آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨
ـ أيضا ـ كما عن المحقّق الخراساني قدسسره (١) ، وأمّا بناء على القول بالامتناع ، ففي صورة ترجيح جانب الأمر ، لا إشكال ـ أيضا ـ في صحّة الصّلاة في الدّار المغصوبة وسقوط أمرها ؛ إذ على هذا يقيّد إطلاق نهي الغصب بغير مورد الصّلاة.
نعم ، هذا يتمّ على تقدير عدم المندوحة لدوران الأمر حينئذ بين الصّلاة والغصب ، والمفروض ، ترجيح جانب الصّلاة وتقديم الأمر بها على النّهي عن الغصب ، وأمّا على تقدير وجود المندوحة وعدم انحصار الصّلاة في الدّار المغصوبة ، فإنّه لا وجه لتقييد نهي الغصب بغير مورد الأمر ، لعدم الدّوران بينهما ، بل يعكس الأمر ، بمعنى : أنّه لا بدّ حينئذ من تقييد الأمر بغير مورد النّهي جمعا بين الحقّين والغرضين ، كما أشار إليه الإمام الرّاحل قدسسره. (٢)
هذا في صورة ترجيح جانب الأمر ، وأمّا في صورة ترجيح جانب النّهي ، فلا يسقط الأمر ولا يحصل الامتثال بإتيان الصّلاة في الدّار المغصوبة ، بل لا إشكال في بطلانها مع العلم والالتفات إلى الحرمة ؛ وذلك ، لعدم التّمكن حينئذ من قصد القربة ، مضافا إلى عدم صلوح العمل لها ، ويلحق بالعلم ـ أيضا ـ الجهل التّقصيري ؛ إذ قصد القربة حينئذ وإن كان ممكنا ، إلّا أنّ العمل لا يصلح للقربة ، كما هو واضح. (٣)
وأمّا الجهل القصوري ، فيحكم فيه ببطلان الصّلاة في ما إذا كان الامتناع لأجل لزوم التّكليف المحال وبصحّتها في ما إذا كان الامتناع لأجل التّكليف بالمحال ،
__________________
(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٤٦.
(٢) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٠٧.
(٣) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٤٦.
أمّا بطلان الصّلاة في الفرض المذكور ، فلأنّ المفروض أنّ متعلّق الأمر هو عين متعلّق النّهي ، وواضح ، أنّ الشّيء الواحد لا يكون واجدا للملاكين ، بل لا بدّ من الاقتصار على ملاك واحد وهو في مورد ترجيح جانب النّهي ـ على ما هو مفروض الكلام ـ ليس إلّا ملاك النّهي ومفسدته التّامّة ، وعليه ، فلا مناص من الحكم ببطلان الصّلاة لكونها فاقدة للملاك والمصلحة التّامّة بلا دخل للعلم والجهل أصلا.
وبالجملة : حيث إنّ الصّلاة حسب الفرض فاقدة للملاك ، فلا تصحّ قطعا ، نظرا إلى أنّ العبادة وإن يمكن تصحيحها بلا خطاب مع اشتمالها للملاك ، ولكن لا يمكن تصحيحها بلا ملاك ، كما لا يخفى.
أمّا صحّة الصّلاة في فرض كون الامتناع لأجل لزوم التّكليف بالمحال ، فلأنّ الصّلاة حينئذ وإن كانت فاقدة للخطاب ، لكنّها واجدة للملاك ؛ إذ عليه يكون متعلّق الأمر والحيثية الواجدة للمصلحة وهو عنوان الصّلاة غير متعلّق النّهي والحيثيّة الواجدة للمفسدة وهو عنوان الغصب ، وقد قلنا مرارا : إنّ عباديّة العبادة منوطة بتحقّق أمرين :
أحدهما : الصّلوح للتّعبّد.
ثانيهما : قصد القربة.
وأمّا الأمر وقصد امتثاله ، فليس بلازم على ما قرّر في مسألة التّرتّب في الضّدّين المتزاحمين.
ومن المعلوم : أنّ الصّلاة في الدّار المغصوبة عند الجهل القصوري ـ بعد فرض كون الامتناع لأجل التّكليف بالمحال ـ واجدة للمصلحة التّامّة.
غاية الأمر : حيث إنّها تكون مزاحمة بملاك آخر أتمّ وهي مفسدة الغصب فانتفى الأمر بها ، وسقط خطابها من دون أن ينتفي ويسقط ملاكها فهي صالحة للتّعبّد والمكلّف لكونه جاهلا بالحرمة قصورا ، قاصد للتّقرّب فتكون صحيحة.
فتحصّل : أنّ في فرض ابتناء الامتناع على التّكليف المحال ، تبطل الصّلاة مطلقا في جميع الحالات حتّى الجهل القصوري ؛ وأمّا في فرض ابتنائه على التّكليف بالمحال ، فيفصّل بين العلم والجهل التّقصيري ، فيحكم ببطلان الصّلاة فيهما ـ لما مرّ من سقوط الملاك والخطاب معا ـ وبين الجهل القصوري ، فيحكم بصحّتها فيه لأجل اشتمالها حينئذ على المصلحة والإتيان بها مع قصد القربة.
وعليه : فلا مجال لما عن المحقّق الخراساني قدسسره من إطلاق الأمر بالصّحّة في فرض عدم الالتفات إلى الحرمة قصورا ، مع أنّه قدسسره قائل بالامتناع لأجل التّكليف المحال. (١)
إذا عرفت تلك الامور ، فاعلم ، أنّ المسألة ـ كما أشرنا سابقا ـ ذات أقوال ثلاثة :
أحدها : الجواز مطلقا.
ثانيها : الامتناع مطلقا.
ثالثها : التّفصيل بين مقام الجعل والتّشريع ، فيحكم العقل فيه بالجواز ، وبين مقام الإطاعة والامتثال ، فيحكم العرف فيه بالامتناع ، والمختار هو القول الثّالث.
والوجه فيه : أمّا بالنّسبة إلى مقام الجعل ، فعمدة الدّليل على الجواز فيه ،
__________________
(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٤٦ و ٢٥٢.
ما عرفت في الأمر الثّامن من الامور المتقدّمة ، محصّله : أنّ الأحكام بأسرها متعلّقة بالطّبائع منفكّة عن كافّة الوجودات الخارجيّة والذّهنيّة ومعرّاة عن قاطبة العوارض واللّواحق.
وإن شئت ، فقل : إنّ الطّبيعة متعلّقة للحكم لا بما هي موجودة في الذّهن ، أو الخارج ، بل بما هي هي ، لأنّها باعتبار قيد وجودها في الذّهن غير منطبقة على الخارج ، بل تكون كلّيّا عقليّا موطنه العقل ، ومعه يمتنع امتثال الأمر بها ، كما هو واضح ، وباعتبار قيد وجودها في الخارج ، فالأمر بها طلب تحصيل الحاصل ، فلا مناص إذا عن تعلّق الحكم بنفس الطّبيعة المهملة ، نظرا إلى ما مرّ مرارا ، من أنّ الحكم يدور مدار الغرض ثبوتا وسقوطا ، حدوثا وبقاء والغرض قائم بالطّبيعة لو حصلت وتحقّقت في الخارج ، فيأمر المولى بها ويحكم عليها حتّى ينبعث العبد إليها ، فيمتثلها ويحصّلها في الخارج لاستيفاء ما فيها من الغرض.
ونتيجة ذلك كلّه ، هو أنّه لا محذور في مثل خطاب «صلّ ولا تغصب» مطلقا ، لا التّكليف المحال ولا التّكليف بالمحال ، لورود الأمر والوجوب على عنوان ، والنّهي والحرمة على عنوان آخر ، فلا يجتمعان أصلا.
نعم ، العمل الخارجي والفعل الصّادر عن المكلّف وإن كان مجمعا لعنوانين وهما متّحدان فيه كمال الاتّحاد ، إلّا ليس مجمعا لحكمين ، كيف ، وأنّ الخارج ـ كما قلنا غير مرّة ـ يكون ظرفا لسقوط الحكم لا ثبوته.
ومن هنا ظهر ، ضعف القول بالامتناع وما يقام عليه من الدّليل ، وجه الظّهور ، هو أنّ العمدة في أدلّة الامتناع ما تعرّض به المحقّق الخراساني قدسسره مرتّبا على مقدّمات أربعة نشير إليها ملخّصا.
الاولى : أنّ الأحكام متضادّة في مقام فعليّتها وهي بلوغها إلى مرتبة البعث والزّجر ، وعليه ، فاستحالة اجتماع الأمر والنّهي في واحد لا تكون من باب التّكليف بالمحال ، بل من جهة أنّه بنفسه محال.
الثّانية : أنّ متعلّق الأحكام إنّما هو الأفعال الصّادرة عن المكلّفين ، لا العناوين والأسماء الحاكية المنتزعة.
الثّالثة : أنّ تعدّد الوجه والعنوان لا يوجب تعدّد المعنون ولا تنثلم به وحدته.
الرّابعة : أنّه لا يكاد يكون للموجود بوجود واحد إلّا ماهيّة واحدة وحقيقة فاردة ، فالمفهومان المتصادقان على ذلك لا يكاد يكون كلّ منهما ماهيّة وحقيقة ، وعليه ، فالمجمع وإن تصادق عليه متعلّقا الأمر والنّهي ، إلّا أنّه كما يكون واحدا وجودا يكون واحدا ماهيّة وذاتا.
هذا ، ولكن لا تصلح شيء من هذه المقدّمات للتّمسّك بها في إثبات الامتناع بوجه.
أمّا الاولى : فلأجل أنّه ، أوّلا : لا يقدح تضادّ الأحكام في مثل المقام ، إذ المفروض ، أنّه لا اجتماع أصلا ، نظرا إلى ما بيّن وقرّر ، من أنّ متعلّق الأحكام هي الطّبائع دون الأفراد والأشخاص الخارجيّة ، فمصبّ حكم الوجوب طبيعة ، ومصبّ حكم الحرمة طبيعة اخرى ، فلا يجتمعان في مورد واحد أصلا.
وثانيا : أنّ البحث عن التّضاد ، كالبحث عن قاعدة «الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد» في مثل علم الاصول الّذي هو من العلوم الاعتباريّة إنّما هو خلط بين الحقائق والاعتباريّات.
وثالثا : أنّ ما ورد في تعريف الضّدّين لا ينطبق على الأحكام رأسا.
والسّر فيه : أنّه قد عرّف الضّدّان ـ في محلّه ـ بأنّهما أمران وجوديّان متواردان على موضوع واحد ، مندرجان تحت جنس واحد قريب ، بينهما غاية الخلاف ، فلا تضادّ بين الأجناس ، ولا بين الأصناف من نوع واحد ، ولا بين الأشخاص كذلك.
ومن المعلوم : أنّ الأحكام ليست بامور وجوديّة على مسلك ، وليست بمندرجة تحت جنس واحد على بعض المسالك ، فعلى مسلك كونها عبارة عن البعث والزّجر بالآلات والأدوات وبالصّنع والهيئات اعتبارا مكان البعث والزّجر تكوينا باليد ونحوها ، تكون امورا اعتباريّة عقلائيّة ، كما لا يخفى.
وأمّا على مسلك كونها عبارة عن الإرادات مطلقا ، أو الإرادات المبرزة ، فهي وإن كانت امورا حقيقيّة عينيّة ، لكنّها لا تكون متضادّة ؛ لعدم اندراجها تحت جنس واحد ، بل تكون الإرادات كلّها ـ سواء كانت من قبيل إرادة البعث إيجابا واستحبابا ، أو من قبيل إرادة الزّجر تحريما وكراهة ـ من نوع واحد ، غاية الأمر : أنّها تختلف من حيث المتعلّق ومن جهة الشّدّة والضّعف ، فالمريد إمّا يريد البعث إلى الفعل ، أو يريد الزّجر عنه ، وعلى كلا التّقديرين إمّا تكون إرادته شديدة أكيدة ، أو تكون ضعيفة خفيفة.
هذا ، مضافا إلى أنّه ليس بين الوجوب والاستحباب ، أو الحرمة والكراهة غاية الخلاف ، وإلى أنّه لا تعاقب في الأحكام على موضوع واحد ، لما مرّ من أنّ الأحكام متعلّقة بالطّبائع ، فلا موضوع واحد في البين كي يتعاقب عليه حكمان مختلفان.
أمّا المقدّمة الثّانية : فلأنّك عرفت منّا مرارا ، أنّ الخارج إنّما هو ظرف سقوط التّكليف لا ثبوته ، وأنّ متعلّق الأحكام إنّما هو الطّبيعة ، لا الخارج ، وعليه ، فما هو مصبّ ثبوت الحكم وهو الطّبيعة متعدّد ، كتعدّد نفس الحكم ، وما هو واحد واقع في الخارج ليس هو مصبّ الحكم حتّى يلزم محذور اجتماع الحكمين المختلفين.
وأمّا المقدّمة الثّالثة ، والرّابعة : فقد ظهر ضعفهما ممّا بيّنا ، فراجع وتأمّل. (١)
فتحصّل : أنّ كلّ حكم من الوجوب والحرمة مقصور على متعلّقه لا يسري من مصبّه إلى مصبّ حكم آخر ؛ وذلك ، لما عرفت آنفا ، من أنّ المتعلّق هي الطّبيعة ، فالواجب في مثل الصّلاة هو طبيعيّها المأمور به ، والحرام في مثل الغصب هو طبيعيّه المنهيّ عنه ، وهما أمران مختلفان ، والمفروض ـ أيضا ـ أنّ الخارج ليس مأمورا به ، ولا منهيّا عنه ، سواء كان واحدا وجودا ، أم متعدّدا.
__________________
(١) هذا ، ولكن يمكن أن يقال : أنّ من البعيد جدّا ، أن يكون مراد المحقّق الخراساني قدسسره من المقدّمة الثّانية ، أنّ الفعل الخارجي الصّادر عن المكلّف هو متعلّق الحكم ، كيف ، وأنّه قدسسره صرّح في مبحث الأمر بأنّ الحقّ ، أنّ الأوامر والنّواهي تكون متعلّقة بالطّبائع دون الأفراد ، بل مراده قدسسره أنّ متعلّق الحكم في مثل الصّلاة في الدّار المغصوبة هي طبيعة الحركة الّتي تكون فعلا وعملا صادرا عن المكلّف في الخارج ، لا اسم الصّلاة ولا عنوان الغصب ، وبعبارة اخرى : أنّ الحركة الّتي صدرت عن المكلّف ووقعت في الخارج ليست هي متعلّقة للحكم ولا يكون ذلك مراده قدسسره ، بل لا ينبغي أن يتفوّه به أحد ، فضلا عن مثل هذا المحقّق.
ويمكن أن يقال ـ أيضا ـ أنّ مراده قدسسره من كلمة «المعنون» في المقدّمة الثّالثة ومن كلمة : «الموجود بوجود واحد» في المقدّمة الرّابعة هي طبيعة الحركة ، حيث إنّه قال : «وإنّ مثل الحركة في دار من أيّ مقولة كانت لا يكاد يختلف حقيقتها وماهيّتها ويتخلّف ذاتياتها وقعت جزءا للصّلاة أو لا ...». كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٥١.
وأمّا إشكال لزوم أن يكون شيء واحد مرادا ومكروها ، أو محبوبا ومبغوضا ، فمندفع ، بأنّه خلط بين ما بالذّات وما بالعرض ، لوضوح كون ما ذكر من الاوصاف النّفسانيّة المتعلّقة بالصّور الحاكية عن الخارج ، لا بنفس الخارج ، غاية الأمر : أنّ الخارج محبوب أو مبغوض بالعرض.
وكذلك إشكال لزوم كون شيء واحد مقرّبا ومبعدا مندفع ، أيضا.
وجه الاندفاع ؛ هو أنّ القرب هنا يكون أمرا معنويّا ، وكذا البعد ، ولا بدع في كون الواحد مقرّبا ومبعدا من جهات مختلفة منطبقة عليه.
ألا ترى ، أنّ العمل الواحد قد يكون ممدوحا مقرّبا عند العقلاء باعتبار ، وقد يكون مذموما مبعّدا عندهم باعتبار آخر ، وكذلك الشّخص الواحد ، فإنّه قد يكون موردا لمدح العقلاء بما فيه من الخصلة الحسنة ، وقد يكون موردا لذمّهم بما فيه من الخصلة القبيحة ، كما لا بدع ـ أيضا ـ في كون شيء واحد ذا مصلحة ومفسدة ، وذا منفعة ومضرّة من ناحيتين نافعة وضارّة.
هذا كلّه في مقام الجعل والتّشريع وموقف الأمر والنّهي ، وقد عرفت جواز الاجتماع فيه.
وأمّا مقام الامتثال والإطاعة ؛ فقد ذهب الإمام الرّاحل قدسسره إلى الجواز فيه ـ أيضا ـ وحكم بصحّة مثل الصّلاة في الدّار المغصوبة. (١)
ولكنّ الّذي يخطر ببالي الفاتر هو الامتناع في هذا المقام ، فتبطل الصّلاة فيها ، حيث إنّه يعتبر في التّعبّديّات قصد القربة قطعا وإن لم يعتبر فيها قصد الأمر على التّحقيق.
__________________
(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٢٤.
وعليه ، فيقال : إنّ الامتثال بجميع شئونه موكول إلى الأنظار العقلائيّة العرفيّة ، لا إلى الآراء الدّقيّة العقليّة ، ومن المعلوم : أنّه يحكم ببطلان المجمع العبادي مطلقا حتّى على القول بالجواز حسب نظر العرف ؛ وذلك ، لما يراه من أنّه يكون وجودا واحدا ، خلافا لما يراه العقل من كونه متعدّدا ـ مبغوضا مبعّدا عن ساحة المولى من جهة كونه منهيّا عنه ، وعليه ، فكيف يمكن أن يتقرّب به إلى ساحته!
وإن شئت ، فقل : إنّ مقام الامتثال غير مقام الجعل ، وأنّ مرحلة الإرادة التّشريعيّة المتعلّقة بالطّبائع ، غير مرحلة الإرادة التّكوينيّة المحقّقة للطّبيعة بوجودها الخاصّ ، والعقلاء يرون امتناع تحقّق الطّاعة بهذا الخاصّ الّذي يتحقّق به المعصية ، ويكون مبغوضا مبعّدا ، ولا أثر لتعدّد الجهة عندهم بالمرّة في مقام الامتثال ، ولعلّه لأجل ذا ، أفتى الفقهاء ببطلان الصّلاة في الدّار المغصوبة في المسألة الفقهيّة ، لا لأجل قولهم بالامتناع في المسألة الاصوليّة ؛ وذلك ، لاحتمال ذهابهم إلى الجواز في تلك المسألة بالنّسبة إلى مرحلة التّشريع والجعل ، وقد عرفت : عدم استلزامه للقول بالصّحّة في الامور العباديّة ، بل التّحقيق هو البطلان حسب الأنظار العرفيّة العقلائيّة.
ولقد أجاد الفقيه البروجرديّ قدسسره في ما أفاده في المقام ، حيث قال : «وليس في كلمات القدماء من أصحابنا اختيار الامتناع في المسألة الاصوليّة ، بل الموجود في كتبهم ليس إلّا الفتوى ببطلان الصّلاة في الدّار المغصوبة من جهة وقوعها مبغوضة ، فراجع كلام الشّيخ في العدّة ، وكذا السّيّد وأمثالهما ، وممّا ذكرنا ظهر ، أنّ نسبة الامتناع إلى المشهور من جهة إفتائهم ببطلان الصّلاة في المسألة الفقهيّة في غير محلّها». (١)
__________________
(١) نهاية الاصول : ص ٢٣٤.
وقد تبيّن ممّا ذكرنا ، أنّ القول بصحّة الصّلاة في الدّار المغصوبة ؛ بناء على الجواز ، كما عن المحقّق الخراساني قدسسره (١) ، غير ظاهر الوجه.
«تتمّة»
إنّ في المقام فروعا كثيرة لا ملزم للتّعرّض إلى جميعها بعد تبيّن الامّهات والاصول ، فنكتفي بالإشارة إلى بعض تلك الفروع :
منها : ما إذا اضطرّ المكلّف إلى إتيان الصّلاة في الدّار المغصوبة مع عدم المندوحة ، فهل يجب عليه الاقتصار بقدر الضّرورة بأن يأتي الرّكوع والسّجود بنحو الإيماء ، لكونهما تصرّفا زائدا على مقدار الضّرورة ، أم يجوز له إتيان صلاة المختار؟ وجهان ، بل قولان : والأقوى هو الثّاني ، كما هو مذهب صاحب الجواهر قدسسره ولقد أجاد قدسسره في وجه ذلك ، وإليك نصّ كلامه : «ضرورة ، عدم الفرق بينه وبين المأذون في المكان بعد اشتراكهما في إباحته وحلّيّته ، على أنّ القيام والجلوس والسّكون والحركة وغيرها من الأحوال متساوية في شغل الحيّز وجميعها أكوان ، ولا ترجيح لبعضها على بعض ، فهي في حدّ سواء في الجواز ، وليس مكان الجسم حال القيام أكثر منه حال الجلوس ، نعم ، يختلفان في الطّول والعرض ، إذ الجسم لا يحويه الأقلّ منه ولا يحتاج إلى أكثر ممّا يظرفه ، كما هو واضح بأدنى تأمّل». (٢)
ومنها : ما إذا توضّأ المكلّف ، أو اغتسل بالماء المغصوب ، فيحكم فيه ببطلان
__________________
(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٤٦.
(٢) جواهر الكلام : ج ٨ ، ص ٣٠٠.
عمله حينئذ ؛ وذلك ، لأنّ الماء المغصوب ممنوع منه شرعا ، والممنوع الشّرعيّ ـ أيضا ـ كالممنوع العقليّ ، فيصير المكلّف حينئذ فاقدا للماء ، فيسقط الأمر بالوضوء في حقّه وينتقل وظيفته إلى التّيمّم بمقتضى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ... فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً.)(١)
هذا ممّا لا إشكال فيه ، إنّما الإشكال في أنّه ، هل يحكم ببطلان العمل مطلقا ، من غير فرق بين العامّ والجاهل والنّاسي بالغصب ، أم يختصّ بالعامّ والجاهل المقصّر ، دون النّاسي والجاهل القاصر ، أم يفصّل؟ وجوه ، واحتمالات :
ذهب بعض الأعاظم قدسسره إلى التّفصيل بين الجهل القصوري ، فحكم ببطلان الوضوء أو الغسل ، وبين النّسيان كذلك ، فحكم بصحّتها وأفاد في وجه ذلك ، ما حاصله : أنّ النّسيان رافع للتّكليف واقعا ، فلا يكون النّاسي مكلّفا في الواقع ، وعليه ، فترتفع حرمة التّصرّف في الماء المغصوب واقعا ، ومعه لا مانع من الحكم بصحّة الوضوء أو الغسل إذا كان النّسيان عن قصور ، لشمول إطلاق دليل وجوب الوضوء أو الغسل ، بخلاف الجهل ، فإنّه رافع للتّكليف ظاهرا ، فيكون الجاهل مكلّفا في الواقع. (٢)
هذا ، ولكنّ الحقّ عدم صحّة الوضوء ، أو الغسل في فرض الكلام مطلقا حتّى حال الجهل القصوري أو النّسيان كذلك ، والوجه فيه ، هو أنّ وجوب كلّ من الوضوء ، أو الغسل مقيّد بوجدان الماء ، ومن المعلوم : أنّ هذا التّقييد أمر واقعي
__________________
(١) سورة المائدة (٥) : الآية ٦.
(٢) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٤ ، ص ٢٩٦.
لا يغيّره الجهل ، ولا النّسيان ، كتخصيص عموم «أكرم العلماء بمثل لا تكرم فساقهم» فإنّه تخصيص واقعيّ لا دخل فيه للعلم والجهل والنّسيان ، كما هو كذلك ما لو كان المكلّف واجدا للماء واقعا ، ولكن تيمّم جهلا أو نسيانا ، فإنّه يحكم هنا ببطلان تيمّمه ؛ إذ دليل التّيمّم مقيّد بفقدان الماء تقييدا واقعيّا ، ولا أثر للجهل والنّسيان فيه.
وبالجملة ، معنى التّقييد الواقعي في دليل الوضوء والغسل ، وكذا في دليل التّيمّم هو عدم مقدميّة الطّهارة المائيّة ـ حال الفقدان ـ وطهارة التّرابيّة ـ حال الوجدان ـ للصّلاة ، فيكون وجودهما ، كالعدم ، سواء اتي بهما جهلا ، أم نسيانا للغصبيّة ، ونتيجة ذلك : بطلان العمل ، وكذا بطلان الصّلاة لو اتي بها في الفرضين ووجوب إعادتها في الوقت ، والقضاء في خارجه ، كما أنّ معنى التّقييد الواقعي في مثل إكرام العالم ، بالعادل أو غير الفاسق ، هو عدم كفاية إكرام الفاسق ، وعدم إجزائه مطلقا ولو كان عن جهل أو نسيان.
(الفصل الثّالث : اقتضاء النّهي عن الشّيء للفساد)
اعلم ، أنّ جمعا من الأساطين (١) تعرّضوا امورا قبل الورود في المسألة وجعلوها موردا للبحث ، ولكن لا حاجة إلى شيء منها ولا يهمّ البحث عنها.
منها : اختلاف القوم في عنوان المسألة ، فعبّر عنه بعض (٢) بالاقتضاء ، وبعض
__________________
(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٨٢ ؛ ومناهج الوصول : ج ٢ ، ص ١٤٩ ؛ وفوائد الاصول : ج ١ ، ص ٤٥٥.
(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٨٢.
آخر بالدّلالة (١) ، وبعض آخر بالكشف (٢) وأنت تعلم ، أنّ الأمر في مثل هذا سهل لا ينبغي إطالة الكلام فيه.
ومنها : اختلافهم في كون المسألة لفظيّة ، أو عقليّة.
ولا يخفى : أنّه ممّا لا يهمّ البحث فيه لإمكان التّكلم في المسألة على كلتا الجهتين ، لما سيأتي عند ذكر الأدلّة.
ومنها : بيان الفرق بين هذه المسألة ، والمسألة السّابقة.
هذا ـ أيضا ـ ممّا لا حاجة إلى إتعاب النّفس فيه ، بعد ما عرفت منّا ومن مشايخنا الأساطين بما لا مزيد عليه في تلك المسألة.
ومنها : تعميم محلّ النّزاع لأنواع النّهي من التّحريمي ، والتّنزيهي ، والنّفسيّ والغيريّ ، والأصليّ ، والتّبعيّ.
وأنّك ترى ، أنّه لا جدوى في البحث والمجادلة في ذلك ؛ إذ لقائل أن يقول : بمنع النّهي التّنزيهي عن التّقرّب والزّلفى ـ أيضا ـ كالنّهي التّحريمي وإن كان ذلك خلاف التّحقيق عند أرباب النّهى (٣) بأحد الوجوه المقرّرة في محلّها ، كدلالة نفس التّرخيص على الجواز والصّحّة ، أو كون الكراهة مؤوّلة إلى أقليّة الثّواب ، أو كون المنهيّ تنزيها هي الخصوصيّات اللّاحقة الخارجة عن ذات العبادة.
وواضح ، أنّ مجرّد كون شيء على خلاف التّحقيق ، لا يوجب سدّ طريق النّزاع
__________________
(١) راجع ، قوانين الاصول : ج ١ ، ص ١٥٤ ؛ والفصول الغرويّة : ص ١٣٩.
(٢) راجع ، مناهج الوصول : ج ٢ ، ص ١٤٩.
(٣) راجع ، فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٤٥٥.
والمجادلة فيه بالمرّة ، بل الأمر كذلك دائما وفي جميع المباحث الخلافيّة.
فتحصّل : أنّ هذه الامور لا ينبغي ذكرها بعنوان المقدّمة في المسألة ، بل الجدير هو تقديم امور ثلاثة :
الأوّل : أنّ النّهي تارة يتعلّق بالعبادات ، واخرى بالمعاملات ، فينبغي تعيين المراد في كلّ منهما.
أمّا العبادات ، فالمراد منها هاهنا ليس ما امر به لأجل التّعبّد به ، كما عن الشّيخ الأنصاري قدسسره (١) ، ولا ما يتوقّف صحّته على النّيّة وهي قصد امتثال الأمر ، كما عن المحقّق القمّيّ قدسسره (٢) ، ولا ما يعلم انحصار المصلحة فيه في شيء ، كما عن هذا المحقّق (٣) ـ أيضا ـ بل المراد بها هو مطلق العمل القربيّ التّقرّبي لو لا النّهي ، كما أفاده المحقّق الخراساني قدسسره ولنعم ما قال ، وإليك نصّ كلامه : «والمراد بالعبادة هاهنا ما يكون بنفسه وبعنوانه عبادة له تعالى ، موجبا بذاته للتّقرّب من حضرته لو لا حرمته ، كالسّجود ... ، أو ما لو تعلّق الأمر به كان أمره أمرا عباديّا لا يكاد يسقط إلّا إذا اتي به بنحو قربيّ كسائر أمثاله ، نحو صوم العيدين والصّلاة في أيّام العادة ، لا ما امر به لأجل التّعبّديّة ...» (٤).
وإن شئت ، فقل : إنّ العبادة إمّا يراد بها العبادة الذّاتيّة بحيث لا يتوقّف التّقرّب بها على تعلّق الأمر بها ، بل يكفي مجرّد قصد التّقرّب فيها ، كالسّجود لله تعالى ، فإنّ
__________________
(١) راجع ، مطارح الأنظار : ص ١٥٨.
(٢) راجع ، قوانين الاصول : ص ١٥٤.
(٣) راجع ، قوانين الاصول : ص ١٥٤.
(٤) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٨٤ إلى ٢٨٦.
عباديّته ذاتيّة لا يحتاج إلى الأمر ، نعم ، يحتاج إلى القصد ، كما هو واضح.
وإمّا يراد بها العبادة الشّأنيّة بحيث لو تعلّق الأمر به لكان تعبّديّا يسقط مع قصد القربة لا بدونه ، كالأوامر التّوصّليّة ، فظهر ممّا ذكرنا ، أنّ هذا هو المراد من العبادة ، لا العبادة الفعليّة حتّى يقال : كيف يجتمع النّهي عن العبادة مع كونها عبادة فعليّة ، هذا كلّه في العبادات.
وأمّا المعاملات ، فالمراد بها هو مطلق ما لا يعتبر فيه قصد القربة ، لكن بشرط أن يكون ممّا يعرضه الفساد والصّحّة ، فلا مجال لجريان النّزاع في ما يدور أمره بين الوجود والعدم ، كالمسبّبات ، نظير الملكيّة والزّوجيّة ونحوهما من الاعتباريّات البسيطة غير القابلة للفساد والصّحّة ، بل إمّا تكون متحقّقة موجودة أو منتفية معدومة بالمرّة.
وكذا لا مجال لجريان النّزاع في الأسباب الّتي لا ينفكّ آثارها عنها ، كبعض أسباب الضّمان ، نظير الإتلاف والغصب ، فإنّهما بمقتضى قوله عليهالسلام : «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» (١) وقوله عليهالسلام : «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (٢) يوجبان الضّمان قهرا ، وكذا لا مجال لجريانه في ما لا أثر له شرعا ، كالنّظر إلى البحر أو الجبل أو السّماء ونحوها ، فهذا كلّه خارج عن حريم النّزاع ، لعدم تطرّق البطلان والفساد إليه حتّى ينازع في أنّ النّهي عنه ، هل يقتضي الفساد ، أم لا؟ (٣)
__________________
(١) متشابه القرآن : ج ٢ ، ص ٢١٨.
(٢) مستدرك الوسائل : ج ١ ، كتاب الوديعة ، الباب ١ ، الحديث ١٢ ، ص ٨.
(٣) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٨٧ ؛ وتهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٢٦ ؛ ومنتهى الأفكار : ص ١٦٥.
الأمر الثّالث : قد اشتهر بين الأصحاب (١) ، أوّلا : أنّ الصّحّة والفساد مساوقتان للتّمام والنّقص حسب العرف واللّغة ، وثانيا : أنّهما متقابلان تقابل العدم والملكة ، وثالثا : أنّهما وصفان إضافيّان ؛ ولكن لا يمكن المساعدة على شيء منها.
أمّا المساوقة للتّمام والنّقص بحسب العرف واللّغة ، فلأنّها غير ثابتة ، بل الثّابت خلافه ، نظرا إلى إطلاق النّقص والتّمام في الأجزاء ولو باعتبار الغلبة ، وإطلاق الصّحّة والفساد في الكيفيّات والاوضاع كذلك ، ألا ترى ، أنّهم يطلقون التّمام والنّقض في مورد الأجزاء فيقولون : مثلا «يد ناقصة» عند قطع بعض أجزائها ، لا «يد فاسدة» أو يقولون : «دار تامّة» و «كتاب تامّ» عند وجود تمام أجزائهما ، لا «دار صحيحة» ولا «كتاب صحيح» وهكذا ، بخلاف الصّحّة والفساد ، فإنّهم يطلقونهما في مورد الكيفيّات ويقولون : مثلا ، «فاكهة صحيحة» أو «فاسدة» لا «تامّة» أو «ناقصة».
أمّا المقابلة بين الصّحّة والفساد بالعدم والملكة ، فلأنّ الصّحّة كيفيّة وجوديّة ملائمة ، والفساد كيفيّة وجوديّة منافرة ، فيقع التّضادّ بينهما ، لا العدم والملكة ، كما بين النّقص والتّمام.
هذا ما في العرف واللّغة ، نعم ، تساوق الصّحّة والفساد مع النّقص والتّمام فى مثل العبادات والمعاملات ، فتكون المقابلة بينهما تقابل العدم والملكة ، كما هو كذلك بين النّقص والتّمام.
ألا ترى ، أنّهم يقولون : «صلاة صحيحة ، أو فاسدة» باعتبار الجامعيّة للأجزاء والشّرائط ، وعدم الجامعيّة لهما ، وكذا يقولون : «إجارة صحيحة وفاسدة» أو «مناكحة
__________________
(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٢٦.
صحيحة وفاسدة» عند تماميّة الأجزاء والشّرائط ، وعدم تماميّتهما فيهما ، وهكذا. (١)
أمّا إضافيّة وصف الصّحّة والفساد ، فلأنّها إنّما تصحّ بالنّسبة إلى الأجزاء والشّرائط ، إذا قلنا : بأنّ الصّحّة والفساد ، بمعنى : النّقص والتّمام ، وأنّ التّقابل بينهما هو تقابل العدم والملكة ، كما في مورد العبادات والمعاملات.
وأمّا إذا قلنا : بأنّ الصّحّة والفساد يلاحظان في الكيفيّات والأوضاع ، وأنّ التّقابل بينهما هو تقابل التّضادّ ، فإضافيّتهما إنّما تصحّ بالنّسبة إلى الحالات المختلفة الطّارئة على المكلّفين.
الأمر الثّاني : قد وقع النّزاع في أنّ الصّحّة والفساد ، هل هما مجعولتان مطلقا ، أو غير مجعولتين كذلك؟ أم هنا تفصيل بين المعاملات فهما مجعولتان وبين العبادات فليستا كذلك؟ أم تفصيل بين كون الصّحّة والفساد ظاهريّتين فهما مجعولتان ، وبين كونهما واقعيّتين فليستا كذلك؟ (٢)
والحقّ ، أنّ الصّحّة والفساد ممّا لا تنالهما يد الجعل أصلا ، بل هما أمران عقليّان منتزعان من تطابق ما في مقام الامتثال من الفرد المأتيّ به ، مع ما في مقام الجعل والتّشريع من الماهيّة المخترعة المحدّدة شرطا وشطرا ، وعدم تطابقهما.
وإن شئت ، فقل : إنّهما أمران خارجان عن حيطة الجعل ، بل أمرهما موكول إلى العقل ، فإذا كان المأتيّ به واجدا لجميع ما للطّبيعة المخترعة من الأجزاء والشّرائط يتّصف بالصّحّة قهرا ، كاتّصاف الأربعة والثّلاثة ، بالزّوجيّة والفرديّة ، وإلّا فيتّصف
__________________
(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٨٧.
(٢) راجع ، مناهج الوصول : ج ١ ، ص ١٥٤ و ١٥٥ ؛ وتهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٢٨.
بالفساد كذلك بلا احتياج إلى الجعل والاعتبار.
وبالجملة : هنا ثلاثة مواقف :
أحدها : موقف الجعل وتعيين ما يتعلّق به الحكم من حيث الأجزاء والشّرائط ، وواضح ، أنّ هذا الموقف أمره بيد الشّرع ، فليضع حكمه على ماهيّة مخترعة محدّدة شطرا وشرطا.
ثانيهما : موقف الامتثال والإطاعة ، وهذا موكول إلى المكلّف المتشرّع الّذي يكون موظّفاً ملتزماً بإتيان ما اُمربه.
ثالثها : موقف المطابقة واللّا مطابقة، وهو موقف الإجزاء أو عدمه الّذي يقال فيه الانطباق قهري والإجزاء عقلي ، ولا ريب : أنّ هذا الموقف الّذي ينتزع منه الصّحّة والفساد يكون قهريّا لا يناله يد الشّرع ، حيث إنّ المكلّف لو أتى بالطّبيعة المقرّرة المأمور بها بتمامها من الأجزاء والشّرائط ، تتّصف بوصف الصّحّة قهرا لمكان ما فيه من الانطباق القهري ، وإلّا فتتّصف بالفساد قهرا لما فيه من عدم الانطباق القهري.
ولقد أجاد الإمام الرّاحل قدسسره في ما أفاده في المقام ، حيث قال : «إنّ الماهيّات المخترعة لا تتّصف بالصّحّة والفساد ، بل المتّصف بهما هو الموجود الخارجي أو الاعتباري بلحاظ انطباق الماهيّات عليه ولا انطباقها ، وهما عقليّان لا يتطرّق الجعل إليهما». (١)
ثمّ إنّه لا فرق في ما قلنا ، بين العبادات والمعاملات.
__________________
(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٢٨.
فما عن المحقّق الخراساني قدسسره (١) من الالتزام بمجعوليّة الصّحّة والفساد في المعاملات ، بتقريب : أنّ ترتّب الأثر عليها منوط بجعل الشّريعة ، وإلّا فلا يترتّب الأثر عليها.
غير ظاهر الوجه ، اللهمّ إلّا أن يكون مراده قدسسره هو جعل الأثر والمسبّب تلو الألفاظ والأفعال ، كجعل السّببيّة لهما ، لكن لا يخفى عليك ، أنّ هذا غير جعل الصّحّة والفساد.
ومن هنا انقدح ، أنّه لا وجه للتّفصيل بين الظّاهريّة والواقعيّة ؛ إذ جعل الصّحّة الظّاهريّة ، كصحّة الصّلاة بلا سورة حال الجهل ، فهو في الحقيقة يرجع إلى التّصرّف في المتعلّق برفع اليد عن الشّرطيّة والجزئيّة ، ومن المعلوم : أنّ الانطباق حينئذ قهري ، فتتّصف الصّلاة مع عدم السّورة بالصّحّة عقلا ، لا شرعا.
الأمر الرّابع : إذا وقع الشّكّ في مثل المقام ، هل هنا أصل يعوّل عليه ، لرفع الشّك ، أم لا؟
والتّحقيق في ذلك يقتضي أن يقال : إنّ الشّكّ تارة يقع في المسألة الاصوليّة بأن يشكّ في دلالة النّهي على الفساد ، أو في كونه ملازما له ، أم لا؟ واخرى يقع في المسألة الفرعيّة بأن يشكّ في الفساد وعدمه.
أمّا الشّكّ في المسألة الاصوليّة ، فالحقّ ، أنّه لا أصل فيها كي يرجع إليه لرفع الشّكّ ؛ إذ أوّلا : لا حالة سابقة لكلّ واحد من الملازمة والدّلالة حتّى يوهم جريان الاستصحاب عند الشّكّ فيهما ؛ وذلك ، لأنّ الملازمة من الأحكام العقليّة غير
__________________
(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٩٠.
المستقلّة ، يدور أمرها بين الوجود والعدم في الأزل ، فلو كانت الحرمة ملازمة للفساد لكانت كذلك أزلا ، وإلّا لم تكن كذلك أزلا.
وعليه : فالشّكّ فيها يرجع إلى الشّكّ في أصل ثبوت الملازمة وعدم ثبوتها في الأزل ، ومن المعلوم : أنّه لا أصل في مثل ذلك يعوّل عليه ، وهكذا الكلام في الدّلالة ، فإنّها تابعة للوضع ، والشّكّ فيها راجع في الحقيقة إلى الشّكّ في الوضع وعدمه ، وواضح ، أنّه لا حالة سابقة له ، بل أمره يدور بين الوجود والعدم ؛ إذ لو وضع لفظ : «النّهي» للفساد ، فهو موجود فعلا ولو وضع لغيره ، فهو ـ أيضا ـ موجود فعلا ، فلا أصل يعيّن دلالة اللّفظ وعدم دلالته.
وثانيا : لو فرض وجود الحالة السّابقه لهما ، فلا مجال للاستصحاب ـ أيضا ـ من جهة أنّ كلّ من الدّلالة والملازمة ليستا من الأحكام الشّرعيّة ، ولا من الموضوعات الّتي لها أحكام شرعيّة ، مع أنّه من المقرّر في محلّه ، أنّ المستصحب لا بدّ وأن يكون حكما شرعيّا ، أو موضوعا ذا حكم شرعيّ.
أمّا الشّكّ في المسألة الفرعيّة ، ففي مورد العبادات يقتضي الأصل الفساد ، إذا كان الملاك مشكوكا لعدم إحراز الملاك بعد عدم الأمر ، وقضيّة ذلك ليس إلّا فساد العبادة ، وإذا كان الملاك فيها معلوما محرزا قطعا يقتضي الأصل الصحّة ، وذلك ، نظير النّهي عن الضّدّ وهو الصّلاة ـ مثلا ـ النّاشي من الأمر بالشّيء وهو الإزالة ؛ وذلك ، لكفاية الملاك في الحكم بصحّة العبادة بلا حاجة إلى الأمر البتّة ، لما مرّ غير مرّة من أنّ عباديّة العبادة تتقوّم بأمرين : وهما : صلوحها للتّعبّد ، وقصد العامل للتّقرّب بها ، وعليه ، فعند الشّكّ في مانعيّة النّهيّ عن صحّة العبادة وكونه إرشادا إلى فسادها ، يرجع إلى البراءة.