التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0693-0
الصفحات: ٣٥٥

التفسير. وسمى السحاب عارضا لأنه يبدو في عرض السماء. قال الجوهري : العارض : السحاب يعترض في الأفق .. (١).

والمعنى : وأتى العذاب الذي استعجله قوم هود إليهم ، فلما رأوه بأعينهم ، متمثلا في سحاب يظهر في أفق السماء ، ومتجها نحو أوديتهم ومساكنهم.

(قالُوا) وهم يجهلون أنه العذاب الذي استعجلوه (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) أى : هذا سحاب ننتظر من ورائه المطر الذي ينفعنا ..

قيل : إنها حبس عنهم المطر لفترة طويلة ، فلما رأوا السحاب في أفق السماء ، استبشروا وفرحوا وقالوا : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا).

وهنا جاءهم الرد على لسان هود بأمر ربه ، فقال لهم : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ، رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ...).

أى : قال لهم هود ـ عليه‌السلام ـ ليس الأمر كما توقعتم من أن هذا العارض سحاب تنزل منه الأمطار عليكم ، بل الحق أن هذا العارض هو العذاب الذي استعجلتم نزوله ، وهو يتمثل في ريح عظيمة تحمل العذاب المهلك الأليم لكم.

فقوله : (رِيحٌ) يصح أن يكون بدلا من «ما» أو من «هو» في قوله (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) كما يصح أن يكون خبر المبتدأ محذوف ، وجملة (فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) صفة لقوله : (رِيحٌ).

ثم وصف ـ سبحانه ـ هذا الريح بصفة أخرى فقال : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها ..). أى : هذه الريح التي أرسلها الله ـ تعالى ـ عليهم ، من صفاتها أنها تدمر وتهلك كل شيء مرت به يتعلق بهؤلاء الظالمين من نفس أو مال أو غيرهما ..

والتعبير بقوله : (بِأَمْرِ رَبِّها) لبيان أنها لم تأتهم من ذاتها ، وإنما أتتهم بأمر الله ـ تعالى ـ وبقضائه وبمشيئته.

والفاء في قوله : (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) فصيحة ـ أيضا ـ. أى : هذه الريح أرسلناها عليهم فدمرتهم ، فصار الناظر إليهم لا يرى شيئا من آثارهم سوى مساكنهم ، لتكون هذه المساكن عبرة لغيرهم.

قال الجمل : وقوله : (لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) قرأ حمزة وعاصم (لا يُرى) بضم الياء

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٥ ص ٢٣.

٢٠١

على البناء للمفعول ، ومساكنهم بالرفع لقيامه مقام الفاعل. والباقون من السبعة بفتح تاء الخطاب ، ـ على البناء للفاعل ـ و (مَساكِنُهُمْ) بالنصب على أنه مفعول به .. (١).

وقوله : (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أى : مثل ذلك الجزاء المهلك المدمر ، نجازي القوم الذين من دأبهم الإجرام والطغيان.

وهكذا طوى ـ سبحانه ـ صفحة أولئك الظالمين من قوم هود ـ عليه‌السلام ـ وما ظلمهم ـ سبحانه ـ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

ولم تكتف السورة الكريمة بعرض مصارع هؤلاء المجرمين ، الذين لا يخفى أمرهم على المشركين المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل أخذت في تذكير هؤلاء المشركين ، بما يحملهم على الزيادة من العظة والعبرة لو كانوا يعقلون ، فقال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ، وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً).

و «ما» في قوله : (فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) موصولة. و «إن» نافية. أى : والله لقد مكنا قوم هود وغيرهم من الأقوام السابقين عليكم ـ يا أهل مكة ـ في الذي لم نمكنكم فيه ، بأن جعلناهم أشد منكم قوة ، وأكثر جمعا ، وأعطيناهم من فضلنا أسماعا وأبصارا وأفئدة.

فالمقصود من الآية بيان أن المشركين السابقين ، أعطاهم الله ـ تعالى ـ من الأموال والأولاد والقوة .. أكثر مما أعطى الكافرين المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولكن هؤلاء الطغاة السابقين لما لم يشكروا الله ـ تعالى ـ على نعمه كانت عاقبتهم الهلاك ، كما يدل عليه قوله ـ سبحانه ـ بعد ذلك : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ ..). أى : أعطيناهم من النعم ما لم نعطكم يا أهل مكة ، ولكنهم لما لم يشكرونا على نعمنا ، ولم يستعملوها في طاعتنا ، أخذناهم أخذ عزيز مقتدر ، دون أن تنفعهم شيئا أسماعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم ، حين نزل بهم عذابنا ، بل كل ما بين أيديهم من قوة ومن نعم ذهب أدراج الرياح وصار معهم هباء منثورا.

و «من» في قوله : (مِنْ شَيْءٍ) لتأكيد عدم الإغناء. أى : ما أغنت عنهم شيئا حتى ولو كان هذا الشيء في غاية القلة والحقارة.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن ما أصابهم من دمار كان بسبب جحودهم للحق واستهزائهم به ، فقال : (إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ١٣٤.

٢٠٢

أى : هذا الهلاك والدمار الذي حاق بهم ، كان بسبب جحودهم لآيات الله الدالة على وحدانيته وكمال قدرته ، واستهزائهم بما جاءهم به رسلهم من الحق.

ومن الآيات القرآنية التي وردت في هذا المعنى ، قوله ـ تعالى ـ : (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ. فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٢).

ثم أضاف ـ سبحانه ـ إلى هذا التذكير والتخويف للمشركين ، تذكيرا وتخويفا آخر ، فقال : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) أى : والله لقد أهلكنا ما حولكم يا أهل مكة من القرى الظالمة ، كقوم هود وصالح وغيرهم.

(وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) أى : كررناها ونوعناها بأساليب مختلفة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عما كانوا عليه من الشرك والفجور ، ولكنهم لم يرجعوا عما كانوا فيه من ضلال وبغى ، فدمرناهم تدميرا ..

(فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) أى : فهلا نصرهم ومنعهم من الهلاك. هؤلاء الآلهة الذين اتخذوهم من دون الله قربانا يتقربون بهم إليه ـ سبحانه ـ كما قالوا (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى).

«فلولا» هنا حرف تحضيض بمعنى «هلا» والمفعول الأول لاتخذوا محذوف أى : الذين اتخذوهم ، و (آلِهَةً) هو المفعول الثاني ، و «قربانا» حال. وهو كل ما يتقرب به إلى الله ـ تعالى ـ من طاعة أو نسك. والجمع قرابين.

وقوله ـ تعالى ـ : (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) إضراب انتقالي عن نفى النصرة إلى ما هو أشد من ذلك.

أى : أن هؤلاء الآلهة لم يكتفوا بعدم نصر أولئك الكافرين ، بل غابوا عنهم وتركوهم وحدهم ، ولم يحضروا إليهم .. وذلك الغياب الذي حدث من آلهتهم عنهم. مظهر من مظاهر كذب هؤلاء الكافرين وافترائهم على الحق في الدنيا ، حيث زعموا أن هذه الآلهة الباطلة ستشفع لهم يوم القيامة ، وقالوا ـ كما حكى القرآن عنهم ـ : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ ...) وها هم اليوم لا يرون آلهتهم ، ولا يجدون لهم شيئا من النفع.

__________________

(١) سورة الزخرف الآية ٨.

(٢) سورة غافر الآية ٨٢.

٢٠٣

وبعد هذا التذكير والوعيد للكافرين ، بيّن ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر تكريمه لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أرسل له نفرا من الجن ، يستمعون القرآن ، ويؤمنون به ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣٢)

قال القرطبي ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ ...) هذا توبيخ لمشركي قريش. أى : أن الجن سمعوا القرآن فآمنوا به وعلموا أنه من عند الله ، وأنتم معرضون مصرون على الكفر ..

قال المفسرون : لما مات أبو طالب ، خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الطائف ، يلتمس من أهلها النصرة ، ويدعوهم إلى الإيمان ... أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويضحكون به ..

فانصرف صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم ، حتى إذا كان ببطن نخلة ـ وهو موضع بين مكة والطائف ـ قام يصلى من الليل ، فمر به نفر من جن نصيبين ـ وهو موضع قرب الشام ـ فاستمعوا إليه وقالوا : أنصتوا .. (١).

وهناك روايات أخرى كثيرة في عدد هؤلاء الجن ، وفي الأماكن التي التقوا فيها مع النبي

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٦ ص ٢١٠.

٢٠٤

صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيما قرأ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ، وفيمن كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلال التقائه بهم .. (١).

ويبدو لنا من مجموع هذه الروايات أن لقاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجن قد تعدد ، وأن هذه الآيات تحكى لقاء معينا ، وسورة الجن تحكى لقاء آخر.

قال الآلوسى : وقد أخرج الطبراني في الأوسط ، وابن مردويه عن الحبر ، أى : عن ابن عباس أنه قال : صرفت الجن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرتين.

وذكر الخفاجي أنه قد دلت الأحاديث ، على أن وفادة الجن كانت ست مرات ، ويجمع بذلك اختلاف الروايات في عددهم ، وفي غير ذلك. (٢).

و «النفر» على المشهور ـ ما بين الثلاثة والعشرة من الرجال وهو مأخوذ من النفير ، لأن الرجل إذا حزبه أمر نفر بعض الناس الذين يهتمون بأمره لإغاثته.

والمعنى : واذكر ـ أيها الرسول الكريم ـ لقومك ، وقت أن صرفنا إليك ، ووجهنا نحوك ، نفرا من الجن ، يستمعون القرآن منك.

(فَلَمَّا حَضَرُوهُ) أى : فحين حضروا القرآن عند تلاوته منك ، أو فحين حضروا مجلسك (قالُوا) على سبيل التناصح ـ (أَنْصِتُوا) أى : قال بعضهم لبعض : اسكتوا لأجل أن نستمع إلى هذا القرآن ، وهذا يدل على سمو أدبهم وحرصهم على تلقى العلم.

(فَلَمَّا قُضِيَ) أى : فحين انتهى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قراءته.

(وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أى : انصرفوا إلى قومهم ليخوفوهم من عذاب الله ـ تعالى ـ إذا ما عصوه أو خالفوا أمره ـ سبحانه ـ.

(قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ...) أى : وبعد أن انصرفوا إلى قومهم منذرين ، ووصلوا إليهم. قالوا لهم : يا قومنا إنا سمعنا كتابا عظيم الشأن ، جليل القدر ، أنزل من بعد نبي الله ـ تعالى ـ موسى ـ عليه‌السلام ـ.

وهذا الكتاب (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أى : مصدقا لما قبله من الكتب وهو ـ أيضا ـ (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) الذي لا يحوم حوله الباطل ، ويهدى ـ أيضا ـ (إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) أى : إلى طريق قويم واضح يصل بأتباعه إلى السعادة.

قال الآلوسى : قوله : (أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) ذكروه دون عيسى ـ عليهما‌السلام ـ

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٧٢ وما بعدها طبعة دار الشعب.

(٢) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٦ ص ٣٠.

٢٠٥

لأنه متفق عليه عند أهل الكتابين ، ولأن الكتاب المنزل عليه أجل الكتب قبل القرآن ، وكان عيسى مأمورا بالعمل بمعظم ما فيه أو بكله.

وقال عطاء : لأنهم كانوا على اليهودية ، وهذا القول يحتاج إلى نقل صحيح.

وعن ابن عباس : أن الجن لم تكن سمعت بعيسى ، فلذا قالوا ذلك. وفي هذا القول بعد ، فإن اشتهار أمر عيسى ، وانتشار أمر دينه ، أظهر من أن يخفى ، لا سيما على الجن ، ومن هنا قال أبو حيان : إن هذا لا يصح عن ابن عباس (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما يدل على إيمانهم بما سمعوه فقال : (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ ...).

أى : وقالوا لقومهم ـ أيضا ـ : يا قومنا أجيبوا داعي الله الذي دعاكم الى الحق وإلى طريق مستقيم. (وَآمِنُوا بِهِ) أى : وآمنوا بهذا الرسول الكريم وبما جاء من عند ربه.

(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أى : أجيبوا داعي الله وآمنوا به ، يغفر لكم ربكم من ذنوبكم التي وقعتم فيها ، ويبعدكم بفضله ورحمته من عذاب أليم.

والتعبير بقوله : (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) يدل على حسن أدبهم ، وعلى أنهم يفوضون المغفرة إلى ربهم ، فهو ـ سبحانه ـ إن شاء غفرها جميعا ، وإن شاء غفر بعضها.

ثم ختموا الترغيب في الإيمان بالترهيب من الإصرار على الكفر والمعاصي فقالوا ـ كما حكى القرآن عنهم ـ : (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ).

أى : قالوا لقومهم إنكم إذا أجبتم داعي الله ، غفر لكم ـ سبحانه ـ ذنوبكم أما الذي يعرض عن هذا الداعي الصادق الأمين ، فإنه لن يستطيع أن يفلت من عذاب الله ، ولن يقدر على الهرب من عقابه ، لأنه ـ سبحانه ـ لا يعجزه شيء ، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

(وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) أى : وليس لهذا المعرض من أنصار يستطيعون دفع عذاب الله عنه.

(أُولئِكَ) أى : الذين لم يجيبوا داعي الله (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أى : في ضلال واضح لا يخفى على أحد من العقلاء.

هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآيات :

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٦ ص ٣٢.

٢٠٦

١ ـ أن رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت إلى الإنس والجن ، لأن هذه الآيات تحكى إيمان بعض الجن به صلّى الله عليه وسلّم ودعوتهم غيرهم إلى الإيمان به.

٢ ـ أن هذه الآيات تدل على أن حكم الجن كحكم الإنس في الثواب والعقاب وفي وجوب العمل بما أمرهم الله ـ تعالى ـ به وفي وجوب الانتهاء عما نهاهم عنه ، لأن قوله ـ تعالى ـ : (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

أقول : هاتان الآيتان اللتان حكاهما الله ـ تعالى ـ على ألسنة بعض الجن تدلان على ثواب المطيع ، وعذاب العاصي.

قال بعض العلماء ما ملخصه : وقد دلت آية أخرى على أن المؤمنين من الجن يدخلون الجنة وهي : قوله ـ تعالى ـ في سورة الرحمن : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

ويستأنس لهذا ـ أيضا ـ بقوله ـ تعالى ـ : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) فإنه يشير إلى أن في الجنة جنا يطمثون النساء كالإنس ..

وبهذا يعلم أن ما ذهب إليه بعض العلماء ، أنه يفهم من قوله ـ تعالى ـ : (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أن المؤمنين من الجن لا يدخلون الجنة ، وأن جزاء إيمانهم ، وإجابتهم داعي الله ، هو الغفران وإجارتهم من العذاب الأليم فقط .. هذا الفهم إنما هو خلاف التحقيق ، وأن المؤمنين من الجن يدخلون الجنة .. (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ، بتوبيخ المشركين على جهلهم وعدم تفكيرهم ، وبيّن ما سيكونون عليه من خزي يوم القيامة ، وأمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على أذاهم. فقال :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ

__________________

(١) راجع تفسير أضواء البيان ج ٧ ص ٤٠١.

٢٠٧

أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) (٣٥)

والهمزة في قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ ...) للاستفهام الإنكارى ، والواو للعطف على مقدر يستدعيه المقام ...

أى : أبلغ العمى والجهل بهؤلاء الكافرين ، أنهم لم يروا ولم يعقلوا أن الله ـ تعالى ـ الذي خلق السموات والأرض بقدرته (وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) أى : ولم يتعب ولم ينصب بسبب خلقهن ، من قولهم عيى فلان بالأمر ـ كفرح ـ إذا تعب ، أو المعنى : ولم يعجز عن خلقهن ولم يتحير فيه ، مأخوذ من قولهم : عيى فلان بأمره ، إذا تحير ولم يعرف ماذا يفعل.

وقوله : (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) في محل رفع خبر (أَنَ) ، والباء في قوله ـ تعالى ـ (بِقادِرٍ) مزيدة للتأكيد.

فالمقصود بالآية الكريمة توبيخ المشركين على جهلهم وانطماس بصائرهم ، حيث لم يعرفوا أن الله ـ تعالى ـ الذي أوجد الكون ، قادر على أن يعيدهم الى الحياة بعد موتهم.

وأورد القرآن ذلك في أسلوب الاستفهام الإنكارى ، ليكون تأنيبهم على جهلهم أشد.

وقوله : (بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تقرير وتأكيد لقدرته ـ تعالى ـ على إحياء الموتى ، لأن لفظ (بَلى) يؤتى به في الجواب لإبطال النفي السابق ، وتقرير نقيضه ، بخلاف لفظ نعم فإنه يقرر النفي نفسه.

أى : بلى إنه ـ سبحانه ـ قادر على إحياء الموتى ، لأنه ـ تعالى ـ على كل شيء قدير.

ثم كرر ـ سبحانه ـ التذكير للناس بأحوال الكافرين يوم الحساب ليعتبروا ويتعظوا فقال : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ...) أى : واذكر ـ أيها العاقل ـ يوم يلقى الذين كفروا في النار ، بعد مشاهدتها ورؤيتها ..

٢٠٨

ثم يقال لهم على سبيل الزجر والتهكم (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) أى : أليس هذا العذاب كنتم تنكرونه في الدنيا ، قد ثبت عليكم ثبوتا لا مفر لكم منه ، ولا محيد لكم عنه ..

(قالُوا بَلى وَرَبِّنا) أى : قالوا في الجواب : بلى يا ربنا إن هذا العذاب حق ، وإنكارنا له في الدنيا إنما كان عن جهل وغفلة وغرور منا ..

فهم قد اعترفوا بأن الحساب حق ، والجزاء حق .. في وقت لا ينفع فيه الاعتراف.

ولذا جاء الرد عليهم بقوله ـ تعالى ـ : (قالَ) ـ سبحانه ـ (فَذُوقُوا الْعَذابَ) أى : فتذوقوا طعمه الأليم ، ووقعه المهين (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أى : بسبب كفركم وجحودكم.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بأمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على مكرهم فقال : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ). أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لك ـ أيها الرسول الكريم ـ فاصبر على أذى قومك ، كما صبر إخوانك أولو العزم من الرسل ، أى : أصحاب الجد والثبات والصبر على الشدائد والبلاء .. وهم ـ على أشهر الأقوال ـ : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ـ صلوات الله عليهم جميعا ـ.

وقوله : (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) نهى منه ـ تعالى ـ لنبيه عن استعجال العذاب لهم. أى : ولا تستعجل لهم العذاب. فالمفعول محذوف للعلم به .. ثم بين ـ سبحانه ـ ما يدعو إلى عدم الاستعجال فقال : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ..). أى : اصبر ـ أيها الرسول ـ على أذى قومك كما صبر إخوانك أولو العزم من الرسل. ولا تستعجل العذاب لهؤلاء الكافرين فإنه آتيهم لا ريب فيه ، وكأنهم عند ما يرون هذا العذاب ويحل بهم ، لم يلبثوا في الدنيا إلا وقتا قليلا وزمنا يسيرا ، لأن شدة هذا العذاب تنسيهم كل متع الدنيا وشهواتها.

وقوله ـ تعالى ـ : (بَلاغٌ) خبر لمبتدأ محذوف أى : هذا الذي أنذرتكم به ، أو هذا القرآن ، بلاغ كاف في وعظكم وإنذاركم إذا تدبرتم فيه ، وتبليغ من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليكم.

(فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) كلا ، إنه لا يهلك بعذاب الله ـ تعالى ـ إلا القوم الخارجون عن طاعته ، الواقعون في معصيته فالاستفهام للنفي ..

وبعد فهذا تفسير لسورة «الأحقاف» نسأل الله أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده.

٢٠٩

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٢١٠

تفسير

سورة محمّد

٢١١
٢١٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة

١ ـ هذه السورة تسمى بسورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فيها من الحديث عما أنزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسمى ـ أيضا ـ بسورة القتال ، لحديثها المستفيض عنه.

وهي من السور المدنية التي يغلب على الظن أن نزولها كان بعد غزوة بدر وقبل غزوة الأحزاب ، وقد ذكروا أن نزولها كان بعد سورة «الحديد» (١).

وعدد آياتها أربعون آية في البصري ، وثمان وثلاثون في الكوفي ، وتسع وثلاثون في غيرهما.

٢ ـ وتفتتح السورة الكريمة ببيان سوء عاقبة الكافرين ، وحسن عاقبة المؤمنين ، ثم تحض المؤمنين على الإغلاظ في قتال الكافرين ، وفي أخذهم أسارى ، وفي الإعلاء من منزلة المجاهدين في سبيل الله.

قال ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ ..).

٣ ـ ثم وجه ـ سبحانه ـ نداء إلى المؤمنين وعدهم فيه بالنصر متى نصروه وتوعد الكافرين بالتعاسة والخيبة ، ووبخهم على عدم اعتبارهم واتعاظهم ، كما بشر المؤمنين ـ أيضا ـ بجنة فيها ما فيها من نعيم.

قال ـ تعالى ـ : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ، فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ، وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ، وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ، وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ، وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ، كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ ، وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ).

٤ ـ ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن المنافقين ، فذكرت جانبا من مواقفهم السيئة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن دعوته ، ووبختهم على خداعهم وسوء أدبهم.

قال ـ تعالى ـ : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا

__________________

(١) راجع الإتقان في علوم القرآن ج ١ ص ٢٧ للسيوطي.

٢١٣

الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ).

٥ ـ ثم صورت السورة الكريمة ما جبل عليه هؤلاء المنافقون من جبن وهلع ، وكيف أنهم عند ما يدعون إلى القتال يصابون بالفزع الخالع.

قال ـ سبحانه ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ، فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ ، رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ. طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ، فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ).

٦ ـ وبعد أن بينت السورة الكريمة أن نفاق المنافقين كان بسبب استحواذ الشيطان عليهم ، وتوعدتهم بسوء المصير في حياتهم وبعد مماتهم.

بعد كل ذلك أخبرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأوصافهم الذميمة ، فقال ـ تعالى ـ : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ. وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ ، فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ).

٧ ـ ثم عادت السورة إلى الحديث عن الكافرين وعن المؤمنين ، فتوعدت الكافرين بحبوط أعمالهم. وأمرت المؤمنين بطاعة الله ورسوله. ونهتهم عن اليأس والقنوط ، وبشرتهم بالنصر والظفر ، وحذرتهم من البخل ، ودعتهم إلى الإنفاق في سبيل الله.

قال ـ تعالى ـ : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ ، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ. ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ).

٨ ـ هذا والمتدبر في هذه السورة الكريمة ـ بعد هذا العرض الإجمالى لها ـ يراها تهتم بقضايا من أهمها ما يأتى :

(أ) تشجيع المؤمنين على الجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ : وعلى ضرب رقاب الكافرين ، وأخذهم أسرى ، وكسر شوكتهم ، وإذلال نفوسهم .. كل ذلك بأسلوب قد اشتمل على أسمى ألوان التحضيض على القتال.

نرى ذلك في قوله ـ تعالى ـ : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ. حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ ، فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها).

وفي قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ).

(ب) بيان سوء عاقبة الكافرين في الدنيا والآخرة ، ودعوتهم إلى الدخول في الدين الحق ، وإبراز الأسباب التي حملتهم على الجحود والعناد.

٢١٤

نرى ذلك في آيات كثيرة منها قوله ـ تعالى ـ : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ. أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ).

(ج) كشفها عن أحوال المنافقين وأوصافهم بصورة تميزهم عن المؤمنين وتدعو كل عاقل إلى احتقارهم ونبذهم. بسبب خداعهم وكذبهم ، وجبنهم واستهزائهم بتعاليم الإسلام.

ولقد توعدهم الله ـ تعالى ـ بأشد ألوان العذاب ، فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ).

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا من عباده المؤمنين الصادقين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٢١٥
٢١٦

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) (٣)

افتتحت سورة القتال بهذا الذم الشديد للكافرين ، وبهذا الثناء العظيم على المؤمنين.

افتتحت بقوله ـ سبحانه ـ : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ. كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ).

وقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) .. مبتدأ ، خبره قوله ـ سبحانه ـ (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ).

والمراد بهم كفار قريش ، الذين أعرضوا عن الحق وحرضوا غيرهم على الإعراض عنه.

فقوله : (صَدُّوا) من الصد بمعنى المنع ، والمفعول محذوف.

وقوله : (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أى : أبطلها وأحبطها وجعلها ضائعة ذاهبة لا أثر لها ولا وجود ، والمراد بهذه الأعمال : ما كانوا يعملونه في الدنيا من عمل حسن ، كإكرام الضيف ، وبر الوالدين ، ومساعدة المحتاج. أى : الذين كفروا بالله ـ تعالى ـ وبكل ما يجب الإيمان به ، ومنعوا غيرهم من اتباع الدين الحق الذي أمر الله ـ تعالى ـ باتباعه (أَضَلَ) ـ

٢١٧

سبحانه ـ أعمالهم ، بأن جعلها ذاهبة ضائعة غير مقبولة عنده. كما قال ـ تعالى ـ : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (١).

قال صاحب الكشاف : (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أى : أبطلها وأحبطها : وحقيقته ، جعلها ضالة ضائعة ليس لها من يتقبلها ويثيب عليها ، كالضالة من الإبل ، التي هي مضيعة لا رب لها يحفظها ويعتنى بأمرها ، أو جعلها ضالة في كفرهم ومعاصيهم ، ومغلوبة بها ، كما يضل الماء اللبن. وأعمالهم ما كانوا يعملونه في كفرهم بما يسمونه مكارم : من صلة الأرحام ، وفك الأسرى.

وقيل : أبطل ما عملوه من الكيد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصد عن سبيل الله ، بأن نصره عليهم وأظهر دينه على الدين كله (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما أعده للمؤمنين من ثواب فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) التي توافر فيها الإخلاص والاتباع لهدى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله : (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) من باب عطف الخاص على العام ، فقد أفرده بالذكر مع أنه داخل في الإيمان والعمل الصالح ، للإشارة إلى أنه شرط في صحة الإيمان ، وللإشعار بسمو مكانة هذا المنزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعلو قدره.

وقوله : (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) جملة معترضة ، لتأكيد حقية هذا المنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقرير كماله وصدقه. أى : وهذا المنزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الحق الكائن من عند الله ـ تعالى ـ رب العالمين ، لا من عند أحد سواه.

وقوله : (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) خبر الموصول ، أى : والذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحة ، محا عنهم ـ سبحانه ـ ما عملوه من أعمال سيئة ، ولم يعاقبهم عليها ، فضلا منه وكرما.

فقوله : (كَفَّرَ) من الكفر بمعنى الستر والتغطية. يقال : كفر الزارع زرعه إذا غطاه ، وستره حماية له مما يضره. والمراد به هنا : المحو والإزالة على سبيل المجاز.

وقوله : (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) معطوف على ما قبله. أى : محا عنهم بسبب إيمانهم وعملهم الصالح ، ما اقترفوه من سيئات ، كما قال ـ تعالى ـ : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) ولم يكتف ـ سبحانه ـ بذلك ، بل وأصلح أحوالهم وأمورهم وشئونهم. بأن وفقهم للتوبة الصادقة في الدنيا ، وبأن منحهم الثواب الجزيل في الآخرة.

__________________

(١) سورة الفرقان الآية ٢٣.

(٢) راجع تفسير الكشاف ج ٤ ص ٢١٥.

٢١٨

فالمراد بالبال هنا : الحال والأمر والشأن.

قال القرطبي : والبال كالمصدر ، ولا يعرف منه فعل ، ولا تجمعه العرب إلا في ضرورة الشعر ، فيقولون فيه بالات .. (١).

وهذه الجملة الكريمة وهي قوله : (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) نعمة عظمى لا يحس بها إلا من وهبه الله ـ تعالى ـ إياها ، فإن خزائن الأرض لا تنفع صاحبها إذا كان مشتت القلب ، ممزق النفس ، مضطرب المشاعر والأحوال. أما الذي ينفعه فهو راحة البان. وطمأنينة النفس ، ورضا القلب ، والشعور بالأمان والسلام.

والإشارة في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ ..) تعود إلى ما مر من ذم الكافرين ، ومدح المؤمنين.

أى : ذلك الذين حكمنا به من ضلال أعمال الكافرين ، ومن إصلاح بال المؤمنين ، سببه أن الذين كفروا اتبعوا في دنياهم الطريق الباطل الذي لا خير فيه ولا فلاح. وأن الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحة في دنياهم ، اتبعوا طريق الحق الكائن من ربهم.

فالمراد بالباطل هنا. الكفر وما يتبعه من أعمال قبيحة ، والمراد بالحق : الإيمان والعمل الصالح.

وقوله (ذلِكَ) مبتدأ ، وخبره ما بعده.

وقوله : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) أى : مثل ذلك البيان الرائع الحكيم ، يبين الله ـ تعالى ـ : للناس أحوال الفريقين ، وأوصافهما الجارية في الغرابة مجرى الأمثال ، وهي اتباع المؤمنين الحقّ وفوزهم ، واتباع الكافرين الباطل وخسرانهم.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أين ضرب الأمثال؟ قلت : في جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار ، واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين ، أو في أن جعل الإضلال مثلا لخيبة الكفار ، وتكفير السيئات مثلا لفوز المؤمنين» (٢).

ثم أرشد الله ـ تعالى ـ : المؤمنين إلى ما يجب عليهم فعله عند لقائهم لأعدائهم ، وبعد انتصارهم عليهم ، كما بين لهم الحكمة من مشروعية القتال. والجزاء الحسن الذي أعده للمجاهدين ، فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٦ ص ٢٢٤.

(٢) راجع تفسير الكشاف ج ٤ ص ٣١٦.

٢١٩

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) (٦)

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَإِذا لَقِيتُمُ) لترتيب ما بعدها من إرشاد المؤمنين إلى ما يجب عليهم فعله عند قتل أعدائهم ، على ما قبلها وهو بيان حال الكفار.

فالمراد باللقاء هنا : القتال لا مجرد اللقاء والرؤية. كما أن المراد بالذين كفروا هنا المشركون وكل من كان على شاكلتهم ممن ليس بيننا وبينهم عهد بل بيننا وبينهم حرب وقتال.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) أمر للمؤمنين بما يجب فعله عند لقائهم لأعدائهم. وقوله : (فَضَرْبَ) منصوب على أنه مصدر لفعل محذوف. أى : فإذا كان حال الذين كفروا كما ذكرت لكم من إحباط أعمالهم بسبب اتباعهم الباطل وإعراضهم عن الحق ، فإذا لقيتموهم للقتال ، فلا تأخذكم بهم رأفة ، بل اضربوا رقابهم ضربا شديدا.

والتعبير عن القتل بقوله : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) ، لتصويره في أفظع صوره. ولتهويل أمر هذا القتال ، ولإرشاد المؤمنين إلى ما يجب عليهم فعله.

قال صاحب الكشاف : قوله : (لَقِيتُمُ) من اللقاء وهو الحرب (فَضَرْبَ الرِّقابِ) أصله : فاضربوا الرقاب ضربا ، فحذف الفعل وقدم المصدر ، فأنيب منابه مضافا إلى المفعول ، وفيه اختصار مع إعطاء معنى التوكيد ، لأنك تذكر المصدر ، وتدل على الفعل بالنصبة التي فيه.

وضرب الرقاب : عبارة عن القتل .. وذلك أن قتل الإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته ، فوقع عبارة عن القتل ، وإن ضرب بغير رقبته من المقاتل.

على أن في هذه العبارة من الغلظة والشدة ، ما ليس في لفظ القتل ، لما فيها من تصوير

٢٢٠