التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0693-0
الصفحات: ٣٥٥

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧))

٣

٤

تفسير

سورة الشّورى

٥
٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مقدّمة

١ ـ سورة «الشورى» هي السورة الثانية والأربعون في ترتيب المصحف ، وكان نزولها بعد نزول سورة «فصلت». وعدد آياتها ثلاث وخمسون آية.

وتسمى ـ أيضا ـ سورة (حم عسق) ، لافتتاحها بذلك.

والرأى الصحيح أن سورة الشورى من السور المكية الخالصة. وقيل هي مكية إلا أربع آيات منها تبدأ من قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى).

ولكن هذا القيل لا يعتمد على دليل صحيح ، بل الصحيح أن السورة كلها مكية.

٢ ـ وتبدأ سورة الشورى ببيان أن الله ـ تعالى ـ قد أوحى إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أوحى إلى غيره من الأنبياء ، وببيان مظاهر قدرته ـ عزوجل ـ ، وأنه ـ تعالى ـ قادر على أن يجعل الناس أمة واحدة.

قال ـ تعالى ـ : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً ، وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ ، وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).

٣ ـ وبعد أن أنكر ـ سبحانه ـ على المشركين إشراكهم ، وساق الأدلة على بطلان هذا الشرك ، وأمر بالرجوع إلى حكم الله ـ تعالى ـ فيما اختلفوا فيه.

بعد كل ذلك بين ـ سبحانه ـ أن الشريعة التي جاء بها الأنبياء واحدة في جوهرها ، وأن تفرق الناس في عقائدهم ، مرجعه إلى بغيهم وأهوائهم.

قال ـ تعالى ـ : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى ، أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ، كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ، اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ).

٤ ـ ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن مظاهر نعم الله ـ تعالى ـ على عباده ،

٧

عن طريق ما أودع فيهم من عقول : وما أنزله لهم من شرائع ، وما حباهم به من أرزاق ...

ووبخت الكافرين على كفرهم مع كل هذه النعم التي أنعم بها عليهم ، وبينت ما سيكونون عليه يوم القيامة من حسرة وندامة ، وما سيكون عليه المؤمنون الصادقون من فرح وحبور.

قال ـ تعالى ـ : (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ. ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ، وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ).

٥ ـ ثم واصلت السورة حديثها عن مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ وعن ألوان نعمه على خلقه ، فتحدثت عن فضله ـ تعالى ـ في قبوله لتوبة التائبين ، وعفوه عن سيئاتهم ، وإجابته لدعائهم وإنزاله الغيث عليهم من بعد قنوطهم ويأسهم ، وخلقه السموات والأرض وما فيهما من أجل مصلحة الناس ومنفعتهم ، ورعايته لهم وهم في سفنهم داخل البحر.

قال ـ تعالى ـ : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ. إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ. أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ).

٦ ـ ثم بين ـ سبحانه ـ صفات المؤمنين الصادقين ، وأثنى عليهم ثناء عاطرا ، يحمل العقلاء على الاقتداء بهم ، وعلى التحلي بصفاتهم.

قال ـ سبحانه ـ : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ ، وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ. وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ ، وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ، وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ، فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ).

٧ ـ وكعادة القرآن في المقارنة بين عاقبة الأشرار وعاقبة الأخيار ، أتبع القرآن هذه الصفات الكريمة للمؤمنين ، ببيان الأحوال السيئة التي سيكون عليها الظالمون يوم القيامة ، ودعتهم إلى الدخول في الدين الحق من قبل فوات الأوان.

قال ـ تعالى ـ : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ، ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ).

٨ ـ ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ببيان جانب من مظاهر فضله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال :

٨

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا ، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ).

٩ ـ ومن هذا العرض الإجمالى لآيات سورة الشورى. نراها زاخرة بالحديث عن الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، وعلى صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ.

كما نراها زاخرة ـ أيضا ـ بالحديث عن نعم الله على عباده ، وعن حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة المكذبين وعن مشاهد يوم القيامة وما فيه من أهوال. وعن شبهات المشركين والرد عليها بما يدحضها.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

المؤلف

د. محمد سيد طنطاوى

١١ / ١٠ / ١٩٨٥

٩
١٠

التفسير

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (٦)

سورة «الشورى» من السور التي افتتحت ببعض حروف التهجي ، وقد سبق أن ذكرنا أن أقرب الأقوال إلى الصواب في المقصود بهذه الحروف ، أنها وردت في افتتاح بعض السور على سبيل الإيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن.

فكأن الله ـ تعالى ـ يقول لأولئك المعارضين في أن القرآن من عند الله : هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هي من جنس الحروف الهجائية التي تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم في شك من أنه منزل من عند الله ، فهاتوا مثله أو عشر سور من مثله ، أو سورة من مثله .. فعجزوا وانقلبوا خاسرين ، وثبت أن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ :

وقد ذكر بعض المفسرين عند تفسيره لهذه السورة آثارا واهية ، رأينا أن نذكر بعضها للتنبيه على سقوطها.

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : وقد روى الإمام ابن جرير هاهنا أثرا غريبا عجيبا منكرا ، فقال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال له ـ وعنده حذيفة بن اليمان ـ أخبرنى عن تفسير قول الله ـ تعالى ـ : (حم عسق). فأطرق ابن عباس ثم أعرض عنه.

١١

فقال حذيفة للرجل : أنا أنبئك بها ، قد عرفت لم كرهها؟ نزلت في رجل من أهل بيته يقال له : «عبد الإله» أو عبد الله ، ينزل على نهر من أنهار الشرق ، تبنى عليه مدينتان ، يشق النهر بينهما شقا. فإذا أذن الله في زوال ملكهم .. بعث الله على إحداهما نارا ليلا .. ثم يخسف الله ـ تعالى ـ بالأخرى فذلك قوله (حم. عسق).

يعنى : عزيمة من الله وفتنة وقضاء حمّ (حم) ، وعين ، يعنى عدلا منه ، وسين : يعنى سيكون. وق ، يعنى : واقع بهاتين المدينتين .. (١).

والكاف في قوله ـ تعالى ـ : (كَذلِكَ) بمعنى مثل ، واسم الإشارة يعود إلى ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة من عقائد وأحكام وآداب.

أى : مثل ما في هذه السورة الكريمة من دعوة إلى وحدانية الله ، وإلى مكارم الأخلاق ، أوحى الله به إليك وإلى الرسل من قبلك ، لتبلغوه للناس كي يعتبروا ويتعظوا.

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) كلام مستأنف ، وارد لتحقيق أن مضمون السورة ، موافق لما في تضاعيف الكتب المنزلة ، على سائر الرسل المتقدمين في الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق.

والكاف مفعول (يُوحِي) أى : يوحى مثل ما في هذه السورة من المعاني.

وجيء بقوله : (يُوحِي) بدل أوحى للدلالة على استمراره في الماضي ، وأن إيحاء مثله ، عادته ـ تعالى ـ :

و (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صفتان له ـ عزوجل ـ (٢).

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ، وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (٣).

ثم ذكر ـ سبحانه ـ صفات أخرى لذاته فقال : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ).

أى : لقد أوحى الله ـ تعالى ـ إليك ـ أيها الرسول الكريم ـ بهذا القرآن كما أوحى إلى الرسل من قبلك بما شاء من وحى ، وهو ـ سبحانه ـ العزيز الذي لا يغلبه غالب ، الحكيم في

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ١٧٧.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٥ ص ١١.

(٣) سورة النساء آية ١٦٣.

١٢

كل أقواله وأفعاله ، والذي له جميع ما في السموات وما في الأرض خلقا وملكا وتصرفا .. وهو ـ سبحانه ـ (الْعَلِيُ) أى : المتعالي عن الأشباه والأنداد والأمثال والأضداد.

(الْعَظِيمُ) أى : في ذاته وفي صفاته ، وفي أفعاله.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر علو شأنه وكمال عظمته وجلاله فقال : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ).

والفعل (تَكادُ) مضارع «كاد» الذي هو من أفعال المقاربة. وقوله (يَتَفَطَّرْنَ) أى : يتشققن. والضمير في قوله ـ تعالى ـ : (مِنْ فَوْقِهِنَ) يعود إلى السموات ، باعتبار أن كل سماء تنفطر فوق التي تليها.

وهذا التفطر سببه الخشية من الله ـ تعالى ـ ، والخوف من جلاله وعظمته فيكون المعنى : تكاد السموات يتشققن فيسقطن مع عظمهن (مِنْ فَوْقِهِنَ) أى : من أعلاهن ، خشية ورهبة من عظمته ـ عزوجل ـ ، كما قال ـ تعالى ـ (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ويصح أن يكون هذا التفطر سببه ، شدة الفرية التي افتراها المشركون على الله ـ تعالى ـ حيث زعموا أن لله ولدا ، كما قال سبحانه ـ : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً).

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم قال : (مِنْ فَوْقِهِنَ)؟ قلت : لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة : فوق السموات ، وهي : العرش ، والكرسي ، وصفوف الملائكة ، المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش ، وما لا يعلم كنهه إلا الله ـ تعالى ـ من آثار ملكوته العظمى ، فلذا قال : (يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) أى : يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية. أو لأن كلمة الكفر جاءت من الذين تحت السموات. فكان القياس أن يقال : من تحتهن ، من الجهة التي جاءت منها الكلمة ، ولكنه بولغ في ذلك فجعلت مؤثرة في جهة الفوق. كأنه قيل : يكدن يتفطرن من الجهة التي فوقهن ، ع الجهة التي تحتهن (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) مؤكد لما قبله من بيان علو شأنه ـ عزوجل ـ ، وسمو عظمته وجلاله.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٢٠٩.

١٣

أى : والملائكة ينزهون ربهم ـ تعالى ـ عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله ، خوفا منه ـ سبحانه ـ ، ورهبة لذاته.

وقوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) معطوف على (يُسَبِّحُونَ). والمراد بمن في الأرض : المؤمنون بصفة خاصة ، لأنهم هم الذين يستحقون ذلك ، كما قال ـ تعالى ـ في آية أخرى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا).

أى : أن الملائكة ينزهون الله ـ تعالى ـ عما لا يليق به. ويطلبون للمؤمنين من أهل الأرض عفو الله ـ تعالى ـ ورحمته وغفرانه.

وقوله : (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) تذييل قصد به الثناء على الله ـ تعالى ـ بما هو أهله.

أى : ألا إن الله ـ تعالى ـ وحده ، هو الواسع المغفرة والرحمة لمن يشاء من عباده ، لا يمنعه من ذلك مانع ، ولا يحاسبه على ما يفعل محاسب.

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة المشركين فقال : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ).

أى : والذين اتخذوا من دون الله ـ تعالى ـ شفعاء وشركاء ليقربوهم إليه زلفى ، الله ـ تعالى ـ وحده رقيب عليهم ، وسيجازيهم بما يستحقون من عقاب يوم القيامة ، وما أنت ـ أيها الرسول الكريم ـ عليهم بحفيظ أو رقيب على أعمالهم ، وإنما أنت عليك البلاغ ونحن علينا الحساب.

ثم بين ـ سبحانه ـ الحكمة من إنزال هذا القرآن على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما بين أنواعا من الأدلة عن كمال قدرته ، ووجوب إفراده بالعبادة والخضوع ، ووجوب التحاكم إلى شريعته عند الاختلاف والتنازع. فقال ـ تعالى ـ :

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨)

١٤

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٢)

والكاف في قوله ـ تعالى ـ : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا ..) في محل نصب على المصدرية ، واسم الإشارة يعود إلى مصدر (أَوْحَيْنا).

أى : ومثل ذلك الإيحاء البديع الواضح ، أوحينا إليك ـ أيها الرسول الكريم ـ قرآنا عربيا ، لا لبس فيه ولا غموض.

وقوله ـ سبحانه ـ (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) تعليل لهذا الإيحاء. والمراد بأم القرى : أهلها.

وسميت مكة بأم القرى ، لأنها مكان أول بيت وضع للناس ، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم ، ولأنها أعظم القرى شأنا وغيرها كالتبع لها ، كما يتبع الفرع الأصل ، أى : أوحينا إليك هذا القرآن لتنذر به أهل أم القرى ، ولتنذر به ـ أيضا ـ من حولها من أهل القرى الأخرى.

وخص أهل أم القرى ومن حولها بالذكر في الإنذار ، لأنهم أقرب الناس إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال ـ تعالى ـ في آية أخرى (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ).

وليس معنى هذا التخصيص أن رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت إليهم وحدهم ، لأن هناك آيات أخرى كثيرة قد صرحت بأن رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت إلى الناس كافة ، ومن هذه الآيات : وقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ

١٥

لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ).

فهذه الآيات وغيرها تنطق وتشهد بأن رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت للناس جميعا ، بل للإنس وللجن ، كما يشير إلى ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا ، فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ).

وجملة (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ) معطوفة على ما قبلها. والمراد بيوم الجمع : يوم القيامة ، لأنه اليوم الذي يجتمع فيه الأولون والآخرون بين يدي الله ـ تعالى ـ للحساب والجزاء ، والثواب والعقاب.

أى : أوحينا إليك هذا القرآن لتنذر به أهل مكة ومن حولها ، وتنذر الناس جميعا وتخوفهم من أهوال يوم القيامة ، الذي يجتمع فيه الخلائق للحساب.

وقوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) كلام معترض لتقرير ما قبله وتأكيده ، أو صلة ليوم الجمع.

وقوله : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) بيان للنتيجة التي ترتبت على هذا الإنذار.

أى : بعد هذا الإنذار الذي أنذرته للناس ـ أيها الرسول الكريم ـ هناك فريق آمن بك وصدقك فكان مصيره إلى الجنة ، وهناك فريق أعرض عنك وكذبك ، فكان مصيره إلى النار.

وقوله ـ تعالى ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً ، وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) بيان لكمال قدرته ـ عزوجل ـ.

أى : ولو شاء الله ـ تعالى ـ أن يجعل الناس أمة واحدة على الدين الحق لجعلهم كذلك ، لأن قدرته لا يعجزها شيء ، ولكنه ـ سبحانه ـ لم يشأ ذلك ليتميز الخبيث من الطيب ، والمهتدى من الضال.

أما المهتدون فهم أهل رحمته ورضوانه ، وأما الضالون فهم أهل عذابه وغضبه فقوله ـ تعالى ـ (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) بيان لمن عرفوا الدين الحق واتبعوه وقوله ـ سبحانه ـ : (وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) بيان لمن استحبوا العمى على الهدى.

قال الآلوسى ما ملخصه : (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أى : أنه ـ تعالى ـ يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها ، ويدخل في عذابه من يشاء أن يدخله فيه ، ولا ريب في أن مشيئته ـ تعالى ـ لكل من الإدخالين ، تابعة لاستحقاق كل فريق لعمله.

وقال : (وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) ولم يقل ويدخل من يشاء في عذابه ، للإيذان بأن الإدخال في العذاب ، بسبب سوء اختيار الداخلين فيه (١).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٥ ص ١٤.

١٦

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ، وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) (٢).

ثم أنكر ـ سبحانه ـ على أولئك الجاهلين اتخاذهم آلهة من دونه فقال : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ، فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ ، وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

فأم بمعنى بل وهمزة الاستفهام الإنكارى ، لإنكار وقوع الشرك منهم ونفيه بأبلغ وجه.

أى : أن ما فعله هؤلاء المشركون من اتخاذهم آلهة من دونه ـ تعالى ـ شيء منكر بلغ النهاية في قبحه وفساده.

قال صاحب الكشاف : «معنى الهمزة في (أَمِ) الإنكار وقوله : (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) أى : هو الذي يجب أن يتولى وحده ، ويعتقد أنه المولى والسيد ، فالفاء في قوله (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) جواب شرط مقدر ، كأنه قيل بعد إنكار كل ولى سواه. أى : إن أرادوا وليا بحق ، فالله هو الولي بالحق ، لا ولى سواه (٣).

(وَهُوَ يُحْيِ) الموتى أى : وهو ـ سبحانه ـ الذي في قدرته إعادة الحياة إلى الموتى بعد موتهم.

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أى : وهو ـ تعالى ـ وحده الذي لا يعجز قدرته شيء ، وما دام الأمر كذلك ، فكيف اتخذ أولئك الجاهلون أولياء من دونه.

ثم وجه ـ سبحانه ـ أمره إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأن يرشد المؤمنين إلى وجوب تحاكمهم إلى شريعته ـ تعالى ـ إذا ما دب خلاف بينهم ، أو بينهم وبين أعدائهم ، فقال : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ).

أى : عليكم أيها المؤمنون ـ إذا ما اختلفتم في أمر من الأمور ، أن تحتكموا فيه الى شريعة الله ـ عزوجل ـ ، وأن تقبلوا عن إذعان وطاعة حكمه ـ تعالى ـ.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ..) (٤).

__________________

(١) سورة السجدة الآية ١٣.

(٢) سورة الأنعام الآية ٣٥.

(٣) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٢١١.

(٤) سورة النساء الآية ٥٩.

١٧

واسم الإشارة في قوله ـ سبحانه ـ : (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) يعود إلى الله ـ تعالى ـ الذي يجب أن يكون التحاكم إليه وحده عند الاختلاف.

أى : ذلك الحاكم العادل الذي لا حاكم بحق سواه (رَبِّي) وخالقي ورازقي .. (عَلَيْهِ) وحده (تَوَكَّلْتُ) واعتمدت في جميع شئونى (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أى : وإليه وحده أرجع في كل أمورى.

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى هو خالقهما وموجدهما على غير مثال سابق ، من فطر الشيء إذا ابتدعه واخترعه دون أن يسبق إلى ذلك.

(جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) أى : جعل لكم ـ سبحانه ـ بقدرته من جنس أنفسكم أزواجا ، أى : نساء تجمع بينكم وبينهن المودة والرحمة ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) معطوف على ما قبله. أى : كما خلق لكم من أنفسكم أزواجا ، خلق ـ أيضا ـ للأنعام من جنسها إناثا ، ليحصل التوالد والتناسل والتعمير لهذا الكون.

وقوله ـ تعالى ـ (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) بيان للحكمة من هذا الجعل والخلق للأزواج.

والذرء : التكاثر والبث. يقال : ذرأ فلان الشيء ، إذا بثه وكثره.

والضمير المنصوب في قوله (يَذْرَؤُكُمْ) يعود إلى المخاطبين وإلى الأنعام ، على سبيل التغليب للعقلاء على غيرهم.

والضمير في قوله (فِيهِ) يعود إلى التزاوج بين الذكور والإناث المفهوم من قوله ـ تعالى ـ : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً).

أى : يكثركم وينميكم بسبب هذا التزاوج الذي يحصل بين ذكوركم وإناثكم حيث يتناسل ـ أحيانا ـ بين الذكر الواحد والأنثى الواحدة ، عدد كبير من الأولاد.

وقال ـ سبحانه ـ (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) ولم يقل يذرؤكم به أى : بسببه ، للأشعار بأن هذا التزاوج قد صار مثل المنبع والأصل للبث والتكثير.

قال ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها ، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً).

قال بعض العلماء : فإن قيل : ما وجه إفراد الضمير المجرور في قوله (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) مع

١٨

أنه على ما ذكرتم ، يعود إلى الذكور والإناث من الآدميين والأنعام؟.

فالجواب : أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن ، رجوع الضمير بصيغة الإفراد إلى المثنى أو الجمع باعتبار ما ذكر.

ومنه قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) أى : يأتيكم بما ذكر من سمعكم وأبصاركم وقلوبكم (١).

ثم نزه ـ سبحانه ـ ذاته عن الشبيه أو النظير .. فقال (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).

أى : ليس مثله شيء ـ تعالى ـ : لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، فالكاف مزيدة في خبر (لَيْسَ) و (شَيْءٌ) اسمها. أى : ليس شيء مثله.

أو أن الكاف أصلية. فيكون المعنى : ليس مثله ـ تعالى ـ أحد لا في الذات ولا في الصفات ولا في الأفعال.

وذلك كقول العرب : مثلك لا يبخل ، يعنون : أنت لا تبخل على سبيل الكناية ، قصدا إلى المبالغة في نفى البخل عن المخاطب بنفيه عن مثله ، فيثبت انتفاؤه عنه بدليله.

والمقصود من الجملة الكريمة على كل تفسير : تنزيهه ـ تعالى ـ عن مشابهة خلقه في الذات أو الصفات أو الأفعال.

قال صاحب الكشاف : قالوا : مثلك لا يبخل ، فنفوا البخل عن مثله ، وهم يريدون نفيه عن ذاته ، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية ، لأنهم إذا نفوه عمن يسد مسده ، وعمن هو على أخص أوصافه ، فقد نفوه عنه.

ونظيره قولك للعربي : العرب لا تخفر الذمم ، كان أبلغ من قولك : أنت لا تخفر .. (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أى : وهو ـ سبحانه ـ السميع لكل أقوال خلقه ، البصير بما يسرونه وما يعلنونه من أفعال.

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى : له وحده مفاتيح خزائنهما ، وله وحده ـ أيضا ـ ملك هذه الخزائن ، لأن ملك مفاتيحها يستلزم ملكها.

والمقاليد : جمع مقلاد أو إقليد وهو المفتاح.

__________________

(١) تفسير أضواء البيان ج ٧ ص ١٧٥.

(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٢١٢.

١٩

(يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أى : هو ـ سبحانه ـ الذي يوسع الرزق لمن شاء أن يوسعه له ، ويضيقه على من يشاء أن يضيقه عليه.

(إِنَّهُ) ـ تعالى ـ : (بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد أقامت أوضح الأدلة وأقواها ، على وحدانية الله ـ تعالى ـ وكمال قدرته.

ثم أكد ـ سبحانه ـ الحقيقة التي افتتحت بها السورة الكريمة ، وهي وحدة الأديان في جوهرها وأصولها ، وبين الأسباب التي أدت إلى اختلاف الناس في عقائدهم ، وأرشد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أفضل الأساليب في الدعوة إلى الحق ، فقال ـ تعالى ـ :

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥)

٢٠