التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0693-0
الصفحات: ٣٥٥

وقوله : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) أى : وأضل الله ـ تعالى ـ هذا الشقي ، بأن خلق فيه الضلالة ، على علم منه ـ سبحانه ـ بأن هذا الشقي أهل لذلك لاستحبابه العمى على الهدى.

فيكون قوله (عَلى عِلْمٍ) حال من الفاعل ، أى أضله ـ سبحانه ـ حالة كونه عالما بأنه من أهل الضلال.

ويصح أن يكون حالا من المفعول ، أى : وأضل الله ـ تعالى ـ هذا الشقي ، والحال أن هذا الشقي عالم بطريق الإيمان ، ولكنه استحب الغي على الرشد.

وقوله (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) والختم : الوسم بطابع ونحوه ، مأخوذ من وضع الخاتم على الشيء ، وطبعه فيه للاستيثاق ، لكي لا يخرج منه ما بداخله ولا يدخله ما هو خارج عنه.

أى : وطبع على سمعه وقلبه ، فجعله لا يسمع سماع تدبر وانتفاع ، ولا يفقه ما فيه هدايته ورشده.

(وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) أى : وجعل على بصره غطاء ، يحجب عنه الرؤية السليمة للأشياء وأصل الغشاوة ما يغطى به الشيء ، من غشاه إذا غطاه.

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) للإنكار والنفي.

أى : لا أحد يستطيع أن يهدى هذا الإنسان الذي اتخذ إلهه هواه من بعد أن أضله الله ـ عزوجل ـ.

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أى : أفلا تتفكرون وتتأملون فيما سقت لكم من مواعظ وعبر ، تفكرا يهديكم إلى الرشد ، ويبعثكم على الإيمان.

فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة ، تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من المشركين ، وتعجيب من أحوالهم التي بلغت الغاية في الجهالة والضلالة. ودعوة لهم إلى التذكر والاعتبار ، لأن ذلك ينقلهم من الكفر إلى الإيمان.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من أقوالهم الباطلة فقال : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ).

أى : وقال هؤلاء المشركون على سبيل الجهل والعناد والجحود للحق ، ما الحياة إلا هذه الحياة الدنيوية التي نحياها فيها ، وليس هناك حياة سواها ، فنحن نموت ثم يحيا أولادنا من

١٦١

بعدنا أو يموت بعضنا ويحيا البعض الآخر إلى زمن معين ، أو نكون أمواتا في أصلاب آبائنا ، ثم نحيا بعد ذلك عند الولادة.

(وَما يُهْلِكُنا) عند انتهاء آجالنا (إِلَّا الدَّهْرُ) أى : إلا مرور الزمان ، وكر الأعوام وتقلب الشهور والأيام.

قال ابن كثير ما ملخصه «يخبر ـ تعالى ـ عن قول الدهرية من الكفار ، ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا ...) أى : ما ثمّ إلا هذه الدار ، يموت قوم ويعيش آخرون ، وما ثمّ معاد ولا قيامة ...

ولهذا قالوا : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) ـ أى : إلا مرور الأيام والليالى ـ فكابروا المعقول وكذبوا المنقول ...

وفي الحديث الصحيح ـ الذي رواه الشيخان وغيرهما ـ عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يقول الله ـ تعالى ـ : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر ، وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلب ليله ونهاره.

والمقصود من هذا الحديث النهى عن سب الدهر ، لأن الله ـ تعالى ـ هو الخالق له ، فمن يسب الدهر ، فكأنما سب الله ـ تعالى ـ لأنه ـ سبحانه ـ هو الذي يقلب الليالى والأيام.

وقد كان العرب في الجاهلية إذا ما أصابتهم شدة أو نكبة ، قالوا : يا خيبة الدهر ، فيسندون تلك الأفعال والمصائب إلى الدهر ويسبونه (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) رد عليهم فيما قالوه من أقوال باطلة تتعلق بإنكارهم للبعث والحساب.

أى : وليس لهم فيما زعموه من إنكارهم للبعث من علم مستند إلى نقل أو عقل ، إن هم إلا يظنون ظنا مبنيا على الوهم والضلال.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) أى : وإذا تليت عليهم آيات القرآن ، الواضحة في دلالتها على أن يوم القيامة حق ، وأن الحساب حق.

(ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أى : ما كان ردهم على من يذكرهم بالبعث إلا أن قالوا لهم : أعيدوا إلينا آباءنا الذين ماتوا إن كنتم صادقين في قولكم : إن هناك بعثا وحسابا وثوابا وعقابا.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٥٣.

١٦٢

وقوله (حُجَّتَهُمْ) ـ بالنصب ـ خبر كان ، واسمها قوله : (إِلَّا أَنْ قالُوا).

وسمى ـ سبحانه ـ أقوالهم مع بطلانها حجة ، على سبيل التهكم بهم ، والاستهزاء بهذه الأقوال.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم سمى قولهم حجة وليس بحجة؟

قلت : لأنهم أدلوا به كما يدلى المحتج بحجته ، وساقوه مساقها ، فسميت حجة على سبيل التهكم ، أو لأنه في حسبانهم وتقديرهم حجة ، أو لأنه في أسلوب قول القائل :

تحية بينهم ضرب وجيع .. كأنه قيل : ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة.

والمراد : نفى أن تكون لهم حجة ألبتة (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآية بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم فقال : (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ) أى : وأنتم في الدنيا (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم في الدنيا ، (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) بأن يعيدكم إلى الحياة مرة أخرى للحساب والجزاء ، وهذا اليوم وهو يوم القيامة آت (لا رَيْبَ فِيهِ) ولا شك في حدوثه.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك ، لاستيلاء الهوى والشيطان على قلوبهم ، ولو عقلوا لعلموا أن من أنشأ الإنسان من العدم ، قادر على إعادته بعد موته من باب أولى.

ثم أخذت السورة الكريمة في أواخرها في تذكير الناس بأهوال يوم القيامة لكي يستعدوا للقاء هذا اليوم بالإيمان والعمل الصالح ، فذكرتهم بأحوال الأخيار والأشرار في هذا اليوم العصيب ، وبينت لهم أن الندم لن ينفع في هذا اليوم .. فقال ـ تعالى ـ :

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٧ ص ٢٩١.

١٦٣

فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣٧)

قال الإمام الرازي : قوله : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أنه ـ تعالى ـ لما احتج بكونه قادرا على الإحياء في المرة الأولى ، وعلى كونه قادرا على الإحياء في المرة الثانية في الآيات المتقدمة ، عمم بعد ذلك الدليل فقال : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى : لله ـ تعالى ـ القدرة على جميع الممكنات سواء أكانت من السموات أم من الأرض (١).

أى : (لِلَّهِ) ـ تعالى ـ وحده (مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خلقا وتصرفا وإحياء وإماتة لا راد لقضائه. ولا معقب لحكمه.

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة الكافرين يوم القيامة فقال : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ).

أى : ولله ـ تعالى ـ ملك السموات والأرض ، وله ـ أيضا ـ ملك وقت قيام الساعة ،

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ٤٧٣.

١٦٤

لأنه لا يستطيع أحد أن يعلم وقت قيامها ، أو يتصرف فيه ، إلا هو ـ عزوجل ـ وفي اليوم الذي تقوم فيه الساعة يخسر المبطلون ، أنفسهم وأهليهم ، ويصيرون في حال شديدة من الهم والغم والكرب ، لأنهم كذبوا بهذا اليوم ، وكفروا به وقالوا : (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ).

قال الشوكانى وقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) أى : المكذبون الكافرون المتعلقون بالأباطيل ، يظهر في ذلك اليوم خسرانهم لأنهم يصيرون إلى النار ، والعامل في (يَوْمَ) هو الفعل (يَخْسَرُ) ويومئذ بدل منه ، والتنوين للعوض عن المضاف إليه المدلول عليه بما أضيف إليه المبدل منه ، فيكون التقدير : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) يوم تقوم الساعة ، فيكون بدلا توكيديا.

والأحسن أن يكون العامل في (يَوْمَ) هو (مُلْكُ) ـ أى : ما يدل عليه هذا اللفظ.

أى : ولله ـ تعالى ـ ملك السموات والأرض ـ وملك يوم تقوم الساعة ، ويكون قوله (يَوْمَئِذٍ) معمولا ليخسر .. (١).

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) (٢).

ثم يعرض ـ سبحانه ـ مشهدا من مشاهد هذا اليوم الهائل الشديد فيقول : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً).

وقوله : ـ سبحانه ـ : (جاثِيَةً) من الجثو وهو الجلوس على الركب بتحفز وترقب وخوف.

يقال : جثا فلان على ركبتيه يجثو جثوا وجثيا ، إذا برك على ركبتيه وأنامله في حالة تحفز ، كأنه منتظر لما يكرهه.

أى : وترى ـ أيها العاقل ـ في هذا اليوم الذي تشيب من هوله الولدان ، كل أمة من الأمم متميزة عن غيرها ، وجاثية على ركبها ، مترقبة لمصيرها في تلهف وخوف فالجملة الكريمة تصور أهوال هذا اليوم ، وأحوال الناس فيه ، تصويرا بليغا مؤثرا ، يبعث على الخوف الشديد من هذا اليوم ، وعلى تقديم العمل الصالح الذي ينفع صاحبه (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ).

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٥ ص ١٠.

(٢) سورة غافر الآية ٨٧.

١٦٥

وقوله (كُلَّ أُمَّةٍ) مبتدأ ، وقوله (تُدْعى إِلى كِتابِهَا) خبره. أى : كل أمة تدعى إلى سجل أعمالها الذي أمر الله ـ تعالى ـ ملائكته بكتابته لتحاسب عليه.

وقوله : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) مقول لقول مقدر. أى : ويقال لهم جميعا في هذا الوقت : اليوم تجدون جزاء أعمالكم التي كنتم تعملونها في الدنيا من خير أو شر. ويقال لهم ـ أيضا ـ : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ).

أى : هذا كتابنا الذي سجلته عليكم الملائكة ، يشهد عليكم بالحق ، لأنه لا زيادة فيما كتب عليكم ولا نقصان ، وإنما هي أعمالكم أحصيناها عليكم.

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (هذا كِتابُنا) قيل من قول الله لهم. وقيل من قول الملائكة.

(يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) أى : يشهد. وهو استعارة ، يقال : نطق الكتاب بكذا ، أى : بين. وقيل : إنهم يقرءونه فيذكرهم الكتاب ما عملوا ، فكأنه ينطق عليهم.

دليله قوله ـ تعالى ـ : (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

وقوله : (يَنْطِقُ) في موضع الحال من الكتاب» (١).

وقال الجمل في حاشيته : فإن قيل : كيف أضيف الكتاب إليهم في قوله : (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا).

وأضيف هنا إلى الله ـ تعالى ـ فقال : (هذا كِتابُنا)؟

فالجواب أنه لا منافاة بين الأمرين ، لأنه كتابهم بمعنى أنه مشتمل على أعمالهم ، وكتاب الله ، بمعنى أنه ـ سبحانه ـ هو الذي أمر الملائكة بكتابته (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تعليل للنطق بالحق ، أى : إنا كنا نأمر ملائكتنا بنسخ أعمالكم ، أى : بكتابتها وتثبيتها عليكم في الصحف ، حسنة كانت أو سيئة ، فالمراد بالنسخ هنا : الإثبات لا الإزالة.

ثم فصل ـ سبحانه ـ ما يترتب على ما سبق من أحكام فقال : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) أى : فيدخلهم ـ سبحانه ـ في جنته ورضوانه.

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٦ ص ١٧٤.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ١٢٠.

١٦٦

(ذلِكَ) العطاء الجزيل (هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) الذي لا يدانيه فوز.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) فيقال لهم على سبيل التوبيخ والتقريع والزجر :

(أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) أى : أفلم تأتكم رسلي بآياتى الدالة على وحدانيتي وعلى صدقهم فيما يبلغونه عنى؟ بلى لقد جاءكم رسلي بآياتى.

(فَاسْتَكْبَرْتُمْ) عن الاستماع إليهم ، وعن الاستجابة لهم ، واتباع دعوتهم.

(وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) أى : وكنتم في الدنيا قوما عادتكم الإجرام ، واجتراح السيئات ، واقتراف المنكرات.

(وَإِذا قِيلَ) لكم في الدنيا (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أى : إن ما وعد الله ـ تعالى ـ به من البعث والحساب حق وصدق (وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها) أى : لا شك فيها.

(قُلْتُمْ) على سبيل العناد والجحود (ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) أى : قلتم على سبيل الإنكار لها ، والاستبعاد لحصولها : لا نعرف أن هناك شيئا اسمه الساعة ، ولا نعترف بها اعترافا يدل على إيماننا بها.

(إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) أى : كنتم في الدنيا تقولون : لا نوقن ولا نؤمن بحدوث الساعة ، ولكنا نظن ونتوهم أن هناك شيئا اسمه الساعة ، وما نحن بمستيقنين بإتيانها.

ولعل هذا الكلام الذي حكاه القرآن الكريم عنهم ، هو كلام الشاكين المتحيرين من الكافرين أما الجاحدون منهم فهم الذين حكى القرآن عنهم أنهم قالوا : (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ..).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما ترتب على هذه الأقوال الباطلة من نتائج فقال : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) أى : وظهر لهؤلاء الكافرين سيئات أعمالهم على حقيقتها التي كانوا لا يتوقعونها.

(وَحاقَ بِهِمْ) أى : وأحاط ونزل بهم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أى : في الدنيا ، فقد كانوا في الدنيا ينكرون البعث والحساب والجزاء ويستهزئون بمن يحدثهم عن ذلك. فنزل بهم العذاب المهين ، جزاء استهزائهم وإنكارهم.

(وَقِيلَ) لهم على سبيل التأنيب والزجر (الْيَوْمَ نَنْساكُمْ) أى : نهملكم ونترككم في النار (كَما نَسِيتُمْ) أنتم في الدنيا وأنكرتم (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) وهو يوم القيامة (وَمَأْواكُمُ النَّارُ) أى : ومسكنكم الذي تأوون إليه النار وبئس القرار.

١٦٧

(وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أى : وليس لكم من ناصرين ينصرونكم ، ويخففون عنكم هذا العذاب الذي حل بكم.

ثم بين ـ سبحانه ـ الأسباب التي أدت بهم إلى هذا المصير السيئ فقال : (ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً).

أى : ذلكم العذاب المبين الذي نزل بكم سببه أنكم استهزأتم بآيات القرآن الكريم ، وسخرتم منها ، وكذبتم من جاء بها.

(وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أى : وخدعتكم الحياة الدنيا بزخارفها ومتعها وشهواتها.

(فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها) أى : من النار.

(وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أى : ولا هم يطلب منهم أن يرضوا ربهم ، بأن يتوبوا إليه مما كان منهم من كفر وفسوق في الدنيا ، لأن التوبة قد فات أوانها.

فقوله : (يُسْتَعْتَبُونَ) من العتب ـ بفتح العين وسكون التاء ـ وهي الموجدة. يقال : عتب عليه يعتب ، إذا وجد عليه ، فإذا فاوضه فيما عتب عليه فيه ، قيل : عاتبه.

والمقصود من الآية الكريمة أن هؤلاء الكافرين لا يقبل منهم في هذا اليوم عذر أو توبة.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بقوله : (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ) أى : فلله ـ تعالى ـ وحده الحمد والثناء (رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) لا رب سواه ولا خالق غيره.

(وَلَهُ الْكِبْرِياءُ) أى : العظمة والسلطان والجلال (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

قال ابن كثير : أى : هو العظيم الممجد الذي كل شيء خاضع لديه. فقير إليه وفي الحديث الصحيح يقول الله ـ تعالى ـ : «العظمة إزارى ، والكبرياء ردائي ، فمن نازعنى واحدا منهما أسكنته ناري».

(وَهُوَ الْعَزِيزُ) أى : الذي لا يغالب ولا يمانع ، (الْحَكِيمُ) في أقواله وأفعاله (١).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ٢٥٧.

١٦٨

وبعد فهذا تفسير محرر لسورة «الجاثية» نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

١٦٩
١٧٠

تفسير

سورة الأحقاف

١٧١
١٧٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «الأحقاف» هي السورة السادسة والأربعون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فقد كان بعد سورة «الجاثية».

والذي يراجع ما كتبه العلماء في ترتيب سور القرآن الكريم ، يجد أن الحواميم قد نزلت مرتبة كترتيبها في المصحف.

٢ ـ وسورة «الأحقاف» عدد آياتها خمس وثلاثون آية في المصحف الكوفي ، وأربع وثلاثون آية في غيره ، وهي من السور المكية.

قال الآلوسى : أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة ، فأطلق غير واحد القول بمكيتها من غير استثناء ..

واستثنى بعضهم قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَكَفَرْتُمْ بِهِ ، وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ).

واستثنى بعضهم قوله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي ...) إلى قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ).

٣ ـ وقد افتتحت السورة الكريمة بالثناء على القرآن الكريم ، وبيان جانب من مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ ، وبتلقين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجواب السديد الذي يرد به على المشركين ، فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ. أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ، أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ، ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا ، أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

ثم تحكى السورة الكريمة بعض الأعذار الزائفة التي اعتذر بها الكافرون وردت عليهم بما يبطلها ، فقال ـ تعالى ـ : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ ، وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ ...).

٤ ـ ثم انتقلت السورة إلى الحديث عن حسن عاقبة الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، وعن الوصايا الحكيمة التي أوصى الله ـ تعالى ـ بها الأبناء نحو آبائهم ، وعن حسن عاقبة

١٧٣

الذين يعملون بتلك الوصايا ، فقال ـ تعالى ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا ، وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ ، وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ).

كما بينت السورة الكريمة سوء عاقبة الكافرين ، الذين أعرضوا عن دعوة الحق ، قال ـ تعالى ـ : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ، أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا ، وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها ، فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ).

٥ ـ ثم حذرت السورة المشركين من الإصرار على شركهم ، وذكرتهم بما حل بالمشركين من قبلهم كقوم عاد وثمود ... وبينت لهم أن هؤلاء الكافرين لم تغن عنهم أموالهم ولا قوتهم شيئا ، عند ما حاق بهم عذاب الله ـ تعالى ـ ، فقال ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ، وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ ، إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى ، وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

٦ ـ ثم أخذت السورة الكريمة في أواخرها ، في تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي إدخال السرور على قلبه بأن ذكرته بحضور نفر من الجن إليه ، للاستماع إلى القرآن الكريم ، وكيف أنهم عند ما استمعوا إليه أوصى بعضهم بعضا بالإنصات وحسن الاستماع ، وكيف أنهم عند ما عادوا إلى قومهم دعوهم إلى الإيمان بالحق الذي استمعوا إليه ، وبالنبي الذي جاء به ، فقال ـ تعالى ـ حكاية عنهم : (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ).

ثم ختمت السورة الكريمة بأمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على أذى قومه ، فقال ـ تعالى ـ : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ، بَلاغٌ ، فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ).

٧ ـ والمتأمل في سورة «الأحقاف» يراها ، قد أقامت الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ ، وعلى كمال قدرته. وعلى صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن هذا القرآن من عند الله ، وعلى أن يوم القيامة حق.

أقامت الأدلة على كل ذلك ، بأبلغ الأساليب وأحكمها ، ومن ذلك أنها ساقت ألوانا من مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ في خلقه ، كما ذكرت شهادة شاهد من بنى إسرائيل على أن الإسلام هو الدين الحق ، كما طوفت بالناس في أعماق التاريخ لتطلعهم على مصارع الغابرين ، الذين أعرضوا عن دعوة الحق ، كما عقدت عدة مقارنات بين مصير الأخيار ومصير الأشرار ..

١٧٤

وبذلك تكون السورة قد ساقت من الأدلة ما فيه الكفاية والإقناع لأولى الألباب ، على أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..

القاهرة ـ مدينة نصر

صباح السبت ١٠ من شهر ربيع الأول سنة ١٤٠٦ ه‍

٢٣ / ١١ / ١٩٨٥ م

كتبة الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

١٧٥
١٧٦

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) (٦)

سورة «الأحقاف» من السور التي افتتحت ببعض الحروف الهجائية ، وأقرب الأقوال إلى الصواب في معناها أن يقال : إن هذه الحروف المقطعة قد وردت في افتتاح بعض السور ، للإشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى به الله ـ تعالى ـ المشركين ، هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها ، ويقدرون على تأليف الكلام منها ، فإذا عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله ، فذلك لبلوغه في الفصاحة والحكمة مرتبة فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة.

وفضلا عن كل ذلك فإن تصدير بعض السور ، يمثل هذه الحروف المقطعة يجذب أنظار

١٧٧

المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إلى الإنصات والتدبر ، لأنه يطرق أسماعهم في أول التلاوة بألفاظ غير مألوفة في مجاري كلامهم.

وذلك مما يلفت أنظارهم ، ليتبينوا ما يراد منها ، فيسمعوا حكما وحججا ومواعظ من شأنها أنها تهديهم إلى الحق ، لو كانوا يعقلون.

وقد سبق أن بينا ـ بشيء من التفصيل ـ آراء العلماء في هذه الحروف المقطعة (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) بيان لمصدر هذا القرآن ، وأنه من عند الله ـ تعالى ـ ، لا من عند غيره.

أى : أن هذا القرآن منزل من عند الله ـ تعالى ـ (الْعَزِيزِ) أى : صاحب العزة الغالبة ، والسلطان القاهر (الْحَكِيمِ) في كل أقواله وأفعاله وتصريفه لشئون خلقه.

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه لم يخلق هذا الكون عبثا ، فقال : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ...).

وقوله : (إِلَّا بِالْحَقِ) استثناء مفرغ من أهم الأحوال ، وهو صفة لمصدر محذوف ، وقوله : (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) معطوف على «الحق» والكلام على تقدير مضاف محذوف.

أى : ما خلقنا هذا الكون بسمائه وأرضه وما بينهما من مخلوقات لا يعلمها إلا الله ، ما خلقنا كل ذلك إلا خلقا ملتبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل وبالحكمة التي اقتضتها إرادتنا ومشيئتنا ..

وما خلقنا كل ذلك ـ أيضا ـ إلا بتقدير أجل معين ، هو يوم القيامة الذي تفنى عنده جميع المخلوقات.

فالمراد بالأجل المسمى : يوم القيامة الذي ينتهى عنده آجال الناس ، ويقفون بين يدي الله ـ تعال ـ للحساب والجزاء.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً. ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ ...) (٣).

__________________

(١) راجع تفسيرنا لسور البقرة والأعراف ويونس.

(٢) سورة ص الآية ٢٧.

(٣) سورة الدخان الآيتان ٣٨ ، ٣٩.

١٧٨

ثم بين ـ سبحانه ـ موقف المشركين من خالقهم فقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) والإنذار : الإعلام المقترن بتهديد ، فكل إنذار إعلام ، وليس كل إعلام إنذار.

و «ما» في قوله : (عَمَّا أُنْذِرُوا) يصح أن تكون موصولة والعائد محذوف ، ويصح أن تكون مصدرية.

والإعراض عن الشيء : الصدود عنه ، وعدم الإقبال عليه ، وأصله من العرض ـ بضم العين ـ وهو الجانب ، لأن المعرض عن الشيء يعطيه جانب عنقه ، مبتعدا عنه.

أى : نحن الذين خلقنا بقدرتنا وحكمتنا ، السموات والأرض وما بينهما ، بالحق الذي اقتضته مشيئتنا ، وبتقدير أمد معين ، عند انتهائه «تبدل الأرض غير الأرض والسموات ..» ومع كل هذه الدلائل الساطعة الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا ، فالذين كفروا بالحق ، عن الذي أنذروه من الحساب والجزاء معرضون ، وفي طغيانهم يعمهون ..

فالآية الكريمة قد وضحت أن هذا الكون لم يخلقه الله ـ تعالى ـ عبثا ، وأن لهذا الكون نهاية ينتهى عندها ، وأن الكافرين ـ لجهلهم وعنادهم ـ لم يستجيبوا لمن دعاهم إلى إخلاص العبادة لله الواحد القهار ، ولم يستعدوا لاستقبال يوم القيامة بالإيمان والعمل الصالح.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يوبخ هؤلاء الكافرين على جهالاتهم وعنادهم ، فقال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ، أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ...).

وقوله : (أَرَأَيْتُمْ) بمعنى أخبرونى ، ومفعوله الأول قوله (ما تَدْعُونَ) وجمله «ماذا خلقوا» سدت مسد مفعوله الثاني.

وجملة : «أرونى» مؤكدة لقوله : (أَرَأَيْتُمْ) لأنها ـ أيضا ـ بمعنى أخبرونى.

والمعنى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المشركين ـ على سبيل التوبيخ والتأنيب ـ : أخبرونى عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دول الله ـ تعالى ـ ، أى شيء في الأرض أوجدته هذه الآلهة؟ إنها قطعا لم تخلق شيئا من الأرض. فالأمر في قوله (أَرُونِي) للتعجيز والتبكيت.

و «أم» في قوله (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) للإضراب عن أن يكونوا قد خلقوا شيئا ، إلى بيان أنهم لا مشاركة لهم مع الله في خلق السموات أو الأرض أو غيرهما. فقوله : (شِرْكٌ) بمعنى مشاركة ..

أى : بل ألهم مشاركة من الله ـ تعالى ـ في خلق شيء من السموات؟ كلا ، لا مشاركة

١٧٩

لهم في خلق أى شيء ، وإنما الخالق لكل شيء هو الله رب العالمين.

فالاستفهام للتوبيخ والتقريع.

فالمراد من الآية الكريمة نفى استحقاق معبوداتهم لأى لون من ألوان العبادة بأبلغ وجه ، لأن هذه المعبودات لا مدخل لها في خلق أى شيء لا من العوالم السفلية ولا من العوالم العلوية ، وإنما الكل مخلوق لله ـ تعالى ـ وحده.

ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ : (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) (١).

وبعد أن أفحمهم ـ سبحانه ـ من الناحية العقلية ، أتبع ذلك بإفحامهم بالأدلة النقلية ، فقال ـ تعالى ـ : (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا ، أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

والأمر في قوله ـ تعالى ـ (ائْتُونِي) للتعجيز والتهكم ـ أيضا ـ كما في قوله : (أَرُونِي).

وقوله : (أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أى : بقية من علم يؤثر عن الأولين ، وينسب إليهم.

قال القرطبي : وفي الصحاح : «أو أثارة من علم» أى : بقية منه. وكذلك الأثرة ـ بالتحريك ـ ويقال : سمنت الإبل على أثارة ، أى : على بقية من شحم كان فيها قبل ذلك ..

والأثارة : مصدر كالسماحة والشجاعة ، وأصل الكلمة من الأثر ، وهي الرواية ، يقال : أثرت الحديث آثره أثرا وأثارة وأثرة فأنا آثر ، إذا ذكرته عن غيرك ، ومنه قيل : حديث مأثور ، أى نقله الخلف عن السلف (٢).

أى : هاتوا لي ـ أيها المشركون ـ كتابا من قبل هذا القرآن يدل على صحة ما أنتم عليه من شرك ، فإن لم تستطيعوا ذلك ـ ولن تستطيعوا ـ فأتونى ببقية من علم يؤثر عن السابقين ، ويسند إليهم ، ويشهد لكم بصحة ما أنتم فيه من كفر.

(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيما تزعمونه من أنكم على الحق.

وهكذا أخذ عليهم القرآن الحجة ، وألزمهم ببطلان ما هم عليه من ضلال ، بالأدلة العقلية المتمثلة في شهادة هذا الكون المفتوح ، وبالأدلة النقلية المتمثلة في أنه لا يوجد عندهم كتاب أو ما يشبه الكتاب. يستندون إليه في استحقاق تلك المعبودات للعبادة.

__________________

(١) سورة لقمان الآية ١١.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٦ ص ١٨٢.

١٨٠