موسوعة أخلاق القرآن - ج ٦

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٦

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٠٧

وقد روى الترمذي عن سيدنا ومولانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وارزقني حسن النظر فيما يرضيك».

نسأل الله جل جلاله أن يجملنا بفضيلة النظر المفضية الى الاعتبار والادكار انه نعم المولى ونعم النصير.

* * *

١٤١

الصفاء

تقول اللغة : الصفاء اسم للبراءة من الكدر ، والكدر هو امتزاج الطيب بالخبيث. وصافاه مصافاة : صدقه الاخاء والمودة. والصفا : الخلوص من الشوب ، من قولهم : الصفا وهو العريض الاملس من الحجارة ، وصفا الشيء خلص من الشوائب. واصطفى : اختار ، والمصطفى : المختار ، وهو اسم من اسماء سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسّلام ، والصفوة من كل شيء خالصه ، وصفاه تصفية استخرج صفوته ، والاصطفاء تناول صفو الشيء ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو صفوة الله من خلقه.

والصفاء بمعناه الاخلاقي خلق من أخلاق القرآن الكريم وفضيلة من فضائل الاسلام العظيم وجزء من هدي النبي عليه الصلاة والتسليم. وقد استشهد الامام الهروي على أن الصفاء فضيلة قرآنية بقول الله تبارك وتعالى في سورة «ص» :

«وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ» (١).

ووجه الاستشهاد كما يقول الامام ابن القيم : ان «المصطفى»

__________________

(١) سورة ص ، الآية ٤٧.

١٤٢

مفتعل من الصفوة ، وهي خلاصة الشيء ، وتصفيته مما يشوبه ، ومنه ، اصطفى الشيء لنفسه أي خلصه من شوب شركة غيره فيه ، لأن الشيء الصافي هو الخالص من كدر سواه.

وينبغي أن نلاحظ الارتباط بين الصفاء والاصطفاء ، فمن صفا وطهر وخلص لربه فقد تقبله واختاره واصطفاه ، ومن المواطن التي جاء فيها ذكر هذه الفضيلة قول الله تبارك وتعالى :

«وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ ، إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ، وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ» (١).

يقول تعالى مخبرا عن فضائل عباده المرسلين وأنبيائه العابدين : واذكر عبادنا ابراهيم واسحاق ويعقوب أولي الايدي والابصار ، يعني بذلك العمل الصالح والعلم النافع والقوة في العبادة ، والبصيرة النافذة. أولي الايدي والابصار ، أي أصحاب القوة والعبادة والفقه في الدين والبصر في الحق. قال قتادة : أعطوا قوة في العبادة وبصرا في الدين. انا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ، أي جعلناهم يعملون للآخرة ، ليس لهم هم سواها ، وكما قال مالك بن دينار : نزع الله من قلوبهم حب الدنيا وذكرها ، وأخلصهم بحب الآخرة وذكرها ، وهم يقومون بتذكير الناس الدار الآخرة والعمل لها. وانهم عندنا لمن المصطفين الاخيار أي من المختارين المجتبين الاخيار ، فهم أخيار مختارون.

وقد جاء في تفسير «ظلال القرآن» أن الله سبحانه يصف ابراهيم

__________________

(١) سورة ص ، الآية ٤٥ ـ ٤٧.

١٤٣

واسحاق ويعقوب بأنهم أصحاب الايدي والابصار ، وهذا كناية عن العمل الصالح بالايدي والنظر الصائب أو الفكر السديد بالابصار ، وكأن من لا يعمل صالحا لا يد له ، ومن لا يفكر تفكيرا سليما لا عقل له ، أو لا نظر له.

ويذكر من صفتهم التكريمية أن الله أخلصهم بصفة خاصة ليذكروا الدار الآخرة ، ويتجردوا من كل شيء سواها ، فهذه ميزتهم ورفعتهم ، وهذه جعلتهم عند الله مختارين : «وانهم عندنا لمن المصطفين الاخيار».

ويقول الله تعالى في سورة فاطر :

«ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ» (١).

جاء في تفسير الرازي أنه اتفق أكثر المفسرين على أن المراد بالكتاب هنا هو القرآن ، وعلى هذا فالذين اصطفيناهم هم الذين أخذوا بالكتاب ، وهم المؤمنون والظالم والمقتصد كلهم منهم ، ويدل عليه قوله تعالى : «جنات عدن يدخلونها» فقد أخبر بدخولهم الجنة ، وكلمة «ثم أورثنا» أيضا تدل عليه ، لان الايراث اذا كان بعد الايحاء ، ولا كتاب بعد القرآن ، فهو الموروث ، والايراث المراد منه الاعطاء ، والمعنى : انا اعطينا الكتاب الذين اصطفينا ، وقد افترق الذين أخذوا هذا الكتاب ، فمنهم ظالم وهو

__________________

(١) سورة فاطر ، الآية ٣٢ و ٣٣.

١٤٤

لمسيء ، ومقتصد وهو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا ، وسابق الخيرات وهو الذي أخلص العمل لله ، وجرده عن السيئات.

وقد قسم العلماء الصفاء الى ثلاث درجات ، فهناك صفاء مهذب سلوك الطريق ، وهو العلم الصافي الذي جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو علم مقيد بالكتاب والسنة ، وهما اللذان تجب متابعتهما ، وملازمة ما سلكه الاولون من التقيد بهما ، وترك ما أحدثه الآخرون ، فهذا ـ كما يقول ابن القيم ـ هو العلم الصافي المتلقى من مشكاة النبوة والوحي ، يهذب صاحبه لسلوك طريق العبودية ، وحقيقتها التأدب بآداب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باطنا وظاهرا ، وتحكيمه ظاهرا وباطنا ، والوقوف معه حيث وقف بك ، والمسير معه حيث سار بك ، لأنه قد ألقيت اليه أمرك كله ، واقتديت به في جميع أحوالك ، فأنت خالص له ، وأنت مثال الصفاء معه ، ترضى لرضاه ، وتغضب لغضبه.

والدرجة الثانية من درجات الصفاء يسمونها صفة الحال ، والحال ثمرة العلم ، ولا يصفو الحال الا بصفاء العلم ، واذا صفا العلم والحال تحققت للانسان فضيلة الصفاء ، وفي هذه الدرجة يذوق الانسان حلاوة المناجاة ، «واذا صفا الحال شاهد العهد بصفائه آثار الحقائق ، وهي الشواهد فيه وفي غيره وعليه وعلى غيره ، ووجد حلاوة المناجاة». لأنه متى صفا له حاله من الشوائب خلصت له حلاوته من مرارة الاكدار ، يذاق تلك الحلاوة في حال مناجاته فلو لم يكن الحال صافيا ، وكان مشوبا مكدرا لم يجد حلاوة المناجاة.

الدرجة الثالثة صفاء الاتصال ، أي اتصال العبد بربه ، ووصوله اليه جل وعلا حيث يزيل العبد بتوفيق ربه من طريق السير الى خالقه عوائق النفس والناس ، يقول في ذلك ابن القيم : «فان السالك لا يزال سائرا الى الله تعالى حتى يموت ، فلا ينقطع سيره الا بالموت ، فليس في هذه الحياة وصول يفرغ معه السير وينتهي ، وليس ثمة اتصال حسي بين ذات

١٤٥

العبد وذات الرب ، فالاول تعطيل والحاد ، والثاني حلول واتحاد ، وانما حقيقة الامر تنحية النفس والخلق عن الطريق ، فان الوقوف معهما هو الانقطاع ، وتنحيتهما هو الاتصال.

وأما الملاحدة القائلون بوحدة الوجود فانهم قالوا : «العبد من أفعال الله وأفعاله من صفاته ، وصفاته من ذاته ، فأنتج لهم هذا التركيب أن العبد من ذات الرب تعالى الله وتقدس عما يقولون علوا كبيرا».

وأما المؤمن المطيع ، الخالص المخلص ، فهو الذي صفا له علمه وحاله ، واندرج علمه جميعه وأضعاف أضعافه في حق ربه تبارك وتعالى ، ورآه في جنب حقه أقل من خردلة بالنسبة الى جبال الدنيا ـ ولله المثل الاعلى ـ فهو من صفائه واخلاصه لربه لا يطلب من خالقه اثابة على عمله ، لاحتقاره له وقلته عنده وصغره في عينه. وقد روى الامام أحمد كما في «مدارج السالكين» : ان الله تعالى أوحى الى داود : يا داود أنذر عبادي الصادقين فلا يعجبن بأنفسهم ولا يتكلن على أعمالهم ، فانه ليس أحد من عبادي أنصبه للحساب ، وأقيم عليه عدلي الا عذبته ، من غير أن أظلمه ، وبشر عبادي الخطائين أنه لا يتعاظمني ذنب : أن أغفره وأتجاوز عنه.

كما روى الامام أحمد عن ثابت البناني قال : تعبد رجل سبعين سنة ، وكان يقول في دعائه : رب اجزني بعملي ، فمات فادخل الجنة فكان فيها سبعين عاما ، فلما فرغ وقته قيل له : اخرج فقد استوفيت عملك. فقلب أمره : أي شيء كان في الدنيا أوثق في نفسه؟ فلم يجد شيئا أوثق في نفسه من دعاء الله والرغبة اليه ، فأقبل يقول في دعائه : رب سمعتك وأنا في الدنيا وأنت تقيل العثرات ، فأقل اليوم عثرتي ، فيترك في الجنة ، وغاية الصفاء أن يدرك العبد أن ذاته وصفاته وأفعاله وقواه وحركاته كلها مملوكة لله ، ليس يملك العبد منها شيئا ، بل هو محض ملك الله ، فهو المالك لها ، المنعم على عبده باعطائه اياها ، فالمال ماله ، والعبد عبده ،

١٤٦

والخدمة مستحقة عليه بحق الربوبية ـ وهي من فضل الله عليه ، فالفضل كله لله ، والفضل كله من الله ، والفضل كله بالله.

وقد يعبر الصوفية عن فضيلة الصفاء بقولهم حسب طريقتهم : الصفاء هو سقوط التلوين ، أي ترك التردد والتذبذب ، وقد قال القائل :

كل يوم تتلون

ترك هذا بك أجمل

والصفاء من المؤمن ، ومصافاته لاخوانه في الدين ، مكانة يستحق بها حب الله وحب رسوله ، ويا لها من مكانة سامية ، وقد جاء في مسند ابن حنبل حديث يقول : «حقت محبتي للذين يتصافون من اجلي».

نسأل الله عزت اسماؤه وجلت آلاؤه أن يجعلنا من عباده الذين يحمدونه ويعبدونه ، فاصطفاهم الله بنعمته وكرمه ، حتى يكونوا من السعداء في هذه الحياة ويوم لقاء الله تبارك وتعالى.

١٤٧

التماس العذر للناس

العذر هو الحجة التي يعتذر بها الانسان عند خطأ ارتكبه ، أو تصرف لا يليق به ، وقيل ان العذر هو تحري الانسان ما يمحى به ذنوبه ، اما بالانكار ، أو ذكر السبب الملجىء للفعل ، أو الاعتراف والوعد بعدم العودة ، وهذا توبة.

والتماس العذر معناه رفق الانسان بالمخطىء ، وعدم مقابلة سيئته بمثلها ، بل يلتمس الانسان له عذرا ، فيعفو ويصفح ، وما زلت أذكر بيتا أخلاقيا رائعا لشاعرنا شوقي ، يقول فيه مخاطبا الانسان :

رزقت أكرم ما في الناس من خلق

اذا رزقت التماس العذر في الشيم

أي أن الانسان يكون على جانب كبير من مكارم الاخلاق اذا لم يقابل السيئة بالسيئة ، بل تلطف بالمذنب ، واشفق عليه ، وأضرب صفحا عن زلته ، وقدر ما يكون هناك من أسباب أو عوامل دفعت بالمذنب الى ارتكاب ما ارتكب من خطأ.

ولا شك أن تعالي الانسان عن مقابلة العدوان بالعدوان ، والصفح الجميل عن الهفوة والزلة ، خلق من اخلاق القرآن الكريم ، وفضيلة من فضائل الاسلام العظيم ، وجانب من هدي النبي عليه الصلاة والتسليم.

١٤٨

وهذا تنزيل ربنا المجيد يحبب في المغفرة والصفح والعفو ، وعدم مقابلة السيئة بمثلها ، فيقول في سورة النور :

«وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (١).

أي لا يحلف أصحاب الفضل منكم ، وأهل الاحسان والقدرة أن يوتوا الاقارب والمحتاجين ، أي لا تحلفوا أن لا تصلوا قراباتكم المساكين والمهاجرين ، وليعفوا وليصفحوا عما تقدم منهم من الاساءة والاذى ، وقيل ان هذه الآية نزلت في شأن أبي بكر الصديق حيث حلف أن لا ينفع مسطح ابن أثاثة بمعونة بعد أن قال في الصديقة عائشة ما قال من حديث الافك ، فلما نزلت براءة أم المؤمنين ، شرع الله تبارك وتعالى يعطف الصديق على قريبه ، وكان الصديق معروفا بالعطاء والفضل ، فتأثر أبو بكر عندما سمع قوله تعالى : «ألا تحبون أن يغفر الله لكم ، والله غفور رحيم» فقال : بلى والله انا نحب يا ربنا أن تغفر لنا. ثم عاد أبو بكر الى مساعدة مسطح ومعاونته ، وبمثل هذا كان الصديق هو الصديق.

ويقول الله تعالى :

«وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ،

__________________

(١) سورة النور ، الآية ٢٢.

١٤٩

وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (١).

أي هناك فرق عظيم بين جمال الحسنة وقبح السيئة ، فادفع من أساء اليك بالاحسان اليه ، فقد قال عمر : ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. فاذا أحسنت الى من أساء اليك قادته تلك الحسنة الى مصافاتك ومحبتك والحنو عليك ، حتى يصير كأنه صديق قريب اليك.

وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها الا من صبر على ذلك ، فانه يشق على النفوس ، وما يتحلى بهذه الفضيلة الا ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة ، ولذلك أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الاساءة ، فاذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان ، وخضع لهم عدوهم كأنه صديق حميم.

وقد أكد القرآن المجيد هذا المعنى ، ففي سورة الاعراف يقول :

«خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ، وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (٢).

وفي سورة المؤمنون :

«ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ ، وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ» (٣).

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية ٣٤ و ٣٥.

(٢) سورة الاعراف ، الآية ١٩٩ و ٢٠٠.

(٣) سورة المؤمنون ، الآية ٩٦ ـ ٩٨.

١٥٠

وفي سورة الرعد نجد القرآن يقول في صفات أولي الالباب :

«وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ» (١).

أي الذين يدفعون القبيح بالحسن ، فاذا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبرا واحتمالا ، وصفحا وعفوا ، وأخبر عن هؤلاء السعداء المتصفين بهذه الصفات الحسنة بأن لهم عقبى الدار ، فهم مخلدون في الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا. وفي سورة القصص يقول القرآن عن خيار العباد :

«وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ» (٢).

أي يدفعون السيئة القبيحة بالحسنة الجميلة ، فهم لا يقابلون السيئة بمثلها ، بل يعفون ويصفحون ، وهم يتنزهون عن اللغو قائلين : «لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ، سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين».

والقرآن الكريم حيث يشرع حق المعتدى عليه في أخذ حقه وقصاصه من المعتدي يحبب في الصبر والعفو ، فيقول في سورة النحل :

«وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» (٣).

ونجد القرآن المجيد في سورة الشورى يقول جامعا بين حق القصاص بالمثل ، وبين العفو والاصلاح :

__________________

(١) سورة الرعد ، الآية ٢٢.

(٢) سورة القصص ، الآية ٥٤.

(٣) سورة النحل ، الآية ١٢٦.

١٥١

«وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ، وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ، وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ، وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» (١).

فيتحدث الله عن الذين توجد فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم ، فهم يقدرون على الانتقام ممن تطاول عليهم. ثم قرر القرآن أن السيئة تجازى بمثلها فشرع العدل في القصاص وندب الى الفضل وهو العفو ، كقوله في موطن آخر : «والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له» ولذلك قال هنا : «فمن عفا وأصلح فأجره على الله» وقد جاء في الحديث الذي رواه مسلم : «ما زاد الله عبدا بعفو الا عزا». ثم أبان النص ان المظلومين ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم ، وانما يكون الانسان ظالما اذا بدأ بالعدوان والبغي. ومن وصايا السلف : «ان استطعت ألا تبيت الا وظهرك خفيف ، وبطنك خميص ، وكفك نقية من دماء المسلمين وأموالهم فافعل ، فانك اذا فعلت ذاك لم يكن عليك سبيل»

«إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (٢)

__________________

(١) سورة الشورى ، الآية ٣٩ ـ ٤٣.

(٢) سورة الشورى ، الآية ٤٢.

١٥٢

ويقول القرآن في سورة النساء :

«ان تبدو خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فان الله كان عفوا قديرا» أي اذا أظهرتم أيها الناس خيرا ، أو أخفيتموه ، او عفوتم عمن أساء اليكم ، فان ذلك مما يقربكم عند الله ، ويجزل ثوابكم لديه ، فان من صفاته تعالى أنه يعفو عن عباده مع قدرته على عقابهم.

فالاصل في الجزاء ـ كما في ظلال القرآن ـ هو مقابلة السيئة بالسيئة ، حتى لا يتبجح الشر ويطغى ، مع استحباب العفو ابتغاء وجه الله ، واصلاح النفس من الغيض ، واصلاح الجماعة من الاحقاد. والعفو انما يكون مع المقدرة ، فاذا جاء سماحة ولم يجىء ضعفا كان له وزنه وثمرته ، وأما مع الضعف والعجز فهو مما ينشر الفساد في الارض. والذي ينتصر بعد ظلمه ، ويجزي السيئة بالسيئة دون اعتداء يزاول حقه المشروع ، ولا سلطان لاحد عليه ، وانما يجب الوقوف في طريق الذين يظلمون الناس ، ويبغون في الارض بغير الحق ، واذا حقق الانسان في نفسه الاعتدال وضبط النفس والصبر والسماحة عند المقدرة ، كان الصبر هنا استعلاء لا استخذاء ، وتجملا لا ذلا.

وحينما عبر القرآن عن مقابلة السيئات بالحسنة فقال : «ويدرأون بالحسنة السيئة» كان المقصود بالتعبير انهم يقابلون السيئة بالحسنة ، ولكنه تجاوز المقدمة الى النتيجة ، فمقابلة السيئة بالحسنة يكسر شرة النفوس ، ويوجهها الى الخير ، ويطفىء جذوة الشر ، ويرد نزغ الشيطان ، ومن هنا يدرأ السيئة ويدفعها في النهاية ، فعجل النص بهذه النهاية وصدر بها الآية الكريمة ، ترغيبا في مقابلة السيئة بالحسنة ، وطلبا لنتيجتها المرتقبة.

ثم هي اشارة خفية الى مقابلة السيئة بالحسنة عند ما يكون في هذا

١٥٣

درء السيئة ودفعها لا اطماعها واستعلاءها ، وأما حين تحتاج السيئة الى القمع ، ويحتاج الشر الى الدفع فلا مكان لمقابلتها بالحسنة ، لئلا ينتفش الشر ويتجرأ ويتوقح.

ودرء السيئة بالحسنة لون حميد من الصبر ، وهو أشد من مجرد الصبر على الايذاء والسخرية ، فيه استعلاء على كبرياء النفس ، وفيه فوق ذلك سماحة راضية ، ترد القبح بالجميل ، وتقابل الجاهل بالطمأنينة ، وهذه مكانة لا يبلغها الا المؤمنون الذين يعاملون الله فيرضاهم ويرضونه ، فيلقون ما يلقون من الناس راضين مطمئنين.

ويتحدث الامام ابن القيم عن مقابلة الاساءة بالاحسان ، وهي فضيلة تتضمن التماس الاعذار للناس ، فيذكر ان كمال هذه الفضيلة لم يتحقق لاحد سوى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم للورثة «بحسب سهامهم من التركة» كما يعبر ابن القيم ، ولا عجب في ذلك ولا غرابة ، فسيدنا ورائدنا وقائدنا رسول الله هو القائل : «اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن».

ويتحدث الهروي عن درجات الفتوة فيقول : ان الدرجة الثانية منها هي أن تقرب من يقصيك ، وتكرم من يؤذيك ، وتعتذر الى من يجني عليك ، سماحة لا كظما ، ومودة لا مثابرة. ويقول ابن القيم عن شيخه ابن تيمية : «وما رأيت أحدا قط أجمع لهذه الخصال من شيخ الاسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ وكان بعض أصحابه الاكابر يقول : وددت أنه لاصحابه مثله لاعدائه وخصومه. وما رأيته يدعو على أحد منهم قط ، وكان يدعو لهم. وجئت يوما مبشرا له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له فنهرني وتنكر لي واسترجع ، ثم قام من فوره الى بيت أهله فعزاهم ، وقال اني لكم مكانه ، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه الى مساعدة الا وساعدتكم عليه.

١٥٤

وفي تراثنا الادبي كلمات نوابغ تدل على النبل في التماس الاعذار للناس ، فهذا هو الشاعر المؤمل بن أميل يقول :

اذا مرضنا أتيناكم نعودكم

وتخطئون فنأتيكم ونعتذر

ويقول الهروي : «اعلم أن من أحوج عدوه الى شفاعة ، ولم يخجل من المعذرة اليه ، لم يشم رائحة الفتوة» ومعنى هذا ان الذي يستحق لقب الفتى لا يحوج غيره الى الاعتذار ، وفي التعليق على ذلك يقول ابن القيم : «يعني ان العدو متى علم انك متألم من جهة ما نالك من الاذى منه احتاج إلى أن يعتذر اليك ، ويشفّع اليك شافعا يزيل ما في قلبك منه فالفتوة كل الفتوة أن لا تحوجه الى الشفاعة ، بأن لا يظهر له منك عتب ولا تغير عما كان له منك قبل معاداته ولا تطوي عنه بشرك ولا برّك ، واذا لم تخجل أنت من قيامه بين يديك مقام المعتذر لم يكن لك في الفتوة نصيب».

من هذا الباب ما قاله الهروي : كل معصية عيّرت بها أخاك فهي لك. وقول الترمذي : «من عيّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله».

وذكر الحارث المحاسبي أن من حسن الخلق احتمال الاذى وقلة الغضب ، وبسط الوجه ، وطيب الكلام. ويستلزم حسن الخلق أمورا منها : كتمان السيئة واحتمالها ، وعدم استجابة الغضب ، وعدم ظهور غيظ على الوجه ، والكلام الطيب الجميل.

نسأل الله جلت قدرته أن يجعلنا من الذين يلتمسون الاعذار للناس. وأن نتذكر على الدوام قول القائل :

رزقت أكرم ما في الناس من خلق

اذا رزقت التماس العذر في الشيم

وعلى الله قصد السبيل.

١٥٥

الأدب

اذا رجعنا الى كتاب «مدارج السالكين» للامام ابن القيم وجدناه قد جعل «الادب» منزلة أخلاقية قرآنية من منازل : «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ». واستشهد على ذلك بقول الله تبارك وتعالى في سورة التحريم :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» (١).

وذلك لان عبد الله بن عباس قد قال ومعه غيره : ان معنى الآية أدّبوهم وعلموهم. ولفظة الادب ـ كما يقول ابن القيم ـ مؤذنة بالاجتماع ، فالادب اجتماع خصال الخير في العبد ، ومنه كلمة المأدبة ، وهي الطعام الذي يجتمع عليه الناس ، وعلم الاول هو علم اصلاح اللسان والخطاب ، واصابة مواقعه ، وتحسين ألفاظه ، وصيانته عن الخطأ والخلل. وهو شعبة من الادب العام.

وحقيقة الادب استعمال الخلق الجميل ، ولهذا كان الادب استخراج

__________________

(١) سورة التحريم ، الآية ٦.

١٥٦

ما في الطبيعة من الكمال من القوة الى الفعل ، فالله سبحانه قد هيأ الانسان ، لقبول الكمال ، بما أعطاه من الاهلية والاستعداد ، وجعل هذا فيه كامنا كالنار في الزناد ، فألهمه ومكنه ، وعرفه وأرشده ، وأرسل اليه رسله ، وأنزل اليه كتبه ، لاستخراج تلك القوة التي أهله بها لكماله الى الفعل ، كما قال سبحانه في سورة الشمس :

«وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» (١).

فعبر عن خلق النفس بالتسوية والدلالة على الاعتدال والتمام ، ثم أخبر عن قبولها للفجور والتقوى ، وان ذلك نألها منه امتحانا واختبارا ، ثم خص بالفلاح من زكاها فنماها وعلاها ، ورفعها بآدابه التي أدب بها رسله وأنبياءه وأولياءه ، وهي التقوى. ثم حكم بالشقاء على من دسّاها ، فأخفاها وحقرها ، وصغرها وقمعها بالفجور.

وقد ذكر عبد الله بن المبارك المراد من معنى الادب في هذا المجال الاخلاقي فقال : قد أكثر الناس القول في الادب ، ونحن نقول انه معرفة النفس ورعوناتها ، وتجنب تلك الرعونات. وقال سهل بن عبد الله : من قهر نفسه بالادب فهو يعبد الله بالاخلاص.

وقد عنيت السنة المطهرة بفضيلة الادب ، فروى الترمذي : «ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن» وروى ابن ماجه : «أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم». وربطت السنة بين الادب والقرآن فروى الدارمي : «أدب الله القرآن». ويجعل بعض السلف مراتب الناس في الادب على ثلاث طبقات : أما اهل الدنيا فأكبر آدابهم في الفصاحة والبلاغة ، وحفظ

__________________

(١) سورة الشمس ، الآية ٧ ـ ١٠.

١٥٧

العلوم ، وأسمار الملوك وأشعار العرب. وأما أهل الدين فأكثر آدابهم في رياضة النفوس وتأديب الجوارح وحفظ الحدود وترك الشهوات. واما أهل الخصوصية فأكبر آدابهم هي طهارة القلوب ، ومراعاة الاسرار ، والوفاء بالعهود ، وحفظ الوقت ، وقلة الالتفات الى الخواطر ، وحسن الادب في مواقف الطلب ، وأوقات الحضور ومقامات القرب.

ورأس أنواع الادب أدب الانسان مع الله سبحانه ، وهو أيضا ثلاثة أنواع :

الاول : صيانة معاملته أن يشوبها بنقيصة.

الثاني : صيانة قلبه أن يلتفت الى غيره.

الثالث : صيانة ارادته أن تتعلق بما يمقتك عليه. ولهذا يقول بعضهم : الحق سبحانه تعالى يقول : من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي الزمته الادب. ويقول ابو حفص : حسن الادب في الظاهر عنوان حسن الادب في الباطن ، فالادب مع الله حسن الصحبة معه ، بايقاع الحركات الظاهرة والباطنة على مقتضى التعظيم والاجلال والحياء. كحال مجالس الملوك ومصاحبتهم. ويقول ابن عطاء الله : الادب الوقوف مع المستحسنات ، أي أن تعامله سبحانه وتعالى بالادب سرا وعلنا. وأنشد قول الشاعر :

اذا نطقت جاءت بكل ملاحة

وان سكتت جاءت بكل مليح

وينبغي أن نتذكر أن أهل الادب والاخلاق يجعلون أدب الانسان في طاعة الله مرتبة فوق طاعة الله ، ولذلك يقول ابو علي الدقاق : العبد يصل بطاعة الله الى الجنة ، ويصل بأدبه في طاعته الى الله.

ويأتي بعد الادب مع الله الادب مع رسول الله صلوات الله عليه وسلامه وهو ـ كما يصور ابن القيم ـ أن لا يتقدم بين يدي الرسول بأمر

١٥٨

ولا نهي ، ولا اذن ولا تصرف ، حتى يأمر النبي وينهى ويأذن ، كما قال الله تعالى في سورة الحجرات :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ» (١).

وهذا باق الى يوم القيامة لم ينسخ ، فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته ، ولا فرق بينهما عند ذي عقل سليم. قال مجاهد : لا تفتأتوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقال غيره : لا تأمروا حتى يأمر ، ولا تنهوا حتى ينهى.

ومن الادب مع النبي ألا ترفع الاصوات فوق صوته ، فانه سبب لهبوط الاعمال ، فما الظن برفع الآراء ونتائج الافكار على سنته وما جاء به؟ أترى ذلك موجبا لقبول الاعمال ، ورفع الصوت فوق صوته موجب لهبوطها؟

ومن الادب معه أن لا يجعل دعاءه كدعاء غيره ، قال تعالى في سورة النور :

«لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً» (٢).

أي لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا ، بل قولوا يا رسول الله ، يا نبي الله. أو لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضا ان شاء أجاب ، وان شاء ترك ، بل اذا دعاكم لم يكن لكم بد من اجابته ، ولم يسعكم التخلف عنه البتة. ومن الادب مع الرسول أنهم اذا كانوا معه على

__________________

(١) سورة الحجرات ، الآية الاولى.

(٢) سورة النور ، الآية ٦٣.

١٥٩

أمر جامع ـ من خطبة أو جهاد أو رباط ـ لم يذهب احد منهم مذهبا في حاجته حتى يستأذنه ، كما قال تعالى في سورة النور :

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ» (١).

ومن الادب مع رسول الله أن لا نستشكل قوله ، بل نستشكل الآراء المقولة ، ولا نعارض نصه بقياس ، ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولا.

وأما أدب الانسان مع الخلق فهو معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم ، فلكل مرتبة أدب ، فمع الوالدين أدب خاص ، ومع العالم أدب آخر ومع السلطان أدب يليق به ، ومع الاقران أدب يليق بهم ومع الاجانب أدب غير أدبه مع اصحابه ، ومع الضيف أدب غير أدبه مع أهل بيته ، وهكذا ...

والمثل الاعلى في الادب مع الله هو مقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الذي قال له ربه حين أراه ما أراه :

«ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى» (٢).

فهذا كما يشير صاحب «مدارج السالكين» الى أدبه عليه الصلاة والسّلام في ذلك المقام ، اذ لم يلتفت جانبا ولا تجاوز ما رآه ، وهذا كمال الادب ، والاخلال بهذا الكمال هو أن يلتفت الناظر عن يمينه أو شماله ويتطلع أمام المنظور ، فالالتفات ـ كما نفهم عن ابن تيمية ـ زيغ ، والتطلع

__________________

(١) سورة النور ، الآية ٦٢.

(٢) سورة النجم ، الآية ١٧.

١٦٠