التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0693-0
الصفحات: ٣٥٥

وقوله ـ تعالى ـ (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ ..) معطوف على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أو بدل منه.

وكبائر الإثم : هي الذنوب الكبيرة التي يترتب عليها إقامة الحد على فاعلها أو الوعيد الشديد من الله ـ تعالى ـ لمرتكبها ، كقتل النفس ، وتعاطى الربا ، وما يشبه ذلك من الكبائر.

والفواحش : جمع فاحشة ، وهي من جملة كبائر الإثم ، إلا أن الله ـ تعالى ـ خصها بالذكر من باب عطف الخاص على العام ، اهتماما وأكثر ما تطلق الفواحش على جريمة الزنا.

كما قال ـ تعالى ـ : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً).

والمعنى : وما عند الله ـ تعالى ـ من ثواب في الآخرة خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ، وللذين يجتنبون ارتكاب كبائر الآثام ، كقتل النفس ، وأكل أموال الناس بالباطل ، ويجتنبون كذلك ما فحش وعظم قبحه من الذنوب ، كالزنا والبخل بما آتاهم الله من فضله ..

وليس المراد من هذه الآية الكريمة فتح الباب لارتكاب صغائر الآثام والذنوب ، بل المراد بيان فضل الله ـ تعالى ـ على عباده ، ورحمته بهم ، وبيان أن اجتناب كبائر الإثم والفواحش ، يؤدى ـ بفضل الله وكرمه ـ إلى غفران صغائر الذنوب ، كما قال ـ تعالى ـ : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) صفة أخرى من صفاتهم الكريمة.

أى : ما عند الله خير وأبقى ، للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ، وللذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وللذين من صفاتهم ـ أيضا ـ أنهم يتجاوزون عن الشخص الذي أغضبهم ، ويصفحون عنه ، ويحلمون عليه.

وخص حالة غضبهم بالغفران ، لأن هذه الحالة لا يقدر عليها إلا أصحاب العزائم القوية ، إذ من المعروف أن الإنسان في حالة غضبه ، كثيرا ما يفقد صوابه ، ويغلب عليه عدم السيطرة على مشاعره ، فإذا ما استطاع أن يكظم غيظه في حالة غضبه ، كان ذلك دليلا على قوة إيمانه وعلى ملكه لنوازع نفسه.

قال صاحب الكشاف : «هم يغفرون» أى : هم الأخصاء بالغفران في حال الغضب ، لا يغول الغضب أحلامهم كما يغول حلوم الناس. والمجيء بلفظ «هم» وإيقاعه مبتدأ وإسناد

__________________

(١) راجع تفسيرنا لهذه الآية في سورة النساء ص ١٢٨.

٤١

«يغفرون» إليه ، لهذه الفائدة ، ومثله «هم ينتصرون» (١).

ثم ذكر ـ سبحانه ـ صفات كريمة لهم فقال : (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) أى : أطاعوه في كل ما أمرهم به ، أو نهاهم عنه ..

(وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أى : حافظوا عليها ، وأدوها في أوقاتها بخشوع وإخلاص لله رب العالمين.

(وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) أى : شأنهم أنهم إذا حدث بينهم أمر هام يحتاج إلى المراجعة والمناقشة ، تجمعوا وتشاوروا فيما هو أنفع وأصلح.

قال القرطبي ما ملخصه : «قوله ـ تعالى ـ : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) أى : يتشاورون في الأمور.

والشورى مصدر شاورته ـ والتشاور : استخراج الرأى من الغير ..

قال الحسن : ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمورهم.

وقال ابن العربي : الشورى : ألفة للجماعة ، ومسبار للعقول ، وسبب إلى الصواب.

وقد قال الشاعر الحكيم :

إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن

برأى لبيب أو نصيحة حازم

ولا تجعل الشورى عليك غضاضة

فإن الخوافي قوة للقوادم (٢)

وقد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستشير أصحابه في الأمور التي تتعلق بالحروب وما يشبهها من الأمور الدنيوية ، ولم يكن يشاورهم في الأحكام لأنها منزلة من عند الله ـ تعالى ـ.

فأما الصحابة فكانوا يتشاورون في الأحكام ، ويستنبطونها من الكتاب والسنة ، فقد تشاوروا في الخلافة بعد موت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي ميراث الجد ، وفي حروب المرتدين (٣).

وقوله (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أى ومن صفات هؤلاء المؤمنين الصادقين ـ أيضا ـ أنهم مما أعطيناهم من الرزق ، يتصدقون على غيرهم من المحتاجين.

(وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أى : أن من صفاتهم كذلك أنهم إذا بغى عليهم باغ ، أو ظلمهم ظالم ، أو اعتدى على كرامتهم أو على دينهم معتد ، فإنهم لا يخضعون له ، ولا يذلون أمامه ، وإنما هم ينتصرون لدينهم ولكرامتهم ، بأن يقابلوا بغيه وعدوانه ، بما يردعه

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٢٢٧.

(٢) الخوافي الريش الذي يختفى عند ما يضم الطائر جناحيه. والقوادم : الريش الظاهر الكثير.

(٣) تفسير القرطبي ج ١٦ ص ٣٦.

٤٢

ويجعله يخشى إصابتهم بأذى.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ..) بيان لوجوب عدم تجاوز الحد عند دفع الظلم.

أى : أن الله ـ تعالى ـ يأمركم أنكم إذا أردتم الانتصار من الباغي فعليكم أن تقابلوا بغيه وظلمه وعدوانه بمثله بدون زيادة منكم على ذلك ، كما قال ـ تعالى ـ في آية أخرى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ).

قال الشوكانى : «ذكر ـ سبحانه ـ المغفرة عند الغضب في معرض المدح فقال : «وإذا ما غضبوا هم يغفرون» كما ذكر الانتصار على الباغي في معرض المدح ـ أيضا ـ لأن التذلل لمن بغى ، ليس من صفات من جعل الله له العزة ، حيث قال ـ سبحانه ـ (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ). فالانتصار عند البغي فضيلة ، كما أن العفو عند الغضب فضيلة.

قال النخعي : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم السفهاء.

ولكن هذا الانتصار مشروط بالاقتصار على ما جعله الله ـ تعالى ـ له ، وعدم مجاوزته ، كما بينه ـ سبحانه ـ عقب ذلك بقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) فبين ـ سبحانه ـ أن العدل في الانتصار ، هو الاقتصار على المساواة ..» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما هو أسمى من مقابلة السيئة بمثلها فقال : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).

أى : فمن عفا عمن أساء إليه ، وأصلح فيما بينه وبين غيره فأجره كائن على الله ـ تعالى ـ وحده ، وسيعطيه ـ سبحانه ـ من الثواب مالا يعلمه إلا هو ـ عزوجل ـ.

إنه ـ تعالى ـ لا يحب الظالمين بأى لون من ألوان الظلم.

وفي الحديث القدسي : «يا عبادي إنى حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا».

ثم أكد ـ سبحانه ـ ما سبق أن بينه من أن دفع بغى الباغي أمر محمود ، فقال تعالى (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ).

واللام في قوله (وَلَمَنِ انْتَصَرَ) هي لام الابتداء ، وقوله (بَعْدَ ظُلْمِهِ) مصدر مضاف لمفعوله و «من» شرطية ، وجوابها (فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) والمراد بالسبيل : المؤاخذة والحرج.

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٥ ص ٥٤١.

٤٣

أى : أن من انتصر لدينه وعرضه ، بعد ظلم الظالم له ، فأولئك الذين يفعلون ذلك ، لا يؤاخذون من أحد ، ولا يلامون من غيرهم ، لأنهم باشروا حقهم الذي شرعه الله ـ تعالى ـ لهم ، وهو مقابلة السيئة بمثلها.

ثم بين ـ سبحانه ـ على من تقع المؤاخذة والمعاقبة فقال : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ).

أى : إنما المؤاخذة والمعاقبة كائنة على الذين يظلمون غيرهم من الناس ، ويتكبرون ويتجاوزون حدودهم في الأرض بغير الحق.

وقيد ـ سبحانه ـ البغي في الأرض بكونه بغير الحق ، لبيان أنه لا يكون إلا كذلك ، إذ معناه في اللغة تجاوز الحد. يقال : بغى الجرح ، إذ تجاوز الحد في فساده ، فهذا القيد إنما هو لبيان الواقع ، وللتنفير منه.

(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أى : أولئك الذين من صفاتهم الظلم والبغي لهم عذاب أليم ، بسبب ما اجترحوه من ظلم وبغى.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الصفات الكريمة للمؤمنين فقال : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).

أى : وللإنسان الصابر على الأذى الذي يصفح عمن أساء إليه ، الثواب الجزيل ، والعاقبة الحسنة ، لأن ذلك الصبر والمغفرة منه ، لمن الأمور التي تدل على علو الهمة ، وقوة العزيمة ..

هذا ، والمتأمل في هذه الآيات الكريمة ، يراها قد مدحت المؤمنين الصادقين بجملة من الصفات الحميدة ، التي تعتبر على رأس الصفات الأساسية ، لكل أمة تريد أن تنال الظفر والسعادة في دنياها وآخرتها.

وبعد هذا الحديث عن المؤمنين وعن صفاتهم الكريمة وعما أعده سبحانه لهم من ثواب ، جاء الحديث عن الظالمين وما أعد لهم من عقاب ، وأمرهم ـ سبحانه ـ بالاستجابة لدعوة الحق من قبل أن يأتى يوم الحساب ، الذي لا ينفعهم فيه شفيع أو نصير ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ

٤٤

مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) (٤٨)

وقوله تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ ..) أى : ومن يخذله الله تعالى ويبعده عن طريق الهداية بسبب زيغه وإيثاره الغي على الرشد ، فليس لهذا الضال من ناصر ينصره بعد الله ـ تعالى ـ فالمراد بالضلال هنا : ما هو ضد الهداية والتوفيق للخير. والضمير في قوله «من بعده» يعود إلى الله ـ عزوجل ـ وقيل : يعود للخذلان المفهوم من قوله «يضلل».

ثم بين ـ سبحانه ـ حال الظالمين عند ما يعرضون على النار فقال : (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ).

أى : وترى ـ أيها العاقل ـ الظالمين حين رأوا العذاب المعد لهم يوم القيامة ، تراهم في نهاية الحسرة والذلة ، ويقولون في ندامة وانكسار : هل إلى (مَرَدٍّ) أى : مرجع إلى الدنيا من سبيل أو طريق ، فنعمل غير الذي كنا نعمل.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) بيان لحالهم عند ما يعرضون على النار بعد بيان ما يقولونه عند رؤيتهم لها.

٤٥

أى : أنهم عند رؤيتهم لجهنم يقولون هل من طريق للهرب من هذا العذاب لكي نرجع إلى الدنيا فنؤمن بالله ـ تعالى ـ ونعمل صالحا ، فلما وجدوا أنه لا طريق إلى ذلك زاد انكسارهم وذلهم وتراهم ـ أيها العاقل ـ يعرضون على النار عرضا مؤلما ، فهم خاضعون متضائلون من شدة ما أصابهم من ذل ، يسترقون النظر إلى النار من طرف خفى ، أى : من عين لا تكاد تتحرك من شدة ضعفها وهوانها ...

قال صاحب الكشاف : (خاشِعِينَ) متضائلين متقاصرين بما يلحقهم ، وقوله (مِنَ الذُّلِ) متعلق بخاشعين ـ (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) أى : يبتدئ نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف خفى بمسارقته كما ترى المصبور ـ أى المحبوس للقتل ـ ينظر إلى السيف ، وهكذا نظر الناظر إلى المكاره ، لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ، ويملأ عينيه منها ، كما يفعل الناظر إلى الشيء المحبوب ...» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يقوله المؤمنون الفائزون برضا الله ـ تعالى ـ بعد رؤيتهم لأحوال هؤلاء الظالمين فقال : (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ).

أى : وقال المؤمنون ـ على سبيل التحدث بنعمة الله عليهم ـ بعد أن رأوا انكسار الظالمين وذلتهم ... قالوا هؤلاء هم الخاسرون الذين خسروا أنفسهم يوم القيامة بتعريضها للعذاب المهين ، وخسروا أهليهم لأنهم إن كانوا معهم في النار فلن ينفعوهم بشيء ، وإن كانوا في الجنة فلن يستطيعوا الوصول إليهم ...

ألا إن ذلك العذاب المقيم الذي حل بهؤلاء الظالمين هو الخسران التام الكامل الذي لا خسران أفظع منه.

(وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ..) أى : لم يكن لهؤلاء الظالمين من نصراء أو شفعاء يحولون بينهم وبين العذاب الذي أعده ـ سبحانه ـ لهم بسبب ظلمهم وكفرهم.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) أى : ومن يضله الله ـ تعالى ـ عن طريق الهداية والرشاد (فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) أى فما له من طريق إلى الهدى أو النجاة.

ثم يوجه ـ سبحانه ـ أمره إلى هؤلاء المعاندين ، يدعوهم إلى الاستجابة للحق من قبل أن

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٢٣١.

٤٦

يأتى يوم القيامة الذي لا شك في مجيئه .. فيقول : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ..).

أى استجيبوا ـ أيها الناس ـ لدعوة الحق التي دعاكم إليها ربكم وخالقكم ، عن طريق الرسول الذي أرسله ـ سبحانه ـ إليكم ، ولتكن استجابتكم عاجلة في هذه الدنيا ، من قبل أن يأتى يوم القيامة الذي لن يستطيع أحد أن يرده أو يدفعه ، بعد أن حكم ـ سبحانه ـ بمجيئه ، وجعل له أجلا محددا لا يتخلف عنه.

ثم بين ـ سبحانه ـ حالهم عند مجيء هذا اليوم فقال : (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ).

والملجأ : هو المكان الذي يلجأ إليه الإنسان عند الشدائد والكروب لاتقائها ، والنكير بمعنى الإنكار.

أى : ليس لكم في هذا اليوم ملجأ تلتجئون إليه من العذاب ، وليس لكم القدرة على إنكار شيء مما اجترحتموه في الدنيا من الكفر والعصيان ، لأنه مسجل عليكم ، فما نزل بكم من عذاب بسبب كفركم وإعراضكم عن الحق ، وشيء أنتم تستحقونه ، ولن تجدوا يوم القيامة من ينكر استحقاقكم لهذا العذاب.

قال الآلوسى : قوله ـ تعالى ـ (وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أى : إنكار على أنه مصدر أنكر على غير القياس. ونفى ذلك مع قوله ـ تعالى ـ حكاية عنهم (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) تنزيلا لما يقع من إنكارهم منزلة العدم ، لعدم نفعه وقيام الحجة ، وشهادة الجوارح عليهم ، أو يقال : إن الأمرين باعتبار تعدد الأحوال والمواقف ..» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ وظيفة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ، إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ ..).

أى : فإن أعرض هؤلاء الظالمون عن دعوتك ـ أيها الرسول الكريم ـ ، فلا تحزن لذلك ، فإننا ما أرسلناك لتكون رقيبا على أعمالهم ، ومكرها لهم على الإيمان ، وإنما أرسلناك لتبلغ دعوة ربك إليهم ، ومن شاء بعد ذلك فليؤمن ومن شاء فليكفر.

والمراد بالإنسان في قوله ـ سبحانه ـ : (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها) جنسه الشامل للجميع والمراد بالرحمة : ما يشمل الغنى والصحة وغيرهما من النعم.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٥ ص ٢٥.

٤٧

أى : وإنا إذا أعطينا ومنحنا الإنسان بفضلنا وكرمنا نعمة كالمال والولد والجاه. فرح بها وانشرح لها.

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ) أى : الناس (سَيِّئَةٌ) من بلاء أو مرض أو خوف أو فقر (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أى : بسبب ما اكتسبته أيديهم من المعاصي والسيئات حزنوا وامتعضوا.

وقوله : (فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) تعليل لجواب الشرط المحذوف ، أى : وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم نسوا نعمنا وقنطوا ، فإن الإنسان الكافر كثير الكفر والجحود لنعم خالقه ـ عزوجل ـ أما من آمن وعمل صالحا فإنه يشكر ربه عند النعم ، ويصبر عند البلاء والنقم.

* * *

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بالحديث عن مظاهر قدرته التي لا يعجزها شيء ، وعن نفاذ مشيئته وحكمته ، وعن فضله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أوحى إليه بما أوحى ، من هدايات للناس. فقال ـ تعالى ـ :

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٥٣)

٤٨

وقوله ـ تعالى ـ (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ..) بيان لكمال قدرته ـ سبحانه ـ ، ولنفاذ مشيئته. والملك ـ بضم الميم ـ الاستيلاء على الشيء والتمكن من التصرف فيه.

أى : لله ـ تعالى ـ وحده ملك جميع ما في السموات والأرض ، وليس لأحد معه شيء لا اشتراكا ولا استقلالا ، وهو ـ سبحانه ـ «يخلق ما يشاء» أن يخلقه ، من غير أن يكون لأحد وصاية عليه ، أو اختيار لشيء معين ..

ثم فصل ـ سبحانه ـ بعض مظاهر هذه القدرة التامة ، والإرادة النافذة فقال : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) فهذه الجملة الكريمة بدل مفصل من مجمل ، أو بدل بعض من كل. وأحوال الناس بالنسبة للذرية لا تخلو عن هذه الأقسام الأربعة فهو ـ سبحانه ـ إما أن يهب لمن يشاء من عباده إناثا لا ذكور معهن ، وإما أن يهب لهم ذكورا لا إناث معهم ، وإما أن يهب لبعضهم الإناث والذكور معا وهذا معنى قوله ـ تعالى ـ (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) إذ التزويج معناه الجمع بين البنين والبنات.

وإما أن يجعل بعضهم عقيما ، أى : لا ذرية له ، ذكرا كان أو أنثى. يقال رجل عقيم وامرأة عقيم ، إذا كانا لا ذرية لهما.

وهذه الأحوال الأربعة كلها مشاهدة في حياة الناس ، فمنهم من معه الإناث فقط ، ومنهم من معه الذكور فقط ومنهم من معه الذكور والإناث ومنهم من ليس معه منهما شيء وهذا كله يدل على كمال قدرته ـ سبحانه ـ ، وعلى نفاذ إرادته وحكمته ، إذ أعطى من يشاء إعطاءه بفضله ، ومنع من يشاء منعه لحكمة يعلمها ، لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه.

فالآية الكريمة مسوقة لبيان أن العطاء والمنع بيد الله ـ تعالى ـ وحده ، وأن أحوال البشر بالنسبة للذرية خاضعة لمشيئته وحده ، وهو ـ سبحانه ـ يقدرها وفق علمه وإرادته وحكمته ؛ ليس لأحد مدخل في اختيار نوع معين من الذرية ، وليس عند أحد القدرة على إنجاب شيء منها ، إذا أراد الله منعه من ذلك.

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : «فإن قلت : لم قدم الإناث أولا على الذكور مع تقدمهم عليهن ، ثم رجع فقدمهم؟ ولم عرف الذكور بعد ما نكر الإناث؟

قلت : قدم الإناث لبيان أنه ـ سبحانه ـ يفعل ما يشاء ، لا ما يشاؤه الإنسان ، فكان ذكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهم ، والأهم واجب التقديم ...

وأخر ـ سبحانه ـ الذكور ، فلما أخرهم لذلك تدارك تأخيرهم ، وهم أحقاء بالتقديم

٤٩

بتعريفهم ، لأن التعريف تنويه وتشهير ، فكأنه قال : ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم ، ثم أعطى بذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير ، وعرف أن تقديمهن لم يكن لتقدمهن ، ولكن لمقتض آخر ، فقال : (ذُكْراناً وَإِناثاً) ، كما قال : (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ..) (١).

وقوله ـ تعالى ـ (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) تذييل قصد به تأكيد قدرته وحكمته. أى : إنه ـ سبحانه ـ واسع العلم بأحوال عباده وبما يصلحهم ، قدير على كل شيء ، فهو يفعل ما يفعله عن قدرة واختيار ، لا مكره له ولا معقب لحكمه.

ثم بين ـ سبحانه ـ الطرق التي بها يقع التكليم منه ـ تعالى ـ للمختارين من عباده فقال : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً ، أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ ..).

فهذه الآية الكريمة قد دلت على أن تكليم الله ـ تعالى ـ للبشر وقع على ثلاثة أوجه :

الأول : عن طريق الوحى ، وهو الإعلام في خفاء وسرعة عن طريق الإلقاء في القلب يقظة أو مناما ، ويشمل الإلهام والرؤيا المنامية.

والوحى مصدر أوحى ، وقد غلب استعماله فيما يلقى للمصطفين الأخيار من الكلمات الإلهية.

والثاني : عن طريق الإسماع من وراء حجاب ، أى حاجز ، بأن يسمع النبي كلاما دون أن يرى من يكلمه ، كما حدث لموسى. عليه‌السلام ـ عند ما كلمه ربه ـ عزوجل ـ ، وهذا الطريق هو المقصود بقوله ـ تعالى ـ : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ).

والثالث : عن طريق إرسال ملك ، وظيفته أن يبلغ الرسول ما أمره الله بتبليغه له ، وهو المقصود بقوله ـ تعالى ـ (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ).

وهذا الطريق الثالث قد وضحه الحديث الذي رواه الإمام البخاري عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ أن الحارث بن هشام ، سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، كيف يأتيك الوحى؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس ـ وهو أشده على ـ أى : أحيانا يأتينى مشابها صوته وقوع الحديد بعضه على بعض ـ فيفصم عنى وقد وعيت عنه ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعى ما يقول.

قالت عائشة : ولقد رأيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينزل عليه الوحى في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه ،

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٢٣٢.

٥٠

وإن جبينه ليتفصد عرقا.

والمعنى : وما صح وما استقام لبشر أن يكلمه الله ـ تعالى ـ في من حال الأحوال إلا موحيا إليه ، أو مسمعا إياه ما يريد إسماعه له من وراء حجاب أو يرسل إليه ملكا ليبلغه ما يريده ـ سبحانه ـ منه.

وقوله ـ تعالى ـ (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) تعليل لما قبله ، أى : إنه ـ سبحانه ـ متعال عن صفات النقص ، حكيم في كل أقواله وأفعاله.

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر فضله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ..).

والكاف في قوله «كذلك» بمعنى مثل واسم الإشارة يعود إلى ما أوحاه إلى الرسل السابقين.

والمراد بالروح : القرآن ـ وسماه ـ سبحانه ـ روحا ، لأن الأرواح تحيا به ، كما تحيا الأبدان بالغذاء المادي.

أى : ومثل إيحائنا إلى غيرك من الرسل ، أوحينا إليك ـ أيها الرسول الكريم ، هذا القرآن ، الذي هو بمنزلة الأرواح للأجساد ، وقد أوحيناه إليك بأمرنا وإرادتنا ومشيئتنا ، وأنت ـ أيها الرسول الكريم ـ ما كنت تعرف أو تدرك حقيقة هذا الكتاب حتى عرفناك إياه ، وما كنت تعرف أو تدرك تفاصيل ، وشرائع وأحكام هذا الذين الذي أوحيناه إليك بعد النبوة.

فالمقصود بهذه الآية الكريمة نفى علم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا القرآن قبل النبوة ، ونفى أن يكون ـ أيضا ـ عالما بتفاصيل وأحكام هذا الدين لا نفى أصل الإيمان.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ، وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ ، وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) (٢).

والضمير في قوله ـ تعالى ـ : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) يعود إلى القرآن الكريم ، الذي عبر عنه بالروح.

أى : ولكن جعلنا هذا القرآن العظيم نورا ساطعا ، نهدي به من نشاء هدايته من عبادنا.

__________________

(١) سورة النساء الآية ١١٣.

(٢) سورة يوسف الآية ٣.

٥١

(وَإِنَّكَ) أيها الرسول الكريم (لَتَهْدِي) من أرسلناك إليهم (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أى طريق واضح قويم لا اعوجاج فيه ولا التواء.

وقوله : (صِراطِ اللهِ) بدل مما قبله ، وإضافته إلى الله ـ تعالى ـ للتفخيم والتشريف.

أى : وإنك لترشد الناس إلى صراط الله (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وخلقا وتصرفا ..

(أَلا إِلَى اللهِ) ـ تعالى ـ وحده (تَصِيرُ الْأُمُورُ) أى : تنتهي إليه الأمور وتصعد إليه وحده ، فيقضى فيها بقضائه العادل ، وبحكمه النهائى الذي لا معقب له.

وبعد : فهذا تفسير وسيط لسورة «الشورى» نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده.

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

٥٢

تفسير

سورة الزّخرف

٥٣
٥٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «الزخرف» من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها تسع وثمانون آية ، وكان نزولها بعد سورة «الشورى».

٢ ـ وقد افتتحت سورة «الزخرف» بالثناء على القرآن الكريم ، وبتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من قومه ، وببيان جانب من مظاهر قدرته ـ تعالى ـ ، ومن أنواع نعمه.

قال ـ تعالى ـ : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً ، وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ ، فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ. وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ ..).

٣ ـ ثم انتقلت السورة إلى الحديث عن جهالات المشركين ، وعن دعاواهم الكاذبة ، وعن أقوالهم الفاسدة عند ما يدعون إلى الدخول في الدين الحق.

قال ـ تعالى ـ : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ، سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ. وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ، ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) ........ (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ).

٤ ـ وبعد أن ساقت السورة الكريمة جانبا من دعوة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لقومه ، واصلت حديثها عن موقف المشركين من دعوة الحق ، وعن اعتراضهم على نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أخذت في تفنيد هذه الاعتراضات ، وفي تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه منهم ، وبينت سوء عاقبتهم في الدنيا والآخرة.

قال ـ تعالى ـ : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ، نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ، وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ..)

٥٥

٥ ـ ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك جانبا من قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ وكيف أن الله ـ تعالى ـ دمر فرعون وقومه ، بسبب بغيهم وإصرارهم على كفرهم.

قال ـ تعالى ـ : (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ ، قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ، وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ. أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ. فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ. فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ. فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ. فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ).

٦ ـ ثم أتبعت السورة حديثها عن جانب من قصة موسى مع فرعون وقومه ، بالحديث عن موقف المشركين من عيسى ـ عليه‌السلام ـ الذي جاء قومه بالحق والحكمة ، فقال ـ تعالى ـ : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ. إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ).

٧ ـ ثم وجه ـ سبحانه ـ نداء إلى عباده المؤمنين ، بشرهم فيه برضوانه وجنته ، فقال ـ تعالى ـ : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ. ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ. يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ).

٨ ـ وكعادة القرآن الكريم في المقارنة بين عاقبة الأخيار والأشرار ، أتبع القرآن حديثه عن ثواب المتقين ، بالحديث عن عقاب الكافرين ، فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ. لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ. وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ).

٩ ـ ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بتلقين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجواب الذي يخرس به ألسنة المشركين ، ويسليه عن كيدهم ولجاجهم ويسلحه بالحق الذي لا يحوم حوله باطل.

قال ـ تعالى ـ : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ. سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ. فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ).

إلى أن يقول ـ سبحانه ـ : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ. وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ. فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).

١٠ ـ وبعد فهذا عرض إجمالى لبعض المقاصد التي اشتملت عليها سورة «الزخرف» ،

٥٦

ومنه نرى أن السورة الكريمة تهتم اهتماما واضحا بالحديث عن العقبات التي وضعها المشركون في طريق الدعوة الإسلامية ، وكيف أن الله ـ تعالى ـ قد أعطى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم السلاح الذي يهدم به هذه العقبات كما اهتمت ببيان مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ ونعمه على خلقه ، وببيان جانب من قصص بعض الأنبياء. كإبراهيم وموسى وعيسى ـ عليهم‌السلام ـ لتسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما لحقه من أذى المشركين ، كما اهتمت بالمقارنة بين عاقبة الأخيار والأشرار ، وبإقامة البراهين الساطعة على وحدانية الله ـ عزوجل ـ إلى غير ذلك من المقاصد التي لا مجال لتفصيل الحديث عنها في تلك المقدمة ، وإنما سنتحدث عنها بشيء من التوضيح خلال تفسيرنا لآيات السورة الكريمة.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

القاهرة : مدينة نصر

مساء الثلاثاء ٨ من صفر سنة ١٤٠٦ ه‍ ١٢ / ١٠ / ١٩٨٥ م

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

٥٧
٥٨

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) (٨)

سورة «الزخرف» من السور التي افتتحت بالحروف المقطعة ، وقد سبق أن قلنا في المراد بهذه الحروف ما خلاصته : هذه الحروف التي افتتحت بها بعض السور ، يغلب على الظن أنه جيء بها للتنبيه إلى إعجاز القرآن ، لأنه مؤلف من كلام هو من جنس كلامهم ، ومع ذلك فقد عجزوا عن أن يأتوا بسورة من مثله .. (١).

والواو في قوله ـ تعالى ـ : (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) للقسم ، والمقسم به الكتاب ، وجواب القسم قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ...).

أى : وحق هذا الكتاب الواضح المرشد إلى طريق الحق والسعادة ، لقد جعلنا بقدرتنا وحكمتنا هذا الكتاب قرآنا عربيا (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

أى : جعلناه كذلك لكي تفهموه وتتعقلوا معانيه ، وتهتدوا إلى ما فيه من الأحكام السامية ، والآداب العالية.

__________________

(١) راجع تفسيرنا لسور : البقرة ، وآل عمران ، والأعراف.

٥٩

قال صاحب الكشاف : أقسم ـ سبحانه ـ بالكتاب المبين وهو القرآن وجعل قوله : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) جوابا للقسم ، وهو من الأيمان الحسنة البديعة ، لتناسب القسم والمقسم عليه ، وكونهما من واد واحد .. و (الْمُبِينِ) أى : البين الذي أنزل بلغتهم وأساليبهم .. (١).

فقوله ـ تعالى ـ : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) بيان للحكمة التي من أجلها أنزل الله ـ تعالى ـ هذا القرآن بلسان عربي مبين. أى : جعلناه كذلك رجاء أن تعقلوا وتفهموا أوامره ونواهيه ، وتوجيهاته وإرشاداته.

ثم بين ـ سبحانه ـ المنزلة السامية التي جعلها لهذا القرآن ، والصيانة التامة التي أحاطه بها فقال : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ).

والمراد بأم الكتاب : اللوح المحفوظ ، وسمى بذلك لأن جميع الكتب السماوية منقولة عنه. كما قال ـ تعالى ـ : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ).

وقيل : المراد بأم الكتاب : علمه الأزلى ـ عزوجل ـ.

أى : وإن هذا القرآن المبين لثابت ، وكائن في اللوح المحفوظ ، وهو (لَدَيْنا) أى : عندنا (لَعَلِيٌ) أى : لرفيع الشأن ، عظيم القدر (حَكِيمٌ) أى : محكم النظم في أعلى طبقات البلاغة. فلا يضيره تكذيب المكذبين ، ولا طعن الطاعنين.

فالآية الكريمة تدل دلالة واضحة على القيمة العظيمة التي جعلها ـ سبحانه ـ لهذا القرآن ، في علمه ـ تعالى ـ وتقديره ، كما أن وصف هذا الكتاب بقوله (لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) يؤكد هذه المنزلة السامية ويقررها.

وبعد هذا البيان المشرف للقرآن الكريم ، أتبع ـ سبحانه ـ ذلك بالكشف عن مدى الإسراف القبيح الذي ارتكبه المشركون حين أعرضوا عنه فقال ـ تعالى ـ : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً ، أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ).

والهمزة للاستفهام الإنكارى ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، والضرب هنا : بمعنى التنحي والابتعاد والإهمال ، تقول : ضربت عن فلان صفحا ، إذا أعرضت عنه وتركته ، والصفح : مصدر صفحت عنه ، إذا أعرضت عنه ، وذلك بأن تعطيه صفحة وجهك أى : جانبه. وهو منصوب لنضرب من غير لفظه ، كما في قولهم : قعدت جلوسا. أو على الحال من الفاعل : على المصدرية أى : صافحين.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٤٦.

٦٠