التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0693-0
الصفحات: ٣٥٥

قال الآلوسى : قال مجاهد : نزلت هذه الآيات في بنى أسد ، وهم قبيلة كانت تسكن بجوار المدينة ، أظهروا الإسلام ، وقلوبهم دغلة ، إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا .. ويروى أنهم قدموا المدينة في سنة مجدبة ، فأظهروا الشهادتين ، وكانوا يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : جئناك بالأثقال والعيال ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان .. يمنون بذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) من الإيمان ، وهو التصديق القلبي ، والإذعان النفسي والعمل بما يقتضيه هذا الإيمان من طاعة لله ـ تعالى ـ ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (أَسْلَمْنا) من الإسلام بمعنى الاستسلام والانقياد الظاهري بالجوارح ، دون أن يخالط الإيمان شغاف قلوبهم. أى : قالت الأعراب لك ـ أيها الرسول الكريم ـ آمنا وصدقنا بقلوبنا لكل ما جئت به ، وامتثلنا لما تأمرنا به وتنهانا عنه.

قل لهم (لَمْ تُؤْمِنُوا) أى : لم تصدقوا تصديقا صحيحا عن اعتقاد قلب وخلوص نية .. (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) أى : ولكن قولوا نطقنا بكلمة الإسلام ، واستسلمنا لما تدعونا إليه استسلاما ظاهريا طمعا في الغنائم ، أو خوفا من القتل.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما وجه قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) والذي يقتضيه نظم الكلام أن يقال : قل لا تقولوا آمنا ، ولكن قولوا أسلمنا ...

قلت : أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولا ، ودفع ما انتحلوه ، فقيل : قل لم تؤمنوا ، وروعي في هذا النوع من التكذيب أدب حسن حين لم يصرح بلفظه ، حيث لم يقل : كذبتم ، ووضع ، «لم تؤمنوا» الذي هو نفى ما ادعوا إثباته موضعه ..

واستغنى بالجملة التي هي «لم تؤمنوا» عن أن يقال : لا تقولوا آمنا ، لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهى عن القول بالإيمان .. (٢).

وقوله : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) جملة حالية من ضمير ، «قولوا» و «لما» لفظ يفيد توقع حصول الشيء الذي لم يتم حصوله.

أى : قولوا أسلمنا والحال أنه لم يستقر الإيمان في قلوبكم بعد ، فإنه لو استقر في قلوبكم لما سلكتم هذا المسلك ، ولما مننتم على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإسلامكم.

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : وقد استفيد من هذه الآية الكريمة : أن الإيمان أخص من

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٦ ص ١٧٦.

(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٣٧٦.

٣٢١

الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ، ويدل عليه حديث جبريل ، حين سأل عن الإسلام. ثم عن الإيمان .. فترقى من الأعم إلى الأخص.

كما يدل على ذلك حديث الصحيحين عن سعد بن أبى وقاص ، أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطى رجلا ولم يعط آخر. فقال سعد : يا رسول الله ، مالك عن فلان إنى لأراه مؤمنا ، فقال : «أو مسلما» ..

فقد فرق صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المؤمن والمسلم. فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام.

كما دل هنا عن أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية ، إنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم. فادعوا لأنفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه ، فأدبوا بذلك .. (١).

ثم أرشدهم ـ سبحانه ـ إلى ما يكمل إيمانهم فقال : (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

ومعنى : «لا يلتكم» لا ينقصكم. يقال : لات فلان فلانا حقه ـ كباع ـ إذا نقصه.

أى : وإن تطيعوا الله ـ تعالى ـ ورسوله ، بأن تخلصوا العبادة ، وتتركوا المن والطمع ، لا ينقصكم ـ سبحانه ـ من أجور أعمالكم شيئا ، إن الله ـ تعالى ـ واسع المغفرة والرحمة لعباده التائبين توبة صادقة نصوحا.

ثم بين ـ سبحانه ـ صفات عباده المؤمنين الصادقين فقال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).

أى : إنما المؤمنون حق الإيمان وأكمله ، هم الذين آمنوا بالله ـ تعالى ـ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) أى : لم يدخل قلوبهم شيء من الريبة أو الشك فيما أخبرهم به نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأتى ـ سبحانه ـ بثم التي للتراخي ، للتنبيه على أن نفى الريب عنهم ليس مقصورا على وقت إيمانهم فقط ، بل هو مستمر بعد ذلك إلى نهاية آجالهم ، فكأنه ـ سبحانه ـ يقول : إنهم آمنوا عن يقين ، واستمر معهم هذا اليقين إلى النهاية.

ثم أتبع ذلك ببيان الثمار الطيبة التي ترتبت على هذا الإيمان الصادق فقال : (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ).

أى : وبذلوا من أجل إعلاء كلمة الله ـ تعالى ـ ، ومن أجل دينه أموالهم وأنفسهم.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٦٨.

٣٢٢

قال الآلوسى : وتقديم الأموال على الأنفس من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى. ويجوز بأن يقال : قدم الأموال لحرص الكثيرين عليها ، حتى إنهم يهلكون أنفسهم بسببها .. (١) (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أى : أولئك الذين فعلوا ذلك هم الصادقون في إيمانهم.

ثم أمر ـ سبحانه ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخبرهم بأن الله ـ تعالى ـ لا يخفى عليه شيء من أحوالهم فقال : (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ).

وقوله : (أَتُعَلِّمُونَ) من الإعلام بمعنى الإخبار ، فلذا تعدى بالتضعيف لواحد بنفسه ، وإلى الثاني بحرف الجر. أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الأعراب على سبيل التوبيخ : أتخبرون الله ـ تعالى ـ بما أنتم عليه من دين وتصديق حيث قلتم آمنا ، على سبيل التفاخر والتباهي .. والحال أن الله ـ تعالى ـ (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) دون أن يخفى عليه شيء من أحوال المخلوقات الكائنة فيهما.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) مقرر لما قبله ومؤكد له.

ثم أشار ـ تعالى ـ إلى نوع آخر من جفائهم وقلة إدراكهم فقال : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ...).

والمن : تعداد النعم على الغير ، وهو مذموم من الخلق ، محمود من الله ـ تعالى ـ أى : هؤلاء الأعراب يعدون إيمانهم بك منة عليك ، ونعمة أسدوها إليك حيث قالوا لك : جئناك بالأموال والعيال. وقاتلك الناس ولم نقاتلك ..

وقوله : (أَنْ أَسْلَمُوا) في موضع المفعول لقوله : (يَمُنُّونَ) لتضمينه معنى الاعتداد ، أو هو بتقدير حرف الجر فيكون المصدر منصوبا بنزع الخافض أو مجرورا بالحرف المقدر. أى : يمنون عليك بإسلامهم ..

ثم أمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد عليهم بما يدل على غفلتهم فقال : (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ ...).

أى : قل لهم لا تتفاخروا عليّ بسبب إسلامكم ، لأن ثمرة هذا الإسلام يعود نفعها عليكم لا عليّ.

ثم بيّن ـ سبحانه ـ أن المنة له وحده فقال : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ ...).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٦ ص ١٦٩.

٣٢٣

أى : قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ ليس الأمر كما زعمتم من أن إسلامكم يعتبر منه عليّ ، بل الحق أن الله ـ تعالى ـ هو الذي يمن عليكم أن أرشدكم إلى الإيمان ، وهداكم إليه ، وبين لكم طريقه ، فادعيتم أنكم آمنتم مع أنكم لم تؤمنوا ولكنكم أسلمتم فقط.

قال صاحب الكشاف : وسياق هذه الآية فيه لطف ورشاقة ، وذلك أن الكائن من الأعاريب قد سماه الله إسلاما ، ونفى أن يكون ـ كما زعموا ـ إيمانا فلما منّوا على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما كان منهم ، قال الله ـ تعالى ـ لرسوله : إن هؤلاء يعتدون عليك بما ليس جديرا بالاعتداد به ..

ثم قال : بل الله يعتد عليكم أن أمدكم بتوفيقه ، حيث هداكم للإيمان ـ على ما زعمتم ـ وادعيتم أنكم أرشدتم إليه ، ووفقتم له إن صح زعمكم ، وصدقت دعواكم .. وفي إضافة الإسلام عليهم ، وإيراد الإيمان غير مضاف ، ما لا يخفى على المتأمل ... (١).

وجواب الشرط في قوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) محذوف ، يدل عليه ما قبله. أى : إن كنتم صادقين في إيمانكم فاعتقدوا ، أن المنة إنما هي لله ـ تعالى ـ عليكم ، حيث أرشدكم إلى الطريق الموصل إلى الإيمان الحق.

وشبيه في المعنى بهذه الآية قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأنصار في إحدى خطبه : «يا معشر الأنصار ، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ، وكنتم عالة فأغناكم الله بي؟» وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلما قال شيئا ، قالوا : الله ورسوله أمنّ.

والحق أن هداية الله ـ تعالى ـ لعبده إلى الإيمان تعتبر منة منه ـ سبحانه ـ لا تدانيها منة ، ونعمة لا تقاربها نعمة ، وعطاء ساميا جليلا منه ـ تعالى ـ لا يساميه عطاء فله ـ عزوجل ـ الشكر الذي لا تحصيه عبارة على هذه النعمة ، ونسأله ـ تعالى ـ أن يديمها علينا حتى نلقاه.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بقوله : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أى : إنه ـ تعالى ـ يعلم ما خفى وغاب عن عقول الناس من أحوال السموات والأرض (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) ـ أيها الناس ـ لا يعزب عنه شيء من أقوالكم أو أفعالكم.

وبعد : فهذا تفسير وسيط لسورة «الحجرات» تلك السورة التي رسمت للناس معالم عالم

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٣٧٨.

٣٢٤

كريم ، تشع فيه الآداب السامية ، والأخلاق العالية ، والقيم الجليلة ، وتختفى فيه ما يتعارض مع هذه المعاني كالحقد والغيبة والتقاتل والتفاخر بالأحساب والأنساب.

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعل القرآن ربيع نفوسنا ، وأنس قلوبنا.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٣٢٥
٣٢٦

تفسير

سورة ق

٣٢٧
٣٢٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «ق» هي السورة الخمسون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فكان بعد سورة «المرسلات».

ويبدو أن نزولها كان في أوائل العهد المكي ، إذ من يراجع ترتيب السور على حسب النزول يرى أنها لم يسبقها سوى اثنتين وثلاثين سورة ، ومعظم السور التي سبقتها كانت من الجزء الأخير من القرآن الكريم (١).

وهي من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها خمس وأربعون آية ، وتسمى ـ أيضا ـ بسورة «الباسقات».

٢ ـ وقد ذكر الإمام ابن كثير في مقدمة تفسيره لها جملة من الأحاديث في فضلها ، منها ما رواه مسلم وأهل السنن ، عن أبى واقد الليثي ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في العيد بسورة «ق» وبسورة (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ...).

وروى الإمام أحمد عن أم هشام بنت حارثة قالت : ما أخذت (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إلا على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان يقرؤها كل يوم جمعة إذا خطب الناس.

ثم قال ابن كثير : والقصد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار ، كالعيد والجمع ، لاشتمالها على ابتداء الخلق والبعث والنشور ، والمعاد والقيام ، والحساب ، والجنة والنار ، والثواب والعقاب ، والترغيب والترهيب .. (٢).

٣ ـ والحق ، أن المتأمل في هذه السورة الكريمة يراها قد اشتملت على ما ذكره الإمام ابن كثير ، بأسلوب بليغ بديع.

فهي تبدأ بالثناء على القرآن الكريم ، ثم تذكر دعاوى المشركين وترد عليهم بما يخرس ألسنتهم ، ثم توبخهم على عدم تفكرهم في أحوال هذا الكون الزاخر بالآيات والكائنات الدالة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته.

__________________

(١) راجع الإتقان في علوم القرآن ج ١ ص ٢٧ للإمام السيوطي.

(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٧٠.

٣٢٩

قال ـ تعالى ـ : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ ، كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها ، وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ. وَالْأَرْضَ مَدَدْناها ، وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ ، وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ، تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ).

٤ ـ ثم تذكرهم ـ أيضا ـ بسوء عاقبة المكذبين من قبلهم ، كقوم نوح وعاد وثمود ، وقوم فرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة ..

ثم تتبع ذلك بتذكيرهم بعلم الله ـ تعالى ـ الشامل لكل شيء ، وبسكرات الموت وما يتبعها من بعث وحساب ، وثواب وعقاب ..

قال ـ تعالى ـ : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ، ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ، وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا ، فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ ، فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).

٥ ـ ثم تختتم السورة الكريمة ، بتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من قومه ، وترشده إلى العلاج الذي يعينه على مداومة الصبر ، كما تحكى له أحوالهم يوم القيامة ليزداد يقينا على يقينه ، وتأمره بالمواظبة على تبليغهم ، بما أمره الله ـ تعالى ـ بتبليغه.

لنستمع إلى قوله ـ تعالى ـ : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ. وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ، يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ، ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ. إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ. يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ).

وهكذا تطوف بنا السورة الكريمة في أعماق هذا الكون ، وفي أعماق النفس الإنسانية ، منذ ولادتها ، إلى بعثها ، إلى حسابها ، إلى جزائها .. وذلك كله بأسلوب مؤثر بديع ، يشهد بأن هذا القرآن من عند الله ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..

القاهرة ـ مدينة نصر

٦ من جمادى الأولى ١٤٠٦ ه‍ ـ ١٧ / ١ / ١٩٨٦ م

د. محمد سيد طنطاوى

٣٣٠

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) (١١)

سورة «ق» من السور القرآنية ، التي افتتحت ببعض حروف التهجي ، وأقرب الأقوال إلى الصواب في معنى هذه الحروف ، أنها جيء بها على سبيل الإيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن. فكأن الله ـ تعالى ـ يقول لهؤلاء المعارضين في أن القرآن من عند الله : ها كم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هي

٣٣١

من جنس الحروف الهجائية التي تنظمون منها حروفكم.

فإن كنتم في شك في كونه منزلا من عند الله ـ تعالى ـ فهاتوا مثله ، أو عشر سور من مثله ، أو سورة واحدة من مثله.

فعجزوا وانقلبوا خاسرين ، وثبت أن هذا القرآن من عند الله ـ سبحانه ـ.

وهذا الرأى وهو كون «ق» من الحروف الهجائية ، هو الذي نطمئن إليه ، وهناك أقوال أخرى في معنى هذا الحرف ، تركناها لضعفها كقول بعضهم إن «ق» اسم جبل محيط بجميع الأرض .. وهي أقوال لم يقم دليل نقلي أو عقلي على صحتها.

قال ابن كثير : وقد روى عن بعض السلف ، أنهم قالوا «ق» جبل محيط بالأرض ، يقال له جبل «ق» وكأن هذا ـ والله أعلم ـ من خرافات بنى إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس .. (١).

والواو في قوله ـ تعالى ـ : (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) للقسم ، والمقسم به القرآن الكريم ، وجواب القسم محذوف لدلالة ما بعده عليه ، وهو استبعادهم لبعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتكذيبهم للبعث والحساب ..

وقوله : (الْمَجِيدِ) صفة للقرآن. أى : ذي المجد والشرف وكثرة الخير.

ولفظ المجيد مأخوذ من المجد ، بمعنى السعة والكرم ، وأصله من مجدت الإبل وأمجدت ، إذا وقعت في مرعى مخصب ، واسع ، الجنبات ، كثير الأعشاب.

والمعنى : أقسم بالقرآن ذي المجد والشرف ، وذي الخير الوفير الذي يجد فيه كل طالب مقصوده ، إنك ـ أيها الرسول الكريم ـ لصادق فيما تبلغه عن ربك من أن البعث حق والحساب حق ، والجزاء حق ... ولكن الجاحدين لم يؤمنوا بذلك.

(بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) وهو أنت يا محمد ، فلم يؤمنوا بك ، بل قابلوا دعوتك بالإنكار والتعجب.

(فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) أى : هذا البعث الذي تخبرنا عنه يا محمد شيء يتعجب منه ، وتقف دونه أفهامنا حائرة.

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ...) بل للإضراب عما ينبئ عنه جواب القسم المحذوف ، فكأنه قيل إنا أنزلنا هذا القرآن لتنذر به

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٧٢.

٣٣٢

الناس ، فلم يؤمنوا به ، بل جعلوا كلا من المنذر والمنذر به عرضة للتكبر والتعجب ، مع كونهما أوفق شيء لقضية العقول ، وأقربه إلى التلقي بالقبول ..

وقوله : (أَنْ جاءَهُمْ) بتقدير لأن جاءهم ، ومعنى «منهم» أى : من جنسهم ، وضمير الجمع يعود إلى الكفار ..

وقوله : (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) تفسير لتعجبهم .. وإضمارهم أولا ، للإشعار بتعينهم بما أسند إليهم ، وإظهارهم ثانيا ، لتسجيل الكفر عليهم .. (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) تقرير للتعجب ، وتأكيد للإنكار الصادر عنهم ، والعامل في «إذا» مضمر لدلالة ما بعده عليه ..

أى : أحين نموت ونصير ترابا وعظاما نرجع إلى الحياة مرة أخرى ، كما يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكما يقول القرآن الذي نزل عليه.

لا ، إننا لن نبعث ولن نعود إلى الحياة مرة أخرى ، وما يخبرنا به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن الرجوع إلى الحياة مرة أخرى حق ، كلام بعيد عن عقولنا وأفهامنا.

فاسم الإشارة «ذلك» يعود إلى محل النزاع وهو الرجوع إلى الحياة مرة أخرى ، والبعث بعد الموت. والرجع بمعنى الرجوع. يقال : رجعته أرجعه رجعا ورجوعا ، بمعنى أعدته .. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ).

أى : ذلك الرجوع إلى الحياة مرة أخرى بعيد عن الأفهام ، وعن العادة ، وعن الإمكان.

وبعد هذا التصوير الأمين لحججهم وأقوالهم ، ساق ـ سبحانه ـ الرد الذي يدفع تلك الحجج والأقوال فقال : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ).

أى : قد علمنا علما تاما دقيقا ما تأكله الأرض من أجسادهم بعد موتهم ، ومن علم ذلك لا يعجزه أن يعيدهم إلى الحياة مرة أخرى.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) تأكيد وتقرير لما قبله.

أى : وعندنا بجانب علمنا الشامل الدقيق. كتاب حافظ لجميع أحوال العباد ، ومسجلة فيه أقوالهم وأفعالهم ، والمراد بهذا الكتاب : اللوح المحفوظ.

ثم كشف ـ سبحانه ـ عن حقيقة أحوالهم ، وعن الأسباب التي دفعتهم إلى إيثار الباطل على الحق فقال : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ ، فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ). أى : إن هؤلاء

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٦ ص ١٧٢.

٣٣٣

الكافرين لم يكتفوا بإنكارهم للبعث .. بل جاءوا بما هو أشنع وأفظع منه ، وهو تكذيبهم لنبوتك ـ أيها الرسول الكريم ـ تلك النبوة الثابتة بالمعجزات الناصعة ، ومن مظاهر هذا التكذيب أنهم تارة يقولون عنك ساحر ، وتارة يقولون عنك كاهن وتارة يصفونك بالجنون.

فهم في أمر مريج ، أى : مضطرب مختلط. بحيث لا يستقرون على حال. يقال : مرج الأمر ـ بزنة طرب ـ إذا اختلط وتزعزع ، وفقد الثبات والاستقرار والصلاح .. ومنه قولهم : مرجت أمانات الناس ، إذا فسدت وعمتهم الخيانة ، ومرج الخاتم في إصبع فلان ، إذا تخلخل واضطرب لشدة هزال صاحبه.

وفي هذا الرد عليهم تصوير بديع معجز ، حيث بين ـ سبحانه ـ بأنه عليم بما تأكله الأرض من أجسادهم المغيبة فيها ، وبتناقص هذه الأجساد رويدا رويدا ، وأن كل أحوالهم مسجلة في كتاب حفيظ ، وأنهم عند ما فارقوا الحق الثابت وكذبوه ، مادت الأرض من تحتهم واضطربت ، واختلطت عليهم الأمور والتبست ، فصاروا يلقون التهم جزافا دون أن يستقروا على رأى ، أو يجتمعوا على كلمة ..

ثم شرعت السورة الكريمة في بيان الأدلة على قدرة الله ـ تعالى ـ وعلى أن البعث حق ، وعلى أن استبعادهم له إنما هو لون من جهالاتهم وانطماس بصائرهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ). والاستفهام للإنكار والتعجيب من جهلهم ، والهمزة متعلقة بمحذوف ، والفاء عاطفة عليه أى : أأعرضوا عن آيات الله في هذا الكون ، فلم ينظروا إلى السماء فوقهم. كيف بنيناها هذا البناء العجيب ، بأن رفعناها بدون عمد ، وزيناها بالكواكب ، وحفظناها من أى تصدع أو تشقق أو تفتق. فقوله : (فُرُوجٍ) جمع فرج ، وهو الشق بين الشيئين. والمراد سلامتها من كل عيب وخلل.

ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ، ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ مظاهر قدرته في بسط الأرض ، بعد بيان مظاهر قدرته في رفع السماء فقال : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أى : والأرض بسطناها ومددناها بقدرتنا ، وجعلناها مترامية الأطراف والمناكب ، كما تشاهدون ذلك بأعينكم.

__________________

(١) سورة تبارك الآيتان ٣ ، ٤.

٣٣٤

قالوا : وامتدادها واتساعها لا ينافي كرويتها ، لأن عظم سطحها يجعل الناظر إليها يراها كأنها مسطحة ممدودة.

(وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أى : وألقينا فيه جبالا ثوابت تمنعها من الاضطراب ..

فقوله (رَواسِيَ) جمع راسية بمعنى ثابتة وهو صفة لموصوف محذوف.

(وَأَنْبَتْنا فِيها) أى : في الأرض (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أى : وأنبتنا فيها من كل صنف حسن يبهج ويسر الناظرين إليه ، مأخوذ من البهجة بمعنى الحسن يقال : بهج الشيء ـ كظرف ـ فهو بهيج أى : حسن جميل.

وقوله : (تَبْصِرَةً وَذِكْرى ..) علتان لما تقدم من الكلام ، وهما منصوبتان بفعل مقدر.

أى : فعلنا ما فعلنا من مد الأرض ، ومن تثبيتها بالجبال ، ومن إنبات كل صنف حسن من النبات فيها ، لأجل أن نبصر عبادنا بدلائل وحدانيتنا وقدرتنا ، ونذكرهم بما يجب عليهم نحو خالقهم من شكر وطاعة.

وقوله : (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) متعلق بكل من المصدرين السابقين وهما : التبصرة والذكرى. أى : هذه التبصرة والذكرى كائنة لكل عبد منيب ، أى : كثير الرجوع إلى ربه بالتدبر في بدائع صنعته ، ودلائل قدرته.

ثم انتقلت الآيات إلى بيان مظاهر قدرته في إنزال المطر ، بعد بيان مظاهر قدرته في خلق السموات والأرض وما اشتملتا عليه من كائنات ، فقال ـ تعالى ـ : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) أى : ماء كثير المنافع والخيرات للناس والدواب والزروع.

(فَأَنْبَتْنا بِهِ) أى : بذلك الماء (جَنَّاتٍ) أى : بساتين كثيرة زاخرة بالثمار ..

(وَحَبَّ الْحَصِيدِ) أى : وحب النبات الذي من شأنه أن يحصد عند استوائه كالقمح والشعير وما يشبههما من الزروع.

فالحصيد بمعنى المحصود ، وهو صفة لموصوف محذوف أى : وحب الزرع الحصيد. فهذا التركيب من باب حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه للعلم به.

وخص الحب بالذكر ، لاحتياج الناس إليه أكثر من غيره ، فصار كأنه المقصود بالبيان.

وقوله : (وَالنَّخْلَ ...) معطوف على (جَنَّاتٍ) ، و (باسِقاتٍ) حال من النخل. ومعنى «باسقات» مرتفعات ، من البسوق بمعنى الارتفاع والعلو. يقال : بسق فلان على أصحابه ـ من باب دخل ـ إذا فاقهم وزاد عليهم في الفضل.

٣٣٥

والنخل : اسم جنس يذكر ويؤنث ويجمع. وخص بالذكر مع أنه من جملة ما اشتملت عليه الجنات ، لمزيد فضله وكثرة منافعه.

وجملة (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) في محل نصب على الحال من النخل.

والطلع : أول ما يخرج من ثمر النخل. ويسمى الكفرّى. يقال : طلع الطلع طلوعا. إذا كان في أول ظهوره.

والنضيد : بمعنى المنضود ، أى : المتراكب بعضه فوق بعض مأخوذ من نضد فلان المتاع ينضده ، إذا رتبه ترتيبا حسنا.

أى : وأنبتنا ـ أيضا ـ في الأرض بعد إنزالنا الماء عليها من السحاب ، النخل الطوال ، الزاخر بالثمار الكثيرة التي ترتب بعضها على بعض بطريقة جميلة ..

وقوله : (رِزْقاً لِلْعِبادِ) بيان للحكمة من إنزال المطر وإنبات الزرع ..

أى : أنبتنا ما أنبتنا من الجنات ومن النخل الباسقات .. ليكون ذلك رزقا نافعا للعباد ..

(وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أى : وأحيينا بذلك الماء الذي أنزلناه بلدة كانت مجدبة ، وأرضا كانت خالية من النبات والزروع ، وتذكير (مَيْتاً) لكون البلدة بمعنى المكان.

وقوله : (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) جملة مستأنفة لبيان أن الخروج من القبور عند البعث ، مثله كمثل هذا الإحياء للأرض التي كانت جدباء ميتة ، بأن أنبتت من كل زوج بهيج بعد أن كانت خالية من ذلك.

فوجه الشبه بين إحياء الأرض بالنبات بعد جدبها ، وبين إحياء الإنسان بالبعث بعد موته ، استواء الجميع في أنه جاء بعد عدم.

قال ابن كثير : قوله : (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً ...) وهي الأرض التي كانت هامدة ، فلما نزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج. وذلك بعد أن كانت لا نبات فيها ، فهذا مثال للبعث بعد الموت والهلاك ، كذلك يحيى الله الموتى ، وهذا المشاهد من عظيم قدرته بالحس ، أعظم مما أنكره الجاحدون للبعث ..

كقوله ـ تعالى ـ : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ).

وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١) وقوله ـ تعالى ـ : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى

__________________

(١) سورة الأحقاف الآية ٣٣.

٣٣٦

الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ، إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى ، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١).

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أقامت ألوانا من الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، وعلى أن البعث حق ، وأنه آت لا ريب فيه.

وبعد هذا العرض البديع لمظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ في هذا الكون ، ولمظاهر نعمه على خلقه ، ساقت السورة الكريمة جانبا من أحوال المكذبين للرسل السابقين. تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من قومه ، فقال ـ تعالى ـ :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٥)

أى : لا تحزن ـ أيها الرسول الكريم ـ لما أصابك من أذى من هؤلاء المشركين الجاحدين المكذبين فقد سبقهم إلى هذا التكذيب والكفر والجحود «قوم نوح» ـ عليه‌السلام ـ ، فإنهم قد قالوا في حقه إنه مجنون ، كما حكى عنهم ذلك في قوله ـ تعالى ـ : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ، فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ). وقوله : (وَأَصْحابُ الرَّسِ) معطوف على ما قبله ، والرس في لغة العرب : البئر التي لم تبن بعد بالحجارة ، وقيل : هي البئر مطلقا.

وللمفسرين في حقيقة أصحاب الرس أقوال : فمنهم من قال إنهم من بقايا قبيلة ثمود ، بعث الله إليهم واحدا من أنبيائه ، فكذبوه ورسوه في تلك البئر ، أى : ألقوا به فيها فأهلكهم ـ سبحانه ـ بسبب ذلك.

وقيل : هم الذين قتلوا حبيبا النجار عند ما جاء يدعوهم إلى الدين الحق ، وكانت تلك البئر بأنطاكية ، وبعد قتلهم له ألقوه فيها. وقيل : هم قوم شعيب ـ عليه‌السلام ـ ..

واختار ابن جرير ـ رحمه‌الله ـ أن أصحاب الرس هم أصحاب الأخدود ، الذين جاء الحديث عنهم في سورة البروج.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٧٥.

٣٣٧

والمراد بثمود : قوم صالح ـ عليه‌السلام ـ الذين كذبوه فأهلكهم الله ـ تعالى ـ.

والمراد بعاد : قوم هود ـ عليه‌السلام ـ الذين اغتروا بقوتهم ، وكذبوا نبيهم ، فأخذهم ـ سبحانه ـ أخذ عزيز مقتدر.

(وَفِرْعَوْنُ) هو الذي أرسل الله إليه موسى ـ عليه‌السلام ـ فكذبه وقال لقومه (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى).

(وَإِخْوانُ لُوطٍ) هم قومه الذين أتوا بفاحشة لم يسبقوا إليها. قالوا : ووصفهم الله ـ تعالى ـ بأنهم إخوانه ، لأنه كانت تربطه بهم رابطة المصاهرة حيث إن امرأته ـ عليه‌السلام ـ كانت منهم.

(وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) هم قوم شعيب ـ عليه‌السلام ـ كما قال ـ تعالى ـ : (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ) (١).

والأيكة : اسم لمنطقة كانت مليئة بالأشجار ، ومكانها ـ في الغالب ـ بين الحجاز وفلسطين حول خليج العقبة ، ولعلها المنطقة التي تسمى بعمان.

وكان قوم شعيب يعبدون الأوثان ، ويطففون في المكيال فنهاهم شعيب عن ذلك ، ولكنهم كذبوه فأهلكهم الله ـ تعالى ـ.

(وَقَوْمُ تُبَّعٍ) وهو تبع الحميرى اليماني ، وكان مؤمنا وقومه كفار ، قالوا : وكان اسمه سعد أبو كرب ، وقد أشار القرآن إلى قصتهم في آيات أخرى منها قوله ـ تعالى ـ : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ ..) (٢).

والتنوين في قوله ـ تعالى ـ : (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ ...) عوض عن المضاف إليه.

أى : كل قوم من هؤلاء الأقوام السابقين كذبوا رسولهم الذي جاء لهدايتهم.

وقوله : (فَحَقَّ وَعِيدِ) بيان لما حل بهم بسبب تكذيبهم لرسلهم. أى : كل واحد من هؤلاء الأقوام كذبوا رسولهم ، فكانت نتيجة ذلك أن وجب ونزل بهم وعيدي ، وهو العذاب الذي توعدتهم به ، كما قال ـ سبحانه ـ : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً. وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا ، وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٣).

__________________

(١) سورة الشعراء الآية ١٧٦ وما بعدها.

(٢) سورة الدخان الآية ٣٧.

(٣) سورة العنكبوت الآية ٤٠.

٣٣٨

قال ابن كثير : قوله : (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ ...) أى : كل من هذه الأمم ، وهؤلاء القرون كذب رسوله ، ومن كذب رسولا فكأنما كذب جميع الرسل.

(فَحَقَّ وَعِيدِ) أى : فحق عليهم ما أوعدهم الله ـ تعالى ـ على التكذيب من العذاب والنكال ، فليحذر المخاطبون أن يصيبهم ما أصابهم ، فإنهم قد كذبوا رسولهم كما كذب أولئك (١).

وبعد هذا العرض لمصارع المكذبين ، عادت السورة إلى تقرير الحقيقة التي كفر بها الجاهلون والجاحدون ، وهي أن البعث حق ، فقال ـ تعالى ـ : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) والاستفهام للإنكار والنفي ، وقوله (فَعَيِينا) من العي بمعنى العجز. يقال : عيى فلان بهذا الشيء ، إذا عجز عنه ، وانقطعت حيلته فيه ، ولم يهتد إلى طريقة توصله إلى مقصوده منه.

واللبس : الخلط. يقال : لبس على فلان الأمر ـ من باب ضرب ـ إذا اشتبه واختلط عليه ، ولم يستطع التمييز بين ما هو صواب وما هو خطأ.

أى : أفعجزت قدرتنا عن خلق هؤلاء الكافرين وإيجادهم من العدم ، حتى يتوهموا أننا عاجزون عن إعادتهم إلى الحياة بعد موتهم؟.

كلا إننا لم نعجز عن شيء من ذلك لأن قدرتنا لا يعجزها شيء ، ولكن هؤلاء الكافرين لانطماس بصائرهم ، واستيلاء الشيطان عليهم ، قد صاروا في لبس وخلط من أمرهم ، بدليل أنهم يقرون بأننا نحن الذين خلقناهم ولم يكونوا شيئا مذكورا ، ومع ذلك فهم ينكرون قدرتنا على الخلق الجديد أى : على إعادتهم إلى الحياة الدنيا مرة أخرى بعد موتهم.

فقوله ـ تعالى ـ : (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) أى : بل إن هؤلاء الكافرين في خلط وشك وحيرة من أن يكون هناك خلق جديد أى خلق مستأنف لهم بعد موتهم ، مع أنهم ـ لو كانوا يعقلون ـ لعلموا أن القادر على الخلق من العدم ، قادر على إعادة هذا المخلوق من باب أولى ، كما قال ـ سبحانه ـ : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ..) (٢).

قال الآلوسى : وقوله : (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) عطف على مقدر يدل عليه

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٧٥.

(٢) سورة الروم الآية ٢٧.

٣٣٩

ما قبله ، كأن قيل : إنهم معترفون بالأول غير منكرين قدرتنا عليه ، فلا وجه لإنكارهم الثاني ، بل هم في خلط وشبهة في خلق مستأنف .. (١).

وقال بعض العلماء ما ملخصه : في الآية أسئلة ثلاثة : لم عرف الخلق الأول؟ ولم نكر اللبس؟ ولم نكر الخلق الجديد؟.

وللإجابة على ذلك نقول : عرف الخلق الأول للتعميم والتهويل والتفخيم ومنه تعريف الذكور في قوله (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ).

وأما التنكير فأمره منقسم ، فأحيانا يقصد به التفخيم ، من حيث ما فيه من الإبهام .. وهو المقصود هنا من تنكير لفظ (لَبْسٍ). كأنه قيل : بل هم في لبس أى لبس.

وأحيانا يقصد به التقليل والتهوين لأمره ، وهو المقصود هنا بقوله من (خَلْقٍ جَدِيدٍ) أى : أن هذا الخلق الجديد شيء هين بالنسبة إلى الخلق الأول ، وإن كان كل شيء هين بالنسبة إلى قدرة الله ـ تعالى ـ (٢).

ثم صورت السورة الكريمة بعد ذلك علم الله ـ تعالى ـ الشامل لكل شيء تصويرا يأخذ بالألباب ، وبينت سكرات الموت وغمراته ، وأحوال الإنسان عند البعث .. بيانا رهيبا مؤثرا ، قال ـ تعالى ـ :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٢٢)

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٦ ص ١٧٨.

(٢) راجع حاشية تفسير الكشاف ج ٤ ص ٣٨٢.

٣٤٠