التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0693-0
الصفحات: ٣٥٥

وقوله ـ سبحانه ـ : (يَغْشَى النَّاسَ) صفة ثانية للدخان ، والمراد بهم كفار مكة وأمثالهم ممن أصابه الجوع والبلاء.

أى : ارتقب ـ أيها الرسول الكريم ـ يوم تأتى السماء لهؤلاء المشركين بعذاب من صفاته أنه عذاب واضح ، يحسونه بحواسهم ، ويشعرون به شعورا جليا ، ومن صفاته كذلك أنه يحيط بهم من كل جوانبهم ، ويجعلهم يتضرعون إلينا ويقولون : (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) أى : شديد ألمه ، وعظيم هوله.

ثم يقولون ـ أيضا ـ : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) أى : يا ربنا أزل عنا هذا العذاب المتمثل في الجوع والمرض وغيرهما ، فإنك إن رفعت عنا ذلك آمنا برسولك صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واتبعنا دعوته ، ولكنهم بعد أن كشف الله ـ تعالى ـ عنهم هذا العذاب ، نقضوا عهودهم ، وأصروا على كفرهم.

ولذا عقب الله ـ تعالى ـ على تضرعهم هذا بقوله : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى ..) أى : كيف يتأتى لهم التذكر والاعتبار والاتعاظ ...

والحال أنهم (قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الذي لم يترك بابا من أبواب الخير إلا وأرشدهم إليه ، ولم يترك وسيلة من وسائل الهداية إلا وسلكها معهم ..

ولكنهم استحبوا العمى على الهدى ، ولذا أكد القرآن ذلك فقال : (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ).

أى : كيف يتعظون والحال أنه قد جاءهم رسول عظيم الشأن ، وضح الحق أكمل توضيح.

فما كان منهم بعد أن استمعوا إليه ، إلا الإعراض عن دعوته ، ولم يكتفوا بهذا الإعراض والصدود ، بل قالوا في شأنه بجهالة وسوء أدب : (مُعَلَّمٌ) أى : إنسان يعلمه غيره من البشر ، وقالوا في شأنه ـ أيضا ـ (مَجْنُونٌ) أى : مختلط في عقله.

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر فضله عليهم ، ورحمته بهم ، فقال : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ).

أى : إنا بفضلنا ورحمتنا كاشفو العذاب عنكم كشفا قليلا ـ أيها المشركون ـ ، ولكنكم لم تقابلوا فضلنا عليكم ، ورحمتنا بكم ، بالشكر والطاعة بل قابلتم ذلك بالإصرار على الكفر ، والثبات على الجحود.

فالمراد بقوله ـ تعالى ـ (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) : عزمهم وإصرارهم على الاستمرار على الكفر ، لأنهم لم يوجد منهم إيمان ، حتى يتركوه ويعودوا إلى الكفر ، وإنما الذي وجد منهم هو

١٢١

الوعد بالإيمان إذا انكشف عنهم العذاب ، فلما انكشف عنهم ، نقضوا عهودهم ، واستمروا على كفرهم.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) (١).

ثم هددهم ـ سبحانه ـ تهديدا ترتعد له القلوب فقال : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ).

وقوله (يَوْمَ) منصوب بفعل مقدر. وقوله (نَبْطِشُ) من البطش بمعنى الأخذ بقوة وعنف. يقال : بطش فلان بفلان يبطش به ، إذا نكل به تنكيلا شديدا.

أى : اذكر ـ أيها العاقل ـ لتعتبر وتتعظ يوم أن نأخذ هؤلاء الكافرين أخذ عزيز مقتدر ، حيث ننتقم انتقاما يذلهم ويخزيهم.

وهذا البطش الشديد منا لهم سيكون جزءا منه في الدنيا ، كانتقامنا منهم يوم بدر وسيكون أشده وأعظمه وأدومه عليهم ... يوم القيامة.

وبذلك نرى السورة الكريمة بعد أن مدحت القرآن الكريم مدحا عظيما ، وبينت جانبا من مظاهر فضل الله ـ تعالى ـ على عباده ، أخذت في تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من أعدائه ، وهددت هؤلاء الأعداء بسوء المصير في الدنيا ، وفي الآخرة.

* * *

ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن جانب من قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ مع فرعون وملئه ، وكيف أن الله ـ تعالى ـ أجاب دعاء نبيه موسى ، فأهلك فرعون وقومه ، ونجى موسى وبنى إسرائيل من شرورهم فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا

__________________

(١) سورة الزخرف الآية ٤٩. ٥٠.

١٢٢

رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) (٣٣)

واللام في قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ..) موطئة للقسم. وقوله (فَتَنَّا) من الفتن بمعنى الاختبار والامتحان. يقال : فتنت الذهب بالنار ، إذا أدخلته فيها لتعرف جودته من رداءته.

والمراد به هنا : إخبارهم وامتحانهم ، بإرسال موسى ـ عليه‌السلام ـ وبالتوسعة عليهم تارة ، وبالتضييق عليهم تارة أخرى.

والمعنى : والله لقد اختبرنا فرعون وقومه من قبل أن نرسلك ـ أيها الرسول الكريم ـ إلى هؤلاء المشركين ، وكان اختبارنا وامتحاننا لهم عن طريق إرسال نبينا موسى إليهم ، وعن طريق ابتلائهم بالسراء والضراء لعلهم يرجعون إلى طاعتنا ، ولكنهم لم يرجعوا فأهلكناهم.

فالآية الكريمة المقصود بها تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من قومه ، ببيان أن تكذيب الأقوام لرسلهم ، حاصل من قبله ، فعليه أن يتأسى بالرسل السابقين في صبرهم.

والمراد بالرسول الكريم في قوله : ـ تعالى ـ : (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) : موسى ـ عليه‌السلام ـ ، فقد أرسله ـ سبحانه ـ إلى فرعون وقومه ، فبلغهم رسالة ربه ، ولكنهم كذبوه وعصوه ..

ووصف ـ سبحانه ـ نبيه موسى بالكرم ، على سبيل التشريف له ، والإعلاء من قدره ، فقد كان ـ عليه‌السلام ـ كليما لربه ، ومطيعا لأمره ، ومتحليا بأسمى الأخلاق وأفضلها.

١٢٣

و (أَنْ) في قوله ـ تعالى ـ (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ ..) مفسرة لأن مجيء الرسول إليهم يتضمن معنى القول. وقوله : (أَدُّوا إِلَيَ) بمعنى سلموا إلى ، أو ضموا إلى ...

قوله : (عِبادَ اللهِ) مفعول به. والمراد بهم بنو إسرائيل.

والمعنى : جاء إلى فرعون وقومه رسول كريم ، هو موسى ـ عليه‌السلام ـ ، فقال لهم : سلموا إلى بنى إسرائيل ، وأطلقوهم من الذل والهوان ، واتركوهم يعيشون أحرارا في هذه الدنيا.

ويؤيد هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ في موضع آخر : (فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ، فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ ..) (١).

ويصح أن يكون المراد بقوله (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ ..) بمعنى : أن استجيبوا لدعوتى ، والمراد بالعباد : ما يشمل بنى إسرائيل وغيرهم ، ويكون لفظ (عِبادَ اللهِ) منصوب بحرف نداء محذوف.

وعليه يكون المعنى : أرسلنا إلى فرعون وقومه رسولا كريما ، فجاء إليهم وقال لهم على سبيل النصح والإرشاد : يا عباد الله ، إنى رسول الله إليكم ، فاستمعوا إلى قولي ، واتبعوا ما أدعوكم إليه من عبادة الله ـ تعالى ـ وحده ، وترك عبادة غيره.

قال الآلوسى : قوله : (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ ..) أى : أطلقوهم وسلموهم إلى ، والمراد بهم بنو إسرائيل الذين كان فرعون يستعبدهم ، والتعبير عنهم بعباد الله ، للإشارة إلى أن استعباده إياهم ظلم منه لهم ..

أو أدوا إلى حق الله ـ تعالى ـ من الإيمان وقبول الدعوة يا عباد الله ، على أن مفعول (أَدُّوا) محذوف ، وعباد منادى ، وهو عام لبنى إسرائيل والقبط والأداء بمعنى الفعل للطاعة ـ وقبول الدعوة ..» (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) تعليل لما تقدم. أى : استجيبوا لدعوتى ، وأطيعوا أمرى ، فإنى مرسل من الله ـ تعالى ـ إليكم ، وأمين على الرسالة ، لأنى لم أبدل شيئا مما كلفنى به ربي.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ ..) معطوف على قوله : (أَنْ أَدُّوا ..) وداخل في حيز القول.

__________________

(١) سورة طه الآية ٤٧.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٥ ص ١٢١.

١٢٤

أى : قال لهم : أرسلوا معى بنى إسرائيل ، واستجيبوا لدعوتى ، واحذروا أن تتجبروا أو تتكبروا على الله ـ تعالى ـ ، بأن تستخفوا بوحيه أو تعرضوا عن رسوله ...

(إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أى : إنى آتيكم من عنده ـ تعالى ـ بحجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها ، وببرهان ساطع يشهد بصدقى وأمانتى ..

(وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) أى : وإنى اعتصمت واستجرت بربي وربكم من أن ترجمونى بالحجارة ، أو من أن تلحقوا بي ما يؤذيني ، وهذا الاعتصام بالله ـ تعالى ـ يجعلني لا أبالى بكم ، ولا أتراجع عن تبليغ دعوته ـ سبحانه ـ بحال من الأحوال.

(وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) أى : وقال لهم ـ أيضا ـ في ختام نصحه لهم : إنى لن أتراجع عن دعوتكم إلى الحق مهما وضعتم في طريقي من عقبات وعليكم أن تؤمنوا بي ، فإن لم تؤمنوا بي. فكونوا بمعزل عنى بحيث تتركونى وشأنى حتى أبلغ رسالة ربي ، فإنه لا موالاة ولا صلة بيني وبينكم ، مادمتم مصرين على كفركم.

فأنت ترى أن موسى ـ عليه‌السلام ـ قد طلب من فرعون وقومه الاستجابة لدعوته ، ونهاهم عن التكبر والغرور ، وبين لهم أنه رسول أمين على وحى الله ـ تعالى ـ ، وأنه معتصم بربه من كيدهم ، وأن عليهم إذا لم يؤمنوا به أن يتركوه وشأنه ، لكي يبلغ رسالة ربه ، ومن شاء بعد ذلك فليؤمن ومن شاء فليكفر.

ولكن الإرشادات الحكيمة من موسى لفرعون وقومه ، لم تجد أذنا صاغية ، فإن الطغيان في كل زمان ومكان ، لا يعجبه منطق الحق والعدل والمسالمة ، ولكن الذي يعجبه هو التكبر في الأرض بغير الحق ، وإيثار الغي على الرشد ..

ولذا نجد موسى ـ عليه‌السلام ـ يلجأ إلى ربه يطلب منه العون والنصرة فيقول ـ كما حكى القرآن عنه ـ : (فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ).

والآية الكريمة معطوفة على كلام محذوف ، يفهم من السياق ، والتقدير : وبعد أن أمر موسى فرعون وقومه بإخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ ونهاهم عن الإشراك به .. بعد كل ذلك أصروا على تكذيبه ، وأعرضوا عن دعوته ، وآذوه بشتى ألوان الأذى فدعا ربه دعاء حارا قال فيه : يا رب إن هؤلاء القوم ـ وهم فرعون وشيعته ـ قوم راسخون في الكفر والإجرام ، فأنزل بهم عقابك الذي يستحقونه.

ثم حكت السورة الكريمة بعد ذلك ما يدل على أن الله ـ تعالى ـ قد أجاب دعاء موسى ـ عليه‌السلام ـ ، وأنه ـ سبحانه ـ قد أرشده إلى ما يفعله فقال : (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ).

١٢٥

قال الجمل : «قوله : (فَأَسْرِ) قرأ الجمهور بقطع الهمزة وقرأ نافع وابن كثير بوصلها ، وهما لغتان جيدتان : الأولى من أسريت والثانية من سريت. قال ـ تعالى ـ (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) وقال : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) والإسراء السير ليلا ، فذكر الليل ـ هنا ـ تأكيد له بغير اللفظ ـ إذ الإسراء والسرى : السير ليلا» (١).

والكلام على تقدير القول ، أى : فقال الله ـ تعالى ـ على سبيل التعليم والإرشاد : سر يا موسى ببني إسرائيل وبمن آمن معك من القبط من مصر ، بقطع من الليل (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) من جهة فرعون وملئه ، متى علموا بخروجكم.

(وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً ...) أى : ومتى وصلت إلى البحر ـ أى : البحر الأحمر ـ فاضربه بعصاك ، ينفلق ـ بإذن الله ـ فسر فيه أنت ومن معك ، واتركه ساكنا مفتوحا على حاله ، فإذا ما سار خلفك فرعون وجنوده أغرقناهم فيه.

يقال : رها البحر يرهو ، إذا سكن. وجاءت الخيل رهوا ، أى : ساكنة ، ويقال ـ أيضا ـ : رها الرجل رهوا ، إذا فتح بين رجليه وفرق بينهما ، وهو حال من البحر.

قال الإمام الرازي : «وفي لفظ (رَهْواً) قولان :

أحدهما : أنه الساكن ، يقال : عيش راه ، إذا كان خافضا وادعا ساكنا ...

والثاني : أن الرهو هو الفرجة الواسعة ، أى : ذا رهو ، أى : ذا فرجة حتى يدخل فيها فرعون وقومه فيغرقوا .. وإنما أخبره ـ سبحانه ـ بذلك حتى يبقى فارغ القلب من شرهم وإيذائهم» (٢).

وقوله : (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) تعليل للأمر بتركه رهوا ، أى : اترك البحر على حاله ، فإن أعداءك سيغرقون فيه إغراقا يدمرهم ويهلكهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء مآلهم فقال : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) و (كَمْ) هنا خبرية للتكثير والتهويل ، أى : ما أكثر ما ترك هؤلاء المغرقون خلفهم من بساتين ناضرة ، وعيون يخرج منها الماء النمير ..

(وَزُرُوعٍ) كثيرة متنوعة (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) أى : ومحافل ومنازل كانت مزينة بألوان من الزينة والزخرفة ..

(وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) أى : وتنعم وترفه كانوا فيه يتلذذون ، بما بين أيديهم من رغد العيش. وكثرة الفاكهة ..

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ١٠٤.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ٤٥٣.

١٢٦

والنعمة ـ بفتح النون ـ بمعنى التنعم والتلذذ ، والنعمة ـ بالكسر ـ المنة والإنعام بالشيء وتطلق على الجنس الصادق بالقليل والكثير.

وقوله : (كَذلِكَ) في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف ، أى : الأمر كذلك.

قال الجمل ما ملخصه : «قوله : (كَذلِكَ ..) خبر مبتدأ محذوف. أى : الأمر كذلك. فالوقف يكون على هذا اللفظ ، وتكون الجملة اعتراضية لتقرير وتوكيد ما قبلها ... ويبتدأ بقوله : (وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) وهو معطوف على (كَمْ تَرَكُوا ..) أى : تركوا أمورا كثيرة وأورثناها قوما آخرين ، وهم بنو إسرائيل».

وقال الزمخشري : الكاف في محل نصب ، على معنى : مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها (وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) ليسوا منهم.

فعلى هذا يكون قوله (وَأَوْرَثْناها) معطوفا على تلك الجملة الناصبة للكاف ، فلا يجوز الوقف على (كَذلِكَ) حينئذ (١).

وقال الآلوسى : والمراد بالقوم الآخرين : بنو إسرائيل ، وهم مغايرون للقبط جنسا ودينا. ويفسر ذلك قوله ـ تعالى ـ في سورة الشعراء : (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) وهو ظاهر في أن بنى إسرائيل رجعوا إلى مصر ، بعد هلاك فرعون وملكوها.

وقيل : المراد بالقوم الآخرين غير بنى إسرائيل ممن ملك مصر بعد هلاك فرعون ، لأنه لم يرد في مشهور التواريخ أن بنى إسرائيل رجعوا إلى مصر ، ولا أنهم ملكوها قط.

وما في سورة الشعراء من باب قوله ـ تعالى ـ : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) أو من باب : عندي درهم ونصفه. فليس المراد خصوص ما تركوه ، بل نوعه وما يشبهه.

وقيل : المراد من إيراثها إياهم : تمكينهم من التصرف فيها ، ولا يتوقف ذلك على رجوعهم إلى مصر ، كما كانوا فيها أولا (٢) ..

والذي نراه ـ كما سبق أن قلنا عند تفسير سورة الشعراء (٣) ـ أن الآية صريحة في توريث بنى إسرائيل للجنات والعيون .. التي خلفها فرعون وقومه بعد غرقهم ، بمعنى أنهم عادوا إلى مصر بعد غرق فرعون ومن معه ، ولكن عودتهم كانت لفترة معينة ، خرجوا بعدها إلى الأرض المقدسة التي دعاهم موسى ـ عليه‌السلام ـ لدخولها كما جاء في قوله ـ تعالى ـ : (يا قَوْمِ

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ١٠٥.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٥ ص ١٢٣.

(٣) راجع تفسيرنا لسورة الشعراء. ص ٢٥١ ـ المجلد العاشر.

١٢٧

ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ. وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ..).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن فرعون وقومه بعد أن غرقوا ، لم يحزن لهلاكهم أحد ، فقال : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ).

أى : أن هؤلاء المغرقين ، الذين كانوا ملء السمع والبصر ، وكانوا يذلون غيرهم ، وكانوا يملكون الجنات والعيون ... هؤلاء الطغاة ، لم يحزن لهلاكهم أحد من أهل السموات أو أهل الأرض ، ولم يؤخر عذابهم لوقت آخر في الدنيا أو في الآخرة ، بل نزل بهم الغرق والدمار بدون تأخير أو تسويف ..

فالمقصود من الآية الكريمة بيان هوان منزلة هؤلاء المغرقين ، وتفاهة شأنهم ، وعدم أسف أحد على غرقهم ، لأنهم كانوا ممقوتين من كل عاقل ..

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : كان العرب إذا مات فيهم رجل خطير قالوا في تعظيم مهلكه : بكت عليه السماء والأرض وبكته الريح ، وأظلمت له الشمس ..

قال جرير في رثاء عمر بن العزيز :

نعى النعاة أمير المؤمنين لنا

يا خير من حج بيت الله واعتمرا

حملت أمرا عظيما فاصطبرت له

وقمت فيه بأمر الله يا عمرا

الشمس طالعة ليست بكاسفة

تبكى عليك نجوم الليل والقمرا

وقالت ليلى بنت طريف الخارجية ، ترثى أخاها الوليد :

أيا شجر الخابور مالك مورقا

كأنك لم تجزع على ابن طريف

وذلك على سبيل التمثيل والتخييل ، مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه ..

وفي الآية تهكم بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده ، فيقال فيه : بكت عليه السماء والأرض. يعنى فما بكى عليهم أهل السماء والأرض ، بل كانوا بهلاكهم مسرورين .. (١).

وقال الإمام أبن كثير : قوله : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ ..) أى : لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكى على فقدهم ، ولا لهم بقاع في أرض عبدوا الله فيها ففقدتهم فلهذا استحقوا أن لا ينظروا ولا يؤخروا ..

ثم ساق ـ رحمه‌الله ـ جملة من الأحاديث منها ما أخرجه ابن جرير عن شريح بن عبيد الحضرمي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الإسلام بدأ غريبا ، وسيعود غريبا ، ألا

__________________

(١) تفسير الكشاف وحاشيته ج ٤ ص ٢٧٦.

١٢٨

لا غربة على مؤمن. ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه. إلا بكت عليه السماء والأرض. ثم قرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية. ثم قال : إنهما لا يبكيان على كافر (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من نعمه على بنى إسرائيل فقال : (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ).

أى : والله لقد نجينا ـ بفضلنا ورحمتنا ـ بنى إسرائيل من العذاب المهين ، الذي كان ينزله بهم أعداؤهم ، كقتلهم للذكور ، واستبقائهم للإناث ..

وقوله : (مِنْ فِرْعَوْنَ) بدل من العذاب على حذف المضاف ، والتقدير : من عذاب فرعون .. أو على المبالغة كأن فرعون نفس العذاب ، لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ حال فرعون فقال : (إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) أى : نجيناهم من فرعون الذي كان متكبرا متجبرا ، ومن المسرفين في فعل الشرور ، وفي ارتكاب القبائح ..

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا آخر من إكرامه لبنى إسرائيل فقال : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ).

والاختيار : الاصطفاء على سبيل التشريف والتكريم ، أى : ولقد اصطفينا بنى إسرائيل على عالمي زمانهم ، ونحن عالمون بذلك علما اقتضته حكمتنا ورحمتنا.

فقوله (عَلى عِلْمٍ) في موضع الحال من الفاعل ، والمراد بالعالمين : أهل زمانهم المعاصرين لهم ، بدليل قوله ـ تعالى ـ في الأمة الإسلامية : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ..).

وهذا الاصطفاء والاختيار ، إنما مرده إلى من يعمل منهم عملا صالحا ، أما الذين لم يعملوا ذلك فلا مزية لهم ولا فضل ، ولذا نجد كثيرا من الآيات تذم من يستحق الذم منهم.

ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ، لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض المعجزات التي جاءتهم على أيدى رسلهم فقال : (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ).

أى : وأعطيناهم من المعجزات الدالة على صدق رسلهم كموسى وعيسى وغيرهما ، ما فيه بلاء مبين.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٣٩.

(٢) سورة المائدة الآية ٧٨. ٧٩.

١٢٩

أى : ما فيه اختبار وامتحان ظاهر ، ليتميز الخبيث من الطيب ، والكافر من المؤمن.

ومن هذه الآيات : فلق البحر بالنسبة لموسى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، بالنسبة لعيسى.

ومن هذه الآيات الكريمة نرى جانبا من قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ ، وكيف أنه بلغ رسالة ربه على أكمل وجه ، وسلك مع فرعون وقومه أحكم السبل في الدعوة إلى الحق ..

كما نرى فيها فضل الله ـ تعالى ـ على نبيه ، وعلى بنى إسرائيل ، حيث نجاهم من ظلم فرعون وطغيانه ، وأهلكه ومن معه أمام أعينهم ، وأورثهم كنوز أعدائهم ..

* * *

وبعد هذا الحديث عن موسى ـ عليه‌السلام ـ وعن قومه ، وعن فرعون وشيعته .. بعد كل ذلك انتقلت السورة ، للحديث عن موقف المشركين من قضية البعث والنشور ، وردت عليهم بما يدل على إمكانية البعث وصحته. وأنه واقع لا محالة ، وبينت سوء عاقبة من ينكر ذلك ، ومن يصر على كفره وجحوده فقال الله ـ تعالى ـ :

(إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ

١٣٠

صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) (٥٠)

واسم الإشارة في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ) يعود إلى مشركي مكة ، الذين سبق الحديث عنهم في قوله ـ تعالى ـ : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) إلخ.

وذكر ـ سبحانه ـ قصة فرعون وقومه في الوسط ، للإشارة إلى التشابه بين الفريقين في التكذيب للحق ، وفي الإصرار على الضلال.

وكانت الإشارة للقريب ، لتحقيرهم والتهوين من شأنهم.

و (إِنْ) في قوله ـ تعالى ـ : (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى ...) نافية. أى : إن هؤلاء الكافرين ليقولون على سبيل الجزم والتكذيب للبعث : ما الموتة التي نموتها في نهاية حياتنا الدنيوية ، إلا الموتة النهائية لا حياة بعدها ولا بعث ولا نشور.

ومرادهم من الأولى : السابقة المتقدمة على الموعد الذي يوعدونه للبعث والنشور.

قال بعض العلماء : وذلك أنهم لما وعدوا بعد الحياة الدنيا حالتين أخريين.

الأولى منهما الموت ، والأخرى حياة البعث ، أثبتوا الحالة الأولى وهي الموت ، ونفوا ما بعدها.

وسموها أولى مع أنهم اعتقدوا أنه لا شيء بعدها ، لأنهم نزلوا جحدهم على الإثبات فجعلوها أولى على ما ذكرت لهم .. (١).

وقوله : (وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) تأكيد لما سبقه. أى : قالوا ليس هنا من موت سوى الموت المزيل لحياتنا ، ثم لا بعث ولا حساب ولا نشور بعد ذلك.

يقال : أنشر الله ـ تعالى ـ الموتى نشورا ، إذا أحياهم بعد موتهم ، فهم منشرون.

ثم بين ـ سبحانه ـ مطالبهم المتعنتة ، وأدلتهم الباطلة فقال : (فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

والفاء للإفصاح ، والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين الذين كانوا يؤمنون بالبعث.

أى : إن هؤلاء الكافرين قالوا ـ أيضا ـ للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين : إن كان الأمر

__________________

(١) راجع تفسير الكشاف وحاشيته ج ٤ ص ٣٧٩.

١٣١

كما تقولون من أن هناك بعثا وحسابا .. فأعيدوا الحياة إلى آبائنا الأولين ، واجعلوهم يخرجون إلينا مرة لنراهم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ ...) تهديد لهم على جهالاتهم وإصرارهم على كفرهم.

والمراد بتبع : أبو كريب أسعد بن مليك ، ويسمى بتبع الحميرى. وهو أحد ملوك حمير.

وكان مؤمنا ، وقومه كانوا كافرين فأهلكهم الله. وإليه ينسب الأنصار ، ولفظ (تُبَّعٍ) يعد لقبا لكل ملك من ملوك اليمن ، كما أن لقب فرعون يعد لقبا لمن ملك مصر كافرا .. (١).

أى : إن هؤلاء الكافرين المعاصرين لك ـ أيها الرسول الكريم ـ ليسوا خيرا من قوم تبع ، الذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعا ، فلما لجوا في طغيانهم أهلكهم الله ـ تعالى ـ وإن مصير هؤلاء المشركين ـ إذا ما استمروا في عنادهم ـ سيكون كمصير قوم تبع ..

فالمقصود من الآية الكريمة تحذير الكافرين من التمادي في الضلال ، لأن هذا التمادي سيؤدي بهم الى الخسران ، كما هو حال قوم تبع الذين لا يخفى أمرهم عليهم.

والمراد بمن قبلهم في قوله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) : الأقوام السابقون على قوم تبع ، كقوم عاد وثمود وغيرهم. أو على هؤلاء الكافرين المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أى : والذين من قبل قوم تبع أو من قبل قومك من الظالمين ، أهلكناهم لأنهم كانوا قوما مجرمين.

ثم لفت ـ سبحانه ـ أنظار الناس إلى التفكر في خلق السموات والأرض فقال : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما ..) من مخلوقات لا يعلمها إلا الله ـ تعالى ـ ما خلقنا ذلك (لاعِبِينَ) أى : عابثين أو لغير غرض صحيح.

وقوله ـ تعالى ـ : (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) استثناء مفرغ من أعم الأحوال.

أى : ما خلقناهما إلا خلقا ملتبسا بالحق مؤيدا بالحكمة ..

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ذلك ، لانطماس بصائرهم ، واستحواذ الشيطان عليهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن يوم القيامة آت لا ريب فيه ، وسيحكم ـ سبحانه ـ في هذا اليوم بين الناس بحكمه العادل فقال : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) وهو يوم القيامة الذي يفصل فيه الله

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٤٢.

١٣٢

ـ عزوجل ـ بين المحق والمبطل ، وبين المهتدى والضال ..

هذا اليوم (مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) أى : وقت اجتماعهم للحساب جميعا دون أن يتخلف منهم أحد.

ثم وصف ـ سبحانه ـ هذا اليوم بقوله : (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ).

وقوله : (يَوْمَ لا يُغْنِي ...) بدل من يوم الفصل. والمولى : يطلق على القريب والصديق والناصر ..

أى : في هذا اليوم ، وهو يوم الفصل ، لن يستطيع قريب أن ينفع قريبه ، أو صديق أن ينفع صديقه شيئا من النفع ، ولا هم ينصرون من عذاب الله ـ تعالى ـ إذا ما أراد ـ سبحانه ـ إنزال عذابه بهم.

وقوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ ...) في محل رفع على أنه بدل من ضمير (يُنْصَرُونَ). أو في محل نصب على الاستثناء منه أى : لا يستطيع صديق أن يدفع العذاب عن صديقه ، ولا قريب أن ينفع قريبه أو ينصره ، إلا من رحمه‌الله ـ تعالى ـ ، وذلك بأن يعفو ـ سبحانه ـ عنه ، أو يقبل شفاعة غيره فيه.

(إِنَّهُ) ـ سبحانه ـ هو (الْعَزِيزُ) الذي لا يغلب (الرَّحِيمُ) الذي وسعت رحمته كل شيء.

ثم بين ـ سبحانه ـ طعام أهل النار وحالهم يوم القيامة فقال : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ. طَعامُ الْأَثِيمِ. كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ..).

والمراد بشجرة الزقوم : الشجرة التي خلقها الله ـ تعالى ـ في جهنم ، وسماها الشجرة الملعونة ، ليكون طعام أهل النار منها.

ولفظ الزقوم : اسم لتلك الشجرة ، أو من الزقم بمعنى الالتقام والابتلاع للشيء.

والأثيم : الكثير الآثام والسيئات. والمراد به الكافر لدلالة ما قبله عليه.

والمهل : هو النحاس المذاب ، أو رديء الزيت الحار.

أى : إن الشجرة الملعونة التي هي شجرة الزقوم ، خلقها الله ـ تعالى ـ لتكون طعاما للإنسان الكافر ، الكثير الآثام والجرائم ..

فتنزل في بطنه كما ينزل النحاس الحار المذاب ، فيغلي فيها كغلي الماء البالغ نهاية الحرارة.

فقوله : (كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) نعت لمصدر محذوف. أى : غليا كغلي الحميم.

١٣٣

وقوله ـ سبحانه ـ (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ، ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ...) مقول لقول محذوف ، هذا القول موجه من الله ـ تعالى ـ لملائكة العذاب.

وقوله ـ سبحانه (فَاعْتِلُوهُ) من العتل وهو الأخذ بمجامع الشيء ، وجره بغلظة وقهر.

يقال : عتل فلان فلانا يعتله عتلا ، إذا جذبه جذبا شديدا ، وسار به إلى ما يكره السير إليه.

أى : يقول الله ـ تعالى ـ لملائكة العذاب في هذا اليوم العسير : خذوا هذا الكافر الأثيم ، فجروه بغلظة ، وسوقوه بشدة (إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) أى : إلى وسطها.

(ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ) على سبيل التنكيل به (مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) صبا يذله ويوجعه ويجعل رأسه تغلى من شدة حرارة هذا الماء.

ثم قولوا له بعد ذلك على سبيل التهكم به ، والتقريع له : (ذُقْ) أى : تذوق شدة هذا العذاب فالأمر للإهانة.

(إِنَّكَ) كنت تزعم في الدنيا ، بأنك (أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ).

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات بقوله : (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) أى : إن هذا العذاب الذي نزل بكم أيها الكافرون ، هو ما كنتم بشأنه تجادلون وتخاصمون في الدنيا ، فمنكم من كان ينكره ، ومنكم من كان يشكك في صحته. فها هو ذا قد أصبح حقيقة واقعة فوق رءوسكم.

وهكذا نجد الآيات الكريمة ، قد وضحت أن يوم القيامة حق لا ريب فيه ، وأن الكافرين به سيصيبهم عذاب شديد يذلهم ويخزيهم.

* * *

وبعد هذا الحديث عن الكافرين وسوء مصيرهم ، ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بالحديث عن المتقين وحسن عاقبتهم فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣)

١٣٤

كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) (٥٩)

أى : إن الذين اتقوا الله ـ تعالى ـ وصانوا أنفسهم عن كل ما لا يرضيه سيكونون يوم القيامة (فِي مَقامٍ أَمِينٍ) أى : في مكان يأمن معه صاحبه من كل خوف.

فالمراد بالمقام ـ بالفتح ـ موضع القيام ، أى : الثبات والملازمة. وقرأ ابن عامر ونافع ، (مَقامٍ) ـ بضم الميم ـ أى : موضع الإقامة. والمراد أنهم في مكان أو مجلس لا خوف فيه ولا مكروه.

وقوله : (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) بدل من (مَقامٍ أَمِينٍ) بإعادة حرف الجر أى : هم في مكان آمن ، تتوسطه وتحيط به البساتين الناضرة ، وعيون الماء المتفجرة.

(يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ) والسندس هو أجود أنواع الحرير وأرقه ، واحده سندسة.

(وَإِسْتَبْرَقٍ) وهو ما كان سميكا من الديباج والحرير.

(مُتَقابِلِينَ) أى : يجلسون في مجالس متقابلة ، بحيث ينظر بعضهم إلى بعض.

(كَذلِكَ) أى : الأمر كذلك. من أن المتقين لهم كل هذا النعيم.

(وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أى : وزوجناهم بنساء يحار الطرف فيهم لجمالهن وحسنهن ، والحور : جمع حوراء .. وهي التي يحار الطرف فيها لفرط جمالها. والعين : جمع عيناء. وهي التي اتسعت عينها في حسن وجمال.

(يَدْعُونَ فِيها) أى : في الجنات (بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ).

أى : يطلبون ويأمرون غيرهم بأن يحضر لهم كل ما يشتهونه من فاكهة أو غيرها ، فيلبي طلبهم وهم آمنون في أماكنهم من كل خوف أو ضرر.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن بقاءهم في تلك الجنات بقاء دائم فقال : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى ، وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ).

١٣٥

أى : هم باقون بقاء دائما في تلك الجنات ، بحيث لا يموتون فيها أبدا ، إلا الموتة الأولى التي ذاقوها عند نهاية آجالهم في الدنيا ، ووقاهم ـ سبحانه ـ بعدها عذاب الجحيم ، الذي حل بالكافرين.

قال الآلوسى : وقوله : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) جملة مستأنفة أو حالية ، وكأنه أريد أن يقال : لا يذوقون فيها الموت البتة ، فوضع الموتة الأولى موضع ذلك ، لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل فهو من باب التعليق بالمحال ، كأنه قيل : إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها. ونظيره قول القائل لمن يستسقيه : لا أسقيك إلا الجمر ، وقد علم أن الجمر لا يسقى (١).

وقوله (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) أى : أعطوا كل ذلك فضلا من ربك ، فقوله (فَضْلاً) منصوب على المصدرية بفعل محذوف. أو على أنه مفعول لأجله. أى : لأجل الفضل منه ـ سبحانه ـ.

(ذلِكَ) الذي أعطيناهم إياه (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا يدانيه ولا يساميه فضل.

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) أى : فإنما أنزلنا عليك ـ يا محمد ـ هذا القرآن ، وجعلناه بلغتك ولغة قومك (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ما فيه من هدايات ويعتبرون بما اشتمل عليه من عبر وعظات.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بقوله : (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ).

أى : فعلنا ذلك لعلهم يتذكرون ، فإن لم يتذكروا ويتعظوا ويؤمنوا بما جئتهم به. فارتقب وانتظر ما يحل بهم من عذاب ، وما وعدناك به من النصر عليهم ، إنهم ـ أيضا ـ منتظرون ومرتقبون ما يحل بك من موت أو غيره.

ونحن بفضلنا ورحمتنا سنحقق لك ما وعدناك به ، وسنخيب ظنونهم وآمالهم.

وبعد فهذا تفسير وسيط لسورة «الدخان». نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٥ ص ١٣٦.

١٣٦

تفسير

سورة الجاثية

١٣٧
١٣٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «الجاثية» هي السورة الخامسة والأربعون في ترتيب المصحف. وكان نزولها بعد سورة «الدخان». وعدد آياتها سبع وثلاثون آية في المصحف الكوفي ، وست وثلاثون في غيره ، لاختلافهم في قوله ـ تعالى ـ (حم) ، هل هو آية مستقلة أولا.

٢ ـ وقد افتتحت هذه السورة بالثناء على القرآن الكريم ، وبدعوة الناس إلى التدبر والتأمل في هذا الكون العجيب ، وما اشتمل عليه من سموات وأرض ، ومن ليل ونهار ، ومن أمطار ورياح .. فإن هذا التأمل من شأنه أن يهدى إلى الحق ، وإلى أن لهذا الكون إلها واحدا قادرا حكيما ، هو الله رب العالمين.

قال ـ تعالى ـ : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).

٣ ـ ثم توعد ـ سبحانه ـ بعد ذلك الأفاكين بأشد أنواع العذاب ، لإصرارهم على كفرهم ، واتخاذهم آيات الله هزوا.

قال ـ تعالى ـ : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ، ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها ، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).

٤ ـ ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان جانب من نعم الله ـ تعالى ـ على خلقه ، تلك النعم التي تتمثل في البحر وما اشتمل عليه من خيرات ، وفي السموات والأرض وما فيهما من منافع.

قال ـ سبحانه ـ : (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

٥ ـ ثم بين ـ سبحانه ـ موقف بنى إسرائيل من نعم الله ـ تعالى ـ ، وكيف أنهم قابلوا

١٣٩

ذلك بالاختلاف والبغي ، ونهى ـ سبحانه ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الاستماع إليهم ، وبين أنه لا يستوي عنده ـ عزوجل ـ الذين اجترحوا السيئات ، والذين عملوا الصالحات.

فقال ـ تعالى ـ : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ ، أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ. وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

ثم حكى بعض الأقوال الباطلة التي تفوه بها الكافرون ، ورد عليها بما يزهقها ويثبت كذبها ، قال ـ تعالى ـ : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ، وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

٦ ـ ثم أخذت السورة الكريمة في أواخرها ، في بيان أهوال يوم القيامة ، وفي بيان عاقبة الأخيار وعاقبة الأشرار.

قال ـ تعالى ـ : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ، أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ ، فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ).

٧ ـ ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بالثناء على ذاته بما هو أهله ، فقال ـ تعالى ـ : (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ ، رَبِّ الْعالَمِينَ ، وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

هذا ، والمتدبر في هذه السورة الكريمة ، يراها تدعو الناس إلى التفكر فيما اشتمل عليه هذا الكون من آيات دالة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وكمال قدرته ، كما أنه يراها تحكى بشيء من التفصيل أقوال المشركين وترد عليها ، وتبين سوء عاقبتهم كما يراها تسوق ألوانا من نعم الله على خلقه ، وتدعو المؤمنين إلى التمسك بكتاب ربهم ، وتبشرهم بأنهم متى فعلوا ذلك ظفروا برضوان الله تعالى وثوابه.

فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ، ذلك هو الفوز المبين ، كما يراها تهتم بتفصيل الحديث عن أهوال يوم القيامة ، لكي يفيء الناس إلى رشدهم ، ويستعدوا لاستقبال هذا اليوم بالإيمان والعمل الصالح.

قال ـ تعالى ـ : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً ، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ

١٤٠