بدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام

محمد باقر الملكي

بدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

محمد باقر الملكي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٣

في البرهان عن الكليني مسندا عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (ع) قال ثلاثة يرد عليهم رد الجماعة وان كان واحدا. عند العطاس فيقول يرحمكم الله. والرجل يسلم على الرجل فيقول السلام عليكم. الحديث : فالمتحصل بحسب ظاهر الآية جواز رد السلام بكل صيغة متعارفة صريحة في الجواب في حال الصلاة وفي غيرها من الحالات والله العالم.

وبعبارة أخرى الإطلاق المسوق له الكلام في الآية الكريمة انما هو من حيث أصل التحية فلا محالة يكون الإطلاق انواعيا وتكون الإطلاقات هي الأنواع أي هي نوع من التحيات سواء كانت بالألفاظ والأقوال أو بالأعيان وكذلك الكلام في مقام المقابلة بالمثل أو بالتحية الحسنى بها فلا مجال لتوهم الإطلاق في الآية الكريمة من حيث إتيانها بأي صيغة كانت وكذلك الكلام في مقام المقابلة بالمثل ضرورة أن الظاهر من الآية هو الإطلاق من حيث أنواع التحية فلا محصل لتوهم الإطلاق في صيغة السلام إنشاء وردا فان ألفاظ السلام وجملاته إفراد للنوع الخاص من التحية فيستحيل ان يكون أفراد نوع خاص من التحية مصبا للإطلاق والتقييد.

هذا وثانيا ان الإطلاق بحسب الأنواع كاف عن التشبث بالإطلاق في الإفراد سيما في نوع خاص من التحية فان الملاك هو تحقق التحية إنشاء وردا فيكتفي بها في مقام المقابلة أو انها التحية الحسني أو مثلها فلا يبقى موضوع لتوهم الإطلاق وجريانه من حيث ألفاظ التحية وحروفها التي هي من إفراد النوع الخاص من التحية.

تنبيه وتذكر

السلام من الله سبحانه على أوليائه وعباده المصطفين مثل قوله تعالى (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) (الصافات ٧٩) (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (يس ٥٨) هو الرحمة والكرامة وكذلك من الملائكة هو دعاء منهم للمؤمن بشرطان لا يكون خارجا عن المتعارف من مواهبه تعالى وعناياته ومن الأنبياء لأمته الموحدين قال تعالى (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) (الانعام ٥٤) دعاء لهم بالخير وكذلك من المؤمنين على الأنبياء والرسل والطيبين من مضى منهم ومن كان حيا طلب الكرامات والفيوضات لهم وكذلك التحية بين المؤمنين دعاء لهم وقد كان قبل الإسلام تحيات في الجاهلية وللملل والأقوام تحيات مرسومة قبل الإسلام وبعث فسن الله في الإسلام التحية عند الملاقاة وفي الموارد الأخرى وتحية أهل الجنة فيما بينهم سلام. قال تعالى (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) : يونس (١٠). وسن فيهم التحية التي أكرم بها أنبيائه وأوليائه وهو السلام حيث قال (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) (الصافات ١٨٢) وأمر رسوله أن يقول (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) (النمل ٦١) ثم ان تشريع هذه التحية المباركة على نحو الرجحان

٢٤١

والفضل من البادي بها وعلى نحو الفريضة والإيجاب من المسلم عليه بالمبدء بها هو المتفضل والفضل لمن سبق والمجيب قد أدى فريضة وعمل وظيفته وحيث أن سنته تعالى الابتداء لهذه التحية الطيبة كغيرها من مواهبه وعطاياه سبحانه وكذلك سنة ملائكته السفرة الكرام وأنبيائه العظام فعلى أهل البصائر والاستبصار التأسي بسنة الله تعالى وسنة أوليائه والتقدم والتكرم بهذه التحية على إخوانه المؤمنين وافشائه وإسماعه والإجهار به عن رغبة وبهجة فالأحسن أن يبتدأ من العالي وينتهي إلى الداني وان يشرع عن الشريف ويختتم على الوضيع فيسلم الراكب على الماشي والقائم على القاعد وهكذا فتبين ان تسنين هذه السنة ليست شعارا للتابعية والمتبوعية ولا علامة للرئاسة والمرؤوسية بل أسست وبنيت على التعاطف والتراؤف وعلى إلغاء الامتيازات إذ مع صرف النظر عنها وحين يبتدأ بالسلام على من دونه فلا يفرق في المواجهة بين الفقير والغني في نور الثقلين ج ١ ص ٤٣٥ عن فضل بن كثير عن علي بن موسى الرضا (ع) قال من لقي فقيرا فيسلم عليه خلاف سلامه لقي الله عزوجل وهو عليه غضبان.

قوله تعالى ـ (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً). الحسيب من أسمائه تعالى الحسنى وقد أطلق وأريد منه في الكتاب والسنة والأدعية والأذكار الكافية اي كافية في جميع المهمات وعظائم الأمور في دفع الحساد والنصرة على الأعداء والأضداد قال تعالى ـ (عَطاءً حِساباً) (النبإ ٣٦) اي كافيا قال تعالى (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق ٣) وقد يطلق ويراد منه الحاسب والمحاسب قيل ان أصل الحساب العد وكل معدود محسوب قال تعالى (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (الأنبياء ٢١) أقول الظاهر ان المناسب في المقام هو المعنى الثاني لاشتمال المقام وإشعاره بالتهديد والتخويف اي ان الله تعالى هو الحسيب على كل شيء والمهيمن والمراقب على ما يعمله العباد وما تكن صدورهم وما يضمرون في قلوبهم ففي النهج عن علي (ع) في خطبة ـ الى ان قال ـ وحاسب نفسك لنفسك فان غيرك من الأنفس عليها حسيب غيرك. الخطبة أقول فالحسب على الأنفس هو الله سبحانه (أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) (إنعام ٦٢).

(الآية الثانية)

قال تعالى (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (انعام ١٦٣) ففي القاموس النسك مثلثة وبضمتين العبادة وكل حق لله عزوجل الى ان قال الذبيحة. انتهى.

أقول استدلوا بهذه الآية على وجوب الإخلاص في نية العبادة وتنزيه العبادة وتطهيرها عن الرياء وقالوا ان المراد من قوله (مَحْيايَ وَمَماتِي) أي ما أعلمه من العبادات في حياتي وما أفعله من الوصية بالخيرات وأمثالها بعد موتي أن تكون كلها

٢٤٢

لله سبحانه فقط.

أقول ـ هذا الذي ذكر وغير ظاهر من الآية بل الظاهر ان الآية الكريمة في مقام توحيد الذات الاحدية ونفي الأضداد والأنداد عنه سبحانه اي ما انا عامله وآتية من افعالي وعباداتي وما اعتقده وأذعن به في حياتي وبعد موتي وابعث عليه من إيماني وتوحيدي لله جل مجده لا شريك له عبادتي واقعة لله وبفضله وعنايته دون الأصنام والأنداد قوله تعالى (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ) اي بالإخلاص وتوحيد الذات وتنزيهه عن الشريك وهذا الأمر ليس امرا تشريعيا تعبديا وانما هو وجوب واقعي عقلي فان الاستسلام لله بحقيقة التسليم والكفر بما سواه من الأصنام والأضداد واجب ضروري بذاته من دون احتياج الى جعل جاعل وتشريع شارع.

قوله تعالى (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).

الظاهر ان قوله وبذلك أمرت وقوله وانا أول المسلمين مقول ومأمور به «ان يقول» عطفا على قوله تعالى (إِنَّ صَلاتِي) إلى آخر الآية أي قل (بِذلِكَ أُمِرْتُ) وقل انا ـ الى آخر الآية ـ فقوله تعالى (لا شَرِيكَ لَهُ) لظهوره في نفي الشريك في الألوهية وقوله وأنا أول المسلمين قرينة على ما ذكرنا ان الآية في مقام التذكر بتوحيد الذات ووجوب الايمان والإسلام بذلك وان هذا الايمان والإسلام من سنة أوليائه وأنبيائه وخاصة الرسول الأكرم سيد الموحدين ، امره تعالى ان يظهر للناس ما كان عليه من الإخلاص التام في توحيد الله وتزكية نفسه المقدسة عن التقرب بالأوثان والعبادة لهم وقد تكرر في القرآن هذا النمط من البيان والدعوة الحسنى الى الله قال تعالى (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الانعام ١٤) قال تعالى (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (المؤمن ٦٦) فلفظ الإسلام وان استعمل في القرآن الكريم في المراتب النازلة الابتدائية للإسلام قال تعالى (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) (الحجرات ١١) الا أن المراد في أمثال المقام الراجعة إلى شخصه (ص) وفي أمثال قصص إبراهيم (ص) ليس هو التسليم العادي الابتدائي أو اللساني بل هو تسليم ذاته بكليتها وبما فيها من مواهبه ونعمائه سبحانه قال تعالى (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) (الصافات ١٠٣) قال تعالى (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (البقرة ١٢٨) فإن هذا الدعاء منه (ع) حين يبني الكعبة ويرفع قواعدها وقد كان رسولا ونبيا قال تعالى. (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (البقرة ١٣١) فالموقف بتصريح الآية السابقة بعد تحقق الاصطفاء

٢٤٣

فأمره تعالى لخليله بقوله أسلم ليس هو الإسلام العادي بل هو (ع) بعد ما جلس على كرسي الاصطفاء ووقف موقف القرب وتمكن في مجلس المخاطبة والانس مع كمال مراقبته لشأن الموقف ومحافظته لشرائط الحضور حيث لم يسترسل نفسه ذاك الاسترسال ولم يقل أسلمت لك بل أجاب ربه وخاطبه بما يخاطب به الكبراء والعظماء وقال (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) فتبين ان المستفاد من الآية الكريمة هو أمره تعالى لرسوله وصفية أن يقول ويظهر للناس في سبيل دعوته الحقة الحسنى ما عليه من التوحيد التام والتبري من الأصنام وعبادتها وما عليه من الإسلام لله والإخلاص في توحيد الذات المقدسة أجنبية عما قيل من اشتراط النية وخلوصها في مقام العبادة. وبعبارة أخرى في مقام إخلاص العبودية لله سبحانه هي العبادة له تعالى.

فان قيل : سلمنا في مقام بيان توحيد الذات فأي مانع لشمولها باشتراط الإخلاص في نية العبادة وفي صحتها أيضا كما قيل.

قلت : كلا فان وجوب الإذعان بتوحيد الذات لا يقاس بوجوب الإخلاص في العبادة فإن توحيد الذات من قبيل الحقائق الثابتة بالعرفان والبرهان والإذعان به واجب عقلا بالضرورة العقلية. والثاني من قبيل المدلولات الأدلة الظاهرية اللفظية بالوجوب الشرعي التعبدي فلا جامع بين المقامين. فالآية في مقام التذكر بما علم بالبرهان والإيقان والإرشاد إلى الحكم العقلي وإخلاص النية واجب شرعي على التعبد بالظواهر.

وأما الفروع المذكورة في المقام فساقط على ما ذكرنا من تفسير الآية.

(الآية الثالثة)

قال تعالى (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (المائدة ٥٨).

بيان : الولي من أسمائه تعالى الحسنى وقد مجد نفسه وعظمه في كتابه الكريم بهذا الاسم في موارد شتى قال تعالى (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) (الشورى ٢٨) قال تعالى (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (البقرة ٢٥٧) قال تعالى (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران ٦٨) وغيرها من الآيات حيث انه تعالى مالك لجميع ما سواه ملكا ذاتيا ويملك جميع الشؤون الراجعة إلى الخلق فله سبحانه السلطان المطلق في التصرف والتدبير والقبض والبسط والإبقاء والافناء وله تعالى ملك التشريع وولاية الأمر والنهي فلا ولاية لأحد على أحد إلا له ولا حق لأحد من الناس تقلد شيء من أمور الناس الا له وبأمره ونهيه ولما كانت الدنيا دار الحجاب والجهل فلا يعرف هذه الولاية التكوينية سيما التشريعية الا من كان عالما بالله وعارفا بنعوته وكمالاته وبحقه وسلطانه تكوينا وتشريعا واما ولاية الناس له تعالى فلا يتصور ولا يعقل

٢٤٤

بالمعنى الذي ذكرناه بالضرورة ومعنى كون بعض من الناس وليا له تعالى ان يوالوه ويحبوه وينصروا دينه وينصروا من يواليه فكم فرق بين ولايته تعالى على الناس وولاية بعض من المؤمنين الكاملين له سبحانه فالمذكور في هذه الآية هي الولاية بالمعنى الأول الذي ذكرنا فاحتفظ بهذا فان كثيرا من الباحثين قد خلطوا بين المعنيين. فلا ينافي ما ذكرنا ولايته لأوليائه بمعنى الناصر والمحب كما هو كذلك بين المؤمنين فإن المؤمنين أيضا أولياء بعض انما الكلام في اختصاص الولاية بالمعنى الأول لله تعالى ـ إذا تقرر ذلك فنقول ان المراد بحسب الظاهر في الآية وبقرينة الحصر المذكور فيها هي الولاية الحق الخاص لله سبحانه فتلخص ان الله سبحانه هو الولي الحميد على الخلق بالحق فلا يجوز لأحد ان يتخذ ويعتقد وليا من دون الله وبغير ادنه ويوم تظهر هذه الولاية بأكمل مظاهرها وتتجلى بأتم مجاليها وصارت المعارف ضرورية حين (يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ف (عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ). ويتبين هنالك أن الولاية لله الحق.

ثم انه تعالى لمكان مالكيته على الأمر والنهي له تعالى أن يأذن لأحد من أوليائه ويملكه سلطة الأمر والنهي والقبض والبسط في الأمور والتصرف في شئون الاجتماع قال تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) (النساء ٦٤) فقد أكرم الله سبحانه رسوله وأعطاه حق التصرف في الخلق وتقلد أمور الناس وإياك ان تتوهم ان هذه الولاية تنافي ولايته تعالى لمكان توارد الولايتين على مورد واحد فإن ولاية الرسول قد تتحقق بعطائه وتمليكه فلا محالة يقع في طول ولايته تعالى لا في عرضه قال تعالى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (النساء ٨٠) وكل ما بالعرض ينتهي الى ما بالذات فله (ص) الولاية والتصرف في شأن المجتمع على حسب الحدود والمقدار الذي أعطاه تعالى وكذلك الذين آمنوا بالنعت المذكور في الآية فهؤلاء أيضا لهم الولاية المذكورة في صدر الآية لمكان وحدة السياق ويستحيل ان تكون الولاية بهذا المعنى مشتركا بين المؤمنين أجمعين فإن القول بالاشتراك إلغاء الولاية بهذا المعنى فلا يكون هنا ولي ولا المولى عليه.

فاتضح من جميع ما ذكرنا انه لا بد من تقلد أمر الناس والتصرف في شئونهم من عطائه تعالى واذنه فلا يجوز ولا يصح وثوب أحد من عند نفسه وتقلده على رقاب الناس وقبضه أمر الناس من دون عطائه سبحانه.

وأما شأن النزول فلم يختلف أحد بحسب الروايات الواردة المتكاثرة من طرق الفريقين ان الآية نزلت في علي (ع) وادعى الرازي بعد إقراره ان الروايات اتفقت انها في شأن علي (ع) انها في شأن أبي بكر أقول : إذا أثبت انها في شأن علي (ع) فلا يجوز إخراج مورد النزول عن مفاد الآية وأما البحث على اختصاصها به وبآلة الأئمة الطاهرين ودفع الشبهات والمغالطات التي أوردها الرازي في تفسير الآية

٢٤٥

فخارج عما نحن بصدده عن بيان الأحكام.

«فروع»

الأول : استدلوا بهذه الآية كما في كنز العرفان ان الفعل القليل لا يبطل الصلاة لأن قوله (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) إشارة إلى فعل علي (ع) لما تصدق على السائل بخاتمة انتهى.

أقول قد وقع الكلام في تحديد الفعل القليل الذي لا يؤثر في بطلان الصلاة والمتيقن الذي لا كلام فيه ان يكون مع قلته مشتغلا بصلاته من دون اشتغال بغيرها من أفعال الصلاة وإعطاء الخاتم للسائل كذلك سواء أشار الى السائل ان يخرجه من إصبعه أو يخرجه بنفسه المقدسة ويعطيه للسائل فلا يمكن الاستدلال بالآية في مورد الخلاف بين الفقهاء.

الثاني : تدل الآية على عدم لزوم التلفظ بالنية وانها فعل قلبي لا لساني لأنه (ص) اعطى الخاتم حسبة وتقربا الى الله وليعهد منه (ع) انه تلفظ بالنية ويتفرع على ذلك صحة نية الصوم وهو مشتغل بصلاة الليل ونية الوقوف بعرفة والمشعر وهو في حال الصلاة وهكذا ما كان من هذا القبيل وأما لو كانت النيات مشروطة بفعل خارج مثل إقران نية الحج بالتلبية فيشكل نية الحج في أثناء الصلاة.

الثالث : استدلوا بالآية على كفاية استمرار النية حكما لا عينا يعنون انه (ص) في عين اشتغاله بالصلاة وادامة نيتها قد أدى الزكاة بنية الزكاة أيضا ولا يمكن استحضار كلتا النيتين في آن واحد.

وفيه أن الاستحالة المذكورة في حقه غير معلوم.

الرابع : استدلوا بالآية على إطلاق الزكاة للصدقة المندوبة فلو كانت هي الزكاة المفروضة لوجب تقديمها على الصلاة التي هي من الواجب الموسع وفيه أولا انه من الممكن ان إطلاق الزكاة على الصدقة المندوبة من باب المجاز ومن الممكن أيضا ان يكون تأخير الزكاة إلى الحين لمصلحة لازمة ومن الممكن ان التصدق في الوقت التي ضاقت فيها وقت الفريضة أيضا.

(الآية الرابعة)

قال تعالى (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (طه ـ ١٤) بيان ـ الآية الكريمة من جملة خطابه تعالى لموسى بن عمران (ع) ولعل موقف هذا الخطاب عند أول ما تنبأ موسى واختاره تعالى لنبوته واصطفاه سبحانه لمناجاته وكلامه ورسالاته فقد عرف تعالى نفسه في أول كلامه في ما أوحى الى موسى بقوله (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) فأتى في مقام التعبير عن نفسه بضمير المتكلم المتصل المؤكد بالضمير المنفصل وبالجملة الاسمية المؤكدة بأن ليكون موضوع القضية مبينا مصونا عن الالتباس والاشتباه كي يحكم عليه ويخبر عنه انه هو الله

٢٤٦

جل مجده وثناؤه فقوله «الله» اخبار عن الضمير المتصل ونعت وتمجيد له بالالوهية وتوطئة وتمهيد للجملة الثانية التالية المسوقة لبيان الوحدانية على ما سيجيء بيانه عن قريب.

توضيح ذلك أن لفظ الجلالة «الله» مشتق ومأخوذ من إله يأله إلها قال في القاموس : وأصله إله كفعال بمعنى المفعول الى أن قال «والتأله» التنسك والتعبد «والتالية» التعبيد «وإله» كفرح تحير وعلى فلان اشتد جزعه عليه «وإله» فزع ولاذ «وإلهه» اجازه وآمنه انتهى. وقريب منه المحكي عن الصحاح في الوافي عن الكافي مسندا عن هشام بن الحكم انه سأل أبا عبد الله (ع) عن أسماء الله واشتقاقها «الله» مما هو مشتق قال فقال لي يا هشام «الله» مشتق من إله والإله يقتضي مألوها. الحديث.

أقول : فيه اشارة وعناية إلى معناه الاشتقاقي فإنه سبحانه إله كل مألوه وخالق كل مخلوق وفي هذا السياق وفي هذا المعنى روايات اخرى مما يمكن أن يستشهد به في المقام فتحصل ان إطلاق لفظ الجلالة «الله» على الذات الخارج عن الحدين التعطيل والتشبيه انما هو بعناية تحير العقول فيه أو بالعنايات الأخرى التي ذكرناها ـ والفرق بين هذا الاسم الشريف وغيره من أسمائه تعالى ان هذا الاسم من حيث انه حاك عن الذات بلحاظ ما قدمناه من العنايات المذكورة فلا محالة يتصف وينعت بجميع الأسماء الحسنى ولا يوصف واحد من الأسماء به ولا دليل على كونه علما شخصيا واسما جامدا ولا دليل على انه علم للذات المستجمع لجميع صفات الكمال فلا عناية فيه غير العناية الملحوظة في أصل معناه الاشتقاقي وليت شعري بأي عناية أدبية وعلمية يكون هذا الاسم حاكيا عن الذات المستجمع لجميع صفات الكمال ولا يمكن أن يكون علما بالغلبة أيضا فإن استجماع جميع الكمالات في الذات عند الموحدين بحسب البرهان والإيقان لا يوجب ان يكون جميع ذلك مدلولا ومفهوما من «الله» وهذه المغالطة لا تخفى عند المحصلين من أهل البحث والنظر.

قوله تعالى (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا). الآية ـ لما كانت الجملة الأولى مسوقة لإثبات الألوهية للذات فلو كانت هذه الجملة لهذا الشأن أيضا للزم التكرار فلا محالة تكون هذه الجملة مسوقة في مقام تنزيه الذات وتقديسها عن الشريك ونفي الأنداد والأضداد وحيث ان الجملة الأولى بمنزلة الموضوع لهذا التهليل والتقديس فلا محصل لان يكون الثانية لإثبات الموضوع وهي الذات أو للإثبات والنفي معا فعلى ما ذكرنا لا تكون (الا) للاستثناء بل بمعنى الغير وبمنزلة النعت أي لا إله غيري موجود.

قوله تعالى فاعبدني قال في أقرب الموارد وعبد الله عبادة وعبودة وعبودية أطاع

٢٤٧

له وخضع وذل وخدمة والتزم شرائع دينه ووحده. انتهى ما أردناه.

أقول العبادة من أوضح المفاهيم وأظهر الحقائق والمعاني فتفسيرها (بما يقال في الفارسية برستش) تفسير بالاخفى وهي كما صرح به اللغويون من مصاديق التواضع والتذلل فامتثال جميع الأوامر والنواهي المولوية الشرعية عن بعث المولى ونهيه تواضع وخضوع في ساحة المولى وعبادة بالحقيقة وكذلك الإقرار بوجود صانع تعالى وانه حق لا ريب فيه وتقديسة وتنزيهه عن الشريك والند والضد وعن كل ما لا يليق به والثناء عليه وتمجيده وتكريمه بما هو أهله أمر حسن جميل بالضرورة وتواضع له تعالى فمرجع أمره تعالى لموسى بن عمران (ع) بقوله فاعبدني تذكر باحترام ذاته وبالقيام بوظائف عبوديته لله سبحانه وان يتواضع ويخضع له تعالى خضوع الفانين المخلصين فليس الأمر بالعبادة بعد التذكر بذاته تعالى ووحدانيته امرا تشريعيا تعبديا سيما مع التعبير بفاء التفريع في قوله (فَاعْبُدْنِي) قوله تعالى (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) عطف على الجملة السابقة فهل الأمر بإقامة الصلاة في مقام إيجاب الصلاة وتشريعها على موسى وأمته أو في مقام التذكر بوجوب طاعته ما كان مفروضا أو ما سيفرضه عليه من الصلاة ، والظاهر من كلمات المفسرين وكلمات من تعرض من الفقهاء قدس الله أسرارهم بالاستدلال بالآية على وجوب قضاء الفوائت على الفور وكذلك القائلين بعدم الفور وهو الاحتمال الأول على ما سيجيء تفصيله عن قريب إن شاء الله.

والأقرب هو الاحتمال الثاني فإن الظاهر من قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ) هو إقامة الصلاة بحدودها وشروطها المقررة المرسومة بحسب أدلتها لا إيجاب الصلاة ووجوبها وقوله تعالى (لِذِكْرِي) في مرحلة التعليل بالإقامة المذكورة أي ليكون ذاكرا لي فإن الصلاة ذكرا له لأنها تسبيح وتكبير ودعاء وذكر وتهليل ـ الى آخره.

ويحتمل ان يكون بحذف المفعول أي لذكري إياك قال تعالى (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) (العنكبوت ـ ٤٥).

وقد ورد في تفسيرها في رواية أبي الجارود عن الباقر (ع) قال ذكر الله لأهل الصلاة أكبر من ذكرهم إياه الا ترى انه يقول (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (البقرة ـ ١٥٢).

قوله تعالى ((لِذِكْرِي) ـ الآية) في مرحلة التعليل لقوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ) وقيل يمكن ان يكون تعليلا لكلتا الجملتين اعني (فَاعْبُدْنِي) وَ (أَقِمِ الصَّلاةَ) وهذا التعبير وان كان يصلح ان يكون حكمة لتشريع الصلاة الا أن الأمر بإقامة الصلاة قرينة واضحة على انه حكمه للطاعة وللقيام بأمر الصلاة لا تشريعها وإيجابها.

والقرينة الأخرى قوله تعالى في ذيل الآية (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى). (الآية) فإن مجازات كل نفس بسعيها انما تلائم وتناسب

٢٤٨

للطاعات وأعمال العباد لا لتشريع الصلاة وإيجابها لذكره تعالى.

فتحصل في المقام ان الآية الكريمة في مقام الإرشاد إلى إقامة ما كان واجبا من الصلوات حاضرة كانت أو فائتة والروايات الواردة في المقام منطبقة على ذلك كل الانطباق قال في المجمع قيل معناه (أَقِمِ الصَّلاةَ) إذا ذكرت ان عليك صلاتا أكنت في وقتها أو لم تكن عن أكثر المفسرين وهو المروي عن أبي جعفر (ع) ويعضده ما رواه انس عن النبي (ص) انه قال من نسي صلاتا فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها غير ذاك وقرأتم الصلاة لذكري رواه مسلم في الصحيح انتهى. وههنا أقوال لا جدوى في نقلها.

في نور الثقلين ج ٣ ص ٣٧٥ عن الكافي مسندا عن عبيد بن زرارة عن أبيه عن أبي جعفر (ع) قال إذا فاتتك صلاة فذكرتها في وقت آخر فان كنت تعلم انك إذا صليت التي فاتتك كنت من الأخرى في وقت فابدأ بالتي فاتتك فان الله عزوجل يقول (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) وان كنت تعلم انك إذا صليت التي فاتتك فاتتك التي بعدها فابدأ بالتي أنت في وقتها فصلها ثم أقم الأخرى.

أقول : واضح ان الأمر بإتيان ما فات مستند الى قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ) ولا دليل في الآية انها سيقت للتوقيت أي توقيت الفائتة وانما غرض الآية والاستدلال بها لأصل الوجوب وإقامتها بعد فوتها.

ثم ان من قال ان الآية في مقام تشريع الصلاة على موسى وأمته يشكل عليه المخرج من تفسير الآية بهذه الروايات فان موسى لما نام عن صلاته ما نسي وما تركها متعمدا ولا ارغب في الخوض والبحث عن هذا القول والنقض والإبرام فيها ففيما ذكرنا كفاية والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

قوله تعالى (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) الظاهر ان الآية في مرحلة التعليل لقوله تعالى (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) ـ الى آخره ـ وهذا وعد للمتقين بأنه تعالى شكور لا يضيع لديه أجر المحسنين بل يجزى بفضله بالإحسان إحسانا حتى تكون كل نفس لسعيها راضية وفي هذا البيان حث على العمل بما ينتفع به يوم القيامة وقيل انها وعيد للمجرمين أيضا.

أقول : لا تأبى الآية الكريمة عن شمولها وعمومها لوعيد المجرمين الا انها لما كانت في موضع التعليل المذكور بعد الأمر بالعبادة والأمر بإقامة الصلاة لذكر الله سبحانه فلا محالة تكون الآية ظاهرة للوعد في الثواب والجزاء على العبادة والطاعة.

وقد قيل كما في كنز العرفان وغيره أيضا ان في الآية دلالة على ان الجزاء انما هو بما يسعى الإنسان بنفسه لنفسه فلا يفيد سعي أحد لأحد ولا عمله للآخر وبنى على ذلك أصالة عدم صحة العبادة في مورد تولية الغير عبادة الغير في الأحياء فلا

٢٤٩

يستقيم ان يباشر ويتولى وضوء غيره وغسله مثلا وعدم صحة النيابة عن الأحياء والأموات في الواجبات والمستحبات فعليه يكون ما ورد من أدلة الجواز والصحة تخصيصا في عموم الآية ونظير هذه الآية قوله تعالى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) (النجم ـ ٤٠ ـ ٤١).

أقول لا يخفى عدم ظهور الآية في شيء مما ذكروه أما الآية الأولى المبحوثة عنها فليست إلا في مقام الاخبار عن سنة الله الفاضلة الحكيمة وفي مقام الوعد والوعيد أن عمل العاملين المحسنين لا يهلك ولا يبطل عنده سبحانه وكذلك جرم المسيئين لا ينسى ولا يتغافل وليست في الآية دلالة على المدعى نفيا ولا إثباتا وكذلك الثانية فإنها بقرينة ذيلها «وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ـ الى آخر» في مقام التشويق على العمل والإنكار على الكسل والفشل فإنما ينتفع به في القيامة ويوجب رضاء الملك الديان لا ينبغي التسامح فيه والتهاون به ومن هنا يعلم ان الأدلة الدالة على جواز إتيان العمل عن الغير الأحياء والأموات وكذلك تولية عمل الغير لا مساس له بمفاد الآية الكريمة كي تكون مخصصة للآية واتضح أيضا وهن ما عن ابن عباس وعكرمة ان الآية في سورة النجم منسوخة الحكم.

ففي المجمع قال قال عكرمة ان ذلك لقوم إبراهيم وموسى واما هذه الأمة فلهم ما سعى غيرهم نيابة ومن قال انها غير منسوخة الحكم قال ان الآية تدل على منع النيابة في الطاعات الا ما قام عليه الدليل انتهى ما أردناه.

والحق ما ذكرناه في المقام ولا محصل للقول بالتخصيص ولا بالنسخ كما فصلناه.

(الآية الخامسة)

قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) (الفرقان ٦٢) بيان الظاهر ان الضمير في صدر الآية راجع الى الغائب من الحواس والأفكار والأوهام في عين انه ظاهر بذاته وآياته وعلاماته والمتجلي بخلقه خارجا عن الحدين حد التشبيه والتعطيل والآيات تذكرة الى العزيز القدوس الظاهر بذاته لا انها معرفات إياه سبحانه.

قوله تعالى (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) ـ الى آخره ـ الظاهر ان المراد من الجعل في المقام هو الجعل التشريعي لا الجعل التكويني الذي بمعنى خلق الليل والنهار لغايات طبيعية قصدها جاعلهما وخالقهما ومدبرهما بل جعل الله الليل والنهار المجعولين خلفة وهي المجعولة بنص الآية وهي مصدر مثل سبقة ونعمة بمعنى الفاعل اي خلفة يخلف كل واحد منهما صاحبا قوله تعالى (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) وهذا مفعول ثالث لجعل

٢٥٠

بواسطة الجار اي جعلهما خلفة لمن أراد التذكر أو الذكر على ما في بعض القراءات وذكر في الصافي وقرأ بالتخفيف انتهى. والمراد هو مطلق التذكر بالرب سبحانه الحاصل بالتدبر والتفكر في آيات القدرة وعجائب التدبير وأحكام الصنعة والحاصل بسبب الأذكار والتسبيح والتمجيد والركوع والسجود والقراءة أيضا ويتعين هذا المعنى بناء على قراءة التخفيف فمقتضى ظاهر الآية ومحصل معناها انه سبحانه جعل الليل خليفة النهار وبالعكس فيما ينبغي من العمل المطلوب في كل واحد منهما وهذا هو معنى الخلافة والبدلية المجعولة في كل واحد منهما من الله سبحانه فيصح أن يأتي بعمل الليل في النهار وبالعكس والتعبير بما ذكرنا من لفظ الخليفة قد وقع في عبارة المولى المحقق الأردبيلي (قده) أيضا وهذا أقوم ما في الباب من البيان وللمفسرين وجوه أخرى أعرضنا عن ذكرها.

ولا يخفى ان مقتضى البدلية والخلافة المجعولة ان الوقت الخليفة وقت ثان للعمل المطلوب في الوقت الأول ودونه من حيث الفضل والرجحان والعمل مضروب عليهما على هذا النحو.

والظاهر من قوله تعالى (لِمَنْ أَرادَ) ان المراد من الذكر والتذكر ما كان على نحو التطوع والندب فإن الفرائض لا تدور مدار مشيئة الأشخاص وإراداتهم بأن هي مكتوبة عليهم على جميع التقادير وعليهم أن يشاؤوا ويريدوا.

والقرينة الأخرى على الاستحباب شمول الآية وإطلاقها على التذكر الحاصل بالتدبر والتفكر في إيقان التدبر وأحكام النظام أيضا لعدم وجوبه على الإطلاق بل هو راجح وحسن عقلا بالضرورة والقرينة الأخرى التصريح بالشكر لمن أراده فان الشكر ليس واجبا على الإطلاق بالوجوب الشرعي التعبدي وان أبيت عما ذكرنا من البيان فنقول ان شمول الآية لفائتة الفرائض غير ظاهر فان مقتضى الأدلة الواردة في أوقات الفرائض انها مضروبة على تلك الأوقات ولا خليفة مجعولة لها ولا بدلا فلا بد لمن يقول بشمول هذه الآية للفرائض وقضائها التكلم فيها والجمع بين هذه الآية والأدلة الدالة على توقيت الفرائض بأوقاتها الخاصة لها والروايات الواردة على كثرتها بين مصرحة انها في النوافل وبين ما هو شديد الانطباق بمفاد الآية ولا عموم ولا إطلاق في البين كي يؤخذ بهما لدرج الفرائض في مدلول الآية ولو كان هناك توهم إطلاق وإجمال فلحن الآية الكريمة رافع لإطلاقها وإجمالها ومن العجيب ان بعضا من المفسرين بعد تفسير الآية بفائتة الليل والنهار اشتغل ببيان عدة من الفروع الراجعة إلى قضاء الفرائض. وأعجب منه ما عن بعض الأعيان قال واستدل بها على مشروعية فعل فائت الليل نهارا والعكس فان معناها الليل خليفة النهار فيما يصح أن يقع فيه وبالعكس وفهمه من مشكل مجردها.

٢٥١

أقول لعل الإشكال في نظره ان القراءة المعروفة أن يذكروا التذكر بعيد الصدق على النوافل إلا بمعونة الروايات وأنت قد عرفت ان الآية مطلقة من حيث الأسباب الموجبة للتذكر وله تعالى الحمد كما هو أهله.

قال تعالى (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) ـ الآية ـ التوبة (٥).

بيان : الظاهر ان المراد من الأشهر الحرم هي الأشهر المذكورة في صدر السورة وهو قوله تعالى (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ). الآية التوبة ومبدأ مدة الأمان المذكورة يوم النحر بمنى في ذي الحجة ومنتهاه عشرة مضين من الربيع الآخرة في سنة التسع من الهجرة وخلاصة القصة أن رسول الله (ص) بعث أبا بكر بسورة البراءة ليقرأها في الموسم ثم نزل عليه جبرائيل وقال انه لا يؤدي عنك الا رجل منك فعزل رسول الله (ص) أبا بكر وأمر عليا (ع) ان يأخذ السورة منه ويقرأها على الناس في الموسم فأخذها علي وقرأها على المشركين في يوم النحر وأيام التشريق واخترط سيفه وأعلن ونادى وقال لا يطوفن بالبيت عريان ولا يحجن البيت مشرك ومن كانت له مدة فهو الى مدته ومن لم يكن له مدة فمدته أربعة أشهر. القصة».

وقيل ان المراد من الأشهر هي الأشهر الحرم في لسان القرآن في قوله تعالى (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً). (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) الآية وهو رجب مفرد وذي القعدة وذي الحجة ومحرم متواليا على اختلاف في رجب وان مدة الايمان كانت خمسون يوما والا ظهر ما ذكرناه وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) وقيل أيضا أن يوم النحر في سنة التسع من الهجرة كان في عاشر ذي القعدة بناء على السنة السيئة عند العرب من النسيء في الأشهر الحرم فنسخها وأبطلها قوله تعالى (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) الآية التوبة. وفي سنة العاشر من الهجرة حج رسول الله (ص) حجة الوداع وكان في ذي الحجة واستقر الحج على ذلك ونسخت السنة الجاهلية.

قوله تعالى (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ). الآية استدل بهذه الآية على وجوب قتل تارك الصلاة مستحلا لتركها تقريب الاستدلال انه تعالى أمر بوضع السيف وهم مشركون مستحلون بترك الصلاة ورتب رفع السيف عنهم على أمور ثلاثة التوبة من الشرك واقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وبديهي ان الرفع لا يتحقق الا بتحقق الأمور الثلاثة فعدم تحقق كل واحد منها كاف في حكم القتل وإيجابه وهو المطلوب أقول فيه

٢٥٢

أولا ان انتفاء كل واحد من الثلاثة لو قلنا به انما هو في بقاء الحكم المحقق من أجل الشرك وهو لا يستلزم إيجاب القتل لو لم يكن واجبا من قبل بعبارة أخرى المطلوب هو إيجاب القتل حدوثا لا إبقاء وثانيا ذكر بعض المفسرين ان المراد في الآية القبول والالتزام بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ومحصل المعنى ان من ترك الشرك والتزم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فقد أسلم وحقن دمه.

(الآية السابعة)

قال تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة (٢١). قد استدل بالآية ان الكفار مكلفون بالفروع كما انهم مكلفون بالأصول.

أقول مورد البحث والنزاع هو الأحكام الشرعية التعبدية لا الأحكام العقلية والا بطل الدين والايمان بالله وتوحيده ولعل مراد القائلين بتوجيه الخطاب نحو الكفار هو التوجيه بلحاظ العقاب لموهونية خطاب من لا يؤمن بالله ورسله وكتبه بالفروع وعدم صحة الفروع منه بخلاف توجيه العقاب فان الممتنع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

وتقريب استدلالهم ان الناس عام شامل للمؤمن والكافر وقد أمرهم جميعا بالعبادة بقوله اعبدوا وكذلك قوله لعلكم تتقون على ما سيجيء توضيحه».

لا يخفى ضعف الاستدلال المذكور فإن العبادة لله هو التذلل والتواضع فلا يكون الأمر بالعبادة امرا مولويا تعبديا وانما يكون متعلق قوله اعبدوا ما كانت عبادة من قبل أوامرها سواء كانت في المستقلات من الواجبات والمحسنات والمحرمات العقلية أو الشرعية فطبيعة الصلاة بعد تعلق الأمر بها تصير من مصاديق العبادة في مرتبة امتثال أمرها فتحصل في المقام ان قوله تعالى (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) لا يفيد تكليفا شرعيا مولويا بل هو أمر إرشادي شامل لجميع الواجبات والمحسنات وكذا المحرمات العقلية والشرعية والأمر الإرشادي يدور مدار الأمر المرشد إليه.

فالآية الكريمة في مقام التذكر بالله سبحانه ووجوب التواضع في ساحته وترك الاستكبار في قبال كبريائه ووجوب الاتقاء عن مساخطه والاجتناب عن الإهانة والمداهنة في شئون ربوبيته فان قوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) يفيد رجائه تعالى التقوى من عباده ورجائه تعالى إيجاب للتقوى وإرشاد الى ما هو الواجب ببداهة العقل فالاستدلال بالآية على المدعي ساقط وقد أكثروا في الاستدلال على هذا المدعي من الآيات والروايات أعرضنا عن ذكرها لضيق المجال والله الهادي.

(في أحكام ما عدا اليومية من الصلاة)

(الآية الأولى)

قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ

٢٥٣

مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الجمعة ـ ٩) تخصيص الخطاب للمؤمنين قيل لأنهم المنتفعون به واما عند من لم يل بصحة تكليف الكافر حال كفره فالأمر عنده أهون.

قوله تعالى (إِذا نُودِيَ) ـ إلى آخره ـ الظاهر ان المراد هو الآذان والإعلان بميقات الصلاة وإقامتها. قوله تعالى (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) قيل ان من بيان لأداء الجمعة كان معروفا عند المخاطبين وقت النزول وذكر بعض المفسرين وجه تسمية الجمعة جمعة وذكروا مبدأ تسميتها ولا يخفى ان تفسير الآية لا يحتاج الى ذكرها.

قوله تعالى (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) قال في القاموس يسعى سعيا كرعي قصد وعمل ومشى وعدا ونم وكسب وسعا به باشر عمل الصدقات انتهى. أقول قد توهم بعض ان المراد من السعي هو العدو وتكلف في الجمع بين الآية وبين ما يدل على استحباب المشي على سكينة في البدن ووقار في النفس فلا يخفى عدم تعين السعي في العدو بل الظاهر هو القصد والمشي ولعل العناية في لفظة السعي هو الاهتمام وتحصيل الفراغ في الميقات المعهود وذكر الله هو الصلاة ولا مانع من شموله لتعقيب الصلاة من التسبيح والتحميد والخطبة. قوله تعالى (وَذَرُوا الْبَيْعَ) اي اتركوه بالمعنى الاسم المصدري أي ما حصل بالعقد وتبديل العوضين والسلطة الخارجية عليهما لا المعنى المصدري فالظاهر بطلان البيع في الأول دون الثاني فإن حرمة العقد وهو السبب للسلطة الخارجية على العوضين لا ينافي جواز السلطة الخارجية على العوضين في فرض وقوع العقد الحرام.

قوله تعالى (ذلِكُمْ) أي السعي إلى ذكر الله وترك البيع.

إذا تقرر ذلك فنقول الآية الكريمة غير مسوقة في مقام بيان جعل الحكم وإنشاء الفرض بل في مقام الحث والتأكيد على اقامة ما كان مجعولا ومشروعا قبل النزول نعم الآية الكريمة كاشفة ان المندوب إلى إقامتها وطاعتها تشريع فرض سابق على وقت النزول ولا دلالة فيها ان المفروض صلاة خاصة بعينها ولم يتبين فيها حدود وشروط غير انها يوم الجمعة والناس مشتغلون في أسواقهم ومعاملاتهم فتنطبق على الظهر أيضا الا أن الأدلة المنفصلة قد قامت ودلت على ان المراد صلاة الجمعة والنداء يوم الجمعة إليها والتعبير عن الصلاة بالذكر لاشتمالها عليه ولبيان أهمية الصلاة وحكمتها والذي يوضح ما ذكرنا ان الآية ليست في مقام التشريع ما ذكره المفسرون ان رسول الله (ص) ورد قباء حين عزم عن مكة مهاجرا إلى المدينة واقام فيها أيام ولما انفصل منها أدركته الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فنزل وخطب وجمع بهم في أول جمعة جمعها رسول الله (ص) في الإسلام ونزلت سورة الجمعة

٢٥٤

بعد الحجرات والتحريم وهي السورة الثالثة والعشرين من السور النازلة في المدينة.

فاتضح بما ذكرنا ان وجوب السعي يوم الجمعة وجوب مقدمي لأجل الذكر ودركه وهو الصلاة وهو غير وجوب الصلاة وتشريعها بحسب أدلتها والإطلاق في وجوب السعي لا يدل على إطلاق فرض الصلاة بحسب حدودها وقيودها وانما تدل على وجوب السعي إذا أقيمت لأعلى وجوب السعي إليها ووجوب إقامتها كيفما اتفق.

قال العلامة : المجلسي (في البحار ١٨ ص ٧٥٩) لا ريب في نزول هذه الآيات وهذه السورة في صلاة الجمعة وأجمع مفسروا الخاصة والعامة عليه بمعنى تواتر ذلك عندهم والشك فيه كالشك في آية الظهار في الظاهر وغيرها من الآيات والسور التي مورد نزولها معلوم انتهى.

قلت نعم هو كذلك الا انها لم تكن لتشريع صلاة بعينها وانما تأمر وتأكد في حضور الجماعة يوم الجمعة مسجد الرسول (ص) معه ومورد النزول لا يكون مخصصا للآية وقياس هذه الآية مع آية الظهار في غير محله كما لا يخفى وغاية ما يمكن ان يقال في الاستدلال بالآية ان مورد النزول من أظهر مصاديق الآية وهي بعد قابلة الانطباق على صلاة الظهر أيضا والتخصيص بالجمعة انما هو بمعونة الروايات والأدلة الخاصة المنفصلة لا بحسب دلالة الآية فالعمدة في هذا الباب الروايات الشارحة لمورد نزول الآية وتخصيصها بالجمعة وبيان حدود هذه الفريضة وشرائطها ومن العجيب ما في الحدائق وقد بالغ وأصر في استفادة الوجوب من الآية وغفل ان الوجوب ضروري عند علماء الإسلام والآية في مرحلة سوق الناس الى امتثال الواجب على ما شرحناه.

ولو أغمضنا عما ذكرنا من البيان فالإطلاق المذكور لا يمكن الأخذ به قبل الفحص عن المخصصات والحدود فلا جدوى في التمسك بالإطلاق في إيجاب صلاة الجمعة على جميع التقادير بالنسبة إلى قيودها وشروطها ومما ذكرنا يعلم حال الأخبار الواردة المسوقة لتشريع صلاة الجمعة ووجوبها فان جميع ما في هذا الباب من اشتراط العدد وحضور الإمام أو مأذونه الخاص أو العام على ما ذكره بعض الأعيان وقرائن الاستحباب غير معارضة لهذه المعلومات والمطلقات بل مخصصة وشارحة لها نعم لم نظفر بشيء من المقيدات فلا مناص من الأخذ بالعموم.

في الوسائل عن الصدوق مسندا عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال انما فرض الله عزوجل على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمسا وثلاثين صلاة واحدة فرضها الله عزوجل في جماعة وهي الجمعة ووضعها عن تسعة عن الصغير والكبير والمجنون والمسافر والعبد والمرأة والمريض والأعمى ومن كان على رأس فرسخين. ونحوها روايات أخرى صريحة في إفادة الوجوب فان قيل ان صلاة الجمعة كانت

٢٥٥

سنة مستمرة دائرة من زمن الرسول إلى أواخر سنين العباسيين وهذه الروايات ناظرة الى ما كل في الخارج من السنة المستمرة فكان وجود الامام عادلا كان أو جائرا شرط مسلم مفروغ عنه عند المخاطبين فلا عموم فيها ولا إطلاق من حيث اشترط العدد والامام وغيرهما من الشرائط. قلت كلا فإنها ليست قضايا شخصية ناظرة الى ما في الخارج ولا مانع من التعويل فيها على قرينة منفصلة من حيث الشروط لهذا الوجه لا يصلح لتقييد هذه المطلقات إذا تقرر ذلك فيقع الكلام في مقامين الأول في الفحص والكلام في المخصصات والثاني في الكلام عن قرائن الاستحباب لهذه العمومات اما المقام الأول في الفحص والبحث عن المخصصات والشروط لهذه الفريضة قال في كنز العرفان السلطان العادل شرط في وجوبها وهو إجماع علمائنا انتهى أقول قد عرفت مما تلونا عليك من رواية زرارة عن الباقر (ع) وأشرنا الى ما في سياقها من الروايات الدالة على الوجوب ان صلاة الجمعة من الفرائض المسلمة بحسب الكتاب والسنة وعمدة ما يدعى فيها من تقيد إطلاق هذه الروايات اشتراط الإمام في وجوبه ولعل المراد من قولهم اشتراط وجوبه بالإمام كما ذكره في كنز العرفان اشتراط الواجب لا اشتراط الوجوب فان معنى اشتراط الوجوب بوجود الامام وحضوره هو انتفاء الوجوب عند عدم حضوره أو تعذر إقامتها عليه بخلاف اشتراط الواجب فان معناه ان الفريضة شرعت على الإطلاق ويجب على الامام عقد الجمعة وإقامتها ويجب على الناس الحضور عنده واقامة الجمعة معه ولا يجب على أحد التصدي بهذا الأمر واقامة الجمعة إلا بأمره واذنه بل يحرم عليه ذلك ولا مجال لبسط الكلام في هذه المسألة إلا أنا نشير إليها والى أدلتها ملخصا.

فقد استدل من طرف القائلين بالاشتراط بوجوه :

الأول الإجماع المنقول وهذا الإجماع وان تكرر في كلمات عدة من الأعاظم الا ان الظاهر انه تقيدي يدور اعتباره مدار الأدلة التي صارت منشأ للإجماع المذكور فلا يصح هذا الإجماع لتقييد الأدلة المطلقة المذكورة.

الثاني استبعادهم انه لو كانت الجمعة فريضة في عداد سائر الفرائض دون اشتراط الإمام في صحة إقامتها لوجب على النبي والخلفاء والأئمة سوق الناس إليها والعمل بها والاقدام بتعليمها ونشرها في البلاد الإسلامية والقرى والبوادي والحال ان الناس لا يعرفون من هذه الفريضة الا انها من الشعائر الإسلامية القائمة لشخص الخليفة.

قلت هذا لا ريب فيه إجمالا الا انه لا يعد دليلا فقهيا يصح لتقييد الروايات وهذا الذي ذكرت من مفاسد غصب الخلافة حيث ان أمير المؤمنين (ع). والعلماء الراسخين من آله لم يتمكنوا من تعليم الأحكام ونشرها ـ وبسط المعارف والحقائق

٢٥٦

على ما هو حقها وقد أظلمت علوم الإسلام بالآراء والأهواء ومداخلة الخلفاء الجهلة والمتشبهين بالعلماء الذين يأكلون معهم الدنيا وكم لهذه المسألة من النظائر وخاصة هذه المسألة التي هي من شئون امامهم.

الثالث ما ذكرناه في صدر العنوان ان هذه المطلقات والعمومات إنما ألقيت على الناس وكانت السيرة المستمرة الدائمة القائمة عندهم إقامة الجمعة مع السلطان فكانت هذه السيرة قرينة قاطعة للمراد بهذه الروايات بحيث كانوا في غناء عن ذكر هذا الشرط فلا إطلاق ولا عموم فيها كي يحتاج الى التقييد والتخصيص. قلت قد ذكرنا ان هذا الاستظهار والاستنباط ليس قرينة عامة يعتمد عليها في مقام المحاورة وقد ذكرنا ان من هذه الروايات بعضها قضية حقيقية من دون نظر الى أشخاص وأحوال خارجية وبعبارة أخرى عمومات في معرض التخصيص فلو لم نظفر بقيد ولا شرط لوجب تحكيم عمومها فلا يجوز تقييدها بما ارتكز في أذهان الناس من السيرة المستمرة عندهم من اقامة الجمعة مع الخلفاء أو ممن كان منصوبا من قبلهم وبعضها قد وردت في موارد مختلفة في جواب سؤال السائلين أو مطلقا الا ان السيرة المستمرة لا تصلح لان تكون قرينة عامة في جميعها بحيث يعتمد عليها في المحاورات بحسب المقامات المختلفة.

الرابع عدة من الروايات التي استظهروا منها اشتراط صحة اقامة هذه الفريضة بوجود الامام وأصرح ما في هذا الباب وعمدتها ما في الصحيفة المباركة السجادية في الدعاء الثامن والأربعين حيث قال اللهم ان هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ومواضع امناءك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزوها. الدعاء. قوله (ع) هذا إشارة إلى المقام والقيام الظاهري والتصدي لأمر الجمعة والأعياد واقامة الشعائر المرسومة فيها المختصة بهم من الله سبحانه.

والدرجة الرفيعة هي الشؤون الخطيرة الخاصة بمقام الامارة والخلافة اختصوا بها تشريعا وتكوينا ومكنوا منها بتمكينه تعالى إياهم منها قوله «قد ابتزوا» بالبناء للمفعول اي سلبوها فعن الزمخشري قال في الأساس بز ثيابه سلبه انتهى.

وفي القاموس أخذ الشيء بجفاء وقهر كالابتزاز انتهى.

وليس المراد في الدعاء ابتزاز ما امتن الله به على مقام الخلافة من الحقائق المعنوية التكوينية فإنها من المعارف الواقعية والكمالات الحقيقية فمقامها أعلى وأرفع من أن تصل إليها أيدي الواثبين السارقين كيف وقد خصهم الله ببرهانه واصطفاهم لنوره وأيدهم بروحه.

وقد تبين مما ذكرنا من شرح الدعاء المباركة وجه استدلالهم بهذه الفقرة منها في

٢٥٧

صحة صلاة الجمعة وفيه ان هذا التصريح باختصاصهم بإقامة هذه الفريضة ووجوب الحضور معهم فلا دلالة فيها على سقوطها عند تعذر إقامتها عليه أو غيبته (ع) عنها وبعبارة أخرى أوجب سبحانه عليهم وخصهم بإقامة هذه الفريضة وحضور الناس معهم أيضا فلا يجوز ان يتقدمهم أحد وعزلهم عن المراتب التي رتبهم الله فيها ومكنهم منها سيما في المشهد العظيم ولهم في هذا الاحتفال الكبير والملأ العام شئون خطيرة أخرى من رتق الأمور وفتقها وسوق الخطابة الى الناس وبيان الحقائق الرهينة بوجودهم وحضورهم من التذكر بالله سبحانه وبشيء من نعوت جلاله وكبريائه والوصية بالاتقاء في حضوره والمراقبة لجلالة والانذار والتخويف من مشهد القيامة ومواقفها سيما موقف العرض الأكبر على الله سبحانه فسياق الدعاء المباركة إثبات هذا المقام لهم والالتجاء والشكوى اليه تعالى من تغلب الظالمين والأشرار على مقام الأبرار وهضم حقوقهم وتبديل الأحكام وتحريف الفرائض ونبذ الكتاب وترك السنن ثم التقرب الى الله باللعن عليهم والبراءة وإظهار التنفر من أعمالهم.

واما الاستدلال بها على سقوط هذه الفريضة وأمثالها من الوظائف الموكولة إلى الرسول والامام بتغلب الظالمين عليها فغير ظاهر فيلتمس من أدلة أخرى وقد أعرضنا عن إيراد غيرها من الروايات التي ذكروها في المقام لضعف ظهورها وضعف الاستدلال بها على المدعى بديهة ان الاستدلال بها متوقف على استظهار ان وجود الرسول (ص) والامام (ع) شرط للوجوب الا انها شرط للواجب كما هو الظاهر ولعله المراد من ما رواه في الوسائل بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال صلاة الجمعة فريضة والاجتماع إليها مع الإمام فريضة. الحديث. فان قيل لو أغمضنا عما ذكرنا من الوجوه الدالة على اشتراط الإمام في صحة إقامة الجمعة وأغمضنا عن الروايات الواردة في الاشتراط فلا دليل على مشروعيتها ورفع اليد عن فريضة الظهر فإن أقصى ما تدل عليه الآية الكريمة وما في سياقها وجوب السعي إليها والحضور عند إقامتها لو أقيمت على شرائطها فعلى القائلين بعدم الاشتراط في صحة إقامتها إثبات جوازها ومشروعيتها فليس هناك عموم أو إطلاق كي يتمسك في تصحيح هذه الصلاة ومشروعيتها.

قلت نعم الآية الكريمة وما في سياقها من الروايات كما أشرنا إليه سابقا لا تدل الا على وجوب السعي والحضور بالوجوب المقدمي في مرتبة امتثال الواجب لو أقيمت على شرائطها المقررة الا ان هناك من الاخبار ما سيقت الاخبار عن تشريعها على نحو الإطلاق في تشريعها في عداد تشريع سائر الفرائض مثل رواية زرارة المتقدمة التي أوردناها عن الوسائل قال (ع) فرض على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمسا وثلاثين صلاة منها صلاة واحدة فرضها الله في جماعة وهي الجمعة. الحديث.

٢٥٨

والرواية كما ترى ظاهرة في بيان حيث التشريع لا لإفادة وجوب السعي والحضور فهذه الرواية ونظائرها بإطلاقها الصريح بعد الفحص عن المقيدات وقرائن الاستحباب كافية في إثبات الجواز والمشروعية ويأتي مزيد توضيح لذلك فانتظره.

المقام الثاني اعلم ان في مقابل القول باشتراط الإمام أو منصوبة في صحة صلاة الجمعة قولا بالوجوب التعيني ومنشأ هذا القول على ما زعموا الآية الكريمة وما في سياقها من الروايات طائفة أخرى من الروايات المطلقة التي قد أشرنا إليها أنها سيقت للأخبار عن أصل تشريعها والإنباء بوجوبها فقد عرفت ان الآية الكريمة وما في سياقها من الروايات أجنبية عن افادة الوجوب واما المطلقات التي ذكرناها وقلنا انها كافية في إثبات المشروعية والجواز في مقابل القائلين باشتراط الامام واحتمال التحريم فبديهي ان التمسك بها والأخذ بإطلاقها لإثبات التعيني متوقف على الفحص عن مقيداتها وعما يعارضها أو ما يصلح ان يكون قرينة وشارحة لما يراد عن تعبير الفرض المذكور فيها.

في الوسائل عن الشيخ مسندا عن زرارة قال حثنا أبو عبد الله (ع) على صلاة الجمعة حتى ظننت انه يريد ان نأتيه فقلت نغدو إليك قال لا انما عنيت عندكم.

أقول الحث والتأكيد والترغيب إنما يلائم ويناسب الأمر المندوب والراجح الذي كان متروكا عند المخاطب ولو كان زرارة عاملا بها لكان المناسب التقدير والتشكر والمدح وكذا لو كان واجبا متروكا لكان المقام مقام الانذار والتخويف ولا يخفى ان أحن هذه الرواية ونظائرها ليس لحن الإجازة والاذن كما في بعض الكلمات بل لحنها لحن الجواز والاستحباب ، وبيان واقع الأمر وسوق أفاضل أصحابهم الى المكارم والفضائل.

وفيه أيضا عن الشيخ بإسناده عن محمد بن مسلم قال سألته عن أناس في قرية هل يصلون الجمعة جماعة قال نعم يصلون أربعا إذا لم يكن من يخطب.

أقول الاستفتاء عن إقامة الجمعة جماعة فأفتى (ع) بالجواز إذا كان فيهم من يخطب ولو كانت واجبة لوجب عليهم تعلم الخطبة أو إحضار من يحسنها فلو لم يكن فيهم خطيب فعليهم ان يصلوا أربعا سواء مكنوا من إحضار الخطيب أو مكنوا من تعلمها.

وفيه عن الفضل بن عبد الملك قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول إذا كان قوم في قرية صلوا الجمعة أربع ركعات وإذا كان لهم من يخطب لهم جمعوا إذا كانوا خمس نفرا وانما جعلت ركعتين مكان الخطبتين.

وتقريب الاستدلال فيها كما مر وفيه أيضا عن الشيخ عن زرارة بإسناده عن عبد الملك عن أبي جعفر (ع) قال مثلك يهلك ولم يصل صلاة فرضها الله قلت كيف اصنع قال صلوا جماعة يعني صلاة الجمعة.

٢٥٩

أقول الرواية الشريفة من أصرح ما في هذا الباب فان توبيخه (ع) عبد الملك ليس لأنه عصى الله في ترك فريضة من فرائض الله من أول عمره الى ان يموت بل عتابه ليس الا انه ترك امرا راجحا لا يليق بمثله من حملة الفقه والحديث ولذا استفسر عبد الملك بقوله كيف أصنع فأفتى (ع) بقوله صلوها جماعة ولا احتياج في تتميم الاستدلال بقوله يعني صلاة الجمعة حتى يقال ان هذه الجمعة لعلها من كلام الراوي وغير خفي عند الفقيه انه لا تعارض ولا تكاذب بين هذه الطائفة من الروايات وبين ما دل على الإيجاب المطلق بل هذه قيد لإطلاقها وشرح لإجمالها وإفادة أنها فريضة من فرائض الله أيضا فتحصل من جميع ما ذكرنا ان المستفاد من روايات الباب الحث والترغيب على صلاة الجمعة وعقدها وترجيحها على صلاة الظهر لا تقييد إطلاق أدلة صلاة الظهر بل الأدلة باقية على إطلاقها بعد ولا دليل على تقييد هذه الفريضة بما عدا يم الجمعة وله الحمد كما هو أهله.

(الآية الثانية)

قال تعالى (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ). الجمعة / ١٠.

قال في مرآت الأنوار ص ٢٨١ القضاء مدا وقصرا لمعان منها الحكم والحتم والبيان والفصل والموت والفراغ وقيل مرجع جميع معانيه الى انقطاع الشيء وتمامه. انتهى.

أقول الظاهر في المقام هو التمام والانتهاء واللام في قوله تعالى «الصلاة» للعموم بحسب الظهور وقال في كنز العرفان انها للعهد ومراده هي الصلاة التي وجب السعي إليها وفيه ان المورد لا يصلح ان يكون مخصصا لعموم الآية وسنزيد لذلك توضيحا فانتظر.

قوله تعالى (فَانْتَشِرُوا). الآية قال في كنز العرفان اختلف الأصوليون في الأمر الوارد عقيب النهي هل هو للوجوب أو للإباحة الرافعة للحظر واحتج أصحاب القول الثاني بهذه الآية وهي فانتشروا في الأرض فإنه أطلق لهم ما حرمه من المعاملة والانتشار ليس بواجب اتفاقا انتهى وقريب منه عبارة البيضاوي والكشاف ويقرب منه ما أفاده المولى المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) الا انه قال بعد ذلك ويحتمل الوجوب في بعض الأحيان مثل الكسب للنفقة الواجبة انتهى.

أقول الحق في المقام ان الأمر ليس بعد النهي والتحريم بل بعد العبادة والفراغ منها فالفاء في قوله تعالى (فَانْتَشِرُوا) وقعت في جواب إذا والأمر بالانتشار سيما بمعونة قوله تعالى (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) ظاهر في إفادة الحث والترغيب وإطلاق الأمر وان كان يقتضي الإيجاب الا ان انعقاد الإطلاق متوقف على استقصاء الفحص عن

٢٦٠