موسوعة أخلاق القرآن - ج ٦

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٦

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٠٧

الى ما أمام المنظور طغيان. والكمال أن لا يصرف بصره يمنة ولا يسرى.

ويرى ابن القيم ان هذه الآية فيها اسرار عجيبة وفيها من دقائق الآداب ما يليق بأكمل البشر صلوات الله وسلامه عليه ، حيث اتفق هناك بصره وبصيرته ، فما شاهدته بصيرته فهو أيضا حق مشهود بالبصر. ولذلك قال التنزيل :

«ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ، أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى» (١).

أي ما كذب الفؤاد ما رآه ببصره ، بل استقامت البصيرة واستقام البصر ، واعتدل البصر نحو المرئي ، ما جاوزه ولا مال عنه ، كما اعتدل القلب في الاقبال على الله ، والاعراض عما سواه ، فلم يزغ قلبه التفاتا عن الله على غيره ، ولم يطغ بمجاوزته مقامه الذي أقيم فيه ، وهذا غاية الكمال والادب مع الله الذي لا يلحقه فيه سواه.

واذا نظرنا في أحوال رسل الله وأنبيائه وجدناها مشحونة بمواطن الادب قائمة على أساسه ، فهذا هو عيسى بن مريم عليه‌السلام ، يخاطب ربه بقوله :

«تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي» (٢).

ثم برأ نفسه عن علمه لغيب ربه فقال :

«وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ» (٣).

ثم وصف ربه بانفراده بعلم الغيب كله فقال :

__________________

(١) سورة النجم ، الآية ١١ و ١٢.

(٢) سورة المائدة ، الآية ١١٦.

(٣) سورة المائدة ، الآية ١١٦.

١٦١

«إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» (١)

ثم نفى أن يكون قال لهم غير ما أمره الله به فقال :

«ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ» (٢).

ثم أخبر أنه بعد وفاته لا اطلاع له عليهم ، وان الله وحده هو المطلع عليهم بعد وفاته ، فقال :

«وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ، وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (٣).

ثم بلغ الغاية في الادب مع الله حين قال :

«إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ» (٤).

أي شأن السيد رحمة عباده والاحسان اليهم ، وهؤلاء عبيدك أنت ، فاذا عذبتهم مع كونهم عبيدك فأنت لم تعذبهم الا لانهم عبيد سوء ، ولانهم أعصى الناس لمولاهم ، وأنت أعلم بسرهم وعلانيتهم فان عذبتهم عذبتهم على علم منك بما تعذبهم عليه ، فهم عبادك ، وأنت أعلم بأمرهم :

«وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (٥).

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ١١٦.

(٢) سورة المائدة ، الآية ١٢٠.

(٣) سورة المائدة ، الآية ١١٧.

(٤) سورة المائدة ، الآية ١١٧.

(٥) سورة المائدة ، الآية ١١٨.

١٦٢

ولم يقل الغفور الرحيم ، وهذا من أبلغ الادب مع الله تعالى ، فانه قال ذلك في وقت غضب الله عليهم ، والامر بهم الى النار ، فليس هذا مقام استعطاف ولا شفاعة ، والمعنى : ان غفرت لهم فمغفرتك تكون عن كمال القدرة والعلم ، ليست عن عجز عن الانتقام منهم ، ولا عن خفاء عليك بمقدار جرائمهم.

وانظر الى أدب ابراهيم حين يقول عن ربه :

«الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ، وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ» (١).

ولم يقل اذا أمرضني ، حفظا للادب مع الله.

وكذلك قول الخضر عليه‌السلام في السفينة :

«فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها» (٢).

ولم يقل فأراد ربك أن أعيبها.

وهذا موسى عليه‌السلام يتلطف متأدبا مع ربه فيقول «رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» (٣)

ولم يقل أطعمني.

وقول آدم عليه‌السلام :

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآية ٧٨ ـ ٨٠.

(٢) سورة الكهف ، الآية ٨٠.

(٣) سورة القصص ، الآية ٢٤.

١٦٣

«رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» (١).

ولم يقل : رب قدرت عليّ وقضيت عليّ.

وهذا أيوب عليه‌السلام يقول لربه :

«مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» (٢).

ولم يقل : فعافني واشفني.

ومن دقائق الادب في الدين الوضوء والغسل وستر العورة والتزين ، ولذلك كان التطهر من الخبث والنجس بعض الادب ، حتى يقف الانسان طاهرا بين يدي ربه ، ولهذا كانوا يستحبون أن يتجمل الرجل في صلاته بالوقوف بين يدي ربه ، فقد أمر الله تعالى بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة ، وهو أخذ الزينة ، فقال :

«خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» (٣).

فعلق الامر بأخذ الزينة ، لا بستر العورة ايذانا بأن العبد ينبغي له أن يلبس أزين ثيابه وأجملها في الصلاة.

ومن الادب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى المصلي أن يرفع بصره الى السماء ، حتى يقف بين يدي ربه مطرقا خافضا بصره الى الارض ولا يرفع بصره الى فوق ، وقد نهى النبي كذلك عن قراءة القرآن في الركوع

__________________

(١) سورة الاعراف ، الآية ٢٣.

(٢) سورة الانبياء ، الآية ٨٣.

(٣) سورة الاعراف ، الآية ٣١.

١٦٤

السجود. لأن القرآن كلام الله وحالة الركوع والسجود حالة ذل انخفاض من العبد ، فمن الادب مع الله أن لا يقرأ القرآن في هاتين لحالتين. ومن أدب الصلاة السكون فيها ، وهو الدوام الذي يشير اليه قوله تعالى :

«الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ» (١).

وقد سئل عقبة بن عامر عن الآية : هم الذين يصلون دائما؟ فقال : لا ولكنهم الذين اذا صلوا لم يلتفتوا عن يمينهم او شمالهم أو خلفهم.

ولاسلافنا الصالحين كلمات طيبات تشعر بمكانة الادب ، وأنه أهم من العلم ، كما أن التربية أهم من التعليم ، فعبد الله بن المبارك يقول : نحن الى قليل من الادب أحوج منا الى كثير من العلم ، ويتحدثون عن الادب مع الله ، فيقول الحسن البصري مثلا : أنفع الادب التفقه في الدين ، والزهد في الدنيا. والمعرفة بما لله عليك ، ويقول يحيى بن معاذ : من تأدب بأدب الله صار من أهل محبة الله. ويقول سهل : القوم استعانوا بالله على مراد الله ، وصبروا لله على آداب الله ، وحذروا من ترك الادب ، فقال ابو علي الدقاق : ترك الادب يوجد الطرد ، فمن أساء الادب على البساط ردّ الى الباب ، ومن أساء الادب على الباب ردّ الى سياسة الدواب. ويقول ذو النون : اذا خرج المريد عن استعمال الادب فانه يرجع من حيث جاء. ويقول يحيى بن معاذ : اذا ترك العارف أدبه مع معروفه فقد هلك مع الهالكين.

نسأل الله جل جلاله أن يهبنا الادب مع الله تبارك وتعالى ، ومع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومع الناس أجمعين.

__________________

(١) سورة المعارج ، الآية ٢٣.

١٦٥

الاستئذان

الاستئذان عند أهل التهذيب والتربية والاخلاق فضيلة اخلاقية قرآنية اسلامية ، فهي كما تعودنا أن نقول خلق من أخلاق القرآن الكريم ، وفضيلة من فضائل الاسلام العظيم ، وجزء من هدي النبي عليه الصلاة والتسليم.

واللغة تقول : أذن له في كذا يأذن اذنا أطلق فعله وأباحه ، واستأذن : طلب اذنا. والاذن في الشيء هو الاعلام باجازته والرخصة فيه. والاستئذان هو طلب الاذن ، ومنه قوله تعالى :

«إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ» (١)

وقد ورد ذكر هذه الفضيلة الحميدة في مواطن من القرآن الكريم ، ففي سورة الاحزاب نجد قوله تعالى متعلقا باستئذان النبي :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ٤٤.

١٦٦

فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ» (١).

أي لا تتطفلوا على دخول بيوت النبي ، ولكن اذا كان هناك استئذان وأذن لكم رسول الله ودعاكم الى طعام غير مترقبين نضجه واستواءه ، وغير متعرضين للدخول ، فان هذا يكرهه الله ويذمه ، ولكن اذا دعاكم فاستجيبوا لدعوته ، فاذا فرغتم مما دعيتم اليه فخففوا عن أهل المنزل ، وانتشروا في الارض. والمراد ان دخولكم منزل النبي بغير اذن منه كان يشق عليه ويتأذى به. ولكنه كان يكره أن ينهاكم عن ذلك لشدة حيائه ، حتى أنزل الله النهي عن ذلك ، والله لا يستحي من الحق ، ولهذا نهاكم عن هذا الامر وزجركم عنه.

ويقول الله تعالى في سورة النور :

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (٢).

هذا أدب أدّب الله به عباده ، فأمرهم بالاستئذان عند الدخول كما

__________________

(١) سورة الاحزاب ، الآية ٥٣.

(٢) سورة النور ، الآية ٦٢.

١٦٧

سنعرف في أدب الاستئذان العام ، وأمرهم بالاستئذان عند انصرافهم من مجلس الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، اذا كانوا معه في أمر جامع كصلاة جمعة أو جماعة أو عيد أو اجتماع كمشورة ونحو ذلك ، أمرهم تعالى أن لا ينصرفوا عنه والحالة هذه الا بعد استئذانه ومشاورته ، وان من يفعل ذلك فهو من المؤمنين الكاملين ، ثم أمر الله رسوله اذا استأذنه أحد منهم في ذلك أن يأذن له ان شاء ، وقد روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : «اذا انتهى أحدكم الى المجلس فليسلم ، فاذا أراد أن يقوم فليسلم ، فليست الاولى بأحق من الآخرة».

«وفي ظلال القرآن» أن المؤمنين الصادقين اذا كانوا مع رسولهم في أمر مهم يقتضي اشتراك الجماعة فيه لرأي أو حرب أو عمل عام لا ينصرفون الا بعد استئذانهم من امامهم ، وهؤلاء الذين يؤمنون هذا الايمان ، ويلتزمون هذا الادب ، لا يستأذنون الا وهم مضطرون ، فلم من ايمانهم وأدبهم عاصم ان لا يتخلوا عن الامر الجامع الذي يشغل بال الجماعة ، ويستدعي تجمعها له ، والله يدع الامر بيد الرسول فان أذن ، وان شاء لم يأذن ، لأنه قد تكون هناك ضرورة ملحة ، يترك القرآن تقديرها لقائد الجماعة ، ليوازن بين البقاء أو الانصراف ، ومع هذا يشير القرآن الى أن عدم الانصراف هو الاولى ، وان الاستئذان والذهاب فيهما تقصير أو قصور يقتضي استغفار النبي للمعتذرين :

«وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (١).

وفي سورة النور يقول الله تعالى عن أدب الاستئذان :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ

__________________

(١) سورة النور ، الآية ٦٢.

١٦٨

حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ» (١).

روي في بيان سبب النزول لهذا النص الكريم أن امرأة من الانصار قالت : يا رسول الله ، اني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها ، والد ولا ولد ، وانه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي ، وأنا على تلك الحال. فنزل قوله تعالى :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها».

وعن ابن عباس قال : ثلاث آيات جحدها الناس. قال الله :

«إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ».

ويقولون : ان اكرمهم عند الله أعظمهم بيتا. والاذن كله ـ أي بنوعيه في الآيتين ـ قد جحده الناس. قال له الراوي : أستأذن على اخواتي أيتام في حجري ، معي في بيت واحد؟ قال ابن عباس : نعم ، فكرر السائل السؤال لعله يجد رخصة ، فقال ابن عباس : أتحب أن تراها عريانة قال السائل : لا. قال : فاستأذن. فراجعه أيضا فقال له : أتحب أن تطيع

__________________

(١) سورة النور ، الآية ٢٧ ـ ٢٩.

١٦٩

الله. قال : نعم. قال ابن عباس : فاستأذن.

وعن ابن مسعود قال : عليكم الاذن على أمهاتكم ، واذا كان هناك من يرى عدم الاستئذان على الزوجة ، فهذا محمول على عدم الوجوب والاولى أن يعلم الزوج زوجته بدخوله ولا يفاجئها به ، لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها.

وعن قيس بن سعد قال : زارنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في منزلنا فقال : السّلام عليكم ورحمة الله ، فرد سعد بن عبادة ردا خفيا ، فقال له ابنه : ألا تأذن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فقال ذره يكثر علينا من السّلام. فقال النبي مرة اخرى : السّلام عليكم ورحمة الله ، فرد سعد ردا خفيا. ثم قال النبي : السّلام عليكم ورحمة الله. ثم رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتبعه سعد فقال : يا رسول الله ، اني كنت اسمع تسليمك ، وأرد عليك ردا خفيا لتكثر علينا من السّلام. ونفهم من هذا الحديث ان التسليم عند الاستئذان يكون ثلاثا ، فاذا لم يكن جواب انصرف المستأذن. قالوا : وينبغي للمستأذن أن لا يقف تلقاء الباب بوجهه ، اذا لم يكن له ستر يحجبه ، ولكن ليجعل الباب عن يمينه او يساره ، فقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ، ولكن من ركنه الايمن أو الايسر ، وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور. وقد جاء في الحديث الصحيح قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو أن أمرا اطلع عليك بغير اذن فخذفته (قذفته) بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح. وكذلك كرهوا ان يقول المستأذن كلمة : أنا ، عند سؤاله عن شخصه ، لان كلمة أنا لا نعرف صاحبها الا بافصاحه عن اسمه أو كنيته التي هو مشهور بها ، والا فكل واحد يعبر عن نفسه بكلمة (أنا) ، فلا يتحقق الاستئناس المأمور به.

وقد دخل بعض الناس على مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم

١٧٠

يسلم ولم يستأذن ، فقال له النبي ارجع فقل السّلام عليكم أأدخل؟ وينبغي للمستأذن ان يحدث من الصوت او الحركة ما يشعر به ، كالتنحنح ونحوه ، واذا لم يجد المستأذن أحدا في البيت رجع من حيث جاء فذلك ازكى له وأطهر.

والاستئذان عند دخول البيوت والاستئناس بأهلها والتسليم عليهم أدب من آداب السّلام ، وقد جعل الله البيوت ـ كما في ظلال القرآن ـ سكنا يفيء اليها الناس فتسكن أرواحهم وتطمئن نفوسهم ، ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم ، ويلقون اعباء الحذر والحرص المرهقة للاعصاب. والبيوت لا تكون كذلك الا حين تكون حرما آمنا لا يستبيحه أحد الا بعلم أهله واذنهم ، وفي الوقت الذي يريدون ، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس. ذلك الى أن استباحة حرمة البيت من الداخلين دون استئذان ، تجعل أعينهم تقع على عورات ، وتلتقي بمفاتن الشهوات ، وتهيء الفرصة للغواية الناشئة من اللقاءات العابرة والنظرات الطائرة ... والاستئذان على البيوت يحقق لها حرمتها التي تجعل منها مثابة وسكنا ، ويوفر على أهلها الحرج من المفاجأة ، والضيق بالمباغتة ، والتأذي بانكشاف العورات وهي كثيرة ، منها عورات البدن ، وعورات الطعام ، وعورات اللباس ، وعورات الاثاث ، التي قد لا يحب أهلها أن يفاجئهم عليها الناس دون تهيؤ وتجمل واعداد ، وهي عورات المشاعر والحالات النفسية ، فبعض الناس لا يحب ان يراه الناس وهو في حالة ضعف يبكي لانفعال مؤثر ، أو يغضب لشأن مثير ، أو يتوجع لألم يخفيه عن الغرباء.

وكل هذه الدقائق يرعاها المنهج القرآني بهذا الادب الرفيع. أدب الاستئذان ، ويرعى معها تقليل فرص النظرات السانحة والالتقاءات العابرة ، التي طالما أيقظت في النفوس كامن الشهوات والرغبات ، وطالما نشأت عنها علاقات ولقاءات يدبرها الشيطان.

١٧١

ويحدثنا القرآن عن أدب الاستئذان عند الجواري والخدم والاطفال فيقول في سورة النور :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (١).

في هذه الآيات الكريمة بيان لاستئذان الاقارب بعضهم على بعض ، بعد أن أبان استئذان الاجانب بعضهم على بعض فأمر الله عباده المؤمنين أن يستأذنهم خدمهم مما ملكت ايمانهم واطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال :

__________________

(١) سورة النور ، الآية ٥٨ ـ ٦٠.

١٧٢

١ ـ من قبل صلاة الفجر ، لأن الناس حينئذ يكونون في العادة نياما في مضاجعهم.

٢ ـ وقت القيلولة ، لأن الانسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله.

٣ ـ من بعد صلاة العشاء ، لأنه في العادة وقت النوم.

فيؤمر الخدم والاطفال أن لا يهجموا على أهل البيت في هذه الاحوال ، فقد يكون الرجل مع أهله ، أو نحو ذلك من الاعمال ، ولذلك قال القرآن : انها ثلاث عورات تحتاج الى الحذر والاحتياط ، وليس هناك بأس في التمكين من دخولهم في غير هذه الاوقات. ومن هنا قال عبد الله بن عباس : ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ» (١).

الى آخر الآية ، والآية التي في سورة النساء :

«وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ».

والآية التي في سورة الحجرات :

«إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ» (٢).

وفي بعض الروايات قال : «غلب الشيطان الناس على ثلاث آيات فلم

__________________

(١) سورة النور ، الآية ٥٨.

(٢) سورة الحجرات ، الآية ١٣.

١٧٣

يعملوا بهن» وذكر الآيات السابقة. ويروى عنه أنه كان يقول عن آية الاستئذان : «لم يؤمن بها أكثر الناس : آية الاذن ، واني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي».

ويروى ان رجلا من الانصار ـ وامرأته اسماء بنت مرشدة ـ صنع للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله طعاما ، فجعل الناس يدخلون بغير اذن فقالت أسماء : يا رسول الله ، ما أقبح هذا ، انه ليدخل على المرأة وزوجها وهما في ثوب واحد غلامهما بغير اذن فأنزل الله في ذلك :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» (١).

الآية.

ثم ذكر الله تعالى أن الاطفال اذا بلغوا الحلم وجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال ، يعني بالنسبة الى أجانبهم في الاحوال الثلاثة وغيرها.

* * *

واذا كان القرآن الكريم قد نوّه بفضيلة الاستئذان في مواطنها المجيدة الحميدة ، فانه قد حذرنا من نوع مؤوف معيب من الاستئذان يعد رذيلة وليس بفضيلة ، ومن ذلك ما ذكره القرآن في سورة التوبة :

«فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ» (٢).

__________________

(١) سورة النور ، الآية ٥٨.

(٢) سورة التوبة ، الآية ٨٤.

١٧٤

وبعد قليل يعود التنزيل الى الحديث عن هؤلاء الملعونين المطبوع على قلوبهم فيقول :

«وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ ، رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ» (١).

وبعد آيات في السورة يتحدث التنزيل عن الذين يستأذنون وهم يريدون استغلال الاستئذان فيما يقبح ويسوء ، فتقول السورة :

«إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» (٢).

وهناك استئذان مشبوه ظنين يؤدي الى سوء العواقب ، فذلك حيث يقول الحق تبارك وتعالى في سورة الاحزاب :

«وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً» (٣).

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ٨٦ و ٨٧.

(٢) سورة التوبة ، الآية ٩٣.

(٣) سورة الاحزاب ، الآية ١٣.

١٧٥

فهم يستأذنون بحجة أن بيوتهم مكشوفة للعدو ، متروكة بلا حماية ، وهنا يكشف القرآن عن الحقيقة ، ويجردهم من العذر والحجة ، ويضبطهم متلبسين بالكذب والجبن والفرار :

«وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً».

والله تبارك وتعالى أعلم.

* * *

١٧٦

مقاومة الهوى

عرف العلماء الهوى بأنه ميل النفس الى الشهوة ، ويقال ذلك للنفس المائلة الى الشهوة ، سمي بذلك لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا الى كل داهية ، وفي الآخرة الى الهاوية ، وهوى اذا سقط من علو الى سفل ، وهوى ، تردى وهلك ، وهوى النجم ، غاب وغرب ، واستهوته الشياطين أي حملته على اتباع الهوى ، والهاوية النار.

ومقاومة الهوى ، مغالبته ومحاربته ، والخلوص من وسواس النفس واغواء الشيطان ، ومقاومة الهوى خلق من أخلاق القرآن الكريم ، وفضيلة من فضائل الاسلام العظيم ، وجانب من هدي الرسول عليه الصلاة والتسليم ، ومقاومة الهوى تشمل مقاومة هوى النفس. ومقاومة هوى الآخرين ، وقد عظم الله تعالى ذم اتباع الهوى في مواطن من كتابه العزيز ، ونوه بشأن من يفلح في مقاومة هواه ، فقال في سورة «النازعات» :

«وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى» (١).

__________________

(١) سورة النازعات ، الآية ٤٠ و ٤١.

١٧٧

يعني من خاف المقام بين يدي الله تعالى ، ونهى نفسه عن هواها ، وردها الى طاعة مولاها ، فان الجنة هي المأوى ، أي منقلبه ومصيره الى الجنة الفيحاء.

ويقول القرآن الكريم في سورة الكهف :

«وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً» (١).

أي اجلس مع الذين يذكرون الله ويحمدونه ، ويسبحونه ويكبرونه ، ويسألونه بكرة وعشيا ، من عباد الله ، سواء أكانوا فقراء أم أغنياء ، أو أقوياء أو ضعفاء ، ولا تجاوزهم الى غيرهم ، ولا تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة ، ولا تطع من شغلته الدنيا عن عبادة ربه وطاعته ، واعماله هي تفريط وضياع.

ويقول القرآن في سورة النساء :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» (٢).

__________________

(١) سورة الكهف ، الآية ٢٨.

(٢) سورة النساء ، الآية ١٣٥.

١٧٨

يقول الله تعالى في الآية : «فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا» أي فلا يحملنكم الهوى والعصبية على ترك العدل في أموركم وشؤونكم ، بل الزموا العدل على أي حال كان ، كما قال الله تعالى : «ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى».

ومن هذا القبيل قول عبد الله بن رواحة حينما بعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليقدر على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم ، فأرادوا رشوته ليرفق بهم ، فقال لهم : والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق الي ، ولأنتم أبغض الي من أعدائكم من القردة والخنازير ، وما يحملني حبي اياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم. فقالوا : بهذا قامت السماوات والارض.

ويقول القرآن في سورة الاعراف :

«وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ ، وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (١).

روي ان هذا النص أريد به أمية بن أبي الصلت ، فانه كان قد وصل اليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة ، ولكنه لم ينتفع به ، فقد أدرك زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبلغته آياته ومعجزاته ، وظهرت لكل من له بصيرة ، ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه ، وسار الى موالاة المشركين ،

__________________

(١) سورة الاعراف ، الآية ١٧٤ و ١٧٥.

١٧٩

وامتدحهم ، وقد جاء عنه في بعض الاحاديث كما يذكر ابن كثير : «انه ممن آمن لسانه ، ولم يؤمن قلبه» فان له أشعارا فيها حكمة وفصاحة ، ولكن الله لم يشرح صدره للاسلام ، ولذلك شهر القرآن بمن استحوذ عليه الشيطان ، فجعله من الهالكين الخاسرين. ولو شاء لرفعه عن التلطخ بقاذورات الدنيا ، ولكنه أخلد الى الارض ، ومال الى زينة الحياة الدنيا ، فمثله كمثل الكلب ان حملت عليه لهث ، وان تركته بلا حمل عليه ظل في لهاثه ، لأنه لا ينتفع بالموعظة والدعوة الى الايمان ، فكذلك قلب الكافر والضال ، فهو ضعيف فارغ من الهدى ، وقلبه كثير الوجيب ، ولسانه مندلع على صدره ، وكذلك ساء مثل الكافرين ، فهم كالكلاب لا همة لها الا في تحصيل أكلة أو شهوة.

ويقول الله تبارك وتعالى في سورة «الجاثية» منفرا من اتباع الهوى حتى يتخذه إلهه من دون الله :

«أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ» (١).

يشير النص الكريم الى الذي لم يسلك الطريق الى ربه ، فيأتمر بهواه ، ومهما رأى هذا الهوى حسنا فعله ، ولا يهوى شيئا الا عبده ، وأضله الله على علم ، أي أضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك ، أو أضله الله بعد بلوغ العلم اليه ، وقيام الحجة عليه ، وختم على سمعه وقلبه ، وجعل على بصره غشاوة ، فلا يسمع ما ينفعه ، ولا يعي شيئا يهتدي به ، ولا يرى حجة يستضيء بها ، وهذه الضلالة قد غشيته عن طريق اتباعه للهوى ، وخضوعه

__________________

(١) سورة الجاثية ، الآية ٢٣.

١٨٠