفاعة في طول إقامته في البرزخ كما هو صريح

١٥٩

رواية حسين ابن سعيد وقوله فتكون له شفيعا وبشيرا وقرة عين فإن البشارة راجعة إلى مستقبل امره وكذلك سروره برؤيتهم وفرحه وقرة عينه بلقائهم كما هو صريح عدة من الروايات الظاهرة في ان هذا الفرح والسرور ما دام قاطنا في البرزخ سواء كان ذلك من باب الشفاعة لاوليائهم أو من باب الولاية الموهوبة لهم من الله كرامة وتشريفا فاتضح من جميع ما ذكرنا انه يجب الالتزام بإطلاق الآيات من حيث موطن الشفاعة والالتزام بمفاد هذه الروايات والرواية لابتلائها بالمعارض لا يصلح لتقييد إطلاق الآية.

الأمر الثاني : لا ريب في جواز الاستشفاع بالرسول الأكرم امام الأئمة الموحدين وبغيره من الأنبياء الكرام كما هو صريح قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) الآية النساء (٦٤) وقد حث الله المذنبين بالتشرف بحضور رسوله (ص) والاستشفاع منه ووعد سبحانه ان يستجيب رسوله (ص) وان يعود على المذنبين برحمته وفضله وصريح قوله تعالى (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا) الآية يوسف (٩٧) وتحرم الامتناع والكف عن الاستشفاع إذا كان ذلك استنكافا واستكبارا على رسول الله (ص) قال تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) ـ المنافقون ـ (٥) هذا بحسب الآيات وأما بحسب الروايات فالآثار والأدعية المأثورة عن أئمة أهل البيت (ع) مشحونة بالتوسل لهم والاستشفاع منهم ولا فرق في ذلك بين زمان حياته (ص) أو بعد وفاته ومفارقته هذه الدنيا الزائلة لأن القول بأن الإنسان ينعزل عن الحياة بعد انتقاله الى الدار الآخرة اي البرزخ ويعطل الحياة في حقه قول الدهرية والطبيعية والقرآن الكريم ينادي بأعلى صوته ان عباد الله الصالحين (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وكيف بأوليائه تعالى المقربين في كتاب كامل الزيارات ص ١٦ مسندا عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (ع) قال إذا دخلت المدينة فاغتسل قبل ان تدخلها الى ان قال ثم تأتي قبر النبي (ص) فسلم على رسول الله (ص) ثم تقول الى ان قال اللهم انك قلت (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا) الآية واني أتيت نبيك مستغفرا من ذنوبي واني أتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة محمد (ص) يا محمد إني أتوجه الى الله ربي وربك ليغفر ذنوبي. الحديث.

وفي تفسير قوله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.) الأنفال ـ ٣٣ عدة من الروايات أن رسول الله (ص) يستغفر لأمته بعد وفاته أيضا.

منها ما رواه في البرهان ج ٢ ص ٧٩ عن الكليني مسندا عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر (ع) قال قال رسول الله (ص) مقامي بين أظهركم خير لكم فان

١٦٠