آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨
الجهة الحادية عشر :
(الواجب الموسّع والمضيّق)
اعلم ، أنّ الواجبات الواردة في الشّرع على قسمين :
أحدهما : ما عيّن له وقت معيّن شرعا بحيث لا يجوز تأخيره عنه ، وهو تارة يكون فعله مساويا لوقته المعيّن ، كالصّوم ، ويسمّى بالواجب المضيّق ؛ واخرى يكون فعله ناقصا عن وقته ، كالصّلوات اليوميّة ، فيسمّى بالواجب الموسّع.
وأمّا زيادة الفعل على وقته المعيّن له فممتنعة.
ثانيهما : ما لم يعيّن له وقت شرعا ، وهذا ـ أيضا ـ تارة يكون واجبا فوريّا كردّ السّلام والأمر بالمعروف وإزالة النّجاسة عن المسجد ؛ واخرى يكون واجبا غير فوريّ ، كالصّلاة على الميّت وقضاء الفائتة ونحوهما.
ثمّ إنّه قد اشكل (١) على الواجب المضيّق ، بأنّ الانبعاث لا بدّ وأن يكون متأخّرا عن البعث ، ومع تقدّم البعث عليه لا يكون مضيّقا.
ولكنّه مندفع : أوّلا : بأنّ التّقدّم والتّأخّر في المقام يكون رتبيّا لا زمانيّا.
وثانيا : بأنّ الكلام هنا في الواجب لا الوجوب ، ولا ملازمة بين توسّع الوجوب زمانا وتوسّع الواجب كذلك.
__________________
(١) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٤ ، ص ٦٠.
وكذا اشكل (١) على الواجب الموسّع ، بأنّ لازمه جواز ترك الواجب في أوّل وقته أو وسطه بلا بدل ، وهذا ينافي وجوبه ؛ إذ لازمه هو المنع من التّرك.
وهذا ـ أيضا ـ مندفع ؛ بأنّ الواجب هو الطّبيعيّ الواقع بين الحدّين «كالصّلاة الواقعة بين الدّلوك والغسق» لا الواقع في أوّل الوقت أو وسطه كي يكون تركه فيهما تركا للواجب بلا بدل.
غاية الأمر : يقع الكلام بين الأعلام في أنّ التّخيير بين الأفراد الطّوليّة ، هل هو تخيير عقليّ ـ كالتّخيير بين الأفراد العرضيّة ـ كما اختاره المحقّق الخراساني قدسسره (٢) وهو الحقّ ، أو تخيير شرعيّ ـ كأطراف الواجب التّخييريّ وأعداله؟ ـ وكيف كان ، لا يلزم على القول بالواجب الموسّع جواز ترك الواجب بلا بدل ، كما هو واضح.
(تابعيّة القضاء للأداء)
اعلم ، أنّ معنى التّبعيّة هنا هو دلالة الأمر بالموقّتات على وجوب الإتيان بها في خارج الوقت قضاء ـ إذا لم يأت بها في الوقت ـ كدلالته على الإتيان بها في الوقت أداء ، ومعنى عدم التّبعيّة هو عدم دلالته على ذلك.
وقد اختلفت أقوال العلماء في أنّ القضاء ، هل هو تابع للأداء أو يحتاج إلى أمر جديد؟
__________________
(١) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٤ ، ص ٦٠.
(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٢٩ ؛ وإليك نصّ كلامه : «ولا يذهب عليك : أنّ الموسّع كلّي ، كما كان له أفراد دفعيّة كان له أفراد تدريجيّة يكون التّخيير بينها كالتّخيير بين أفرادها الدّفعيّة عقليّا ، ولا وجه لتوهّم أن يكون التّخيير بينها شرعيّا ؛ ضرورة ، أنّ نسبتها إلى الواجب نسبة أفراد الطّبائع إليها ، كما لا يخفى».
فذهب عدّة منهم إلى عدم التّبعيّة مطلقا ، وذهب عدّة اخرى إلى التّبعيّة كذلك ، وذهب عدّة ثالثة إلى التّفصيل بين التّوقيت بالدّليل المنفصل ، فيكون تابعا ، وبين التّوقيت بالدّليل المتّصل ، فلا يكون تابعا ، وهذا هو مختار المحقّق الخراساني قدسسره. (١)
والحقّ في المسألة ، بل في جميع الموارد المقيّدة هو القول بعدم التّبعيّة مطلقا ، بلا فرق بين اتّصال دليل التّوقيت ، وبين انفصاله.
والدّليل عليه أمران : أحدهما : أنّ الأمر والبعث لا يدعو إلّا إلى نفس ما تعلّق به وهو المأمور به والمبعوث إليه ، وحيث إنّ المفروض في المقام هو تعلّق الأمر بالطّبيعة المقيّدة ، فلا يدعو إلّا إليها.
نعم ، لو فرض أنّ المتعلّق هي الطّبيعة المطلقة بالنّسبة إلى الوقت ، لأمكن أن يقال : إنّ الأمر يدعو إليها حتّى في خارج الوقت.
وبالجملة : مقتضى كون الأمر متعلّقا بالطّبيعة المقيّدة ـ كما هو المفروض في المقام ـ هو عدم التّبعيّة وعدم دعوة الأمر إلى متعلّقه خارج الوقت ، بل يلزم الخلف لو دعى إليه كذلك ؛ إذ معنى التّوقيت هو كون الوقت قيدا للطّبيعة المأمور بها ، فلا أمر بها لو لا الوقت ، ومعنى كون الطّبيعة مأمورا بها خارج الوقت ـ أيضا ـ هو عدم كون الوقت قيدا لها ، وهذا خلف.
هذا كلّه في ما إذا لم يكن في المقام دليل على بقاء الأمر بعد الوقت من إطلاق أو عموم ، بل الدّليل هو نفس الأمر بالموقّت فقط ، فيكون مورد للنّزاع في أنّه ، هل يدلّ على بقاء التّكليف خارج الوقت ، أم لا؟
__________________
(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٣٠.
وأمّا إذا فرض إطلاق أو عموم لدليل الواجب دالّ على ثبوت الوجوب بعد الوقت ، كما أشار إليه المحقّق الخراساني قدسسره (١) فهو خارج عن مصبّ النّزاع.
ثانيهما : أنّه لو كان الأمر كذلك ، لم يصدق الفوت ولا عنوان القضاء ، بل يكون فعله خارج الوقت من قبيل الأداء.
ثمّ إنّه لو شكّ في الأمر والوجوب بعد انقضاء الوقت لكان المرجع هي أصالة البراءة ؛ ولا مجال لاستصحاب بقاء الأمر بعد خروج الوقت ؛ وذلك ، لاختلاف القضيّة المتيقّنة والمشكوكة حسب الأنظار العرفيّة ـ وهو المعيار في تشخيص الاختلاف ـ حيث إنّ المتيقّن هو الموقّت ، والمشكوك هو غيره ، فلو قلنا : بجريان حكم الطّبيعة الموقّتة المقيّدة بالوقت إلى نفس الطّبيعة أو إليها بعد خروج الوقت ، لكان من قبيل إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ، وهو ممنوع.
ولقد أجاد المحقّق الخراساني قدسسره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «ومع عدم الدّلالة فقضيّة أصالة البراءة عدم وجوبها في خارج الوقت ، ولا مجال لاستصحاب وجوب الموقّت بعد انقضاء الوقت». (٢)
__________________
(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٣٠.
(٢) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٣٠.
الجهة الثّانية عشر :
(الأمر بالأمر بشيء)
لا ريب في أنّ ما ورد في الشّرع من الأمر بالأمر بشيء ، كقوله تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ...)(١) ونحوه ، أمر بذلك الشّيء ؛ إذ من المعلوم : المبرهن أنّ السّفراء والرّسل هم مبلّغوا أحكام الله جلّ جلاله ورسالاته ، وأنّهم كانوا حملة أوامره ونواهيه ، فيكون الغرض من أمره تعالى لهم بالأمر هو تبليغ أمره لا غير ، كما أشار إليه المحقّق الخراساني قدسسره بقوله : «الأمر بالأمر بشيء أمر به لو كان الغرض حصوله ، ولم يكن له غرض في توسيط أمر الغير به إلّا تبليغ أمره به ، كما هو المتعارف في أمر الرّسل بالأمر أو النّهي». (٢)
وعليه : فلا حاجة إلى البحث الثّبوتيّ في المقام وذكر احتمالاته ، كما تعرّض له بعض الأعاظم قدسسره. (٣)
ثمّ إنّه هل تترتّب الثّمرة على المسألة ، أم لا؟
قال بعض الأعاظم قدسسره ما هذا لفظه : «إنّ الثّمرة المترتّبة على هذا النّزاع هي شرعيّة عبادة الصّبي بمجرّد ما ورد في الرّوايات من قوله عليهالسلام : «مروهم بالصّلاة وهم
__________________
(١) سورة النّور (٢٤) : الآية ٣٠.
(٢) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٣٠ و ٢٣١.
(٣) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٤ ، ص ٧٤ و ٧٥.
أبناء سبع سنين» ونحوه ممّا ورد في أمر الولى للصّبي ، فإنّه بناء على ما ذكرناه ، من أنّ الأمر بالأمر بشيء ظاهر عرفا في كونه أمرا بذلك الشّيء ، تدلّ تلك الرّوايات على شرعيّة عبادة الصّبي لفرض عدم قصور فيها ، لا من حيث الدّلالة ، كما عرفت ، ولا من حيث السّند لفرض أنّ فيها روايات معتبرة» (١).
ولكن التّحقيق يقتضي أن يقال : لا يتوقّف مشروعيّة عبادات الصّبي على هذه المسألة ؛ وذلك ، لإمكان إثبات المشروعيّة بأدلّة التّشريع من العموم أو الإطلاق ، كقوله تعالى (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)(٢) وقوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ...)(٣) ونحوهما.
وأمّا حديث رفع القلم (٤) ، فهو إرفاقيّ وامتناعيّ يقتضي بطبعه رفع الإلزام فقط ، لا رفع أصل المحبوبيّة ، كيف ، وأنّه خلاف الامتنان ، مضافا إلى أنّه قد وردت في مورد الصّبي روايات دالّة على مشروعيّة عباداته ـ أيضا ـ فراجع. (٥)
__________________
(١) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٤ ، ص ٧٦.
(٢) سورة البقرة (٢) : الآية ٤٣.
(٣) سورة البقرة (٢) : الآية ١٨٣.
(٤) راجع ، وسائل الشّيعة : ج ١١ ، كتاب الجهاد ، من أبواب جهاد النّفس ، الباب ٥٦ ، الحديث ١ ، ص ٢٩٥.
(٥) راجع ، وسائل الشّيعة : ج ٣ ، كتاب الصّلاة ، الباب ٣ من ابواب اعداد الفرائض ونوافلها ، الحديث ١ و ٢ و ٥ ، ص ١١.
الجهة الثّالثة عشر :
(الأمر بشيء بعد الأمر به)
اعلم ، أنّه إذا وقع الأمر بشيء بعد الأمر به قبل امتثاله ، فلا يخلو من إحدى صور ثلاثة :
إحداها : أن يكون الأمر الثّاني متعلّقا بعين ما تعلّق به الأمر الأوّل من غير تقييد بمثل مرّة اخرى وبلا إناطة وتعليق وذكر سبب ، أو مع ذكر سبب واحد وتعليق فارد.
ثانيتها : أن يكون الأمر الثّاني مقيّدا بمثل مرّة اخرى.
ثالثتها : أن يذكر لكلّ واحد من الأمرين سبب مستقلّ ، نظير : «إن ظاهرت فأعتق رقبة ، وإن أفطرت فأعتق رقبة» أو نظير : «إن نمت فتوضّأ ، وإن بلت فتوضّأ».
ولا يخفى : أنّه لا كلام بين الأعلام في أنّ الأمر الثّاني في الصّورة الثّانية يحمل على التّأسيس لا التّأكيد ؛ وذلك ، لوجود القرينة الدّالّة عليه وهي التّقييد بمثل مرّة اخرى ، كما هو واضح.
إنّما الكلام في الصّورة الاولى والثّالثة ، فوقع النّزاع بينهم في أنّ الأمر الثّاني فيهما ، هل يكون تأكيدا للأمر الأوّل ، أو يكون تأسيسا مستقلّا؟
والّذي يرتبط بالبحث هنا هو الصّورة الاولى ، والحقّ فيها هو التّأكيد ، كما يقتضيه الظّاهر المتبادر.
وأمّا الصّورة الثّالثة ، فهي مندرجة في مباحث المفاهيم في ذيل مفهوم الجملة الشّرطيّة «إذا تعدّد الشّرط واتّحد الجزاء» كقوله عليهالسلام : «إذا خفي الأذان فقصّر ، وإذ خفي الجدران فقصّر» وسيأتى التّحقيق فيه ، إن شاء الله تعالى.
إلى هنا تمّ الكلام في المسألة الاولى (الأوامر).
المسألة الثّانية : النّواهي
* الفصل الأوّل : معنى مادّة النّهي وهيئته
* الفصل الثّاني : اجتماع الأمر والنّهي تمايز المسألة عن مسألة النّهي في العبادات ثمرة مسألة اجتماع الأمر والنّهي
* الفصل الثّالث : اقتضاء النّهي عن الشّيء للفساد
(المسألة الثّانية : النّواهي)
وفيها فصول :
(الفصل الأوّل : معنى مادّة النّهي وهيئته)
ذهب المشهور (١) إلى أنّ النّهي مادّة وهيئتا ، كالأمر في الدّلالة على الطّلب ، فيعتبر في النّهي ما اعتبر في الأمر من العلو والإلزام وغيرهما ؛ والفرق بينهما إنّما هو في المتعلّق ، حيث إنّ الأمر يتعلّق بالوجود ، والنّهي يتعلّق بالعدم ، وهذا هو مختار المحقّق الخراساني قدسسره. (٢)
ولكن يشكل عليه حسب مقام الثّبوت والإثبات :
أمّا مقام الثّبوت ؛ فلعدم إمكان تعلّق الطّلب بالعدم ، حيث إنّ العدم لا يصلح لأن يتعلّق به مبادي الإرادة ـ من الملاكات والمصالح ـ وكذا نفس الإرادة والبعث والطّلب ؛ وذلك ، لما أشرنا غير مرّة ، من أنّ العدم بطلان وهلاك محض ، لا شيئيّة له حتّى الأعدام المضافة وأعدام الملكات ، وما هو هذا ، كيف يمكن أن يتعلّق بأمر وجوديّ وهو مبادي الإرادة ونفسها ، فالبرهان يقتضي استحالة تعلّق الطّلب ونحوه بالأعدام.
__________________
(١) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٤ ، ص ٨٠.
(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٣٢.
وما يقال : من أنّ الوجدان حاكم بأن الطّلب يتعلّق ببعض الأعدام ، ففيه مغالطة حاصلة من أخذ ما بالعرض مكان ما بالذّات ، حيث إنّ وجود الشّيء قد يكون مبغوضا لما فيه من الفساد ، فينسب المحبوبيّة إلى عدمه بالعرض ، فيقال : «إنّى أطلب واحبّ عدمه» مكان «إنّى اكره وأبغض وجوده» كما أشار إليه الإمام الرّاحل قدسسره. (١)
وعلى هذا ، فلا مجال لما عن المحقّق الخراساني قدسسره (٢) وغيره من طرح النّزاع في أنّ متعلّق النّهي ، هل هو الكفّ أو التّرك ، ونفس أن لا يفعل ؛ إذ أحد طرفي النّزاع هو التّرك والعدم ، وقد عرفت آنفا ، من عدم إمكان تعلّق الطّلب به ، لا برهانا ولا وجدانا.
وأمّا مقام الإثبات ، فلأنّ مادة النّهي لا تدلّ إلّا على نفس الطّبيعة ، كمادّة الأمر بلا تفاوت بينهما أصلا ، فتكون أجنبيّة عن دلالتها على الطّلب.
وكذلك هيئة النّهي ، فإنّه لا تدلّ إلّا على المنع والزّجر عن الطّبيعة والماهيّة تشريعا ؛ وذلك ، لاشتمالها على المفسدة ، كما أنّ مفاد هيئة الأمر ـ أيضا ـ هو الإغراء بالطّبيعة والبعث إليها تشريعا لأجل اشتمالها على المصلحة.
وعليه : فلا دلالة لهيئة النّهي على الطّلب ، نعم ، لازم دلالتها على المنع والزّجر عن الطّبيعة هو طلب التّرك ، وهذا ليس إلّا بالنّظر المسامحيّ العرفيّ من باب المطلوبيّة العرضيّة ، كما أنّ لازم البعث إلى الطّبيعة والإغراء بها هو طلب الفعل والوجود كذلك.
__________________
(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٢٩٤.
(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٢٢.
ثمّ إنّ المشهور (١) قد التزم بالفرق بين النّهي والأمر ، بأنّ النّهي لا يقتضي إلّا ترك جميع أفراد المتعلّق من العرضيّة والطّوليّة ، فلا يسقط إلّا بترك الكلّ ، بخلاف الأمر ، فإنّه لا يقتضي إلّا إيجاد فرد واحد من أفراد المتعلّق ، فيسقط حينئذ.
ولكنّ الحقّ عدم الفرق بينهما لو خليّا وطبعهما ، حيث إنّ النّهي لا يدلّ إلّا على الزّجر عن الطّبيعة ، والأمر لا يدلّ إلّا على البعث إليها ، وأمّا الزّائد على هذا المقدار ، فخارج عن حيطة دلالتهما ، بل محتاج إلى ضمّ قرينة تدلّ عليه.
وإن شئت ، فقل : إنّ الأوامر أو النّواهي الشّرعيّة كلّها قانونيّة متوجّهة إلى عامّة المكلّفين وتكون حدودها ونواحيها بأسرها مقرّرة مبيّنة ، إلّا أنّ كلّ واحد منها مختلفة متنوّعة باختلاف الموارد وتنوّع المقامات والمسائل ، فقد يكون الأمر عمريّا ، كأمر الحجّ في قوله تعالى : (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ ...)(٢) وقد يكون سنويّا ، كأمر الصّوم في قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)(٣) وقد يكون يوميّا ، كأمر الصّلاة في قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ...)(٤) كما أنّ النّهي ـ أيضا ـ قد يكون دائميّا لازم الاتّباع في كلّ وقت وساعة ، إلّا إذا اضطرّ إلى المخالفة أو طرأ عنوان آخر من العناوين الثّانويّة الرّافعة للحرمة الأوّليّة ، وقد يكون موقّتا مقطعيّا ، إلى غير ذلك.
وبالجملة : ليس الكلام هنا في النّواهي الشّخصيّة ، كنهي زيد أو عمرو
__________________
(١) منتهى الأفكار : ج ١ ، ص ٨٨.
(٢) سورة آل عمران (٣) ، الآية ٩٧.
(٣) سورة البقرة (٢) ، الآية ١٨٥.
(٤) سورة الإسراء (١٧) ، الآية ٧٨.
ـ مثلا ـ بل الكلام إنّما هو في النّواهي الشّرعيّة القانونيّة ، ومن المعلوم : أنّ تلك النّواهي يكون حدودها معلومة مبيّنة ، ومن هنا يصير البحث قليل الجدوى والفائدة.
ويندفع بما ذكرنا : توهّم أنّ الفرق المذكور بين الأمر والنّهي مستند إلى الوضع واللّغة.
وجه الاندفاع ؛ هو أنّ النّهي ، كالأمر ، مؤلّف من مادّة وهيئة ، فمادّته تدلّ على نفس الطّبيعة ، وهيئته تدلّ على الزّجر عنها ، كما أنّ مادّة الأمر تدلّ على نفس الطّبيعة ـ أيضا ـ وهيئته تدلّ على البعث إليها ، وليس للمجموع بما هو المجموع وضع على حدّة ، لا في النّهي ، ولا في الأمر حتّى يقال : إنّ مقتضى وضعه في النّهي هو ترك جميع الأفراد ، وفي الأمر هو تحقّق صرف الوجود منها.
كما يندفع ـ أيضا ـ ما عن المحقّق الخراساني قدسسره من أنّ الفرق بينهما مستند إلى حكم العقل.
بتقريب : أنّ متعلّق الأمر والنّهي وإن كان واحدا وهو نفس الطّبيعة ، إلّا أنّ النّهي إذا تعلّق بها يحكم العقل بتحقّق امتثاله بترك جميع أفرادها ، بخلاف ما إذا تعلّق الأمر بها ، فإنّه يحكم بتحقّق امتثاله بإيجاد فرد واحد من أفرادها ؛ ضرورة ، أنّ وجود الطّبيعة يكون بوجود فرد واحد وعدمها لا يكاد يكون إلّا بعدم الجميع.
وإن شئت ، فقل : إنّ قضية النّهي ليس إلّا ترك تلك الطّبيعة الّتي تكون متعلّقة له ، سواء كانت مقيّدة أو مطلقة ؛ وقضية تركها عقلا إنّما هو ترك جميع أفرادها.
وجه الاندفاع ؛ هو أنّ الطّبيعة المنهيّة ، إمّا يراد بها الطّبيعة المهملة المأخوذة بنحو لا بشرط حتّى شرط اللّابشرطيّة ، فهي كما توجد بفرد ما ، كذلك تعدم بعدم
فرد ما ، أو يراد بها الطّبيعة السّارية في أفرادها ـ حسب زعم القوم ـ فهي كما لا تعدم إلّا بعدم جميع الأفراد ، كذلك لا توجد إلّا بوجود جميعها.
والتّحقيق : عدم السّريان وعدم التّحصّص ، بل تعدّد وتكثّر ، بمعني : أنّ الطّبيعي وجوده عين وجود الفرد ، فيتعدّد بتعدّد الفرد ، وجودا وعدما ، فإذا يكون له وجودات وأعدام بعدد الأفراد والمصاديق.
وكذلك ، يندفع بما ذكرنا : ما اشتهر ، بل ادّعي فيه عدم الخلاف ، من أنّ الفرق بين الأمر والنّهي مستند إلى حكم العرف ، حيث إنّه يرى تحقّق امتثال الأمر بإيجاد فرد ما ، بخلاف النّهي ، فلا يمتثل إلّا بترك جميع أفراده.
وجه الاندفاع ؛ أن مقتضى ذلك هو أن يكون للنّهي امتثال وعصيان واحد ، لعدم انحلاله ، مع أنّ العرف يكذبه ، وهذا بخلاف مقتضى ما أشرنا إليه ، من كون النّهي قانونا حاكما باقيا في كلّ مكان وزمان وفي كلّ شهر وعام ما لم ينسخ ، فإنّ له عصيانات لو خولف ولم يمتثل مرارا ، فلا يسقط بمجرّد العصيان في زمان واحد ، وكذلك الأمر.
فتحصّل : أنّه لا فارق بين الأوامر والنّواهي من جهة أنّ كلّ واحد منهما بمادّته تدلّ على نفس الطّبيعة ، وبهيئته تدلّ على مجرّد البعث إلى الطّبيعة والزّجر عنها ، وأمّا دلالتهما على الزّائد ، كدلالة النّهي على الدّوام وترك الجميع ، ودلالة الأمر على المرّة وإيجاد صرف الوجود ، فإنّما هي باختلاف الموارد وتنوّع المقامات ، كما عرفت.
ولا يخفى : أنّه بناء على ما ذكرنا ، ينحلّ عويصة تحقّق الامتثال الواحد ، والعصيان كذلك في النّواهي ، بل لا تلزم أصلا حتّى نضطرّ إلى حلّها بوجوه دقيقة
علميّة غير مجدية ، مثل ما عن المحقّق الأصفهاني قدسسره من : «أنّ المنشأ ليس شخص الطّلب المتعلّق بعدم الطّبيعة كذلك ، بل سنخ الطّلب الّذي لازمه تعلّق كلّ فرد من الطّلب بفرد من طبيعة العدم عقلا ...» (١) ومثل ما عن المحقّق البروجردي قدسسره ، حيث قال ، ما حاصله : أنّ الأمر لمّا كان متعلّقا بالطّبيعة ، فيكون تمام المتعلّق له هو الطّبيعة فبتحقّق فرد منها يتحقّق تمام المطلوب ، فيسقط الأمر ، وأمّا النّهي فلمّا كان حقيقته الزّجر عن الوجود لا طلب التّرك ، يكون حكمه العقلائي هو دفع الطّبيعة والزّجر عنها بتمام حقيقتها. (٢)
(الفصل الثّاني : اجتماع الأمر والنّهي)
قد وقع النّزاع بين الأعلام في جواز اجتماع الأمر والنّهي في واحد وامتناعه ، ذهب بعضهم إلى الجواز مطلقا (٣) ، وبعض آخر إلى الامتناع كذلك (٤) ، وبعض آخر إلى التّفصيل ؛ فقال : بالجواز عقلا والامتناع عرفا. (٥)
قبل الورود في تحقيق المسألة وتبيين ما هو الحقّ فيها ، لا بدّ من تقديم امور :
الأوّل : أنّ الاصوليين جعلوا عنوان البحث في المقام هو «جواز اجتماع الأمر والنّهي في واحد وعدمه» واختاره ـ أيضا ـ بعض الأعاظم قدسسره (٦) مع أنّهم أرادوا
__________________
(١) نهاية الدّراية : ج ٢ ، ص ٨٣.
(٢) راجع ، نهاية الاصول : ص ٢٢٢.
(٣) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٣٣.
(٤) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٣٣.
(٥) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٣٣.
(٦) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٤ ، ص ١٦٤.
بكلمة : «الواحد» المأخوذة في هذا العنوان هو الواحد الشّخصي ـ على ما سيجيء تحقيقه في الأمر الثّاني ، وهذا من الغريب جدا ؛ إذ كيف يعقل أن يصير العمل الشّخصي المتحقّق في الخارج متعلّقا لأمر أو نهي فضلا عن يصير متعلقا لهما معا وموردا لاجتماعهما ؛ وذلك ، لأنّ الخارج إنّما هو ظرف سقوط التّكليف لا ثبوته ، ولذا غيّر الإمام الرّاحل قدسسره عنوان البحث وجعله هكذا : «هل يجوز اجتماع الأمر والنّهي على عنوانين متصادقين على واحد في الخارج ، أو لا؟» (١) وأنت ترى ، أنّ هذا التّغيير لا يخلو عن إشكال ، إذ تعبير الاجتماع لا يلائم مع عنوانين ، كيف ، وأنّه لا اجتماع أصلا مع تعلّق الأمر بعنوان ، كالصّلاة والنّهي بعنوان آخر كالغصب.
نعم ، قد يتصادق العنوانان على واحد شخصي ويجتمعان فيه ، ولكن هذا أجنبيّ عن اجتماع الأمر والنّهي ، ولعلّ التّعبير المذكور هنا يكون سهوا منه قدسسره ، كما يشهد له ما صرّح قدسسره به في الأمر الثّاني من قوله : «إذ البحث في المقام إنّما هو في جواز تعلّق الأمر والنّهي بعنوانين متصادقين على واحد» (٢).
وكيف كان ، فالحريّ ـ على ما أفاده المحقّق النّائيني قدسسره (٣) ـ أن يقال : إنّ النّزاع في المقام إنّما هو في جواز تعلّق الأمر والنّهي بعنوانين متصادقين على واحد في الخارج وعدمه.
الأمر الثّاني : أنّ المراد من كلمة : «الواحد» المأخوذة في عنوان النّزاع هو
__________________
(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٢٩٨.
(٢) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٢٩٨ ؛ وراجع ، مناهج الوصول : ج ١ ، ص ١٠٩.
(٣) راجع ، أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٣٣١.
الواحد الشّخصي ، لا الجنسي ولا النّوعي ، إذ هو ممّا يتصادق عليه العنوانان ، فيجيء فيه النّزاع ، وإلّا فالواحد الجنسي يمكن أن يصير مأمورا به باعتبار نوع ، ومنهيّا عنه باعتبار نوع آخر ، فجنس الحركة مأمور بها باعتبار نوع ، كالحركة في الصّلاة ، ومنهيّ عنها باعتبار نوع آخر ، كالحركة في الغصب ؛ وهكذا الواحد النّوعي ، فيؤمر به باعتبار صنف أو فرد ، وينهى عنه باعتبار صنف أو فرد آخر.
ومن هنا ظهر ، ضعف ما عن المحقّق الخراساني قدسسره من : «أنّ المراد بالواحد مطلق ما كان ذا وجهين ومندرجا تحت عنوانين بأحدهما كان موردا للأمر ، وبالآخر للنّهي وإن كان كليّا مقولا على كثيرين ، كالصّلاة في المغصوب ، وإنّما ذكر لإخراج ما إذا تعدّد متعلّق الأمر والنّهي ولم يجتمعا وجودا ولو جمعهما واحد مفهوما ، كالسّجود لله والسّجود للصّنم ـ مثلا ـ لا لإخراج الواحد الجنسي أو النّوعي ، كالحركة والسّكون الكلّيين المعنونين بالصّلاتيّة والغصبيّة». (١)
ثمّ إنّه لا يخفى : أنّ المراد من الواحد الشّخصي هو الواحد ذو الوجهين المندرج تحت عنوانين ، فيقع فيه النّزاع من حيث الجواز والامتناع ، بخلاف الواحد الّذي له وجه واحد ، فإنّه خارج عن حريم النّزاع ، كما هو واضح.
الأمر الثّالث : أنّ الحقّ هو كون النّزاع في المقام كبرويّا ، بمعني : أنّ النّزاع إنّما هو في جواز تعلّق الأمر والنّهي بعنوانين متصادقين على واحد وامتناعه ، لا في أنّ تعدّد العنوان والوجه ، هل يجدي ويوجب تعدّد المعنون ، أو لا؟ ولا في أنّ كلّ واحد من الأمر والنّهي ، هل يسري إلى الآخر ، أو لا؟ حتّى يصير نزاعا صغرويّا ؛ ضرورة ،
__________________
(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٣٣ و ٢٣٤.
أنّ مثل ذلك داخل في المبادي التّصديقيّة لمسألة الجواز والامتناع ، وأنّه يكون من براهين إثبات ما ذكر من المحمول ـ وهو الجواز أو الامتناع ـ لما ذكر من الموضوع ـ وهو تعلّق الأمر والنّهي بعنوانين ـ حيث إنّ الجواز مبتن على كون تعدّد العنوان مجديا ، أو على عدم السّراية وإنّ الامتناع مبتن على خلافه.
وعليه : فما عن المحقّق الخراساني قدسسره من أنّ الجهة المبحوثة عنها في المسألة هي أنّ تعدّد الوجه والعنوان في الواحد ، هل يوجب تعدّد متعلّق الأمر والنّهي أو لا يوجبه ، فالنّزاع في سراية كلّ من الأمر والنّهي إلى متعلّق الآخر وعدم سرايته (١) ، خلط بين المسألة ومباديها التّصديقيّة.
وكذلك ما عن بعض الأعاظم قدسسره من أنّه لا يعقل أن يكون النّزاع كبرويّا ، بل النّزاع إنّما هو في الصّغرى ، بمعنى : أنّه يقع الكلام في أنّ النّهي المتعلّق بطبيعة الغصب ، هل يسري منها إلى ما تنطبق عليه طبيعة الصّلاة المأمور بها ، أم لا (٢)؟
أضف إلى ذلك ، أنّ سراية النّهي إلى ما ينطبق عليه طبيعة الصّلاة في الخارج وبالعكس ، معناها : هو كون الخارج متعلّقا للأمر والنّهي ، وقد أشرنا مرارا ، إلى أنّ الخارج هو ظرف سقوط التّكليف لا ثبوته.
(تمايز المسألة عن مسألة النّهي في العبادات)
الأمر الرّابع : أنّ هذه المسألة متمايزة عن مسألة النّهي في العبادات ـ كما
__________________
(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٣٤.
(٢) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٤ ، ص ١٦٤ و ١٦٥.
سيأتي ـ تمايزا ماهويّا ، حيث إنّ الموضوع هنا ـ كما عرفت ـ عبارة عن تعلّق الأمر والنّهي بعنوانين ، والمحمول عبارة عن الجواز والامتناع.
غاية الأمر : هذا المحمول ثابت للموضوع ببرهان ومبدأ تصديقيّ خاصّ وهو السّراية واتّحاد الجمع أو عدمها وتعدّد الجمع وغير ذلك ، ولكن الموضوع هناك هو النّهي في العبادة ، والمحمول هو الإفساد وعدمه ، غاية الأمر : له ـ أيضا ـ برهان خاصّ ومبدأ تصديقي آخر غير ما في هذه المسألة.
وبالجملة : ليس الفرق بين المسألتين من جهة أنّ النّزاع في إحداهما صغرويّ ، وفي الاخرى كبرويّ ، كما عن بعض الأعاظم قدسسره (١) ؛ ضرورة ، أنّ النّزاع في كلتا المسألتين كبرويّ ، بل الفرق بينهما ماهويّ ، كما عرفت آنفا.
وقد ذكروا ـ أيضا ـ وجوها آخر للفرق بين المسألتين ، لا بأس بالإشارة إليها.
منها : ما عن صاحب الفصول قدسسره حاصله : أنّ المسألتين تتمايزان في المتعلّق ، حيث إنّ الأمر والنّهي في المسألة الحاضرة يتعلّقان بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة ، كالصّلاة والغصب ، بخلاف المسألة الآتية ، فإنّهما يتعلّقان فيها بأمرين متّحدين حقيقتا ، متمايزين بمجرّد الإطلاق والتّقييد ، كقوله : «صلّ ولا تصلّ في الدّار المغصوبة» وقد يعبّر عن هذا التّمايز بالتّمايز في الموضوع ، أو التّمايز من جهة المورد.
ومنها : أنّ تمايز المسألتين إنّما هو في المحمول ، بتقريب : أنّ المحمول في المسألة الحاضرة هو الجواز أو الامتناع عقلا ، فتصير المسألة اصوليّة عقليّة ، بخلاف المحمول في المسألة الآتية ، فإنّه عبارة عن دلالة النّهي على الفساد ، فتكون المسألة اصوليّة لفظيّة.
__________________
(١) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٤ ، ص ١٦٤ و ١٦٥.