موسوعة أخلاق القرآن - ج ٦

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٦

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٠٧

الغربة

«الغربة» خلق من أخلاق القرآن الكريم ، وفضيلة من فضائل الاسلام العظيم ، وجزء من هدي الرسول عليه الصلاة والتسليم. وقد استدل الامام الهروي في كتابه «منازل السائرين» على فضيلة «الغربة» بقوله تعالى في سورة هود :

«فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ» (١).

وقد علق الامام ابن قيم الجوزية في كتابه «مدارج السالكين» بهذه العبارة : «استشهاده بهذه الآية في هذا الباب يدل على رسوخه في العلم والمعرفة وفهم القرآن. فان الغرباء في العالم هم أهل هذه الصفة المذكورة في الآية ، وهم الذين أشار اليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «بدأ الاسلام غريبا ، وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء. قيل : ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال : الذين يصلحون اذا فسد الناس». وقد أوضح

__________________

(١) سورة هود ، الآية ١١٦.

٢٠١

بن القيم معنى الغربة بأن كل من انفرد بوصف شريف دون أبناء جنسه فهو غريب بينهم ، لعدم مشاركته أو قلته ، والغربة ثلاثة أنواع :

١ ـ غربة عن الوطن للجهاد في سبيل الله بالابدان ، وصاحب هذه الغربة محمود ، وقد ورد انه يقاس له في قبره من مدفنه الى وطنه ، وقد توفي بالمدينة رجل ، فصلى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : ليته مات في غير مولده. فقال رجل : ولم يا رسول الله؟ فقال : ان الرجل اذا مات قيس له من مولده الى منقطع أثره في الجنة.

وروي أن النبي صلوات الله وسلامه عليه وقف على قبر رجل بالمدينة فقال : «يا له ، لو مات غريبا. فقيل : وما للغريب يموت بغير أرضه؟ فقال : ما من غريب يموت بغير أرضه الا قيس له من تربته الى مولده في الجنة».

٢ ـ غربة الحال ، ويراد بالحال هنا الوصف الذي قام به من الدين والتمسك بالسنة وهذه الغربة محمودة ، لأن صاحب هذه الغربة أحد ثلاثة أنواع : صاحب صلاح ودين بين قوم فاسدين ، وصاحب علم ومعرفة بين قول جهال ، وصاحب صدق واخلاص بين أهل كذب ونفاق ، فان صفات هؤلاء الغرباء وأحوالهم تنافي صفات من هم بين أظهرهم ، فمثل هؤلاء بين أولئك كمثل الطير الغريب بين الطيور.

٣ ـ غربة الهمة وطلب الحق ، فان صاحب هذه الهمة غريب في أبناء الآخرة ، فضلا عن أبناء الدنيا ، كما أن طالب الآخرة غريب في أبناء الدنيا.

وبمسامرة الاحاديث النبوية الشريفة الواردة في صفات الغرباء نرى أميز صفاتهم هي : الصلاح عند الفساد ، والزيادة عن الغير في الايمان والتقوى والخير ، ومخالفة أهل البدع ، والفرار بالدين ليسلم لاهله ، والحب لسنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعليمها للناس ، مع الصفاء والخفاء

٢٠٢

والبراءة ، فهؤلاء ـ كما يقول ابن القيم ـ هم الغرباء الممدوحون المغبوطون ، ولقلتهم في الناس جدا سموا «غرباء» ، فان أكثر الناس على غير هذه الصفات ، فأهل الاسلام في الناس غرباء ، والمؤمنون في أهل الاسلام غرباء ، وأهل العلم في المؤمنين غرباء ، وأهل السنة الذين يميزونها من الاهواء والبدع غرباء ، والداعون اليها الصابرون على أذى المخالفين أشد هؤلاء غربة ، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقا ، فلا غربة عليهم وانما غربتهم بين الاكثرين الذين قال الله عزوجل فيهم في سورة الانعام :

«وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» (١).

فأولئك هم الغرباء من الله ورسوله ودينه ، وغربتهم هي الغربة الموحشة وقد قيل :

فليس غريبا من تناءت دياره

ولكن من تنأين عنه غريب

ولما خرج موسى عليه‌السلام هاربا من قوم فرعون انتهى الى مدين على الحال التي ذكر الله ، وهو وحيد غريب خائف جائع ، فقال : يا رب ، وحيد مريض غريب. فقيل له : يا موسى ، الوحيد من ليس له مثلي أنيس ، والمريض من ليس له مثلي طبيب ، والغريب من ليس بيني وبينه معاملة.

وخير أنواع الغربة غربة أهل الله وأهل سنة رسول الله ولذلك كانت هي الغربة المحبوبة المرغوبة المطلوبة ، ولذلك نرى العلماء الحقيقيين غرباء ، لقلتهم بين الجهال وهم كثير ، واللغة تعاون على فهم هذا المعنى فتقول : الغريب عديم النظير ، والغريب حق الغربة غريب في دينه بين الناس

__________________

(١) سورة الانعام ، الآية ١١٦.

٢٠٣

لفساد أديانهم ، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع ، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم ، غريب في صلاته لسوء صلاتهم ، غريب في طريقه لضلال طرقهم. وكما يعبر ابن القيم : «وبالجملة هو غريب في أمر دنياه وآخرته. لا يجد من العامة مساعدا ولا معينا ، فهو عالم بين جهال ، صاحب سنة بين أهل بدع ، داع الى الله ورسوله بين دعاة الى الاهواء والبدع ، آمر بالمعروف ناه عن المنكر بين قوم المعروف فيهم منكر والمنكر معروف».

وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الغرباء الذين يفرون بدينهم من الفتن».

ويقول أيضا : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خالفهم ، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك».

وفي سنة ١٣٧٣ ه‍ أخرجت للناس كتابا حققته وشرحته ، واسمه «كشف الكربة بوصف حال أهل الغربة» للامام شيخ الاسلام ابن رجب الحنبلي ، وتوجت هذا الكتاب بعبارة اهداء قلت فيها : «الى الغرباء بحقهم في دنيا الباطل ، نهدي هذا الحديث ، عبرة وتذكرة» وسميت هذا الكتاب «غربة الاسلام».

ونرى الامام ابن رجب يذكر أن الغربة غربتان فيقول : «الغربة عند أهل الطريقة غربتان : ظاهرة وباطنة ، فالظاهرة غربة أهل الصلاح بين أهل الجهل وسوء الاخلاق ، وغربة علماء الآخرة بين علماء الدنيا الذين سلبوا الخشية والاشفاق ، وغربة الزاهدين بين الراغبين فيما ينفد وليس بباق.

وأما الغربة الباطنة فغربة الهمة ، وهي غربة العارفين بين الخلق كلهم ، حتى العلماء والعباد والزهاد ، فان أولئك واقفون مع علمهم وعبادتهم وزهدهم ، وهؤلاء واقفون مع معبودهم ، لا يعرجون بقلوبهم عنه ، فكان أبو سليمان الداراني يقول في صفتهم : «همتهم غير همة الناس ، وارادتهم

٢٠٤

الآخرة غير ارادة الناس ، ودعاؤهم غير دعاء الناس». وسئل عن أفضل الاعمال فبكى وقال : «أن يطلع على قلبك فلا يراك تريد من الدنيا والآخرة غيره».

وقال يحيى بن معاذ : «الزاهد غريب الدنيا ، والعارف غريب الآخرة». يشير الى أن الزاهد غريب بين أهل الدنيا ، والعارف غريب بين أهل الآخرة ، لا يعرفه العباد ولا الزهاد ، وانما يعرفه من هو مثله ، وهسته كهمته.

وربما اجتمعت للعارف هذه الغربات كلها ، أو كثير منها ، أو بعضها فلا يسأل عن غربته حينئذ ، فالعارفون ظاهرون لاهل الدنيا والآخرة ، قال يحيى بن معاذ : «العابد مشهور ، والعارف مستور». وربما خفي حال العارف على نفسه لخفاء حالته ، واساءة الظن بنفسه. قال ابراهيم بن أدهم : «ما أرى هذا الامر الا في رجل لا يعرف ذلك من نفسه ولا يعرفه الناس».

واذا انتقلنا الى روضة الحديث النبوي وجدنا رسول الله عليه الصلاة والسّلام يوصي عبد الله بن عمر بقوله : «كن في الدنيا كأنك غريب ، أو عابر سبيل» ، ويقول في حديث آخر : «طوبى يومئذ للغرباء اذا فسد الناس». وفي حديث آخر : «ان أحب شيء الى الله الغرباء. قيل ومن الغرباء؟ قال الفرارون بدينهم ، يجتمعون الى عيسى ابن مريم عليه‌السلام يوم القيامة».

وقد كثر في كلام السلف مدح السنة ووصفها بالغربة ، ووصف أهلها بالقلة. فهذا يونس بن عبيد يقول : «ليس شيء أغرب من السّنّة ، وأغرب منها من يعرفها». وهذا سفيان الثوري يقول : «استوصوا بأهل السنة خيرا ، فانهم غرباء». وللامام ابن القيم أبيات أشار فيها الى الغربة منها قوله :

٢٠٥

وحيّ على جنات عدن فانها

منازلك الاولى وفيها المخيّم

ولكننا سبي العدو ، فهل ترى

نعود الى أوطاننا ونسلّم

وأي اغتراب فوق غربتنا التي

لها أضحت الاعداء فينا تحكّم؟

وقد زعموا أن الغريب اذا نأى

وشطت به أوطانه ليس ينعم

فمن أجل ذا لا ينعم العبد ساعة

من العمر الا بعد ما يتألم

والصادق في غربته لا يضيره في حسه أو نفسه أن يعده غيره غريب الاطوار ، فان الغريب المؤمن يحس ويؤمن بأنه على الصراط ، ويأنس بمسيرته وربه معه ، يؤنسه مهما نأى عنه الآخرون.

نسأل الله جل جلاله أن يجعلنا غرباء بحقنا ، أقوياء بايماننا ، ثابتين بيقيننا ، وسبحان من لو شاء لهدى الناس جميعا الى سواء السبيل.

٢٠٦

الفهرست

الموضوع

الصفحة

تصدير......................................................................... ٩

التبصر........................................................................ ١١

التنفل......................................................................... ٢١

الدعاء........................................................................ ٢٩

الحفظ والمحافظة................................................................. ٤٧

روح السّلام.................................................................... ٥٩

التمتع بالطيبات................................................................ ٦٦

الاعداد والاستعداد............................................................. ٧٦

التحدث بنعمة الله.............................................................. ٨٤

تعظيم شعائر الله............................................................... ٩١

التنافس في الخير.............................................................. ١٠٠

الشوق الى لقاء الله............................................................ ١٠٧

الفرار الى الله................................................................. ١١٢

السلوك...................................................................... ١٢٠

الغيرة........................................................................ ١٢٨

النظر........................................................................ ١٣٤

الصفاء...................................................................... ١٤٢

التماس العذر للناس........................................................... ١٤٨

الادب...................................................................... ١٥٦

الاستئذان.................................................................... ١٦٦

مقاومة الهوى................................................................. ١٧٧

الرعاية....................................................................... ١٩١

الغربة........................................................................ ٢٠١

٢٠٧