مفتاح الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

وجه التّأييد هو أنّه إذا صحّ الإحرام والصّوم بالنّذر مع القطع ببطلانهما بدونه (١) ، فالصّحّة في المثال المتقدّم تكون بطريق أولى ، للشّكّ في البطلان بدون النّذر ، لا القطع به كما في الإحرام والصّيام.

هذا ، ولكنّ الحقّ كما عرفت ، هو عدم جواز التّمسّك بالعامّ في مثل المقام ، وعليه ، فلا بدّ من التّكلّم هنا في موردين : الأوّل : في صحّة النّذر وفساده ؛ الثّاني :

في وجه صحّة الصّيام في السّفر ، وصحّة الإحرام قبل الميقات.

أمّا الأوّل ، فالحقّ فساد النّذر وعدم جواز التّمسّك بعموم (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ)(٢) لتصحيح متعلّقة في الفرض ؛ توضيح ذلك ، أنّ الحكم الشّرعيّ على قسمين :

أحدهما : الثّابت لموضوعه بعنوانه الأوّلي الذّاتي النّفسي ، نظير إباحة كثير من الأشياء ، كالحنطة والشّعير والماء ؛ ثانيهما : الثّابت له بعنوانه الثّانوي ، وهذا ، تارة يكون مشروطا بثبوت حكم خاصّ للموضوع بعنوانه الأوّلى ، بحيث لو لا ذلك ، لما ثبت له هذا الحكم بعنوانه الثّانوي ، كالصّوم والحجّ المندوبين ، وكصلاة اللّيل ، والتّصدّق على الفقراء ونحوها من الامور الرّاجحة المندوبة بعناوينها الأوّليّة ، والواجبة بعناوينها الثّانوية ، كالنّذر ونحوه ، ومن هنا خرج مثل صوم العيدين الّذي يكون محرّما ، فلا يصير واجبا بتعلّق النّذر.

__________________

(١) قال المحقّق الشّيخ عبد الحسين الرّشتي قدس‌سره : «وذكر الفقهاء في كتاب النّذر ، صحّة نذر صلاة ركعة وإن لم تكن وترا ، أو ثلاثة وإن لم تكن مغربا ... معلّلين بوجوب الوفاء بالنّذر ، مع تصريحهم أوّلا بوجوب كون المنذور في نفسه طاعة» ، شرح كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣١٦.

(٢) سورة الانسان (٧٦) : الآية ٧.

٢٦١

واخرى لا يكون مشروطا كذلك ، بل يكون الحكم ثابتا للموضوع بعنوانه الثّانوي من دون اشتراط ثبوت حكم خاصّ له بعنوانه الأوّلي ، نظير حرمة الغنم الموطوءة ، فإنّ هذا الحكم ثابت لها بطروّ هذا العنوان الثّانوي ، بلا اعتبار ثبوت حكم خاصّ ، كالإباحة لها بعنوانها الأوّلي.

إذا عرفت ذلك ، فقد تبيّن لك ، أنّ صحّة النّذر ونفوذه مشروطة برجحان متعلّقه ؛ ضرورة ، أنّ ما كان «لله تعالى» لا بدّ وأن يكون كذلك حتّى يتقرّب به إليه تعالى ، فلا يصح تعلّقه بالمباح ، فضلا عن المرجوح ، وعليه ، فلا مجال للتّمسّك بعموم النّذر لو شكّ في رجحان متعلّقه ، كما في مثال الوضوء والغسل ؛ لكونه تمسّكا به في شبهته المصداقيّة ، وهو غير جائز.

وبالجملة : قد ثبت في محلّه ، أنّ دليل الحكم لا يثبت موضوعه ، وأنّ الكبرى لا تتكفّل لإحراز الصّغرى ، وعليه ، فلا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل بالمضاف من ناحية عموم وجوب الوفاء بالنّذر.

نعم ، لا مانع من التّمسّك بالعموم ، والحكم بجواز الشّيء المشكوك جوازه فيما إذا كان من قبيل القسم الأخير وهو الّذي لم يؤخذ حكم خاصّ بعناوينها الأوّليّة في موضوعات الأحكام الثّانويّة ؛ ولذا لو فرض عدم أخذ الرّجحان والإباحة في موضوع النّذر ، فلا مانع من التّمسّك بعموم وجوب الوفاء بالنّذر لنفي اعتبار الرّجحان فيما إذا شكّ في اعتباره فيه ، ونتيجة ذلك : هو الحكم بصحّة الوضوء والغسل في المثال المتقدّم ، تمسّكا بعموم الوفاء بالنّذر.

وبعبارة اخرى : كما أنّه يجوز التّمسّك بعموم مثل : «أكرم العلماء» لنفي العدالة

٢٦٢

عند الشّكّ في اعتبارها في وجوب إكرام العالم ، كذلك يجوز التّمسّك بعموم النّذر لنفي الرّجحان وإثبات جواز المنذور عند الشّكّ في اعتباره فيه ، والوجه فيه ، هو أنّ الشّكّ حينئذ يكون شكّا في التّخصيص ، لا من جهة اخرى ، كما لا يخفى.

وأمّا المورد الثّاني (صحّة الإحرام قبل الميقات والصّيام في السّفر) فالحقّ عدم ثبوت الصّحّة بعموم النّذر ، بل تدلّ على الصّحّة روايات خاصّة ، كصحيح الحلبي ، سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : «عن رجل جعل لله عليه شكرا أن يحرم من الكوفة ، قال عليه‌السلام : فليحرم من الكوفة ، وليف لله تعالى بما قال». (١)

وكصحيح عليّ بن مهزيار ، قال : «كتب بندار بن محمد مولى إدريس ، يا سيّديّ! نذرت أن أصوم كلّ يوم سبت ، فإن أنا لم أصمه ، ما يلزمني من الكفارة؟ فكتب عليه‌السلام وقرأته ، لا تتركه إلّا من علّة ، وليس عليك صومه في سفر ولا مرض ، إلّا أن تكون نويت ذلك ، وإن كنت أفطرت منه من غير علّة ، فتصدّق بقدر كلّ يوم على سبعة مساكين ، نسأل الله التّوفيق لما يحبّ ويرضى». (٢)

وعليه : فلا بدّ في هذين الموردين ، إمّا من الالتزام بأنّ هذه الرّوايات مخصّصة لأدلّة اشتراط النّذر برجحان متعلّقه ، أو من الالتزام بكفاية الرّجحان النّاشي من ناحية النّذر حين العمل ، كما عن السّيّد اليزدي قدس‌سره. (٣)

والإشكال على كفاية هذه الرّجحان ، بأنّ لازم ذلك هو إمكان تصحيح

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ٨ ، الباب ١٣ من أبواب المواقيت ، الحديث ١ ، ص ٢٣٦.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ٧ ، الباب ١٠ من أبواب من يصحّ منه الصّوم ، الحديث ١ ، ص ١٣٩.

(٣) العروة الوثقى : ج ٤ ، فصل في احكام المواقيت ، مسألة ١ ، ص ٦٤٣.

٢٦٣

النّذر في المحرّمات فضلا عن المكروهات موهون جدّا ؛ إذ الرّجحان النّاشي من النّذر في مثل المقام إنّما هو لأجل ورود الدّليل عليه ، بمعنى : أنّه يستكشف من دلالة النّص على جواز الإحرام قبل الميقات والصّوم في السّفر ، كفاية رجحانهما حين العمل بسبب النّذر ، وهذا بخلاف سائر المحرّمات أو المكروهات ، فلا يكتفى برجحانها النّاشي من النّذر ؛ إذ إطلاق أدلّتها أو عمومها يشمل ما بعد النّذر ـ أيضا ـ ولا يمكن تقييده أو تخصيصه بدليل وجوب الوفاء بالنّذر ، وإلّا لأمكن تحليل المحرّمات فعلا ، والواجبات تركا بالنّذر وشبهه ، وهذا كما ترى.

والسّر في عدم إمكان التّقييد ظاهر ؛ ضرورة ، عدم تكفّل دليل النّذر لبيان أنّ متعلّقه يكون راجحا ، بل لا بدّ من إحراز ذلك من الخارج.

وبالجملة : قد يكون تعلّق النّذر بشيء ملازما لانطباق عنوان راجح عليه ، فيصحّ النّذر ـ أيضا ـ إذ المعتبر في صحّة النّذر هو الرّجحان ولو كان مقارنا له ، ولكن إحراز ذلك يحتاج إلى قيام الدّليل عليه ، وإلّا يلزم أن يكون دليل النّذر سببا لحدوث الرّجحان في متعلّقه وهو مستلزم لانقلاب الواقع بأن يصير الحرام حلالا ، وهذا ممّا لا ينبغي أن يتفوّه به ، فهل يمكن أن يقال : بحلّيّة شرب الخمر أو بجواز ترك الفريضة بالنّذر وشبهه؟!

وقد علمت : أنّه ورد الدّليل على كفاية الرّجحان بالنّذر في خصوص موردين المذكورين ، فلا يتعدّى إلى سائر الموارد. ومن هنا ظهر ، أنّه لا مجال لإشكال كون أمر النّذر توصّليّا ، لا يعتبر في سقوطه إلّا الإتيان بالمنذور بأيّ داع كان ، فافهم وتأمّل.

الأمر السّابع : إذا دار الأمر بين التّخصيص والتّخصّص ، فهل يمكن الرّجوع

٢٦٤

إلى أصالة عدم التّخصيص لتعيين التّخصص وترجيحه ، أم لا؟

قبل الورود في تحقيق المقام ، وبيان الأقوال ، وما يستدلّ به على المرام ، لا بأس بالإشارة هنا إلى المثال العرفيّ والفقهيّ.

أمّا المثال العرفيّ ، فهو نظير ما إذا علم عدم وجوب «إكرام زيد» مثلا ، أو حرمة إكرامه وشكّ في أن ذلك ، هل يكون لأجل خروجه عن حكم العامّ وهو قولنا : «أكرم كلّ عالم» بعد كونه داخلا تحته موضوعا كي يلزم التّخصيص ، أو لأجل خروجه عن موضوع العامّ بأن لا يكون عالما كي يلزم التّخصّص؟

أمّا المثال الفقهيّ ، فهو نظير الملاقي لماء الاستنجاء ، حيث حكم بعدم نجاسته وعدم تأثير ماء الاستنجاء فيه ، فإن كان ماء الاستنجاء نجسا ، فالملاقي له خارج عن عموم أدلّة انفعال الملاقي للماء النّجس خروجا حكميّا تخصيصيّا ، فيقال : كلّ ملاق للنّجس نجس إلّا الملاقي لماء الاستنجاء ، أو يقال : كلّ نجس منجّس ، إلّا ماء الاستنجاء ؛ وإن كان طاهرا ، فملاقي له خارج عنه خروجا موضوعيّا تخصّصيّا.

إذا عرفت هاتين المثالين ، فاعلم ، أنّ المسألة ذات قولين :

أحدهما : القول بإحراز التّخصّص وترجيحه ، تمسّكا بأصالة عدم التّخصيص.

ثانيهما : القول بعدم إحرازه من ناحية الأصل المذكور وهو الحقّ.

أمّا القول الأوّل : فيكشف منه في المثال العرفيّ المتقدّم ، عدم فرديّة «زيد» للعامّ وعدم كونه عالما ؛ وفي المثال الفقهيّ عدم فرديّة ماء الاستنجاء وعدم كونه من أفراد النّجس ، أو عدم فرديّة ملاقيه للعامّ وهو «كلّ ملاق للنّجس نجس».

٢٦٥

وقد استدلّ الشّيخ الأنصاري قدس‌سره (١) للقول الأوّل ـ كما هو ظاهر كلامه قدس‌سره ـ بعموم كلّ نجس منجّس ، وأنّ ماء الاستنجاء حيث لا يكون منجّسا فليس بنجس ، وإلّا لزم التّخصيص ـ بأن يقال : كلّ نجس منجّس إلّا ماء الاستنجاء فهو نجس غير منجّس ـ والأصل عدم التّخصيص في جانب العامّ فيثبت التّخصّص ، ومقتضاه طهارة ماء الاستنجاء ، ومن المبرهن في محلّه ، أنّ مثبتات الاصول اللّفظيّة حجّة ، فلا مانع من إثبات لوازمه العقليّة والعاديّة كالشّرعيّة.

أمّا القول الثّاني (عدم إحراز التّخصّص بأصالة عدم التّخصيص) فالوجه فيه هو أنّه لا دليل على حجّيّة أصالة عدم التّخصيص إلّا السّيرة وبناء العقلاء وهو من الأدلّة اللّبيّة ، لا عموم ولا إطلاق لها حتّى يؤخذ به في مثل المقام ، فلا بدّ حينئذ من الاقتصار على القدر المتيقّن وهو ليس إلّا فيما احرز الفرديّة للعامّ موضوعا وشكّ في الخروج منه حكما ، فيتمسّك للعموم لإدراج الفرد المشكوك تحته حكما.

وأمّا العكس بأن احرز خروج الفرد المشكوك من جهة الحكم وشكّ في فرديّته للعامّ وعدمها ، فلا يحرز بناء العقلاء في هذا الفرض على العمل بالعموم وأصالة عدم تخصيص العامّ ، كى يثبت التّخصّص.

فإن شئت ، فقل : إنّ أصالة العموم أو عدم التّخصيص حجّة عند الشّكّ في تخصيص فرد وخروجه عن حكم العامّ بعد إحراز كونه من أفراده موضوعا ، وأمّا إذا احرز خروج فرد عن العامّ حكما ، ولكن شكّ في وجه خروجه بأنّه هل يكون تخصيصا أو تخصّصا؟ فليست حجّيّة أصالة العموم حينئذ بمحرزة ، فلا يجوز التّمسّك

__________________

(١) مطارح الأنظار : ص ١٩٦ ، س ١٥.

٢٦٦

بها ؛ وذلك ، لما تقرّر في محلّه ، أنّ هذا الأصل إنّما هو من الاصول المراديّة ، لا يجري إلّا مع الشّكّ في المراد ، فيتعيّن بإجراء الأصل ، وأمّا مع العلم بالمراد والشّكّ في كيفيّة الإرادة وأنّها هل تكون بنحو التّخصيص أو التّخصيص؟ فلا مجال لجريانه في تعيين كيفيّة الإرادة ، وكم له من نظير.

الأمر الثّامن : لو اشتبه الفرد المعلوم خروجه عن حكم العامّ بين الفرد الخارج عنه موضوعا ؛ وبين الفرد الخارج عنه حكما ، فلا مانع من التّمسّك بأصالة العموم لإثبات الخروج الموضوعي ، نظير ما إذا تردّد «زيد» في قولنا : «أكرم كلّ عالم ولا تكرم زيدا» بين «زيد العالم» وهو الخارج عن العامّ حكما ، وبين «زيد الجاهل» وهو الخارج عنه موضوعا ، فيتمسّك هنا بأصالة العموم بالنّسبة إلى «زيد العالم» لإحراز الفرديّة ، وكون الشّكّ في الخروج من حيث الحكم لا الموضوع ، ونتيجة ذلك : هو التّخصّص وأنّ الخارج عن الحكم هو «زيد الجاهل» فيحرم إكرامه ، لا إكرام «زيد العالم» وذلك ، لما اشير آنفا من حجّيّة مثبتات الاصول اللّفظيّة.

ولقد أجاد الإمام الرّاحل قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «إنّ المجمل المردّد ليس بحجّة بالنّسبة إلى العالم ، ولكنّ العامّ حجّة بلا دافع ، فحينئذ لو كان الخاصّ حكما إلزاميّا كحرمة الإكرام ، يمكن حلّ إجماله بأصالة العموم ، لأنّها حاكمة على أنّ «زيد العالم» يجب إكرامه ، ولازمه عدم حرمة إكرامه ، ولازم ذلك اللّازم حرمة إكرام «زيد الجاهل» بناء على حجّيّة مثبتات الاصول اللّفظيّة». (١)

ثمّ إنّ السّيّد البروجردي قدس‌سره قد فصّل في المقام ، بين ما إذا كان حكم الخاصّ

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٣٤ و ٣٥.

٢٦٧

ترخيصيّا ، فيجب العمل بعموم العامّ ؛ لأنّ العامّ حجّة ما لم ينهض في قباله حجّة أقوى ، والمفروض ، أنّ الفرد المرخّص فيه ، مجمل مردّد ، فلا حجّة في البين قبال العامّ.

وبين ما إذا كان إلزاميّا ، فيقع الإشكال حينئذ من جهتين : الاولى : هل يجب إجراء حكم العامّ على «زيد العالم» أو يكون العلم الإجمالي بحرمة إكرام الفرد المردّد موجبا لإجمال العامّ ـ أيضا ـ؟ الثّانية : هل ينحلّ العلم الإجماليّ بسبب عموم العامّ ويحكم بوجوب إكرام «زيد العالم» وحرمة إكرام «زيد الجاهل» أو لا ينحلّ؟

ثمّ قال قدس‌سره ـ بعد طرح هذا الإشكال ـ يمكن أن يقال : بحجّيّة العامّ في الفرد العالم ؛ لعدم وجود حجّة أقوى على خلافه ، هذا بالنّسبة إلى الجهة الاولى.

وأمّا بالنّسبة إلى الجهة الثّانية ففي جواز الحكم بانحلال العلم الإجماليّ نظر ، لما عرفت : من أنّ الثّابت من بناء العقلاء إنّما هو الحكم بتطابق الإرادتين فيما ثبت فيه الإرادة الاستعماليّة ، وأمّا تكفّله لنفي فرديّة شيء ، أو إثبات حكم آخر ، فليس ثابتا عند العقلاء. (١)

وفيه : أنّه لا فرق بين الحكم التّرخيصيّ والإلزاميّ ؛ إذ الحكم الخاصّ لو كان إلزاميّا كحرمة الإكرام ، يمكن حلّ إجماله ـ كما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره ـ بأصالة العموم ، لكونها حاكمة بوجوب إكرام «زيد العالم» ولازمه عدم حرمة إكرامه ، ولا ريب : في أنّ مقتضى هذا اللّازم حرمة إكرام «زيد الجاهل» لما عرفت : من أنّ الاصول اللّفظيّة تكون من الأمارات وأنّ مثبتاتها حجّة بلا إشكال ، فتطابق الإرادتين (الاستعماليّة والجدّيّة) في «زيد العالم» بمقتضى بناء العقلاء ، يستدعي وجوب إكرامه ، ولازمه عدم

__________________

(١) راجع ، نهاية الاصول : ص ٣٠٩.

٢٦٨

حرمة إكرامه ، وحيث إنّ المفروض هو العلم الإجماليّ بحرمة إكرام «زيد» المردّد بين العالم والجاهل ، فيعلم حرمة إكرام «زيد الجاهل» ، ونتيجته انحلال العلم الإجمالى قهرا إلى علمين تفصيليّين : أحدهما : العلم بوجوب إكرام زيد العالم ؛ ثانيهما : العلم بحرمة إكرام زيد الجاهل.

الأمر التّاسع : إذا اختلف في اليد بين كونها أمانيّة أو عدوانيّة ، فالمشهور على تقديم قول من يدّعي العدوان ، إلّا أن تقام البيّنة من ناحية من يدّعي الأمانة.

وفيه : أنّ هذه الفتوى منهم مخالف للقاعدة ؛ إذ الأصل يقتضي عدم الضّمان ، كما هو واضح.

والقول بأنّ مستند فتواهم هو عموم قوله عليه‌السلام «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (١) فإنّ مقتضاه حمل اليد في فرض التّردّد على العدوان ، فيثبت الضّمان ، مردود ؛ بأنّ هذا العموم قد خصّص بدليل منفصل بالنّسبة إلى اليد الأمانيّة ، فإذا شكّ في كونها أمانيّة أو عدوانيّة ، لا يجوز التّمسّك به ، لكونها تمسّكا بالعامّ في الشّبهة المصداقيّة لمخصّصه المنفصل ، ولعلّ مستند فتواهم أمر آخر ، كالرّوايات ، وتحقيق الأمر موكول إلى محلّه. هذا تمام الكلام في الفصل الأوّل.

(الفصل الثّاني : العمل بالعامّ قبل الفحص)

قد وقع النّزاع بين الأعلام في أنّه ، هل يجوز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص ، أم لا؟ هنا أقوال :

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ج ١٤ ، كتاب الوديعة ، الباب ١ ، الحديث ١٢ ، ص ٨.

٢٦٩

قبل الورود في بيان الأقوال في المسألة ، وتعيين ما هو الحقّ المختار فيها ، لا بدّ من تحرير محلّ النّزاع.

فنقول : لا إشكال ولا نزاع في عدم لزوم الفحص عن المخصّص المتّصل ، بل يعمل بالعامّ من غير فحص عنه ؛ إذ احتمال أنّ هذا المخصّص كان ولم يصل إلينا ممّا لا يعتني به العقلاء ، سواء كان لأجل احتمال إسقاطه عمدا ، أو إسقاطه سهوا ونسيانا ؛ ضرورة ، أنّ الإسقاط العمدي ممنوع عند العقلاء بوثاقة الرّاوي ، كما أنّ احتمال الإسقاط السّهوي أو النّسياني ـ أيضا ـ ممنوع عندهم بأصالة عدمهما.

ولقد أجاد المحقّق الخراساني قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «ثمّ إنّ الظّاهر عدم لزوم الفحص عن المخصّص المتّصل باحتمال أنّه كان ولم يصل ، بل حاله حال احتمال قرينة المجاز ، وقد اتّفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به مطلقا ولو قبل الفحص عنها ، كما لا يخفى». (١)

وعليه : فالنّزاع في المقام منحصر بالمخصّص المنفصل بلا فرق بين أن يقال : ـ في عنوان المسألة ـ هل يجوز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص؟ أو يقال : ـ كما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره ـ هل يكون أصالة العموم متّبعة مطلقا ، أو بعد الفحص عن المخصّص؟

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قدس‌سره قد ضمّ بعض الامور إلى محلّ النّزاع ؛ منها : اعتبار أصالة العموم وحجّيّتها بالخصوص من باب الظّن النّوعي ، لا الظّن الشّخصي ؛ إذ لو كان المناط في حجّيّة الظّواهر هو الظّن الشّخصي ، لكان النّزاع في وجوب الفحص

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٥٣ و ٣٥٤.

٢٧٠

وعدمه لغوا ، حيث إنّه لو حصل الظّن الشّخصيّ لتمت الحجّيّة ، سواء كان حصوله قبل الفحص أو بعده. ومنها : اعتبار حجيّتها للمشافه وغيره ، والوجه فيه ، أنّه لو فرض اعتبارها لخصوص المشافه لوجب الفحص على غيره بلا كلام ونزاع ؛ إذ يحتاج تعميم الخطابات لغير المشافه إلى قانون الاشتراك ، وإجراء هذا القانون يتوقّف على تعيين حكم المشافه من تلك الخطابات بأنّه عامّ أو خاصّ ، وأنت ترى ، أنّ هذا التّعيين متوقّف على الفحص. ومنها : اعتبار أنّ العامّ لم يكن من أطراف ما علم تخصيصه إجمالا ؛ وذلك ، لأنّه لو كان كذلك لوجب الفحص بلا منازعة ، كما يجب فيما إذا علم تخصيصه تفصيلا. (١)

والحقّ أنّ هذه الضّمائم ممّا لا إشكال فيها إلّا الأخير ، حيث إنّه يشكل عليه بأنّ ظاهر تمسّكهم بالعلم الإجماليّ لإثبات وجوب الفحص ، يستدعي أنّ النّزاع يجري ـ أيضا ـ فيما إذا كان العامّ من أطراف العلم الإجمالي بورود التّخصيص عليه ، فلا مجال لحصر النّزاع بما إذا لم يكن العامّ كذلك.

إذا عرفت محلّ النّزاع ، فاعلم ، أنّ الأقوال في المسألة ثلاثة :

أحدها : جواز التّمسّك بالعامّ قبل الفحص مطلقا ، وهذا ما نسب إلى جماعة من العامّة (٢) وحكي ذلك ـ أيضا ـ عن ظاهر التّهذيب وتبعه عدّة من الاعلام (٣).

ثانيها : عدم جواز التّمسّك به قبله مطلقا.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٥٢.

(٢) راجع ، نهاية الاصول : ص ٣١١.

(٣) راجع ، مطارح الأنظار : ص ١٩٧ ، س ٣٠.

٢٧١

ثالثها : التّفصيل بين العامّ الّذي يكون في معرض التّخصيص ـ كما هو الحال في عمومات الكتاب والسّنّة ـ فلا يجوز التّمسّك به قبل الفحص ، بين ما لا يكون كذلك ؛ فيجوز التّمسّك به قبله ، وهذا ما اختاره المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) وهو الحقّ المختار.

والحريّ هنا ، أن نكتفي بالبحث عمّا اخترناه من القول الثّالث ، خوفا عن الإطالة ، مع أنّه لا حاجة إلى تعرّض سائر الأقوال ونقدها.

فنقول : إنّ أقوى ما دلّ على هذا القول ، هو الّذي أشار إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره بقوله : «إنّه لو لا القطع باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل به قبله ، فلا أقلّ من الشّكّ ، كيف ، وقد ادّعي الإجماع على عدم جوازه ، فضلا عن نفي الخلاف عنه وهو كاف في عدم الجواز». (٢)

توضيح ذلك : أنّ حجيّة الظّهور وصحّة الاحتجاج به إنّما تتوقّف على أصل عقلائيّ وهو أصالة الجدّ وتطابق الإرادتين (الاستعماليّة والجدّيّة) ولذا لا يصحّ الاحتجاج بمجرّد ظهور كلام من كان دأبه وعادته الهزل ، ولا ريب : أنّه مع كون العامّ في معرض التّخصيص حسب عادة المتكلّم ، لا يكون الجدّ وتطابق الإرادتين بمحرز ، فلا يصحّ التّمسّك بظهوره إلّا بعد الفحص عن المخصّص وعدم العثور عليه ؛ إذ ليس لحجّيّة الظّهورات مستند إلّا بناء العقلاء وقيام السّيرة ، ولا بناء منهم ولا سيرة لهم على حجيّة ظهور العامّ مع معرضيّته للتّخصيص قبل الفحص ، ولا أقلّ من الشّكّ ، وهو يكفي في الحكم بعدم جواز العمل بالعامّ قبله ؛ ضرورة ، أنّ الشّكّ في الحجيّة

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٥٣.

(٢) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٥٣.

٢٧٢

وصيرورة الشّيء مشكوك الحجيّة ، بالشّكّ في استقرار السّيرة وبناء العقلاء ، مساوق للقطع بعدم الحجيّة وصيرورة الشّيء مقطوعا عدم حجيّة ، فتأمّل جيّدا.

ولقد أجاد الإمام الرّاحل فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «إنّ قوانينه (الشّارع) الكليّة مذكورة في الكتاب والسّنّة ، منفصلة عن مخصّصاتها ومقيّداتها وتكون تلك الأحكام المدوّنة فيهما في معرض التّخصيص والتّقييد ، كما هو الحال في القوانين السّياسيّة والمدنيّة عند العقلاء ، وما هذا حاله ، لا يمكن التّمسّك فيها بالاصول بمجرّد العثور على عمومات أو مطلقات من غير فحص ، لما تقدّم من أنّ مجرّد ظهور الكلام وإجراء أصالة الحقيقة وعدم القرينة ، لا يفيد شيئا حتّى يحرز أنّ الإرادة الاستعماليّة مطابقة للإرادة الجديّة». (١)

كما أجاد شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره حيث قال : إنّ وجه الحجّيّة هو قيام السّيرة على اتّباع العامّ لأجل كشفه نوعا عن إرادته له ، وعلى تقدير المعرضيّة لورود المخصّص كالأخبار المرويّة عنهم عليهم‌السلام لا بناء ولا سيرة من العقلاء على الاتّباع ، فلا مجال حينئذ للحجيّة لعدم استقرار ذلك الظّهور الكاشف عن الإرادة الجدّيّة. (٢)

ثمّ إنّ في المقام استدلالا آخر على وجوب الفحص ، وهو وجود العلم الإجماليّ بورود مخصّصات كثيرة ، أو بورود قرائن كثيرة على خلاف ظواهر الكتاب والسّنّة ، ومقتضى هذا العلم عدم جواز العمل بظواهرهما إلّا بعد الفحص وعدم العثور على المخصّصات أو القرائن المخالفتين لتلك الظّواهر ، وبهذا الوجه ـ أيضا ـ يقال : بعدم

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٣٧.

(٢) راجع ، منتهى الأفكار : ج ٢ ، ص ٢٧٧ و ٢٧٨.

٢٧٣

جواز الرّجوع إلى أصل عمليّ قبل الفحص عن الحجّة ، حيث يعلم إجمالا بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الشّريعة المقدّسة.

هذا ، ولكن قد اورد على هذا الاستدلال ، بأنّ سند الفحص لو كان هو العلم الإجماليّ ، لوجب الفحص عن كلّ كتاب يحتمل أن يكون فيه مخصّص ، سواء كان من الكتب المعتمدة أم غيرها ، وإلّا لم ينحلّ العلم الإجماليّ ولو بالغ في الفحص.

وواضح ، أنّ الفحص عن كلّ كتاب خارج عن الطّاقة ، فلا مناص حينئذ من أن يقال : بوجوب الفحص من طريق آخر غير هذه الطّريقة.

وفيه : أنّ هذا الإيراد إنّما يتمّ فيما إذا فرض هناك علم اجمالي واحد ، وأمّا إذا فرض علمان إجماليّان ، أحدهما : الصّغير ، وثانيهما : الكبير ، بحيث ينحلّ الثّاني بالأوّل ، فلا يلزم ما ذكر من محذور الخروج عن الطّاقة.

والحقّ أنّ في المقام ثبوت هذين العلمين ؛ إذ يعلم إجمالا بوجود مخصّصات في ضمن الأخبار الصّادرة عن المعصومين عليهم‌السلام وهذا علم إجماليّ كبير ، وكذا يعلم إجمالا بوجود المخصّصات في ضمن الأخبار المضبوطة في الكتب المعتمدة ، كالكتب الأربعة وفي الأبواب المناسبة للمسألة ، وهذا علم إجمالى صغير ، وحيث إنّه يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال الأوّل على الثّاني ، ينحلّ الأوّل بالثّاني.

ونتيجته ، أنّه لا علم إجمالا بوجود مخصّصات إلّا في دائرة الكتب المعتمدة ، وليس في الزّائد عن هذه الدّائرة إلّا مجرّد احتمال وجودها وهو لا أثر له.

وأنت ترى ، أنّ الفحص في هذا المقدار ممّا لا يوجب العسر والحرج ، ولا يكون خارجا عن الطّاقة ، نظير ما إذا فرض علمان إجماليّان في «مائة غنم» أحدهما :

٢٧٤

الكبير وهو العلم الإجمالي بحرمة عشرة أغنام في ضمن المائة ؛ ثانيهما : الصّغير وهو العلم الإجمالي بحرمة «العشرة» في ضمن الخمسين ـ مثلا ـ ثمّ احتمل انطباق «العشرة» في ضمن «المائة» على العشرة في ضمن الخمسين ، فلا ريب ، في أنّ هنا ينحلّ العلم الإجماليّ الأوّل بالعلم الإجمالي الثّاني ، ومعنى ذلك ، أنّه لا علم بالحرمة الخارجة عن دائرة العلم الإجماليّ الثّاني ، فلا يجب الاجتناب إلّا عن أطراف هذا العلم دون الزّائد عنها.

ثمّ إنّه يرد على الاستدلال بالعلم الإجماليّ بوجوب الفحص ، إشكال آخر وهو أنّه لو كان وجه وجوب الفحص هو العلم الإجماليّ ، لزم أن لا يجب الفحص بعد انحلاله بالظّفر بالمقدار المعلوم بالإجمال ، فيلزم عدم المنع حينئذ عن التّمسّك بالعموم قبل الفحص عن مخصّصه ، مع أنّهم قائلون بوجوب الفحص عند كلّ شبهة مطلقا حتّى بعد انحلال العلم الإجماليّ ، فيعلم من ذلك ، أنّ الوجه في وجوب الفحص منحصر بما أشرنا إليه من أنّ العامّ حيث كان في معرض التّخصيص حسب ما هو عادة المتكلّمين ، فلا يمكن إحراز تطابق الإرادة الاستعماليّة على الإرادة الجدّيّة.

اللهمّ إلّا أن يرجع المعرضيّة إلى العلم الإجماليّ ، وكان المراد منه هو العلم بمخصّصات كثيرة ، لا مطلقا ، بل على نحو لو تفحّصنا عنها بالمقدار المتعارف فيما أيدينا من الكتب لظفرنا بها ، كما عن المحقّق العراقي قدس‌سره. (١)

وقد اجيب عن هذا الإشكال بما لا طائل تحته ، نقلا ونقدا بعد تحقيق المسألة وبيان ما هو الحقّ في وجه الفحص من المعرضيّة.

__________________

(١) راجع ، نهاية الأفكار : ج ١ ، ص ٥٣٠.

٢٧٥

بقى هنا أمران :

الأوّل : أنّ مقدار الفحص يختلف باختلاف المباني الّتي ذكر في وجه وجوبه ، فبناء على اخترناه من أنّ وجهه هو المعرضيّة ، يجب الفحص بمقدار يحصل بها الاطمئنان بعدم المخصّص في مظانّه ، ولا يلزم أزيد من ذلك وهو العلم الوجداني بعدم وجوده ، كما لا يكفي أنقص منه وهو الظّن بعدمه.

وأمّا بناء على مبنى العلم الإجماليّ ، فيجب الفحص إلى أن ينحلّ ، كما أنّه يجب إلى أن يحصل الظّن الشّخصي بعدم وجود المخصّص على مسلك اعتباره.

الثّاني : أنّه يظهر ممّا ذكرنا في الفحص من أنّ وجوبه في الاصول اللّفظيّة إنّما هو لتتميم الحجّيّة بإجراء أصالة التّطابق ، عدم الفرق بين تلك الاصول وبين الاصول العمليّة.

توضيح ذلك : أنّه لا ريب في أنّ الفحص عند التّمسّك بالاصول العمليّة في الشّبهات البدويّة ، إنّما يجب لأجل تتميم المقتضي والحجيّة ، حيث إنّ الموضوع في البراءة العقليّة وهو قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لا يتحقّق إلّا بعد الفحص ، عمّا كان بيانا ؛ ضرورة ، أنّ العقل يستقلّ باستحقاق المؤاخذة على المخالفة من غير فحص ، وهكذا الحال في البراءة الشّرعيّة والاستصحاب ، فإنّ أدلّتهما وإن كانت مطلقة ، إلّا أنّها بحكم العقل والإجماع ، مقيّدة بوجوب الفحص ، كما هو الواضح.

وبالجملة : فحال الاصول العمليّة هو حال الاصول اللّفظية ، فكما عرفت : أنّ دليل حجّيّة الاصول اللّفظية وهو بناء العقلاء يقتضي لزوم الفحص مع معرضيّتها للتّخصيص لكي يتمّ به الحجّيّة ، كذلك يقتضي أدلّة حجّيّته الاصول العمليّة لزوم الفحص هنا ـ أيضا ـ لتتميم الحجّيّة فيها.

٢٧٦

ومن هنا يظهر ، أنّه لا وجه لما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) وتلميذه المحقّق النّائيني قدس‌سره من الفرق بين الفحصين ، بأنّ الفحص في الاصول اللّفظيّة إنّما هو عن المانع والمزاحم للحجّة وهو الظّهور المنعقد للعامّ في العموم ، نظرا إلى كون المخصّص منفصلا حسب الفرض ، وهذا بخلاف الاصول العمليّة ، فإنّه يكون لتتميم المقتضي والحجيّة.

(الفصل الثّالث : الخطابات الشّفاهيّة)

هل الخطابات الشّفاهيّة ، نظير «يا أيّها المؤمنون» تختصّ بالحاضر مجلس التّخاطب ، أو تعمّ غيره حتّى المعدومين ، فضلا عن الغائبين؟ فيه اختلاف بين الأعلام ، ذهب كلّ إلى مسلك ، ولكن نقل الأنظار والآراء منهم ، وكذا نقدها ممّا لا طائل تحته ؛ ولذا نكتفي ببيان ما ينكشف به القناع عن وجه المسألة وهو يتمّ ببيان أمرين :

الأوّل : ما أفاده الإمام الرّاحل قدس‌سره في مجلس درسه ، محصّله : أنّ الأحكام الإلهيّة تلاحظ من جهتين ، الاولى : من جهة أنّها عامّة كليّة قانونيّة موجّهة إلى عناوين عامّة شاملة ، كعنوان «النّاس» ، «المؤمنون» ونحوهما ، بخطاب واحد من دون تعدّد وتكثّر فيه ، بل التّعدد إنّما هو في ناحية المتعلّق والموضوع.

وتوهّم الانحلال إلى خطابات وأحكام حسب تعدّد المكلّفين ، مدفوع بشاهد وثلاثة دلائل ، أمّا الشّاهد فهو وجدان الشّخص في خطاباته ، حيث إنّه إذا دعا قومه لإنجاز عمليّة أو لرفع بليّة بخطاب واحد ، هم فيه شرع سواء ؛ وأمّا الدّلائل ، فأحدها : لزوم اللّغويّة بعد كفاية الخطاب الواحد بلا تكلّف وعناية ، ككفاية نداء

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٥٤ ؛ وراجع ، فوائد الاصول : ج ١ و ٢ ، ص ٥٣٩ و ٥٤٠.

٢٧٧

واحد ، أو إشارة واحدة في بعض الموارد. (١)

ثانيها : لزوم القول بالانحلال في الإخبار ـ أيضا ـ لو قلنا : به في الإنشاء مع أنّهم لا يلتزمون به في الإخبار ، كيف ، وأنّه لزم أن يكون الخبر الواحد الكاذب أخبارا أكاذيب ، وهذا كما ترى.

ثالثها : لزوم الاستهجان ، بل الاستحالة بالنّسبة إلى الكفّار والعصاة ؛ ضرورة ، أنّ الأوامر الإلهيّة شاملة للعصاة ، بل الكفّار ، مع أنّ توجيه الخطاب إليهم أنفسهم ولو بالانحلال من أقبح الاستهجانات ، بل غير ممكن لو كان بعثهم لغرض الانبعاث كما هو كذلك في سائر الموارد ، فلو كان الخطاب العامّ والحكم الكلي القانوني ، كالخاصّ الجزئي ، لوجب الالتزام بتقييده بالنّسبة إلى غير الكفّار والعصاة ، وكذا غير الجاهل والسّاهي والغافل ، وهذا كلّه ممّا ترى.

وعليه : فالميزان في صحّة الخطاب الكلّي القانونيّ هو إمكان انبعاث عدّة من المكلّفين بهذا الخطاب ، لا انبعاث كلّ واحد واحد ؛ ولذا لو كان الأمر لداعي الانبعاث ـ وإن كان الانبعاث مستندا إلى المبادي الأخر ـ أيضا ـ من الطّمع والخوف ـ يصحّ الخطاب مولويّا عند العقلاء لو قام بامتثاله طائفة من المأمورين ، إلّا إذا علم عدم انبعاث واحد منهم ، فحينئذ لم يصحّ الأمر ، بل كان مستهجنا.

والسّر فيما قلنا : إنّ الإرادة التّشريعيّة لا تتعلّق بإتيان المكلّف وانبعاثه نحو العمل ، وإلّا لزم في الإرادة الإلهيّة عدم انفكاكها عنه ولزم عدم إمكان العصيان ، بل

__________________

(١) هذا ، ولكن يمكن أن يقال : بعدم لزوم اللّغويّة في فرض الانحلال ؛ إذ اللّغويّة إنّما تلزم فيما إذا تكرّر الخطاب ، والانحلال ليس كذلك ، بل إنّما هو في حكم التّكرار ، كما لا يخفى.

٢٧٨

تتعلّق بالتّشريع والتّقنين على وجه العموم ونهج الكلّيّة والقانون ، ومن المعلوم : أنّه يراعى في مثله الصّحّة العقلائيّة وهي لا تتوقّف عندهم على إمكان الانبعاث من كلّ أحد ، كما يظهر ذلك بالنّظر إلى القوانين العرفيّة الخاصّة أو العامّة. هذا كلّه في الجهة الاولى.

الجهة الثّانية : أنّ الأحكام تلاحظ من جهة أنّها تكون فعليّة بالنّسبة إلى الجميع حتّى العصاة والكفرة ، وحتّى الغفلة والجهلة والعجزة ، غاية الأمر : أنّهم غير معاقبين في ترك التّكاليف لكونهم معذورين ، وفي قبال تلك الأحكام ، أحكام إنشائيّة شأنيّة وهي الّتي أنشأت ولم يعلن أصلا لجهات ومصالح في الإخفاء ، أو اعلنت ولكن بصورة الإطلاق والعموم كي يلحق التّقييد والتّخصيص بعد بدليل منفصل آخر ، كالأحكام الكليّة المنشآت على الموضوعات مع عدم بقاءها ، كذلك في مرحلة الإجزاء.

وعليه : فالمطلقات والعمومات قبل ورود المخصّص والمقيّد تكون إنشائيّة بالنّسبة إلى موارد التّخصيص والتّقييد ، وإن كانت فعليّة بالنّسبة إلى غير تلك الموارد.

فتحصّل : أنّ الأحكام الإلهيّة قوانين عامّة للمكلّفين ، وفعليّة بالنّسبة إلى الجميع حتّى الجهلة وسائر المعذورين ، غاية الأمر : يرفع العقاب عنهم لأجل العذر ، وإن شئت زيادة الاطّلاع في المقام ، راجع ما حرّرنا في مبحث التّرتب بما لا مزيد عليه. هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل.

الأمر الثّاني : ما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره ـ أيضا ـ فقال ما حاصله : إنّه

٢٧٩

لا خطابات شفاهية في القرآن الكريم حتّى يبحث عن شمولها للغائبين بل المعدومين وعدم شمولها لهم ؛ وذلك ، لأنّ المشافهة إنّما هو بمعنى : المخاطبة ، وواضح ، أنّ خطاباته تبارك وتعالى النّازلة على قلب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تكن موجّهة إلى عباده حتّى الحاضرين في مجلس الوحي ، فضلا عن الغائبين والمعدومين ؛ ضرورة ، أنّ الوحي بنصّ القرآن (١) إنّما نزل على شخص الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يكن كلامه تبارك وتعالى مسموعا لأحد من الامّة ، بل يمكن أن يقال : بعدم وصول خطاب لفظيّ منه تعالى إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا واسطة ، إلّا أحيانا ، حيث إنّ نزول الوحي كان بواسطة أمينه «جبرئيل عليه‌السلام» فهو كان حاكيا لخطاباته تبارك وتعالى بلا كونه ـ أيضا ـ طرفا لمخاطبة الله تبارك وتعالى.

وبالجملة : لم يكن هناك خطاب لفظيّ منه تبارك وتعالى إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما لم يكن إلى الامّة قطعا ، بل الخطابات القرآنيّة ، كخطابات كتبيّة ونحوها الدّراجة في القوانين العرفيّة الخاصّة والعامّة ، فإنّ المقنّن في تلك القوانين بعد جعلها وإنشاءها يبلّغها بالنّشر في الكتب والجرائد وغيرهما ، فيعمّ كلّ من كان ، أو يكون ، أو سيكون ، أو سوف يكون ، واجدا للشّرائط بحسب وقته المناسب له ، فلا خطاب لفظيّا هنا ، ولا حاجة إلى مخاطب حاضر يشافهه ، هذا كلّه واضح.

ثمّ إنّه انقدح بما ذكرنا : من أنّ الخطابات القرآنيّة أشبه بالخطابات الكتابيّة ، وأنّ نسبة الأوّلين والآخرين إليها سواء ؛ أنّه لا حاجة إلى التّمسّك بالقضيّة الحقيقيّة

__________________

(١) وهو قوله تعالى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ :) سورة الشّعراء (٢٦) : الآية ١٩٤.

٢٨٠