موسوعة أخلاق القرآن - ج ٦

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٦

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٠٧

التنفل

تقول لغة العرب ان النفل هو الغنيمة والتطوع والهبة ، والنفل هو الزيادة على الواجب ، ويقال له النافلة ، والنفل هو التفضل والتبرع ، ونفل نفلا أعطى نافلة من المعروف ، والنافلة العطية ، ورجل كثير النوافل أي العطايا ، والنوفل هو كثير العطاء ، والنوفل هو البحر ، وكل عطية تبرع بها معطيها من صدقة أو عمل خير فهي نافلة ، والنافلة ما تفعله مما لم يجب عليك ، ومنه نافلة الصلاة ، وسميت صلاة التطوع نافلة لأنها زيادة أجر لهم على ما كتب لهم من ثواب ما فرض عليهم ، ومنه قول الله تعالى :

«فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ» (١).

والمراد بالنوافل جميع ما يندب من الاقوال والافعال.

والتنفل بمعناه العام فيه روح المبادرة الى عمل الخير ، والازدياد من البر ، والتبرع بصنع الجميل ، حتى ولو لم يكن مفروضا ولا واجبا ، وهو بهذا المفهوم خلق من أخلاق القرآن الكريم ، وفضيلة من فضائل الاسلام العظيم ، وجزء من هدي الرسول عليه الصلاة والتسليم.

__________________

(١) سورة الاسراء ، الآية ٧٩.

٢١

وقد جاء ذكر النافلة والتنفل في قول الله تبارك وتعالى في سورة الاسراء :

«وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» (١).

وقد أطال المفسرون حديثهم حول هذه الآية الكريمة ، وقالوا : ان معناها العام هو : قم بالليل وتهجد بالقرآن الكريم ، والتهجد السهر ، أو التيقظ بعد رقدة ، وصار اسما للصلاة ، لأنه ينتبه لها ، فالتهجد القيام من النوم الى الصلاة.

جاء في تفسير القرطبي : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيحسب أحدكم اذا قام من الليل كله أنه قد تهجد ، انما التهجد الصلاة بعد رقدة ، ثم الصلاة بعد رقدة ، ثم الصلاة بعد رقدة. ويسمى من قام الى الصلاة متهجدا.

نافلة لك : أي عطية لك ، وكرامة لك. وقيام الليل تطوع ، والامر بالتنفل جاء على جهة الندب. والمقام المحمود المذكور في ختام الآية : هو الشفاعة للناس يوم القيامة. وقد جاء في صحيح البخاري أن الناس يصيرون يوم القيامة جماعات ، كل أمة تتبع نبيها ، أقول : يا فلان اشفع ، حتى تنتهي الشفاعة الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود. وفي صحيح مسلم أن الرسول قال : «اذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم الى بعض ، فيأتون آدم فيقولون له : اشفع لذريتك. فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بابراهيم عليه‌السلام فانه خليل الله ، فيأتون ابراهيم فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بموسى فانه كليم

__________________

(١) سورة الاسراء ، الآية ٧٩.

٢٢

الله ، فيؤتى موسى فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بعيسى عليه‌السلام ، فانه روح الله وكلمته ، فيؤتى عيسى فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأوتى فأقول : أنا لها ...».

وقال بعض العلماء : لرسول الله عليه الصلاة والسّلام ثلاث شفاعات : الشفاعة العامة ، وشفاعة في السبق الى الجنة ، وشفاعة لاهل الكبائر. وقال بعضهم : الشفاعات يوم القيامة خمس للرسول صلى الله عليه وآله : الشفاعة العامة ، والثانية في ادخال قوم الجنة دون حساب والثالثة في قوم من موحدي أمته استوجبوا النار بذنوبهم ، فيشفع فيهم ، ومن شاء الله أن يشفع ويدخلون الجنة ، والرابعة فيمن دخل النار من المذنبين ، فيخرجون بشفاعة النبي وغيره من الانبياء والملائكة واخوانهم المؤمنين ، والخامسة في زيادة الدرجات في الجنة لاهلها وترفيعها.

وهناك قول آخر في معنى المقام المحمود ، وهو اعطاء النبي لواء الحمد ، كما روى الترمذي أن النبي قال : «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، وما من نبي يومئذ ـ آدم فمن سواه ـ الا تحت لوائي».

وينبغي أن نلاحظ اتصال التنفل وقيام الليل بالمقام المحمود ، لأن هذا القيام هو سبب الوصول الى هذا المقام ، وقد تحدث العلماء عن كون القيام بالليل ـ وهو نوع من التنفل ـ سببا للمقام المحمود ، فقيل ان الباري تعالى يجعل ما شاء من فعله سببا لفضله ، من غير معرفة بوجه الحكمة فيه ، أو بمعرفة وجه الحكمة.

وقيل ان قيام الليل فيه الخلوة مع البارىء ، والمفاجأة دون الناس ، فأعطى الخلوة به ، ومناجاته في قيامه نعمة المقام المحمود ، ويتفاضل فيه الخلق بحسب درجاتهم ، فأجلهم درجة فيه محمد عليه الصلاة والسّلام ،

٢٣

فان الله يعطيه ما لا يعطيه لاحد ، ويجعله يشفع ما لا يشفع لاحد.

وقد تعرض ابن الجوزي في تفسيره «زاد المسير» لمعنى هذه الآية الكريمة فذكر أن النافلة في اللغة ما كان زائدا على الاصل ، وذكر في معنى هذه الزيادة في حق النبي قولين : أحدهما أنها زائدة على الفرض ، عليه ، فيكون المعنى : فريضة عليك ، وكان قد فرض عليه قيام الليل.

والثاني أنها زائدة على الفرض ، فهي تطوع وفضيلة ، وذلك أنه قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فما زاد على فرضه فهو نافلة له وفضيلة. وذكر بعض العلماء أن صلاة الليل كانت فرضا عليه في الابتداء ، ثم رخص له في تركها ، فصارت نافلة. وذكر ابن الانباري أن الرسول عليه الصلاة والسّلام كان اذا تنفل لا يقدر له ان يكون بذلك ماحيا للذنوب ، لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وغيره اذا تنفل كان راجيا ، ومقدرا محو السيئات عنه بالتنفل ، فالنافلة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيادة على الحاجة ، وهي لغيره مفتقر اليها ، ومأمول بها دفع المكروه ، وقيل ان النافلة للنبي وأمته ، والمعنى : ومن الليل فتهجدوا به نافلة لكم. فخوطب النبي بخطاب أمته.

وجاء في تفسير «ظلال القرآن» هذه السطور عن الآية : «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ» والتهجد الصلاة بعد نومة أول الليل ، والضمير في به عائد على القرآن ، لأنه روح الصلاة وقوامها.

«عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا» بهذه الصلاة ، وبهذا القرآن والتهجد به ، وبهذه الصلة الدائمة بالله ، فهذا هو الطريق المؤدي الى المقام المحمود. واذا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤمر بالصلاة والتهجد والقرآن ، ليبعثه ربه المقام المحمود المأذون له به ، وهو المصطفى المختار ، فما أحوج الآخرين الى هذه الوسائل ، لينالوا المقام المأذون لهم به في

٢٤

درجاتهم ، فهذا هو الطريق ، وهذا هو زاد الطريق».

ويقول الله تبارك وتعالى في سورة الانبياء :

«وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً ، وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ ، وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ، وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ» (١).

لقد ترك إبراهيم عليه‌السلام وطنا واهلا وقوما ـ كما جاء في الظلال ـ فعوضه الله الارض المباركة وطنا خيرا من وطنه ، وعوضه ابنه اسحاق وحفيده يعقوب أهلا خيرا من أهله ، وعوض من ذريته أمة عظيمة العدد قوما خيرا من قومه ، وجعل من نسله أئمة يهدون الناس بأمر الله ، وأوحى اليهم أن يفعلوا الخيرات على اختلافها ، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، وكانوا طائعين لله عابدين ، فنعم العوض ونعم الجزاء ، ونعمت الخاتمة التي قسمها الله لابراهيم ، لقد ابتلاه بالضراء فصبر ، فكانت الخاتمة الكريمة اللائقة بصبره الجميل.

* * *

وقد أشارت السنة في أكثر من موطن الى مكانة التنفل ومنزلة التطوع ومن ذلك ما رواه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن رب العزة في الحديث القدسي الذي رواه البخاري ، وفيه يقول :

«من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب الي عبدي بشيء

__________________

(١) سورة الانبياء ، الآية ٧٢ و ٧٣

٢٥

أحب مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب الي بالنوافل حتى أحبه ، فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وان سألني لأعطينه ، ولئن استعاذ بي لأعيذنه ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره مساءته».

وظاهر الحديث كما يقول ابن حجر أن محبة الله تعالى للعبد تقع بملازمة العبد التقرب بالنوافل ، وربما قيل : ان الفرائض أحب العبادات المتقرب بها الى الله ، فكيف لا تنتج المحبة؟.

والجواب أن المراد من النوافل ما كانت حاوية للفرائض مشتملة عليها ومكملة لها ، ويؤيد ذلك أن هناك رواية تقول : «ابن آدم. انك لن تدرك ما عندي الا بأداء ما افترضت عليك».

وقيل ان معنى الحديث أنه اذا أدى الفرائض ، وداوم على اتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرهما أفضى به ذلك الى محبة الله تعالى.

وينبغي أن نفهم ان النافلة لا تقدم على الفريضة لأن النافلة انما سميت نافلة لأنها تأتي زائدة على الفريضة ، فما لم تؤد الفريضة لا تحصل النافلة ، ومن أدى الفرض وزاد عليه النفل ، وأدام ذلك تحققت منه ارادة التقرب.

والكلام في هذا الحديث القدسي ورد على سبيل التمثيل ، والمعنى كنت سمعه وبصره في ايثاره أمري ، فهو يحب طاعتي ويؤثر خدمتي كما يحب هذه الجوارح ، وهو بكليته مشغول بي ، فلا يصغي بسمعه الا الى ما يرضيني ، ولا يرى ببصره الا ما أمرته به ، أو كنت له في النصرة كسمعه وبصره ، ويده ورجله ، في المعاونة على عدوه.

وقيل ان التقدير : كنت حافظ سمعه الذي يسمع به ، فلا يسمع

٢٦

الا ما يحل استماعه ، وحافظ بصره كذلك. وقيل ان المعنى أنه لا يسمع الا ذكري ، ولا يلتذ الا بتلاوة كتابي ، ولا يأنس الا بمناجاتي ، ولا ينظر الا في عجائب ملكوتي ، ولا يمد يده الا فيما فيه رضاي ، ورجله كذلك.

وقد جاء في كتابي «أدب الاحاديث القدسية» (١) عبارة عن أنواع النوافل وفيها : ان من أعظم ما يتقرب به العبد الى ربه من النوافل كثرة تلاوة القرآن الكريم ، وسماعه القرآن بتفكر وتدبر وفهم ، ولذلك روى الترمذي عن أبي أمامة مرفوعا : «ما تقرب العبد الى الله تعالى بمثل ما خرج منه» يعني القرآن.

ومن النوافل أيضا كثرة ذكر الله تبارك وتعالى بحضور القلب مع النطق باللسان ، ولذلك قال معاذ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله ، أخبرني بأفضل الاعمال وأقربها الى الله تعالى. فقال النبي عليه الصلاة والسّلام : «أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله تعالى».

ومتى أكثر العبد من فعل الطاعات والبعد عن المخالفات أوجب ذلك له حب الله ، فاذا أحبه رزقه محبته ، فيصير الشخص لا يرى الا الله ، ولا ينطق الا بالله ، أي أن العبد متى اجتهد في الفرائض والنوافل امتلأ قلبه بمعرفة الله تعالى ، ومحبته وعظمته ، وخوفه ومهابته ، واجلاله والانس به ، حتى يصير قلبه من المعرفة مشاهدا له بعين البصيرة.

ومتى وصل العبد الى هذه المرتبة صار جديرا بأن يجيب الله دعاءه وأن يحقق له رجاءه ، وأن ينصره في مواطن حاجته الى النصر.

هذا ولقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرص على التنفل والنوافل من غير ايجاب ولقد جاء في صحيح الامام البخاري عن عائشة

__________________

(١) كتابي «ادب الاحاديث القدسية ، صفحة ٢٩٩ ، الطبعة الثانية ، نشر دار الاعتصام سنة ١٣٩٨ ه‍».

٢٧

رضي الله عنها : ان كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم.

ولقد كان النبي صلوات الله وسلامه عليه يوقظ عليا وفاطمة للتهجد والتنفل بالليل. وقد يعود الى ايقاظهما مرة ثانية.

يقول الطبري : لو لا ما علمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عظم فضل الصلاة في الليل ما كان يزعج ابنته وابن عمه في وقت جعله الله تعالى لخلقه سكنا ، لكنه اختار لهما احراز تلك الفضيلة على الدعة والسكون.

ويروى عن محمد بن ابراهيم قال : رأيت الجنيد في النوم ، فقلت : ما فعل الله بك؟.

قال : طاحت تلك الاشارات ، وغابت تلك العبارات ، وفنيت تلك العلوم ، ونفدت تلك الرسوم ، وما نفعنا الا ركعات نركعها في الاسحار. أي تهجدا وتنفلا وتطوعا.

نسأل الله جلت قدرته أن يهبنا فضيلة التطوع ومكرمة التنفل ومحمدة التقرب اليه حتى ننال رضاه ورضوانه.

٢٨

الدعاء

الدعاء في اللغة النداء ، والدعاء الرغبة الى الله تعالى فيما عنده من الخير ، والابتهال اليه بالسؤال ودعوته اذا سألته واذا استعنته ، والدعاء العبادة والاستغاثة ، والدعاء الايمان ، والمادة تدل على الخضوع والتضرع الى الله ، وحسن الرجاء فيه ، وصدق الظن فيه ، وانتظار الخير على يقين من جهته وفضله. وهو بهذا المعنى خلق من أخلاق القرآن المجيد ، وفضيلة من فضائل الاسلام العظيم ، وجانب من هدي الرسول عليه الصلاة والسّلام ، ومما يدل على جلال مكانة الدعاء أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الدعاء مخ العبادة» ويقول أيضا : «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء».

ولقد قيل لأنس : يا أبا حمزة ، أبلغك أن الدعاء نصف العبادة؟. قال : لا ، بل هو العبادة كلها.

ولقد جاء الامر الالهي بالدعاء في مواطن كثيرة من القرآن الحكيم ، ومن ذلك قول الحق تبارك وتعالى في سورة غافر :

«وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ

٢٩

يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» (١).

أي ادعوني واعبدوني وأخلصوا لي العبادة ، أجب دعاءكم ، فأعفو عنكم وارحمكم وأغفر لكم ، ان الذين يتعظمون عن افرادي بالعبادة سيدخلون جهنم صاغرين.

ويقول القرآن في سورة الاعراف :

«قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» (٢).

ويفسر تفسير المنار هذه الآية بقوله : «ادعوا الله وحده مخلصين له الدين ، بأن لا تخلطوا دعاءكم ولا غيره من عبادتكم له بأقل شائبة من الشرك الاكبر ، وهو التوجه الى غير الله من عباده المكرمين ، كالملائكة والرسل والصالحين ، ولا من الشرك الاصغر وهو الرياء ، وحب اطلاع الناس على عبادتكم ، والثناء عليكم بها ، والتنويه بذكركم فيها.

ويقول القرآن في سورة البقرة :

«وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» (٣).

وفي تفسير هذه الآية دقيقة من الدقائق تنبغي ملاحظتها ، وهي أن

__________________

(١) سورة غافر ، الآية ٦٠.

(٢) سورة الاعراف ، الآية ٢٩.

(٣) سورة البقرة ، الآية ١٨٦.

٣٠

القرآن الكريم ذكر مادة «يسألونك» في عدة مواضع ، وبعد ايراد هذه المادة يطلب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتولى الرد على سؤالهم بما يوحيه الله. فالقرآن مثلا يقول في سورة البقرة :

«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» (١).

ويقول في السورة نفسها :

«يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» (٢).

ويقول في السورة نفسها :

«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ» (٣).

ويقول في السورة نفسها :

«وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً» (٤).

ويقول في سورة الانفال :

«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ» (٥).

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٨٩.

(٢) سورة البقرة ، الآية ٢١٥.

(٣) سورة البقرة ، الآية ٢١٩.

(٤) سورة البقرة ، الآية ٢٢٢.

(٥) سورة الانفال ، الآية الاولى.

٣١

وهكذا. وأما حين جاء السؤال في قوله تعالى :

«وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ» (١).

فان الله تعالى لم يطلب الى رسوله أن يتولى الاجابة على السؤال كما رأينا في المواطن الاخرى ، بل تولى الله تعالى بذاته القدسية الاجابة على سؤال العباد ، ولعلّ الحكمة في ذلك هي الاشعار بأن من يدعو الله لا يحتاج الى وسيط بينه وبين الله ، فالله سبحانه يجيب الداعي بلا وساطة أو شفيع.

ومما يدل على مكانة الدعاء في حياة المسلم أن الله تبارك وتعالى جعل الدعاء يتكرر في كل صلاة من كل يوم ، ففي فاتحة الكتاب التي يتلوها المسلم في كل ركعة جاء قول الحق سبحانه :

«اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ» (٢).

والدعاء فضيلة من فضائل الانبياء ، وهذا هو شيخهم وامامهم محمد عليه وعليهم الصلاة والسّلام يقول في حديثه الشريف : «أكثر دعائي ودعاء النبيين من قبلي بعرفات : لا اله الا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير».

وانما سمي التهليل والتحميد والتمجيد دعاء لأنه بمنزلته في استيجاب ثواب الله وجزائه كالحديث الآخر : «اذا شغل عبدي ثناؤه عليّ

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٨٦.

(٢) سورة الفاتحة ، الآية ٦ و ٧.

٣٢

عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين».

وهذا ابراهيم أبو الانبياء يدعو دعاءه الطويل في سورة ابراهيم :

«وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ، رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ ، رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ ، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» (١).

ومعنى : «ربنا وتقبل دعاء» أي تقبل عملي الذي أعمله لك ، وعبادتي اياك ، فالحديث يقول : «ان الدعاء هو العبادة».

وهذا نوح نبي الله يذكر القرآن من خصاله أنه كان يدعو ربه ،

__________________

(١) سورة ابراهيم ، الآية ٣٥ ـ ٤١.

٣٣

فيقول القرآن في سورة القمر :

«فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ» (١).

وهذا زكريا نبي الله يقول داعيا ربه في سورة مريم :

«وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا» (٢).

أي لم أشق يا رب بدعائك ، لأنك لم تخب دعائي من قبل ، اذ كنت أدعوك في حاجتي اليك ، فكنت تجيب وتقضي حاجتي.

ويقول القرآن عن زكريا وزوجته وابنه يحيى :

«إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ» (٣).

كانوا يدعوننا رغبا ، أي رغبة منهم فيما يرجون من الله من رحمته وفضله ، رهبا أي رهبة منهم من عذاب الله وعقابه ، بتركهم عبادته وركوبهم معصيته ، فهم يدعون خوفا وطمعا ، وليس ينبغي لأحدهما أن يفارق الآخر ، وكانوا متواضعين لله متذللين ، لا يستكبرون عن عبادة ربهم سبحانه.

ويحدثنا القرآن عن طائفة كبيرة من الناس ، يسيئون استعمال الدعاء واستغلاله فهم ، لا يخلصون في الدعاء الا عند الكارثة ، وهم لا يذكرون الله الا عند الغرق ، فاذا أنقذهم الله من المصيبة نسوا ربهم ،

__________________

(١) سورة القمر ، الآية ١٠.

(٢) سورة مريم ، الآية ٤.

(٣) سورة الانبياء ، الآية ٩٠.

٣٤

وأغفلوا ذكره ، وما هكذا يكون شأن المؤمن المستقيم. يقول القرآن في سورة لقمان :

«وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ» (١).

اذا غشي هؤلاء موج عظيم هائل كالظلل وهم في وسط البحر ، فزعوا الى الله بالدعاء ، مخلصين له بالطاعة ، لا يشركون به هنالك شيئا ، ولا يدعون معه أحدا سواه ، ولا يستغيثون بغيره ، فلما نجاهم الى البر مما كانوا يخافونه في البحر من الغرق والهلاك ، فمنهم مقتصد في قوله واقراره بربه وهو يضمر الكفر ، وما يكفر بأدلتنا وحججنا الا كل غدار جحود النعم كفور.

ويقول القرآن الكريم في سورة يونس :

«وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (٢) :

أي دعانا في وقت اضطجاعه أو قعوده أو قيامه ، أي لا يفتر في الدعاء ، بل يدعو الله في جميع الاحوال.

ويعلق تفسير «في ظلال القرآن» على هذه الصورة البشرية فيقول :

__________________

(١) سورة لقمان ، الآية ٣٢.

(٢) سورة يونس ، الآية ١٢.

٣٥

«انها صورة مبدعة لنموذج بشري مكرور .. وان الانسان ليظل مدفوعا مع تيار الحياة. يخطىء ويذنب ويطغى ويسرف والصحة موفورة ، والظروف مواتية. وليس ـ الا من عصم الله ورحم ـ من يتذكر في ابان قوته وقدرته أن هناك ضعفا وأن هناك عجزا. وساعات الرخاء تنسي ، والاحسان بالغنى يطغي .. ثم يمسه الضر فاذا هو جزوع هلوع ، واذا هو كثير الدعاء ، عريض الرجاء ، ضيق بالشدة مستعجل للرخاء. فاذا استجيب الدعاء وكشف الضر انطلق لا يعقب ولا يفكر ولا يتدبر. انطلق الى ما كان فيه من قبل من اندفاع واستهتار. والسياق يتسق خطوات التعبير وايقاعه مع الحالة النفسية التي يصورها. والنموذج البشري الذي يعرضه. فيصور منظر الضرفي بطء وتلبث وتطويل : «دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما» يعرض كل حالة وكل وضع وكل منظر ، ليصور وقفة هذا الانسان وقد توقف التيار الدافع في جسمه او في ماله أو في قوته كما يتوقف التيار أمام السد ، فيقف أو يرتد ، حتى اذا رفع الحاجز «مرّ» كلمة واحدة تصور الاندفاع والمروق والانطلاق «مر» لا يتوقف ليشكر ، ولا يلتفت ليتدبر ولا يتأمل ليعتبر. «مر كأن لم يدعنا الى ضر مسه» واندفع مع تيار الحياة دون كابح ولا زاجر ولا مبالاة. وبمثل هذه الطبيعة. طبيعة التذكر فقط عند الضر ، حتى اذا ارتفع انطلق ومرّ ، بمثل هذه الطبيعة استمر المسرفون في اسرافهم ، لا يحسون ما فيه من تجاوز للحدود : «كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون».

ويقول القرآن في سورة يونس أيضا :

«هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ

٣٦

أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ، فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» (١).

جاء في تفسير «فتح الرحمن» هذه العبارة حول الآية السابقة : «في هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع الى الله في الشدائد ، وأن المضطر يجاب دعاؤه وان كان كافرا ، وفي هذه الآية بيان ان هؤلاء المشركين كانوا لا يلتفتون الى أصنامهم في هذه الحالة وما شابهها ، فيا عجبا لما حدث في الاسلام من طوائف يعتقدون في الاموات ، فاذا عرضت لهم في البحر مثل هذه الحالة دعوا الاموات ولم يخلصوا الدعاء لله كما فعله المشركون ، كما تواتر ذلك الينا تواترا يحصل به القطع ، فانظر هداك الله ما فعلت هذه الاعتقادات الشيطانية؟ وأين وصل بها أهلها؟ والى أين رمى بهم الشيطان؟ وكيف اقتادهم وتسلط عليهم ، حتى انقادوا له انقيادا ما كان يطمع في مثله ، ولا في بعضه من عباد الاصنام ، فانا لله وانا اليه راجعون».

* * *

وننتقل الى روضة السنة المطهرة لنجد هذا الفيض النبوي الكريم ، من الدعوة الى الحرص على الدعاء ، والنهي عن اغفاله أو نسيانه ، وتطالعنا هذه الاحاديث الشريفة :

١ ـ سلوا الله من فضله ، فان الله يحب أن يسأل من فضله ، وما سئل الله شيئا أحب اليه من العافية.

__________________

(١) سورة يونس ، الآية ٢٢ و ٢٣.

٣٧

٢ ـ ليسأل أحدكم ربه كل شيء ، حتى شسع نعله اذا انقطع ، فانه ان لم ييسره لم يتيسر.

٣ ـ ان لربكم في أيام دهركم نفحات ، فتعرضوا لنفحاته ، واسألوا الله أن يستر عوراتكم ، ويؤمن روعاتكم.

٤ ـ من لم يسأل الله يغضب عليه.

ويشير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى طريقة اجابة الله للدعاء ، «ما من أحد يدعو الله بدعوة الا آتاه الله بها احدى ثلاث : اما أن يعجل له حاجته ، واما أن يعطيه من الخير مثلها ، واما أن يصرف عنه من الشر مثلها.

قالوا : اذن نكثر يا رسول الله.

قال : فالله أكثر.

والدعاء قسمان اضطراري واختياري ، فالاضطراري هو الالتجاء الى القوة الغيبية عند تقطع الاسباب بالانسان ، وسد منافذ الرجاء بالسعي.

يقول السيد رشيد رضا في تصوير فائدة الدعاء الاضطراري : كل مؤمن بقوة غيبية يرى نفسه ملتجئة اليه عند اشتداد البأس ، والخطر المشرف بها على اليأس ، فيدعو صاحب القوة العليا ، ويستغيث به ، وعند ذلك تفتح في وجهه أبواب الرجاء ، وتنزل عليه السكينة بعد الاضطراب ، وهذه فائدة كبرى للدعاء ، تتلوها فوائد ، أظهرها أن اليائس ينقطع عن السعي ، فاذا اشتد به الضيق فربما يبخع نفسه انتحارا بيده ، ولذلك يكثر الانتحار في قوم لا يؤمنون ، فالرجاء الذي يحدثه الالتجاء بالدعاء يعطي المضطر قوة جديدة ، ويهديه الى طرق جديدة يسلكها في اعادة السعي حتى ينجو من الخطر ، أو يبلغ بعض الوطر.

٣٨

ويتحدث رشيد رضا عن القسم الثاني من الدعاء وهو الاختياري فيذكر أنه من الاعمال التي تزيد في الايمان ، وتدعمه كسائر العبادات المطلوبة في الدين ، وليس أثرا طبيعيا له ، ولو لا ذلك لما كان للتكليف به معنى. اذا قال العبد : اللهم وسع عليّ في الرزق ، يتذكر أن سعيه في طلب الرزق من أسبابه التي هداه الله تعالى اليها بالحواس ، والعقل يتوقف على حفظ قواه ، وعلى توفيق الله بين سعيه وبين الاحوال والامور الخارجية التي يتوقف عليها النجاح ، فيزداد ايمانه بهذا الذكر ، ويزداد نشاطه باعتقاده أن الله يعينه ما رعى سنته في خليقته ، وأتى البيوت من أبوابها.

واذا قال : اللهم اغفر لي يتذكر أنه عرضة للهفوات والخطايا ، وأن الغفران الالهي له طريق بيّنها الكتاب العزيز بمثل قوله :

«واني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى».

فان لم يتذكر الآية فانه يتذكر معناها ، الا اذا كان جاهلا بالدين ، مكتفيا منه بما يسمعه ممن يعيش بينهم من الجاهلين ، واذا تذكر ان الدين علّم البشر أن للذنوب والخطايا آثارا سيئة في النفس ، وان غفرها ومحوها انما يكون بالرجوع عن الذنب ، وعمل طاعة من جنسه تؤثر في النفس ضد أثره ، فانه يكون قريبا من العمل الصالح. قال تعالى :

«إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» (١).

وقال عليه الصلاة والسّلام : «وأتبع السيئة الحسنة تمحها».

وان قال قائل : كيف ندعو الله من أجل أمر هو يعلمه ويحيط به؟ فان الجواب يمكن أن يؤخذ من مثل قول القائل الحكيم :

__________________

(١) سورة هود ، الآية ١١٤.

٣٩

قالوا : أتشكو اليه

ما ليس يخفى عليه؟

فقلت ربي يرضى

ذلّ العبيد لديه

* * *

ولفضيلة الدعاء آداب أجملها الغزالي في «الاحياء» فيما يلي :

١ ـ ترصد الاوقات الشريفة ، كيوم عرفة ويوم الجمعة ، وأيام رمضان ، ووقت السحر.

٢ ـ اغتنام الاحوال الشريفة ، عند اقامة الصلوات ، وعند نزول الغيث ، وعند الزحف للجهاد ، وعند السجود : «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، فأكثروا فيه من الدعاء».

٣ ـ استقبال القبلة.

٤ ـ خفض الصوت ، وجعله بين المخافتة والجهر ، للحديث القائل :

«يا أيها الناس ان الذي تدعون ليس بأصم ولا غائب».

٥ ـ عدم تكلف السجع في الدعاء.

٦ ـ التضرع والخشوع لقوله تعالى :

«ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً» (١).

٧ ـ أن يجزم بالدعاء ويوقن بالاجابة ويؤكد الرجاء في الله للحديث القائل : «ادعوا الله وأنتم موقنون بالاجابة».

٨ ـ الالحاح في الدعاء والتكرار فيه ، وعدم التعجل أو استبطاء الاجابة.

٩ ـ ان يقدم بين يدي الدعاء ذكرا لله وثناء عليه وتسبيحا له.

__________________

(١) سورة الاعراف ، الآية ٥٥.

٤٠