موسوعة أخلاق القرآن - ج ٦

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٦

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٠٧

كما قال في سورة القصص :

«سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ» (١).

وقال في سورة الزخرف :

«فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ» (٢).

ويكفي «السّلام» تمجيدا وتشريفا أن جعل الله تبارك وتعالى اسم السّلام أحد أسمائه الحسنى ، فقال القرآن في سورة الحشر :

«هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ» (٣).

وقد تعددت أقوال العلماء في معنى هذا الاسم الكريم فقيل : معناه ذو السلامة من كل نقيصة وآفة ، فيكون من أسماء التنزيه.

وقيل معناه : مالك تسليم العباد من المهالك فيرجع الى القدرة.

وقيل معناه : ذو السّلام على المؤمنين في الجنان.

وقيل معناه : مسلّم المسلمين من العذاب.

وقيل معناه : الذي سلم خلقه من ظلمه.

وقيل : الذي يسلم على المصطفين من عباده لقوله تعالى :

«وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى» (٤).

__________________

(١) سورة القصص ، الآية ٥٥.

(٢) سورة الزخرف ، الآية ٨٩.

(٣) سورة الحشر ، الآية ٢٣.

(٤) سورة النمل ، الآية ٥٩.

٦١

وقد قال تعالى في سورة الانعام :

«وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» (١).

والتحية المألوفة المعروفة في الاسلام هي «السّلام عليكم ورحمة الله» ، وقد حرص الاسلام على الاكثار من ترديد السّلام حتى قال رسول الاسلام عليه الصلاة والسّلام : «أفشوا السّلام بينكم». وأطلق الله على جنة النعيم اسم «دار السّلام» فقال في سورة الانعام :

«لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ» (٢).

وقال عنها في سورة يونس :

«وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (٣).

وجعل تحية المؤمنين في الآخرة هي تحية السّلام فقال :

«تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ» (٤).

وحينما دعا القرآن الى الاحتكام الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يحدث بينهم ، طالبهم بأن يرتضوا حكمه ويسلموا لهذا الحكم عن انقياد واذعان ، وينفذوا ذلك طوعا ، فقال في سورة النساء :

__________________

(١) سورة الانعام ، الآية ٥٤.

(٢) سورة الانعام ، الآية ١٢٧.

(٣) سورة يونس ، الآية ٢٥.

(٤) سورة الاحزاب ، الآية ٤٤.

٦٢

«فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» (١).

* * *

ولقد عني رسول الله عليه الصلاة والسّلام بأمر السّلام ودعا أتباعه أن يستشعروا روح السّلام في أنفسهم ، وفي معاملتهم لغيرهم فلا يكون منهم الى الناس أذى أو اعتداء ، فتردد على لسانه الشريف جملة من الاحاديث الشريفة الداعية الى السّلام المذكرة به ومنها هذه الاحاديث :

١ ـ السّلام من الاسلام.

٢ ـ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.

٣ ـ ان السالم من سلم الناس من يده.

٤ ـ أفشوا الاسلام تسلموا.

٥ ـ اذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا : وعليكم.

وكان للرسول دعوات ومناجيات لخالقه ومولاه يذكر فيها السّلام ، وينوه بشأن السّلام ، ويدعو فيها الى استشعار روح السّلام ، فجاء من دعواته : «اللهم أنت السّلام ، ومنك السّلام فحينا ربنا بالسلام». قال العلماء : السّلام الاول في هذا النص اسم من أسماء الله تعالى. ومنك السّلام ، أي منك السلامة من الآفات ، وحيّنا ربنا بالسلام : أي اجعل تحيتنا في وفودنا عليك السلامة من الآفات.

__________________

(١) سورة النساء ، الآية ٦٥.

٦٣

وكان من دعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اللهم اجعلنا سلما لأوليائك.

وحينما قال الله تعالى في سورة يوسف على لسان الصديق عليه‌السلام :

«رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» (١).

وتكلم المفسرون عن هذه الآية قالوا ان معنى «توفني مسلما» يرمز الى الاستسلام والسّلام والسلامة ، فقالوا ان المعنى : اجعلني ممن استسلم لرضاك ، أو اجعلني سالما عن أسر الشيطان حيث قال :

«وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» (٢).

ولقد تحدث الاستاذ الامام محمد عبده في كتابه «المسلمون والاسلام» عن روح المحبة والسّلام في أتباع محمد عليه الصلاة والسّلام خلال العصور والقرون فقال هذه العبارة : «غلب على المسلمين في كل زمن روح الاسلام ، فكان من خلقهم العطف على من جاورهم من غيرهم ، ولم تستشعر قلوبهم عداوة لمن خالفهم الا بعد أن يحرجها الجار .. فهم كانوا يتعلمونها من سواهم ثم لا يكون الا طائفا يحل ثم يرتحل ، فاذا انقطعت أسباب الشغب تراجعت القلوب الى سابق ما ألفته من اللين والمباشرة ، وعلى الرغم من غفلة المسلمين عن الاسلام ، وخذلانهم له ،

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية ١٠١.

(٢) سورة الحجر ، الآية ٣٩ ـ ٤٠.

٦٤

وسعي الكثير منهم في هدمه بعلم وبغير علم ، لم يقف الاسلام في انتشاره عند حد ، خصوصا في الصين وفي أفريقيا .. ولم يخل زمن من ظهور جموع كثيرة من ملل مختلفة تنزع الى الاخذ بعقائده على بصيرة فيما تنزع اليه : لا سيف وراءها ، ولا داعي أمامها ، وانما هو مجرد الاطلاع على ما أودعه ، مع قليل من حركة الفكر في العلم بما شرعه.

ومن هذا تعلم أن سرعة انتشار الدين الاسلامي ، واقبال الناس على الاعتقاد به من كل ملة انما كان لسهولة تعقله ، ويسر احكامه ، وعدالة شريعته وبالجملة لأن فطرة البشر تطلب دينا وترتاد منه ما هو أمس بمصالحها ، وأقرب الى قلوبها ومشاعرها ، وأدعى الى الطمأنينة في الدنيا والآخرة ... ودين هذا شأنه يجد الى القلوب منفذا ، والى العقول سبيلا ، وبدون حاجة الى دعاة ينفقون الاموال الكثيرة ، والاوقات الطويلة ، ويستكثرون من الوسائل ونصب الحبائل لجذب النفوس اليه.

هذا كان حال الاسلام في بساطته الاولى ، وطهارته التي أنشأه الله عليها ، ولا يزال على جانب عظيم منها في بعض أطراف الارض الى اليوم».

يا أبناء الاسلام ، ان ربكم هو السّلام ، وان رسولكم هو نبي السّلام ، وان قرآنكم هو كتاب السّلام ، وان تحيتكم هي السّلام ، وان مسعاكم الى الجنة دار السّلام ، وان رسالتكم هي رسالة السّلام فأشعروا أنفسكم روح السّلام ، ليعمكم ربكم بنعمة السّلام.

٦٥

التمتع بالطيبات

تقول اللغة ان التمتع بالشيء هو الانتفاع به ، والمتوع : الامتداد والارتفاع ، والماتع : الراجح الزائد ، والمتاع : انتفاع ممتد الوقت ، واستمتع طلب التمتع ، والمتعة ما يعطى المطلقة لتنتفع به مدة عدتها ، وكل ما تمتعت به من الحوائج فهو متاع.

والتمتع يستتبع التزين ، والاسلام دين لا يحارب التزين أو التمتع ، بل يعد ذلك شيئا من فطرة الانسان ، أو يعده غريزة مفيدة مثمرة ، اذا استقام صاحبها وأخذ منها بالحظ المعقول البصير صار ذلك خلقا يحمد ولا يعاب ، فهو الى حمى الفضائل أقرب أكثر منه اقترابا من العادات.

والزينة الحقيقية التي يتمتع بها المتخلق البصير هي ما لا يشين الانسان في شيء من أحواله لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وأما ما يزينه في شيء من أحواله دون جانب آخر من أحواله فهو زين من وجه ، وشين من وجه آخر ، والزينة قد تكون زينة نفسية كالعلم والاعتقاد الحسن ، وزينة بدنية كالقوة وطول القامة ، وزينة خارجية كالمال والجاه.

ولقد تحدث تفسير المنار عن غريزة حب الزينة وحب الطيبات فقال : «لقد كانت غريزة حب الزينة ، وغريزة حب الطيبات من الرزق ، سببا

٦٦

لتوسع البشر في اعمال الفلاحة والزراعة ، وما يرقيها من فنون الصناعة ، وسائر وسائل العمران ، واظهار عجائب علم الله وحكمته وقدرته في العالم ورحمته واحسانه بالخلق.

ولو وقف الانسان عند ما تنبت له الارض من الغذاء لحفظ حياة أفراده الشخصية وبقاء حياته النوعية كسائر أنواع الحيوان ، لما وجد شيء من هذه العلوم والفنون والاعمال. وهل كان ما ذكر في بيان خلقه الاول من أكل آدم وحواء من الشجرة التي نهيا عنها الا بدافع غريزة كشف المجهول ، والحرص على الوصول الى الممنوع؟. وهل كان ما ذكر من حرمانهما من الراحة بنعيم الجنة التي يعيشان فيها رغدا بغير عمل ، الا لبيان سنة الله في جعل هذا النوع عالما صناعيا تدفعه الحاجة الى العمل ويدفعه العمل الى العلم ، ويدفعه حب الراحة الى التعب ، ويثمر له التعب الراحة؟

وقد عرف من اختبار قبائل هذا النوع وشعوبه ، في حالي بداوته وحضارته أنه يتعب ويبذل في سبيل الزينة فوق ما يتعب ويبذل في سبيل ضروريات المعيشة ، وكثيرا ما يفضلها عليها عند التعارض ، فالمرء قد يضيق على نفسه في طعامه وشرابه ليوفر لنفسه ثمنا لثوب فاخر ، يتزين به في الاعياد والمجامع ، وماذا تقول في المرأة وهي أشد حبا للزينة من الرجل ، وقد تؤثرها على جميع اللذات الاخرى؟. وان توسع الاغنياء في أنواع الزينة التي ينفسون بها على الفقراء هو الذي وسع الطرق لاستفادة هؤلاء من فضل أموال أولئك ، فان الغواصين الذين يستخرجون اللؤلؤ من أعماق البحار ، وعمال الصياغة والحياكة والتطريز والبناء والنقش ، والتصوير وسائر الزينات ، كلهم أو جلهم من الفقراء الذين يتزين الاغنياء بما يعملون لهم ، وهم منه محرومون ، ولكنهم لا يصلون الى ما لا بد لهم منه من معيشة وزينة تليق بهم الا بسبب تنافس الاغنياء فيه.

٦٧

فحب الزينة أعظم أسباب العمران ، واظهار استعداد الانسان لمعرفة سنن الله وآياته في الاكوان ، فهي غير مذمومة في نفسها ، انما يذم الاسراف فيها ، والغفلة عن شكر المنعم بها ، ومن الاسراف فيها جعلها شاغلة عن عبادة الله تعالى. وعن سائر معالي الامور والكمالات الانسانية ، من علمية أو عملية أو اجتماعية ، دنيوية كانت أو أخروية».

والله تبارك وتعالى يحدثنا عن الزينة ويحببنا فيها عند وجودنا في المواطن المناسبة لها ، ويحثنا على التمتع بالطيبات ، ويقرر أنها من صفات المؤمنين ، ويدعو بني آدم جميعا الى هذا التزين والتمتع فيقول في سورة الاعراف :

«يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (١).

فهو سبحانه وتعالى يحببنا في التزين بالثياب الحسنة والمظهر الجميل ، عند دخول المساجد للصلوات ، وفي صلاة الجماعة والجمعة والعيدين ، ويقول رشيد رضا في ذلك : «التجمل بزينة اللباس اللائق عند الصلاة ـ ولا سيما صلاة الجمعة والجماعة وفي العيدين ـ سنة لا واجب. ولكن اطلاق الامر يدل على وجوب الزينة للعبادة عند كل مسجد ، بحسب عرف الناس في تزينهم المعتدل في المجامع والمحافل ، ليكون المؤمن عند عبادة

__________________

(١) سورة الاعراف ، الآية ٣١ و ٣٢.

٦٨

الله تعالى مع عباده المؤمنين في أجمل حالة لائقة به لا تكلف فيها ولا اسراف ، فمن قدر بلا تكلف على عمامة وازار ورداء ، أو ما في معناها من قلنسوة وجبة وقباء ، لا يكون ممتثلا للامر بالزينة اذا اختصر على ازار يستر العورة فقط للرجل ، وما عدا الوجه والكفين للمرأة ، وان صحت صلاته فان المقام ليس مقام بيان شروط صحة الصلاة ، بل هو أوسع من ذلك».

لقد شرع الاسلام كما رأينا التزين للعيدين وليوم الجمعة ولصلاة الجماعة ، وفي التزين معنى التمتع المباح بالاشياء الطيبة. نعم يكره التزين للمرأة المتوفى عنها زوجها وهي في عدتها ، ويكره لها التبختر والتباهي بالتزين.

وفي سورة المائدة يشير الله تبارك وتعالى الى لون من ألوان التمتع حين يقول :

«أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ» (١).

أي متعكم الله به متاعا حسنا ، أو جعله لاجل تمتيعكم به.

وفي سورة هود يقول الحق تبارك وتعالى :

«وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ» (٢).

أي ان تستغفروا ربكم وتتوبوا اليه يمتعكم بكل نافع في المعيشة متاعا حسنا مرضيا ممتدا الى أجل مسمى ، وهو العمر المقدر لكم في علمه.

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٩٦.

(٢) سورة هود ، الآية ٣.

٦٩

وهذا سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسّلام يوجهنا الى التمتع الطيب والتزين الحميد فيقول : «اذا صلى احدكم فليلبس ثوبيه فان الله عزوجل أحق من تزين له ، فان لم يكن له ثوبان فليتزر اذا صلى».

ولقد كان الائمة من سلفنا الصالح يرون من المحمود للانسان ، المعدود في فضائله ومحامده أن يتمتع بالطيبات في غير اسراف ولا خيلاء فلقد كتب يحيى بن يزيد الى مالك بن أنس رضي الله عنهما هذه الرسالة :

«بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلّى الله على رسوله محمد في الاولين والآخرين من يحيى بن يزيد بن عبد الملك ، الى مالك بن أنس : أما بعد فلقد بلغني أنك تلبس الدقاق (الثياب الرقيقة المحكمة النسج) وتأكل الرقاق (أجود أنواع الخبز) ، وتجلس على الوطيء (الليّن) وتجعل على بابك حاجبا ، وقد جلست مجلس العلم ، وقد ضربت اليك المطيّ ، وارتحل اليك الناس ، واتخذوك اماما ورضوا بقولك ، فاتق الله تعالى يا مالك ، وعليك بالتواضع. كتبت اليك بالنصيحة مني كتابا ما اطلع عليه غير الله سبحانه وتعالى ، والسّلام».

فكتب اليه مالك بن أنس يقول : «بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. من مالك بن أنس الى يحيى بن يزيد : سلام الله عليك ، أما بعد فقد وصل اليّ كتابك ، فوقع مني موقع النصيحة والشفقة والادب. أمتعك الله بالتقوى ، وجزاك بالنصيحة خيرا ، واسأل الله تعالى التوفيق ، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ، فأما ما ذكرت لي أني آكل الرقاق وألبس الدقاق ، وأحتجب وأجلس على الوطيء ، فنحن نفعل ذلك ونستغفر الله تعالى ، فقد قال تعالى : «قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق». واني لأعلم أن ترك ذلك خير من الدخول فيه ، ولا تدعنا من كتابك فلسنا ندعك من كتابنا والسّلام».

٧٠

ويقول القرآن الكريم في سورة آل عمران :

«زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ» (١).

وليس المراد ذم هذه الاشياء أو التنفير منها أو النهي عنها ، وانما المراد والله أعلم هو التحذير من أن تجعل غاية الحياة فينشغل الانسان بها انشغالا يصرفه عن واجباته الاخرى نحو الله والناس.

جاء في تفسير المنار : «الكلام في هذه الشهوات بيان لما فطر عليه الناس من حبها وزينه في نفوسهم ، وتمهيد لتذكيرهم بما هو خير منها ، لا لبيان قبحها في نفسها كما يتوهم الجاهل ، فان الله تعالى ما فطر الناس على شيء قبيح ، بل خلقهم في أحسن تقويم ، ولا جعل دينه مخالفا لفطرته. بل موافقا لها كما قال : «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون». وكيف يكون حب النساء في أصل الفطرة مذموما وهو وسيلة اتمام حكمته تعالى في بقاء النوع الى الاجل المسمى ، وهو من آياته تعالى الدالة على حكمته ورحمته ، كما قال :

«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٤.

٧١

لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (١).

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبهن. وكيف يكون حب المال مذموما لذاته ، والله تعالى قد جعل بذل المال من آيات الايمان ، وهو تعالى ينهى عن الاسراف والتبذير في انفاقه ، كما ينهى عن البخل به ، وقد امتنّ على نبيه بأنه وجده عائلا أو فقيرا فأغناه ، وجعل المال قواما للامم ومعززا للدين ، ووسيلة لاقامة ركنين من أركانه ، ومن أعظم أسباب التقرب اليه تعالى.

وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ان الله يحب العبد التقي الغني الخفي» رواه مسلم في صحيحه ولا أراني في حاجة الى الكلام في حب البنين والخيل والانعام والحرث ، فان الشبهة فيها للغالين في الزهد أضعف.

فعلى المؤمن المتقي أن لا يفتن بهذه الشهوات ، ويجعلها أكبر همه ، والشاغل له عن آخرته ، فاذا اتقى ذلك ، واستمتع بها بالقصد والاعتدال ، والوقوف عند حدود الله تعالى فهو السعيد في الدارين :

«رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ» (٢).

* * *

والحديث عن التمتع بالطيبات يذكرنا بمتعة المطلقات التي يقول عنها الله تبارك وتعالى في سورة البقرة :

«وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ» (٣).

__________________

(١) سورة الروم ، الآية ٢١.

(٢) سورة البقرة ، الآية ٢٠١.

(٣) سورة البقرة ، الآية ٢٤١.

٧٢

وفي سورة الاحزاب يقول :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً» (١).

وفي السورة نفسها قد جاء قول الله تعالى عن أمهات المؤمنين زوجات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً» (٢).

ومتعة الطلاق مستحبة فيستحب للمطلق أن يعطي امرأته عند طلاقها شيئا يهبها اياه ، وقد تكون ثلاثة أثواب ، وفي هذا المجال يقول التنزيل في سورة البقرة :

«وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ» (٣).

أي أعطوا الزوجات المطلقات شيئا يتمتعن به ولتكن هذه المتعة على حسب حالكم في الثروة ، فهي تختلف باختلاف ثروة الرجل سعة وضيقا ، وكل انسان أعرف بثروة نفسه ، فالمتعة تكون على الازواج بما يتعارفون عليه بحسب اختلاف أصنافهم وأحوال معايشهم ، وهذه المتعة واجبة على

__________________

(١) سورة الاحزاب ، الآية ٤٩.

(٢) سورة الاحزاب ، الآية ٢٨.

(٣) سورة البقرة ، الآية ٢٣٦.

٧٣

المؤمنين الذين يحسنون المعاملة مع النساء ، لأن المتعة للمطلقة يراد بها تخفيف وحشة الطلاق ، والطلاق ـ كما يقول الامام محمد عبده ـ فيه غضاضة وايهام للناس أن الزوجة ما طلقها الا وقدرا به شيء منها ، فاذا هو متّعها متاعا حسنا زالت هذه الغضاضة وانتفى ذلك الايهام ، حيث يكون هذا المتاع الحسن كالشهادة بنزاهتها ، والاعتراف بأن الطلاق كان من جهته لعذر يختص به ، وليس لعلة فيها ، والله جل جلاله قد أمرنا بأن نحافظ على الاعراض بقدر الطاقة ، فجعل التمتيع هنا كالبلسم لجراح قلبها.

وهناك أيضا متعة الحج وهي ضم العمرة اليه ، ويقول الله تعالى في سورة البقرة :

«فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» (١).

أي اذا أمنتم الاحصار وزال خوف العدو ، فمن تمتع بمحظورات الاحرام بسبب العمرة ، أي بسبب أدائها ، بأن أتمها وتحلل ، وبقي متمتعا الى زمن الحج ، ليحج من مكة ، فعليه ما استيسر من الهدي ، وأقله شاة.

ويقول ابن الاثير : ان التمتع في الحج له شرائط معروفة في الفقه ، وهو أن يكون قد أحرم في أشهر الحج بعمرة ، فاذا وصل الى البيت ، وأراد أن يحل ويستعمل ما حرم عليه ، فسبيله أن يطوف ويسعى ويحل ، ويقيم حلالا الى يوم الحج ، ثم يحرم من مكة بالحج احراما جديدا ، ويقف بعرفة ويطوف ويسعى ويحل من الحج ، فيكون قد تمتع بالعمرة في أيام الحج. وينبغي لنا أن نلاحظ أن فضيلة التمتع بالطيبات يقصد منها التمتع

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٩٦.

٧٤

العاقل الفاضل ، لأن هناك أنواعا من التمتع لا تحمد ، بل تعاب ، فالقرآن الكريم يحدثنا مثلا عن متاع الاستدراج ، كما في سورة البقرة :

«وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ» (١).

وكما في سورة الحجر :

«ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» (٢).

وفي سورة المرسلات :

«كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ» (٣).

وكما في سورة الزمر :

«قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ» (٤).

نسأل الله تبارك وتعالى أن يعيذنا من فتنة الاغترار بمتاع الحياة الدنيا ، وأن يمن علينا بالتزين الكريم عند عبادته ، والتمتع الحميد بطيباته ، انه نعم المولى ، وهو خير الرازقين.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٢٦.

(٢) سورة الحجر ، الآية ٣.

(٣) سورة المرسلات ، الآية ٤٦.

(٤) سورة الزمر ، الآية ٨.

٧٥

الاعداد والاستعداد

الاعداد هو تهيئة الشيء للمستقبل ، واعداد الشيء احضاره ، والعدة : ما أعددته لحوادث الدهر من المال والسلاح ، ويقال أخذ للامر عدته أي أهبته ، وأعددت لك هذا : جعلته بحيث تعده وتتناوله بحسب حاجتك اليه.

والعد : الاحصاء ، وأعد لأمر كذا أي هيأه له ، وأخذ له عدّته ، واستعد : تهيأ كأعد. وفلان في عداد أهل الخير أي يعد فيهم ، والعتاد : ادخار الشيء قبل الحاجة اليه كالاعداد ، ومن كلام العرب الذي ذكره صاحب «لسان العرب» : كونوا على عدّة ، أي استعداد ، وهذا يذكرنا بشعار حركة الكشافة الذي يقول : كن مستعدا ، ومن هذا نفهم أن العرب قد سبقوا من ابتدعوا نظام الكشافة الى قول هذا الشعار.

والاعداد أو الاستعداد خلق من أخلاق القرآن الكريم ، وفضيلة من فضائل الاسلام العظيم ، وجانب من هدي النبي عليه الصلاة والتسليم ، ومن شأن الانسان البصير المتخلق بأخلاق الخير وخصال البر ، أن يحسب حساب الغد ، فيدخر له ما يستطيعه من وسائل الصيانة وأسباب الحصانة ، وأن يبادر فيجعل له عند ربه رصيدا من الزاد والعتاد ، مما ينفعه يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم.

٧٦

ولقد قلت في كتابي : «توجيه الرسول للحياة والاحياء (١)» هذه العبارة : «ان العمر محدود ، والاجل غير معلوم ، والانسان لا يدري متى يودّع حياته ليلقى ربه ، والماضي قد ذهب ولن يعود ، والمستقبل غيب محجب ، فلم يبق الا اليوم ، فواجب المؤمن انتهاز الفرصة فيه قبل ان تصير غصّة :

ما مضى فات والمؤمل غيب

ولك الساعة التي أنت فيها

وهناك آفات وعوائق تصد الانسان عن مواصلة العمل أو الجد فيه ، فعليه أن يبادر ويسارع الى ادخار الطيبات عند ربه قبل أن يعجز عن ذلك ، ولذلك يقول حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك».

كما قلت : «القرآن الكريم يحثنا على المبادرة بالطيبات ، والمسارعة الى الصالحات ، والمسابقة الى القربات ، فيقول في سورة آل عمران :

«وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» (٢).

ويقول في السورة نفسها عن المؤمنين :

«يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ

__________________

(١) كتابي «توجيهات الرسول للحياة والاحياء» صفحة ٣٠٣ ، مطبعة دار الجيل ببيروت ، الطبعة الاولى سنة ١٩٧٧.

(٢) سورة آل عمران ، الآية ١٣٣.

٧٧

الصَّالِحِينَ» (١).

وفي سورة الانبياء عن زكريا :

«فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ» (٢).

وفي سورة المؤمنين :

«إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ ، أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ» (٣).

وفي سورة الواقعة :

«وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» (٤).

وفي سورة الحديد :

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١١٤.

(٢) سورة الانبياء ، الآية ٩٠.

(٣) سورة المؤمنون ، الآية ٥٧ ـ ٦١.

(٤) سورة الواقعة ، الآية ١٠ و ١١.

٧٨

«سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» (١).

وقد أشار القرآن الكريم الى فضيلة الاعداد جهد الطاقة والاستطاعة فقال في سورة الانفال :

«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ» (٢).

أمر الله عباده المؤمنين بأن يستعدوا لدفع العدوان والشر ، ولحفظ الانفس ، ورعاية الحق والفضيلة بأمرين أولهما اعداد جميع أسباب القوة بقدر الاستطاعة ، والامر الثاني هو مرابطة الفرسان المجاهدين في الثغور والحدود.

والحديث يقول : «ألا ان القوة الرمي». والرمي يشمل كل ما يرمى به العدو من سهم أو قذيفة أو غير ذلك ، والرمي في كل عصر بحسب ما يهتدي اليه أهله.

وفي «لطائف الاشارات» جاء تفسير الآية على هذا الوجه : «أعدوا لقتال الاعداء ما يبلغ وسعكم ذلك من قوة ، وأتمها قوة القلب بالله ،

__________________

(١) سورة الحديد ، الآية ٢١.

(٢) سورة الانفال ، الآية ٦٠.

٧٩

والناس فيها مختلفون ، فواحد يقوي قلبه بموعود نصره. وآخر يقوي قلبه بأن الحق عالم بحاله ، وآخر يقوي قلبه لتحققه بأن يشهد من ربه. قال تعالى : «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا» وآخر يقوي قلبه باثار رضاء الله تعالى على مراد نفسه ، وآخر يقوي قلبه برضاه بما يفعله مولاه به. ويقال أقوى محبة للعبد في مجاهدة العبد ، وتبريه من حوله وقوته».

ونعود الى «ظلال القرآن» في تفسير الآية أيضا ، لنجده يقول : «الاستعداد بما في الطوق فريضة تصاحب فريضة الجهاد ، والنص يأمر باعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها ، ويخص رباط الخيل بأنه الاداة التي كانت بارزة عند من يخاطبهم بهذا القرآن أول مرة ، ومع ذلك فما يزال رباط الخيل ضروريا في كثير من المواقع التي يعسر الوصول اليها بوسائل الحرب الحديثة. والمهم هو عموم النص واتجاهه الى اعداد كل قوة مستطاعة ، ومنها قوة العقيدة والتربية والخلق والتنظيم ، فالوسائل المادية وحدها ليست هي التي تفصل في المعارك ، والاعصاب أحيانا تكون هي القوة الفاصلة ، وما يثبت الاعصاب ويقويها كالعقيدة التي تربط القلوب بالله ، وتصل قوة المجاهدين بالقوة الكبرى التي لا تغلب ، وتمد الارواح بالينبوع الدافق الذي لا ينضب.

ويحسن أن نعرف حدود التكليف باعداد القوة ، فالنص يقول :

«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ» (١).

واذن فليس المقصود اعداد قوة مماثلة لقوة الاعداء. وفريضة الجهاد لا تنتظر حتى يتم اعداد قوة مماثلة. ان ذلك أمر يطول ، وقد لا يجيء أبدا. ولو انتظر المسلمون بغزوة بدر حتى تتكافأ قوتهم وقوة

__________________

(١) سورة الانفال ، الآية ٦٠.

٨٠