التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0693-0
الصفحات: ٣٥٥

النار : يا مالك ادع لنا ربك كي يقضى علينا ، بأن يميتنا حتى نستريح من هذا العذاب.

فالمراد بالقضاء هنا : الإهلاك والإماتة ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ..) أى : فأهلكه.

وفي هذا النداء ما فيه من الكرب والضيق ، حتى إنهم ليتمنون الموت لكي يستريحوا مما هم فيه من عذاب.

وهنا يجيئهم الرد بما يزيدهم غما على غمهم ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) أى : قال مالك في الرد عليهم : إنكم ماكثون فيها بدون موت يريحكم من عذابها ، وبدون حياة تجدون معها الراحة والأمان.

وقوله ـ سبحانه ـ : (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) تأكيد منه ـ تعالى ـ وتقرير لرد مالك عليهم ، ومبين لسبب مكثهم فيها ..

أى : لقد جئناكم ـ أيها الكافرون ـ بالحق على ألسنة رسلنا الذين لم يتركوا وسيلة من الوسائل إلا وسلكوها معكم في الإرشاد إلى طريق الهدى ، ولكن أكثركم كان كارها للحق والهدى ، معرضا عنهما إعراضا كليا ، مصرا على كفره وشركه.

وعبر ـ سبحانه ـ بالأكثر لأن قلة منهم لم تكن كارهة للحق ، ولكنها كانت منقادة لأمر سادتها وكبرائها .. أما الذين كانوا يعرفون الحق ولكن يكرهونه ، فهم الزعماء والكبراء ، لأنهم يرون في اتباعه انتقاصا من شهواتهم وتصادما مع أهوائهم.

ثم وبخهم ـ سبحانه ـ على مكرهم ، وبين أنه مكر بائر خائب فقال : (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ).

و (أَمْ) هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة ، والجملة الكريمة كلام مستأنف مسوق لتأنيب المشركين على ما دبروه من كيد للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين. والإبرام : الإتقان للشيء والإحكام له ، وأصله الفتل المحكم. يقال : أبرم فلان الحبل ، إذا أتقن فتله.

أى : بل أحكموا كيدهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه؟ إن كانوا يظنون ذلك فقد خاب ظنهم ، لأن مكرنا أعظم من مكرهم ، وكيدنا يزهق كيدهم ..

فالمقصود بالآية الكريمة الانتقال من عدم إجابة ندائهم ، إلى تأنيبهم على ما كان منهم في الدنيا من مكر بالحق وأهله ، وكيف أن هذا المكر السيئ كانت نتيجته الخسران لهم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ...) توبيخ آخر لهم على جهلهم وانطماس بصائرهم.

١٠١

والمراد بالسر هنا : حديثهم مع أنفسهم ، والمراد بنجواهم : ما تكلم به بعضهم مع بعض دون أن يطلعوا عليه أحدا غيرهم.

أى : بل أيظن هؤلاء الجاهلون أننا لا نعلم ما يتحدثون به مع أنفسهم ، وما يتحدثون به مع غيرهم في خفية واستتار.

وقوله ـ سبحانه ـ : (بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) أى : إذا كانوا يظنون ذلك فقد خابوا وخسروا ، فإننا نعلم سرهم ونجواهم. ورسلنا الذين يحفظون عليهم أعمالهم ، ملازمون لهم ، ويسجلون عليهم كل صغيرة وكبيرة.

وبعد هذا التهديد والوعيد لأولئك الكافرين .. تأخذ السورة الكريمة في تلقين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحجة التي يجابهم بها ، وفي تسليته عما أصابه منهم ، وفي الثناء على الله ـ تعالى ـ بما هو أهله من تمجيد وتعظيم ، ثم تختتم بهذا النداء الخاشع من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لخالقه ـ عزوجل ـ فتقول :

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٨٩)

١٠٢

و (إِنْ) في قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ ...) يرى بعضهم أنها شرطية ، وأن الكلام مسوق على سبيل الفرض والتقدير.

والمعنى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ ردا على هؤلاء الكافرين الذين نسبوا الولد إلى الله ـ تعالى ـ ، قل لهم : إن كان للرحمن ولد ـ على سبيل الفرض والتقدير ـ فأنا أول العابدين لهذا الولد ، ولكن هذا الفرض قد ثبتت استحالته يقينا لا شك معه ، فما أدى إليه ، وما ترتب عليه من نسبتكم الولد إلى الله ـ تعالى ـ محال ـ أيضا ـ وإذا فأنا لا أعبد إلا الله ـ تعالى ـ وحده ، وأنزهه ـ سبحانه ـ عن الولد أو الشريك.

ومن الآيات الكريمة التي نفت عن الله ـ عزوجل ـ الولد قوله ـ تعالى ـ : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) (٢).

ومن المفسرين الذين رجحوا أن تكون (إِنَ) هنا شرطية ، الإمام ابن جرير ، فقد قال بعد أن ذكر بعض الأقوال في ذلك : وأولى الأقوال عندنا بالصواب في ذلك ، قول من قال : معنى (إِنَ) الشرط الذي يقتضى الجزاء. ومعنى الكلام : قل يا محمد لمشركي قومك ، الزاعمين أن الملائكة بنات الله ، إن كان للرحمن ولد ـ على سبيل الفرض ـ فأنا أول العابدين. ولكنه لا ولد له فأنا أعبده لأنه لا ينبغي أن يكون له ولد.

وإذا وجه الكلام إلى ما قلنا من هذا الوجه ، لم يكن على وجه الشك ، ولكن على الإلطاف في الكلام ، وحسن الخطاب ، كما قال ـ جل ثناؤه ـ (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣).

وقال الإمام ابن كثير : يقول ـ تعالى ـ : (قُلْ) يا محمد (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ).

أى : لو فرض هذا لعبدته على ذلك ، لأنى عبد من عبيده ، مطيع لجميع ما أمرنى به ، ليس عندي استكبار ولا إباء عن عبادته ، فلو فرض هذا كان هذا ، ولكن هذا ممتنع في حقه

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ١٠١.

(٢) سورة مريم الآيات ٨٨ ـ ٩٢.

(٣) راجع تفسير ابن جرير ج ٢٥ ص ٦١.

١٠٣

ـ تعالى ـ ، والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز ـ أيضا ـ كما قال ـ تعالى ـ : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (١).

وقال صاحب الكشاف ـ رحمه‌الله ـ : قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ ..) وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح .. (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أى : فأنا أول من يعظم ذلك الولد ، وأسبقكم إلى طاعته ..

وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض ، وهو المبالغة في نفى الولد ، والإطناب فيه .. وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد ، وهي محال في نفسها ، فكان المعلق بها محالا مثلها .. (٢).

ويرى بعض العلماء أن (إِنْ) في الآية نافية بمعنى ما ، فيكون المعنى : قل ـ أيها الرسول ـ لهؤلاء الكافرين : ما كان للرحمن من ولد ، وما صح وما أمكن ذلك ، فهو مستحيل عقلا وشرعا ... وما دام الأمر كذلك ، فأنا أول العابدين لله ـ تعالى ـ المنزهين له عن الولد والشريك وغيرهما.

قال الإمام القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ ...) اختلف في معناه. فقال ابن عباس والحسن والسدى : المعنى : ما كان للرحمن ولد. (إِنْ) بمعنى ما ، ويكون الكلام على هذا تاما ، ثم تبتدى بقوله ـ تعالى ـ (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ).

وقيل المعنى : قل يا محمد ، إن ثبت له ولد ، فأنا أول من يعبد ولده ، ولكن يستحيل أن يكون له ولد ، وهو كما تقول لمن تناظره : إن ثبت ما قلت بالدليل ، فأنا أول من يعتقده ، وهذا مبالغة في الاستبعاد ، أى : لا سبيل إلى اعتقاده ..

و (إِنْ) على هذا للشرط ، وهو الأجود.

وقيل إن معنى (الْعابِدِينَ) الآنفين. وقال بعض العلماء لو كان كذلك لكان العبدين .. بغير ألف ، يقال : عبد ـ بكسر الباء ـ يعبد عبدا ـ بفتحها ـ إذا أنف وغضب فهو عبد ، والاسم العبدة ، مثل الأنفة .. (٣).

ويبدو لنا أن الرأيين يؤديان إلى نفى أن يكون لله ـ تعالى ـ ولد وإن كان الرأى الأول ـ وهو أنّ حرف (إِنْ) للشرط ـ هو المتبادر من معنى الآية وعليه جمهور المفسرين.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٣٨.

(٢) راجع تفسير الكشاف ج ٤ ص ٢٦٥.

(٣) تفسير القرطبي ج ١٦ ص ١٢٠.

١٠٤

ثم نزه ـ عزوجل ـ ذاته عن أقوال المفترين فقال : (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ).

وسبحان : اسم مصدر بمعنى التنزيه والتقديس ، منصوب على أنه مفعول مطلق بفعل محذوف ، أى : سبحت الله ـ تعالى ـ تسبيحا ، ونزهته تنزيها ، عن أن يكون له ولد أو شريك ، فهو ـ عزوجل ـ رب السموات ، ورب الأرض رب العرش العظيم ، وهو المتعالي عن كل ما وصفه الكافرون والفاسقون من صفات لا تليق بجلاله.

وجاء هذا التنزيه والتقديس بلفظ (سُبْحانَ) ، لا بلفظ الفعل سبح أو يسبح ، لأن النقص الذي أرادوا إلصاقه به شنيع ، فكان من المناسب أن يؤتى بأقوى لفظ في التنزيه والتقديس.

وما في قوله : (عَمَّا يَصِفُونَ) مصدرية ، أى : عن وصفهم لله الولد ، ويصح أن تكون موصولة والعائد محذوف. أى : عن الذي يصفونه به.

وفي إضافة رب إلى العرش ، مع أنه أعظم الأجرام ، تنبيه على أن جميع المخلوقات تحت ملكوته وربوبيته ، فكيف يتخذ من خلقه ولدا؟.

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا ..) للافصاح عن شرط مقدر ..

أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لك ـ أيها الرسول الكريم ـ فاترك هؤلاء الكافرين يخوضون في باطلهم ، وينهمكون في لعبهم ..

(حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) وهو يوم القيامة ، الذي سنحاسبهم فيه حسابا عسيرا ، ونعاقبهم بالعقوبة التي يستحقونها.

فالآية الكريمة تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما لحقه منهم من أذى ، وتهديد لأولئك الكافرين على أقوالهم الباطلة ، وأفعالهم الشنيعة.

ثم أكد ـ سبحانه ـ أنه هو الإله الحق ، وأن كل ما عداه باطل ، فقال : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ ، وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ).

والجار والمجرور في قوله (فِي السَّماءِ) و (فِي الْأَرْضِ) متعلق بلفظ (إِلهٌ) ، لأنه بمعنى معبود أو بمعنى مستحق للعبادة ، وهذا اللفظ الكريم خبر مبتدأ محذوف ، أى : هو إله ..

أى : وهو ـ سبحانه ـ وحده المعبود بحق في السماء ، والمعبود بحق في الأرض ، لا إله غيره ، ولا رب سواه ، وهو ـ عزوجل ـ (الْحَكِيمُ) في كل أقواله وأفعاله (الْعَلِيمُ) بكل شيء في هذا الوجود.

١٠٥

فالآية الكريمة تدل على أن المستحق للعبادة من أهل السماء ومن أهل الأرض ، هو الله ـ تعال ـ ، وكل معبود سواه فهو باطل.

قال الجمل ما ملخصه : قوله ـ سبحانه ـ : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ ..) الجار والمجرور متعلق بلفظ إله ، لأنه بمعنى معبود في السماء ومعبود في الأرض ..

وبما تقرر من أن المراد بإله : معبود ، اندفع ما قيل من أن هذا يقتضى تعدد الآلهة ، لأن النكرة إذا أعيدت نكرة تعددت ، كقولك : أنت طالق وطالق.

وإيضاح هذا الاندفاع ، أن الإله بمعنى المعبود ، وهو ـ تعالى ـ معبود فيهما. والمغايرة إنما هي بين معبوديته في السماء ، ومعبوديته في الأرض ، لأن المعبودية من الأمور الإضافية فيكفى التغاير فيها من أحد الطرفين ، فإذا كان العابد في السماء غير العابد في الأرض ، صدق أن معبوديته في السماء غير معبوديته في الأرض مع أن المعبود واحد ، وفيه دلالة على اختصاصه ـ تعالى ـ باستحقاق الألوهية ، فإن التقديم يدل على الاختصاص .. (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) ثناء منه ـ سبحانه ـ على ذاته بما هو أهله.

ولفظ (تَبارَكَ) فعل ماض ، أى تعالى الله وتعظم ، وزاد خيره وكثر إنعامه ، وهو مأخوذ من البركة ـ بفتح الراء ـ بمعنى الكثرة من كل خير .. أو من البرك ـ بسكون الراء ـ بمعنى الثبوت والدوام .. وكل شيء ثبت ودام فقد برك.

أى : وتعالى الله وتقدس ، وثبت خيره ، وزاد إنعامه ، فهو ـ سبحانه ـ الذي له ملك السموات والأرض ، وله ملك ما بينهما من مخلوقات أخرى لا يعملها أحد سواه.

(وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أى : وعنده وحده لا عند غيره العلم التام بوقت قيام الساعة.

فالمصدر وهو (عِلْمُ) مضاف لمفعوله وهو (السَّاعَةِ) والعالم بذلك هو الله ـ تعالى ـ.

والمراد بالساعة : يوم القيامة ، وسميت بذلك لسرعة قيامها ، كما قال ـ تعالى ـ (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ...).

(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أى : وإليه وحده مرجعكم للحساب أو الجزاء ، وليس إلى أحد سواه ـ عزوجل ـ.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٩٨.

١٠٦

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه لا شفاعة لأحد إلا بإذنه ، فقال : ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون.

والمراد بالموصول في قوله : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ ...) الأصنام وغيرها مما عبد من دون الله ـ تعالى ـ ، وهو فاعل ، وجملة (يَدْعُونَ) صلة لا محل لها من الإعراب ، والعائد محذوف.

والشفاعة من الشفع بمعنى الضم ، لأن الشفيع ينضم إلى المشفوع له ، فيصير شفعا بعد أن كان فردا.

والاستثناء في قوله (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) متصل ، لأن المستثنى منه عام ، ثم استثنى منه الموحدون ، كعيسى ابن مريم.

والمعنى : ولا يملك المعبودون من دون الله ـ تعالى ـ الشفاعة لأحد من الناس ، إلا من شهد بالحق منهم ، وأخلص العبادة لله ـ تعالى ـ وحده ، كعيسى ابن مريم ، وعزير ، والملائكة ، فهؤلاء يملكونها إذا أذن الله ـ سبحانه ـ لهم بها.

ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا ، إذا كان المستثنى منه خاصا بالأصنام فيكون المعنى : ولا تملك الأصنام الشفاعة لأحد ، لكن من شهد بالحق وبوحدانية الله كعيسى ابن مريم وغيره ، فإنه يملكها بإذن الله ـ تعالى ـ.

ويصح أن يكون المراد بقوله : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) المؤمن المشفوع فيه فيكون المعنى : ولا يملك أحد الشفاعة لأحد. إلا لمن آمن بالله ـ تعالى ـ وشهد الشهادة الحق وهو المؤمن ، فإنه تجوز الشفاعة له ، أما الكافر فلا يملك أحد أن يشفع له. كما قال ـ تعالى ـ : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى ..)

وجملة (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) حالية. أى : والحال أنهم يعلمون علما يقينا ، أن المستحق للعباد هو الله ـ تعالى ـ.

وقيد ـ سبحانه ـ الشهادة بقوله (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) للإشعار بأن الشهادة بالحق مع العلم بها هي المعتدة ، أما الشهادة بدون علم بالمشهود به فإنها لا تكون كذلك.

وجمع ـ سبحانه ـ الضمير (هُمْ) باعتبار معنى (مِنْ) ، وأفرده في ضمير (شَهِدَ) باعتبار لفظها.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما كان عليه المشركون من تناقض بين أقوالهم وأفعالهم فقال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ ، فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ).

١٠٧

أى : والله لئن سألت ـ يا محمد ـ هؤلاء الكافرين عمن خلقهم وخلق من يعبدونهم من دون الله ، ليقولن : الله هو الخالق لكل المخلوقات.

وقوله : (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) استفهام قصد به التعجب من أحوالهم المتناقضة أى : ما دمتم قد اعترفتم بأن الخالق لكم ولغيركم هو الله ، فكيف انصرفتم عن عبادة الله إلى عبادة غيره. وكيف أشركتم معه غيره في ذلك مع اعترافكم بأنه ـ سبحانه ـ هو الخالق لكل شيء.

يقال : أفك فلان فلانا يأفك إفكا ـ من باب طرب وعلم ـ إذا صرفه وقلبه عن الشيء. وسميت قرى قوم لوط بالمؤتفكات لأن جبريل جعل عاليها سافلها بأمر الله ـ تعالى ـ.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما تضرع به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ربه فقال : (وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ..).

والقيل ، والقال ، والقول ... كلها مصادر بمعنى واحد. والضمير يعود إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقراءة الجمهور بفتح اللام وضم الهاء ، على أنه معطوف على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) ويكون مقول القول : (يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ).

والمعنى : أيحسب هؤلاء الكافرون الجاهلون ، أننا لا نسمع سرهم ونجواهم ، ونسمع تضرع رسولنا إلينا بقوله : (يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ)؟

إن كانوا يحسبون ذلك الحسبان ، فقد كذبوا وخسروا ، لأننا نعلم ذلك وغيره علما تاما. ويصح أن يكون قوله ـ تعالى ـ (وَقِيلِهِ) منصوبا بفعل محذوف والتقدير : ويعلم قيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ..

وقرأ عاصم وحمزة (وَقِيلِهِ) بكسر اللام والهاء ، عطفا على الساعة أى : وعنده ـ سبحانه ـ علم الساعة ، وعلم قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا رب إن هؤلاء المشركين قوم لا يؤمنون.

والتعبير بالنداء بلفظ الرب ، يشعر بالقرب ، ويوحى بالإجابة ويفيد كمال التضرع ..

كما أن التعبير بقوله (قَوْمٌ) يشير إلى أن كفرهم كان كفرا جماعيا ، لا كفرا فرديا.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) إرشاد وتسلية من الله ـ تعالى ـ لنبيه. أى : فأعرض عنهم ، ولا تطمع في إيمانهم لشدة كفرهم ، (وَقُلْ سَلامٌ) أى : وقل لهم : أمرى وشأنى الآن مسالمتكم ومتاركتكم .. (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) سوء عاقبة كفرهم وإصرارهم على باطلهم.

١٠٨

وبعد : فهذا تفسير لسورة «الزخرف» نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

١٠٩
١١٠

تفسير

سورة الدّخان

١١١
١١٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «الدخان» من السور المكية ، وعدد آياتها : تسع وخمسون آية في المصحف الكوفي ، وسبع وخمسون في البصري ، وست وخمسون في غيرهما. وكان نزولها بعد سورة «الزخرف».

٢ ـ وقد افتتحت بالثناء على القرآن الكريم ، وأنه قد أنزله ـ سبحانه ـ في ليلة مباركة ، قال ـ تعالى ـ : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ..).

٣ ـ ثم تحدثت عن جانب من العقوبات الدنيوية التي عاقب الله ـ تعالى ـ بها كفار قريش ، وذكرت ما تضرعوا به إلى الله لكي يكشف عنهم ما نزل بهم من بلاء ، فلما كشفه ـ تعالى ـ عنهم عادوا إلى كفرهم وعنادهم ...

قال ـ تعالى ـ : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ. فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ. رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ..).

٤ ـ ثم ساقت جانبا من قصة فرعون مع موسى ـ عليه‌السلام ـ ، فبينت أن موسى دعا فرعون وقومه إلى وحدانية الله ـ تعالى ـ ، ولكنهم أصروا على كفرهم ، فكانت عاقبتهم الإغراق في البحر ، دون أن يحزن لهلاكهم أحد ، وأنهم قد تركوا من خلفهم ما تركوا من جنات ونعيم ..

قال ـ تعالى ـ : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ. فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ ..)

٥ ـ وبعد أن هددت السورة الكريمة مشركي مكة على أقوالهم الباطلة في شأن البعث ، وردت عليهم بما يدحض حجتهم ، أتبعت ذلك ببيان سوء عاقبة الكافرين ، وحسن عاقبة المؤمنين ، وختمت بتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من أذى ، ووعدته بالنصر على أعدائه ، قال ـ تعالى ـ : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ).

٦ ـ هذا والمتدبر في هذه السورة الكريمة يراها تمتاز بقصر الآيات ، وبأسلوبها الذي تبرز فيه

١١٣

ألوانا متعددة من تهديد المشركين ، تارة عن طريق تذكيرهم بالقحط الذي نزل بهم ، وتارة عن طريق ما حل بالمكذبين من قبلهم ، وتارة عن طريق ما ينتظرهم من عذاب مهين ، إذا ما استمروا على كفرهم ...

كما يراها تثنى على القرآن بألوان متعددة من الثناء ، وتبشر المتقين ببشارات متنوعة ، وتطوف بالنفس الإنسانية في عوالم شتى ، لتهديها إلى الصراط المستقيم ، ولترشدها إلى طريق الحق واليقين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

القاهرة : مدينة نصر

مساء الجمعة ٢٥ من صفر سنة ١٤٠٦ ه

٨ / ١١ / ١٩٨٥ م

١١٤

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (٨)

سورة «الدخان» من السور المبدوءة بالحروف المقطعة ، وقد سبق أن قلنا إن أقرب الآراء إلى الصواب في معناها : أن الله ـ تعالى ـ جاء بها في أوائل بعض السور للتحدى والتعجيز والتنبيه إلى أن هذا القرآن من عند الله ـ عزوجل ـ فكأنه ـ تعالى ـ يقول للمكذبين : هذا هو القرآن ، مؤلف من كلمات وحروف هي من جنس ما تتخاطبون به ، فإن كنتم في شك في كونه من عنده ـ تعالى ـ فأتوا بسورة من مثله .. فعجزوا وانقلبوا خاسرين ، وثبت أن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ.

والواو في قوله ـ تعالى ـ : (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) للقسم ، وجوابه (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ..).

والمراد بالليلة المباركة : ليلة القدر ...

أى : وحق هذا القرآن الواضح الكلمات ، البين الأسلوب ، لقد ابتدأنا إنزاله في ليلة كثيرة البركات والخيرات.

١١٥

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد وصف هذه الليلة بأنها مباركة ، لزيادة خيرها وفضلها ، ولما تتابع فيها من نعم دينية ودنيوية ..

ولله ـ تعالى ـ أن يفصل بعض الأزمنة على بعض وبعض الأمكنة على بعض وبعض الرسل على بعض .. لا راد لفضله ، ولا معقب لحكمه ...

قال الإمام ابن كثير : «يقول الله ـ تعالى ـ «مخبرا عن هذا القرآن الكريم : أنه أنزله في ليلة مباركة ، وهي ليلة القدر ، كما قال ـ تعالى ـ : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ..) وكان ذلك في شهر رمضان ، كما قال ـ تعالى ـ : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) ..

ومن قال بأنها ـ أى : الليلة المباركة ـ ليلة النصف من شعبان ـ كما روى عن عكرمة ـ فقد أبعد النّجعة ، فإن نص القرآن أنها في رمضان» (١).

هذا وقد فصل بعضهم أدلة من قال بأن المراد بها ليلة القدر ، وأدلة من قال بأن المراد بها ليلة النصف من شعبان (٢).

والحق أن المراد بها ليلة القدر ، التي أنزل فيها القرآن من شهر رمضان ، كما نصت على ذلك آية سورة البقرة التي تقول : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ...).

والأحاديث التي أوردها بعضهم في أن المراد بها ليلة النصف من شعبان ، أحاديث مرسلة أو ضعيفة ، أو لا أساس لها .. فثبت أن المراد بها ليلة القدر.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) استئناف مبين لمقتضى الإنزال ..

والإنذار : إخبار فيه تخويف وترهيب ، كما أن التبشير إخبار فيه تأمين وترغيب.

أى : أنزلنا هذا القرآن في تلك الليلة المباركة ، أو ابتدأنا إنزاله فيها ، لأن من شأننا أن نخوف بكتبنا ووحينا ، حتى لا يقع الناس في أمر نهيناهم عن الوقوع فيه.

وقوله ـ تعالى ـ : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) جملة مستأنفة ـ أيضا ـ لبيان وجه تخصيص هذه الليلة بإنزال القرآن فيها.

وقوله (يُفْرَقُ) أى : يفصل ويبين ويكتب. و (حَكِيمٍ) أى : ذو حكمة ، أو محكم لا تغيير فيه.

أى : في هذه الليلة المباركة يفصل ويبين ويكتب ، كل أمر ذي حكمة باهرة ، وهذا الأمر صادر عن الله ـ تعالى ـ ، الذي لا راد لقضائه ، ولا مبدل لحكمه.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٣٢.

(٢) راجع حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٩٩. وتفسير الآلوسى ج ٢٥ ص ١١١.

١١٦

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : فإن قلت : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) ما موقع هاتين الجملتين؟

قلت : هما جملتان مستأنفتان ، فسر بهما جواب القسم الذي هو قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) كأنه قيل : أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب ، وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصا ، لأن إنزال القرآن من الأمور الحكيمة ، وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم.

ومعنى (يُفْرَقُ) يفصل ويكتب كل أمر حكيم من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم ..» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن مرد هذه الكتابة والتقدير للأشياء إليه وحده فقال : (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا ..).

ولفظ (أَمْراً ..) يرى بعضهم أنه حال من (كُلُّ أَمْرٍ ..) أى : يفرق في هذه الليلة المباركة كل أمر ذي حكمة ، حالة كون هذا الأمر من عندنا وحدنا لا من عند غيرنا.

ويصح أن يكون منصوبا على الاختصاص ، وتنكيره للتفخيم ، أى : أعنى بهذا الأمر الحكيم ، أمرا عظيما كائنا من عندنا وحدنا. وقد اقتضاه علمنا وتدبيرنا.

وقوله : (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ..) بدل من قوله : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ).

أى أنزلنا هذا القرآن ، في تلك الليلة المباركة لأن من شأننا إرسال المرسلين إلى الناس ، لأجل الرحمة بهم ، والهداية لهم ، والرعاية لمصالحهم.

وقوله : (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) تعليل لما قبله. أى : فعل ما فعل من إنزال القرآن ، ومن إرسال الرسل ، لأنه ـ سبحانه ـ هو السميع لمن تضرع إليه ، العليم بجميع أحوال خلقه.

ثم وصف ـ سبحانه ـ ذاته بما يدل على كمال قدرته ، ونفاذ إرادته فقال : (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ..) من هواء ، ومن مخلوقات لا يعلمها إلا الله ـ تعالى ـ.

(إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أى : إن كنتم على يقين في إقراركم حين تسألون عمن خلق السموات والأرض وما بينهما.

وجواب الشرط محذوف ، أى : إن كنتم من أهل الإيقان علمتم بأن الله ـ تعالى ـ وحده ، هو رب السموات والأرض وما بينهما.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٢٧٠.

١١٧

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ـ سبحانه ـ (يُحْيِي) من يريد إحياءه ، (وَيُمِيتُ) من يريد إماتته ، هو ـ تعالى ـ (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ).

أى : هو ـ سبحانه ـ الذي تعهدكم بالرعاية والتربية والخلق ، كما فعل ذلك مع آبائكم الأولين ، الذين أنتم من نسلهم ..

ثم بين ـ سبحانه ـ أحوال الكافرين ، وكيف أنهم عند ما ينزل يهم العذاب ، يجأرون إلى الله ـ تعالى ـ أن يكشفه عنهم. فقال ـ تعالى ـ :

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) (١٦)

و (بَلْ) في قوله ـ تعالى ـ : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) للاضراب الإبطالى ، لأن المقصود من الآية الكريمة ، نفى إيقانهم بأن خالق السموات والأرض هو الله ، لعدم جريهم على ما يقتضيه هذا الإيقان ، لأنهم لو كانوا موقنين حقا بذلك ، لأخلصوا لله ـ تعالى ـ العبادة والطاعة.

فيكون المعنى : إن هؤلاء الكفار لم يكونوا موقنين بأن رب السموات والأرض وما بينهما هو الله ، بل قالوا ما قالوا في ذلك على سبيل الشك واللعب.

قال الآلوسى : «قوله : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ ...) إضراب إبطالى ، أبطل به إيقانهم لعدم جريهم على موجبه ، وتنوين (شَكٍ) للتعظيم ، أى : في شك عظيم. (يَلْعَبُونَ) أى : لا يقولون ما يقولون عن جد وإذعان ، بل يقولونه مخلوطا بهزء ولعب. وهذه الجملة خبر بعد خبر لهم .. والالتفات عن خطابهم لفرط عنادهم ، وإهمال أمرهم ..» (١).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٥ ص ١١٦.

١١٨

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، ولتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمره بالصبر حتى يحكم الله بينه وبينهم.

والارتقاب : الانتظار ، وأكثر ما يستعمل الارتقاب في الأمر المكروه والمراد باليوم مطلق الوقت ، وهو مفعول به لارتقب.

قال الآلوسى ما ملخصه : «والمراد بالسماء جهة العلو ، وإسناد الإتيان بذلك إليها من قبيل الإسناد إلى السبب ، لأنه يحصل بعدم إمطارها ...».

أى : فارتقب يوم تأتى السماء بجدب ومجاعة ، فإن الجائع جدا يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان ، وهي ظلمة تعرض للبصر لضعفه .. وإرادة الجدب والمجاعة منه مجاز ، من باب ذكر المسبب وإرادة السبب .. وبعض العرب يسمى الشر الغالب دخانا ، ووجه ذلك أن الدخان مما يتأذى به فأطلق على كل مؤذ يشبهه ، وأريد به هنا الجدب ، ومعناه الحقيقي معروف» (١).

وللمفسرين في معنى هذه الآية اتجاهات أولها : ما ورد في الحديث الصحيح من أن مشركي مكة ، لما أصروا على كفرهم وعلى إعراضهم عن الحق ، دعا عليهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف ..» فأصابهم القحط والبلاء والجوع ..

وكنى عن ذلك بالدخان ، لأن العرب يسمون الشر الغالب بالدخان ، فيقولون : كان بيننا أمر ارتفع له دخان ..

والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد ضعفه ، أظلمت عيناه ، فيرى الدنيا كالمملوءة بالدخان.

روى البخاري وغيره عن ابن مسعود قال : إن قريشا لما أبطأت عن الإسلام ، واستعصت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا عليهم بسنين كسنى يوسف ، فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان ...

فقيل : يا رسول الله ، استسق الله لمضر فإنها قد هلكت ، فاستسقى لهم فسقوا ، فأنزل الله : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ).

قال ابن كثير : «وهذا الحديث مخرج في الصحيحين ، ورواه الإمام أحمد في مسنده ، وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيرهما ، وعند ابن جرير وابن أبى حاتم من طرق متعددة» (٢).

وعلى هذا الرأى يكون الدخان قد وقع فعلا ، بمعنى أن المشركين قد أصابهم بلاء شديد في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم كشف الله عنهم منه ما كشف ببركة دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٥ ص ١١٧.

(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٣٣.

١١٩

أما الاتجاه الثاني فيرى أصحابه ، أن المراد بالدخان ، ما يكون قبل يوم القيامة من دخان يسبق ذلك ، كعلامة من علامات البعث والنشور ..

واستدل أصحاب هذا الاتجاه ، بأحاديث ذكرها المفسرون.

قال ابن كثير : «وقال آخرون : لم يمض الدخان بعد ، بل هو من أمارات الساعة ، كما تقدم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري. قال : أشرف علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غرفته ونحن نتذاكر الساعة ، فقال : «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، وخروج عيسى ابن مريم ، والدجال وثلاثة خسوف : خسوف بالمشرق وخسوف بالمغرب ، وخسوف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس ـ أو تحشر الناس ـ تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل حيث قالوا».

ثم ساق ابن كثير بعد ذلك أحاديث أخرى ، وقال في نهايتها : والظاهر أن ذلك يوم القيامة» (١).

ويبدو لنا أن الاتجاه الأول أقرب إلى سياق الآيات التي ذكرها الله ـ تعالى ـ في هذه السورة ، ولا يتعارض ذلك مع كون ظهور الدخان علامة من علامات قرب يوم القيامة ، كما جاء في حديث حذيفة بن أسيد الغفاري ، الذي ذكره ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ وقال في شأنه : تفرد بإخراجه مسلم في صحيحه.

ومن المفسرين الذين رجحوا الاتجاه الأول الإمام الطبري ، فقد قال بعد أن ساق هذين القولين : وأولى القولين بالصواب في ذلك قول ابن مسعود ، من أن الدخان الذي أمر الله ـ تعالى ـ نبيه أن يرتقبه ، هو ما أصاب قومه من الجهد بدعائه عليهم.

وإنما قلت القول الذي قاله ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ هو أولى بتأويل الآية ، لأن الله ـ تعالى ـ توعد بالدخان مشركي قريش ... ولأن الأخبار قد تظاهرت بأن ذلك كائن والمعنى : فانتظر يا محمد لمشركي قومك ، يوم تأتيهم السماء من البلاء الذي يحل بهم ، بمثل الدخان المبين» (٢).

ومنهم ـ أيضا ـ الإمام الآلوسى ، فقد قال ـ رحمه‌الله ـ : هذا ، والأظهر حمل الدخان على ما روى عن ابن مسعود ، لأنه أنسب بالسياق ، لما أنه في كفار قريش ، وبيان سوء حالهم» (٣).

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٣٣.

(٢) راجع تفسير ابن جرير ج ٢٥ ص ٦٨.

(٣) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٥ ص ١١٨.

١٢٠