آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨
عقلائيّ مقبول عندهم ، بلا فرق بين أن يكون الأمر في جانب المطلق دالّا على الوجوب ، أو الاستحباب.
ومنها : ما علم دلالته على الكراهة ، فالحقّ هنا ، كما عن الإمام الرّاحل (١) عدم حمل المطلق على المقيّد ؛ لعدم التّنافي بينهما ، نظير قولنا : «صلّ ، ولا تصلّ في الحمام» حيث إنّ النّهي على هذا ، يكون إرشادا إلى مرجوحيّة متعلّقه بالنّسبة إلى أفراد الآخر ، لا بحسب ذاته ، فلا يكون منافيا للأمر المقتضي لكون متعلّقه راجحا.
وإن شئت ، فقل : إنّ الصّلاة الواقعة في الحمام راجحة ذاتا ، لورود التّرخيص فيها حسب الفرض ، ومرجوحة قياسا إلى وقوعها في محلّ خاصّ ، فلا تجتمع الرّاجحيّة مع المرجوحيّة في مورد واحد ، ولا تكونان من جهة واحدة حتّى يحصل التّنافي ، فيعالج بحمل المطلق على المقيّد وتقييده به.
هذا ، ولكن يظهر المخالفة من كلام المحقّق الخراساني قدسسره ، حيث إنّه قدسسره التزم بالحمل ، والتّقييد مطلقا من دون إشارة إلى التّفصيل في النّهي ، بين دلالته على الحرمة ، ودلالته على الكراهة.
وإليك نصّ كلامه قدسسره : «فإن كانا مختلفين ، مثل «أعتق رقبة ، ولا تعتق رقبة كافرة ، فلا إشكال في التّقييد». (٢)
بل صرّح المحقّق الحائري قدسسره بهذه المخالفة ، فقال : «إذا ورد مطلق ومقيّد ، فإمّا يكونان متخالفين في الإيجاب ، وإمّا متوافقين ، لا محيص عن التّقييد في الأوّل ، ك «أعتق
__________________
(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٧٦ و ٧٧.
(٢) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٨٩.
رقبة ، ولا تعتق رقبة كافرة» سواء كان النّهي بعنوان الكراهة ، أو الحرمة ؛ لأنّ الظّاهر من قوله : «أعتق رقبة» «لا تعتق رقبة كافرة» مثلا ، تعلّق النّهي بالطّبيعة المقيّدة ، لا بإضافتها إلى القيد ، فلو كان مورد الأمر هو المطلق ، لزم اجتماع الرّاجحيّة والمرجوحيّة في مورد واحد». (١)
والإنصاف ، أنّه لا يبقى المجال للمخالفة ، بعد ما عرفت منّا التّحقيق في المسألة.
ومنها : ما لم يعلم دلالة النّهي على شيء من الحرمة والكراهة ، فالحقّ هنا هو الحكم بالإجمال ؛ وذلك ، لأنّ المفروض ، عدم العلم بالحرمة كي يحمل المطلق على المقيّد ، وكذا عدم العلم بالكراهة كي لا يحمل ، ويكون النّهي إرشادا إلى المرجوحيّة النّسبيّة الإضافيّة على ما حققناه آنفا ، وعليه ، فلو شككنا في أنّ إعتاق رقبة كافرة ، هل يكون مجزيا ويحصل به امتثال الأمر بعتق الرّقبة ، أم لا؟ يحكم بعدم الإجزاء ، فيجب إعتاق رقبة مؤمنة ؛ إذ الاشتغال اليقينيّ يقتضي البراءة اليقينيّة.
وبالجملة : الشّكّ هنا ، إنّما يكون في مرحلة الامتثال ، لا في موقف الاشتغال ، فيلزم الاحتياط ، إلّا أن يقال في المقام : بإجراء أصالة عدم اشتراط الإيمان ، أو البراءة عن اشتراطه ، أو عن مانعيّة الكفر بمقتضى حديث الرّفع ، فتأمّل جيّدا.
هذا ، ولكن قد يقال : بحمل المطلق على المقيّد في فرض الكلام ، بتقريب : أنّ ظهور النّهي في التّحريم وضعيّ تنجيزيّ ، فيقدّم على الظّهور الإطلاقيّ التّعليقيّ.
وفيه : أنّه مبنيّ على وضع هيئة الأمر والنّهي للوجوب والحرمة ،
__________________
(١) درر الفوائد : ج ١ ، ص ٢٣٦.
وقد عرفت ما فيه من الوهن ، والخلوّ عن الدّقة.
وقد يقال ، أيضا : باندراج المطلق والمقيّد في باب اجتماع الأمر والنّهي ، نظير : «صلّ ولا تغصب» فلا تعارض بينهما على القول بالجواز ، وإلّا فيتعارضان.
وفيه : أنّ تلك المسألة عقليّة أجنبيّة عن أمثال مسألة المطلق والمقيّد ، وكذا العامّ والخاصّ ، ونحوهما من المسائل العرفيّة العقلائيّة ، وهذا واضح.
ثمّ إنّ الإمام الرّاحل قدسسره ـ بعد الإشارة إلى أنّ للتّوقف فيه مجالا ـ ذهب إلى أنّ الأظهر هو حمل المطلق على المقيّد ، وإبقاء النّهي على ظهوره ؛ معلّلا بقوله : «لأنّ التّنافي ، كما هو عرفيّ ، كذلك الجمع عرفيّ ـ أيضا ـ ولا شكّ أنّ لحاظ محيط التّشريع يوجب الاستيناس والانتقال إلى كونهما من باب المطلق والمقيّد ، لشيوع ذلك الجمع وتعارفه بينهم ، وأمّا جعل المطلق بيانا للنّهي وأنّ المراد منه هو الكراهة ، فهو جمع عقليّ لا يختلج بباله ، لعدم معهوديّة هذا التّصرّف ؛ ويمكن أن يقال : إنّ الهيئات بما هي معان حرفيّة لا يلتف إليها الذّهن حين التفاته إلى المطلق والمقيد والجمع بينهما ، وكيف كان ، فلا ينبغي الإشكال في حمل المطلق على المقيد في هذه الصّورة». (١)
ولكن يرد الإشكال على مواضع من كلامه قدسسره :
الأوّل : قوله قدسسره : «الأظهر هو حمل المطلق على المقيّد ...» فإنّ هذا القول خلف وعدول عمّا هو المفروض من مجهوليّة دلالة النّهي وعدم انعقاد الظّهور له في الحرمة أو الكراهة.
الثّاني : قوله قدسسره : «ولا شكّ أنّ لحاظ محيط التّشريع يوجب الاستيناس
__________________
(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٧٧.
والانتقال إلى كونهما من باب المطلق ...» فإنّ هذا القول ليس إلّا إلحاق الشّيء بالأعمّ الأغلب ، فلو كان هنا ظهور ولا بدّ من إبقاء النّهي المقيّد على ظهوره وهي الحرمة ، فما معنى الجهل بالدّلالة؟ وما معنى الاستيناس للشّيوع والتّعارف؟
الثّالث : قوله قدسسره : «ويمكن أن يقال : إنّ الهيئات بما هي معان حرفيّة لا يلتفت إليها ...» فإنّه لا معنى لعدم الالتفات إلى الهيئات ، مع أنّ المفروض هو الالتفات إليها وإلى أصل دلالتها ، غاية الأمر : تكون الدّلالة مجهولة بالنّسبة إلى الحرمة والكراهة.
الرّابع : قوله قدسسره : «وكيف كان ، فلا ينبغي الإشكال في حمل المطلق على المقيّد ...» فإنّ هذا القول ـ أيضا ـ لا معنى له ؛ إذ من المحتمل أن يكون مفاد النّهي هي الكراهة ، فلا تنافي حينئذ في البين كي يوجب الحمل المذكور ، كما اشير إليه فيما إذا احرز وعلم أنّ النّهي تنزيهيّ.
فتحصّل : أنّه لا مناص في مثل المقام ، من الالتزام بالإجمال ، والرّجوع إلى قاعدة الاشتغال عند الشّكّ في تحقّق الامتثال بإتيان المقيّد الّذي تعلّق به النّهي وهو إعتاق رقبة كافرة في المثال المتقدّم ، فيجب تحصيل الفراغ اليقيني من طريق الاحتياط بإعتاق رقبة مؤمنة ، إلّا أن يقال : بعدم لزوم الاحتياط ، تمسّكا بأصالة عدم اشتراط الإيمان ، أو عدم مانعيّة الكفر ، أو بحديث الرّفع الّذي يقتضي البراءة عن اشتراط الإيمان ، أو عن مانعيّة الكفر ، فتأمّل جيّدا. هذا كلّه في الصّورة الاولى.
الصّورة الثّانية : أنّ المطلق والمقيّد متّفقان في الإثبات ، مع كون الحكم فيهما تكليفيّا إلزاميّا ، نظير قولنا : «أعتق رقبة ، وأعتق رقبة مؤمنة» فلا إشكال هنا في الحكم بحمل المطلق على المقيّد إذا احرز وحدة المطلوب بينهما ؛ وذلك ، لأجل التّنافي
حينئذ ، فلا بدّ من الجمع العرفيّ الدّلالي ، كما مرّ بيانه مفصّلا ؛ وكذا لا إشكال ـ أيضا ـ في الحكم بعدم الحمل المذكور إذا احرز تعدّد المطلوب بينهما بأن يكون كلّ واحد من المطلق والمقيّد مطلوبا للمولى ، إلّا أنّ المقيّد مطلوب عال والمطلق مطلوب دان ؛ إذ العرف حينئذ لا يرى التّنافي بينهما كي يعالج بالنّهج العرفيّ المذكور ، بل يجمع بينهما بحمل المقيّد على أفضل الأفراد ، إنّما الإشكال فيما إذا لم يحرز المطلوب رأسا ، لا وحدته ولا تعدّده.
فعن الإمام الرّاحل قدسسره هو حمل المطلق على المقيّد ، حيث قال في تقريب ذلك ، ما هذا لفظه : «إنّ ملاحظة محيط التّشريع وورود الدّليلين في طريق التّقنين ، توجب الاطمئنان بكونهما من هذا القبيل ، خصوصا تكرّر تقييد المطلقات من الشّارع». (١)
وفيه : أنّ هذا الكلام ، كما عرفت آنفا ، خلف وخروج عن مفروض البحث ؛ إذ مرجعه إلى صورة إحراز وحدة المطلوب ، كما لا يخفى.
والحقّ هنا ـ أيضا ـ هو الالتزام بالإجمال ، والرّجوع إلى قاعدة الاشتغال بالتّقريب الّذي مرّ آنفا ، من أنّ المطلوب لو كان واحدا ، لزم الحمل ، فلا يجوز الاكتفاء بغير مورد القيد ؛ ولو كان متعدّدا لزم عدم الحمل ، فيجوز الاكتفاء به ويحمل مورد القيد على أفضل الأفراد ، وأمّا مع عدم إحراز كلّ واحد منهما ، فيقع الإجمال ، ولا مرجع حينئذ ، إلّا الاشتغال والاحتياط ، لرجوع الشّكّ حينئذ إلى مرحلة الامتثال.
اللهمّ إلّا أن يمنع عن الاحتياط بإجراء أصالة عدم اشتراط الإيمان ، أو البراءة عنه ، أو عن مانعيّة الكفر ، كما عرفت في الصّورة الاولى.
__________________
(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٧٨.
الصّورة الثّالثة : أنّ المطلق والمقيّد متّفقان في النّفي ، مع كون الحكم فيهما تكليفيّا إلزاميّا ، نظير قولنا : «لا تعتق رقبة ، ولا تعتق رقبة كافرة».
ذهب الإمام الرّاحل قدسسره (١) إلى لزوم حمل المطلق على المقيّد هنا إن كان في البين مفهوم ، وإلّا فلا ؛ ولكن ذهب قوم إلى عدم حمل المطلق على المقيّد ، معلّلين بعدم التّنافي بين انتفاء الحكم عن الطّبيعة وانتفاءه عن الفرد لكون التّأكيد بابا واسعا بل ادّعى بعضهم عدم الخلاف في المسألة ، كما عن العلّامة الحلّي قدسسره ؛ وبعضهم الإجماع فيها (٢) ، كما عن شيخنا البهائي قدسسره (٣) ؛ وبعضهم الاتّفاق فيها ، كما عن صاحب المعالم قدسسره (٤).
والحقّ ، إلحاق هذه الصّورة ـ أيضا ـ بالصّورة الثّانية ، فمع إحراز وحدة المطلوب ، يجب الحمل والتّقييد ، ومع إحراز تعدّده ، يجب عدمه ، ومع عدم إحراز الوحدة والتّعدّد ، تصير المسألة مجملة ، والمرجع عند الشّكّ في حرمة غير مورد القيد ، كعتق رقبة غير كافرة ، هي البراءة ؛ بداهة ، رجوع الشّكّ حينئذ إلى أصل التّكليف ، لا إلى مقام الامتثال بعد العلم بالاشتغال ، كما في الصّورة الثّانية. هذا كلّه مع عدم ذكر السّبب.
وأمّا مع ذكر السّبب في كلا الدّليلين ، ففي فرض تعدّده واختلافه ماهيّة ، مثل : «إن ظاهرت ، فأعتق رقبة» و «إن أفطرت ، فأعتق رقبة مؤمنة» لا حمل ؛ لعدم
__________________
(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٧٩.
(٢) مطارح الأنظار : ص ٢٢٣ ، س ٤ و ٥.
(٣) زبدة الاصول : ص ١٤١.
(٤) معالم الاصول : ص ١٤٦.
التّنافي ، وفي فرض اتّحاده ماهيّة ، مثل : «إن أفطرت ، فأعتق رقبة» و «إن أفطرت ، فأعتق رقبة مؤمنة» لا بدّ من حمل المطلق على المقيّد ؛ لاستظهار وحدة المطلوب من وحدة السّبب.
ومع ذكر السّبب في أحد الدّليلين ، مثل : «أعتق رقبة ، وإن ظاهرت ، فأعتق رقبة مؤمنة» أو بالعكس ، بأن ذكر السّبب في المطلق دون المقيّد ، فلا حمل هنا ـ أيضا ـ لعدم وجود التّنافي بينهما حينئذ ؛ وذلك ، لأنّ العرف يرى : أنّ هنا واجبا لأجل الظّهار ، وواجبا آخر من غير سبب ولا شرط ، سواء حصل الظّهار ، أم لا.
ثمّ إنّ المحقّق النّائيني قدسسره بعد اختياره عدم حمل المطلق على المقيّد في المقام ، ذكر له وجها ، لا يخلو من دقّة وجودة ، وهو أنّ الحمل هنا مستلزم للدّور ، وأفاد في تقريبه ، ما هذا لفظه : «لأنّ حمل إطلاق متعلّق التّكليف في أحد الدّليلين على ما هو المقيّد في الدّليل الآخر ، يتوقّف على ثبوت التّنافي بينهما المتوقّف على وحدة التّكليف النّاشئة من حمل إطلاق الوجوب في أحدهما على المقيّد في الآخر ، بأن يقيّد إطلاق وجوب عتق الرّقبة المؤمنة في مفروض المثالين ، بتحقّق الظّهار المأخوذ قيدا للوجوب في الدّليل الآخر ؛ ومن الواضح : أنّ الحمل المزبور ، أعني : به حمل إطلاق أحد الوجوبين على مقيّدهما ، يتوقّف على ثبوت التّنافي بينهما المتوقّف على وحدة متعلّقيهما النّاشئة من حمل إطلاق أحد المتعلّقين على مقيّدهما ، فيتوقّف الحمل في كلّ من الطّرفين على الحمل في الطّرف الآخر ، وهو مستلزم للدّور». (١)
هذا تمام الكلام في الصّور المذكورة بالنّسبة إلى الأحكام التّكليفيّة الإلزاميّة ، وأمّا الكلام فيها بالنّسبة إلى الأحكام التّكليفيّة غير الإلزاميّة ، وكذا بالنّسبة إلى
__________________
(١) أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٥٣٧.
الأحكام الوضعيّة ، فنقول : الحقّ هنا تبعا لشيخنا الاستاذ الآملي قدسسره جريان حمل المطلق على المقيّد ، كالأحكام التّكليفيّة الإلزاميّة ، إلّا إذا لم يحرز وحدة المطلوب ، ولعلّ الغالب عدم الإحراز لمكان تفاوت مراتب الاستحباب ، فلا منافاة بين مثل :
«يستحبّ الدّعاء ، ويستحبّ دعاء كميل ـ مثلا ـ» أو مثل : «يستحبّ الدّعاء ، ويستحبّ الدّعاء عند رؤية الهلال».
ومن هنا يظهر ضعف ما عن المشهور (١) من اختصاص حمل المطلق على المقيّد بالواجبات ؛ وكذا يظهر ضعف ما عن المحقّق الخراساني قدسسره من التّمسّك ، لعدم الحمل في المستحبّات والالتزام بالتّأكّد فيها بوجهين :
أحدهما : ثبوت تفاوت مراتب المستحبّات غالبا ، وكون هذه الغلبة قرينة على حمل المقيّد على أفضل الأفراد.
ثانيهما : ثبوت استحباب المطلق من ناحية صدق موضوع أخبار من بلغ إليه (٢) ، فيتسامح فيه ، كما يتسامح في المقيّد ، لا من ناحية دليل الاستحباب كي يلزم التّقييد ورفع اليد عن استحبابه.
وجه ظهور الضّعف ، أمّا بالنّسبة إلى الوجه الأوّل ، فهو أنّ مجرّد الغلبة لا تجدي في الحمل على التّأكّد ، ولا تمنع عن قرينيّة المقيّد ـ عرفا ـ على تعيين المراد من المطلق ، فالمقيّد لو كان متّصلا ، لكان مانعا عن انعقاد ظهور إطلاقيّ ، ولو كان منفصلا ، لكان مانعا عن حجيّة ذلك الظّهور.
__________________
(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٩٣.
(٢) راجع ، وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمات العبادات ، الحديث ٣ ، ص ٦٠.
وأمّا بالنّسبة إلى الوجه الثّاني ، فهو أنّ دليل المقيّد لو كان قرينة على تعيين المراد من المطلق ، لم يصدق عنوان البلوغ على المطلق كي يكون المطلق موضوعا لأخبار من بلغ ، على أنّ مفاد هذه الأخبار ليس هو استحباب العمل ، بل الأخبار إرشاد إلى ما استقلّ به العقل من حسن الإتيان بالعمل البالغ عليه الثّواب برجاء إدراك الواقع.
فتحصّل : أنّ الحقّ هو عدم الفرق بين الواجبات والمستحبّات ، فلا بدّ من الالتزام بالحمل في بعض الموارد المستحبّة ، أيضا.
منها : ما إذا كان دليل المقيّد ذا مفهوم ، نظير ما إذا دلّ المطلق على استحباب صلاة اللّيل ، ودلّ المقيّد على استحبابها إذا أتى بها بعد نصف اللّيل ، بناء على كون الشّرط ذا مفهوم.
ومنها : ما إذا كان دليل المقيّد ناظرا إلى المانعيّة أو الشّرطيّة ، نظير ما دلّ المطلق على استحباب الإقامة ، ودلّ المقيّد على النّهي عنها حال الجلوس ، أو الحدث وعدم الطّهارة.
ففي هذين الموردين ، لا مناص من حمل المطلق على المقيّد ، لإحراز وحدة المطلوب فيهما ووجود التّنافي بينهما.
نعم ، لا يجب الحمل في بعض موارد أخر ، لعدم إحراز وحدة المطلوب فيها وعدم وجود التّنافي ، مثل : «زيارة إمامنا الحسين عليهالسلام» حيث إنّه وردت مطلقات تدلّ على استحبابها ، ومقيّدات تدلّ عليه في أوقات خاصّة.
وأنت ترى ، أنّ المفروض هنا ، كون المكلّف مرخّصا في ترك القيد ، فلا تنافي في البين ، ولا ملزم للحمل ، إلّا أن يستفاد المفهوم وأنّه لا استحباب في غير تلك الأوقات.
المسألة السّادسة :
المجمل والمبين
(المسألة السّادسة : المجمل والمبيّن)
والكلام هنا يقع في امور :
الأوّل : الظّاهر أنّ هذين العنوانين ، كعنواني المطلق والمقيّد مستعملان في معناها اللّغوي ، بلا حدوث اصطلاح خاصّ اصولي.
الثّاني : أنّ المجمل والمبيّن في كلّ شيء يكون بحسبه ، فيصحّ إطلاقهما على الفعل والعمل ، كما يصحّ إطلاقهما على القول واللّفظ.
غاية الأمر : أنّ المجمل في الفعل ، عبارة عن كون وجه وقوعه مجهولا ، والمبيّن فيه عبارة عن كون وجهه معلوما ؛ وأمّا المجمل في اللّفظ ، فعبارة عن كونه غير ظاهر المعنى ، والمبيّن ، عبارة عن كونه ظاهر المعنى.
الثّالث : أنّ إجمال اللّفظ قد يكون بحسب الإرادة الاستعماليّة ، فيسمّى ب «الإجمال الحقيقيّ» كلفظة : «العين» المستعملة بلا قرينة ، وقد يكون بحسب الإرادة الجديّة ، فيسمّى ب «الإجمال الحكميّ» كالعامّ المخصّص بدليل منفصل يدور أمره بين المتباينين ، لما مرّ في مبحث العامّ والخاصّ من سراية إجمال الخاصّ إلى العامّ حكما ، لكون الإجمال في المراد الجدّي منه.
الرّابع : يظهر من كلام المحقّق الخراساني قدسسره أنّ الإجمال قد يكون ناشئا من الجهل بالوضع ، حيث قال : «إنّهما وصفان إضافيّان ، ربّما يكون مجملا عند واحد ، لعدم
معرفته بالوضع». (١)
ولكنّه غير تامّ ، كيف ، أنّه يلزم منه أن يكون «القرآن المبين» كلّه مجملا عند الجاهلين بأوضاع اللّغات العربيّة ، وكذا يلزم منه أن تكون اللّغات العربيّة مجملة عند الفرس ، واللّغات الفارسيّة مجملة عند العرب. وهذا كما ترى.
وبالجملة : لا بدّ من الرّجوع في كلّ مورد إلى فهم العرف ، فإن كان للكلام ظهور عندهم ، يؤخذ به ، وإلّا فيرجع إلى الأدلّة الأخر لو كانت ، وإلّا فإلى الاصول والقواعد المقرّرة.
وكيف كان ، لا يهمّنا التّعرض لموارد الخلاف والاختلاف بعد كون المسألة صغرويّة ، لا كبرويّة ، وعدم وجود الضّابطة فيها.
ولنعم ما أفاد شيخنا الاستاذ الآملي قدسسره حيث قال : «لا شبهة في كونهما من المفاهيم المبيّنة عند العرف ، ولا يكون هنا ضابطة ، بل لا بدّ من الفحص في الفقه ، والرّجوع في كلّ مورد إلى فهم العرف بملاحظة خصوصيّات ذلك المورد». (٢)
هذا تمام الكلام في الجزء الثّاني ويتلوه ـ إن شاء الله الرّحمن ـ الجزء الثّالث المتكفّل لمبحث القطع والظّن.
«والحمد لله ربّ العالمين»
__________________
(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٩٨.
(٢) تقريرات بحوثه قدسسره القيّمة بقلم الرّاقم.
فهرس الموضوعات
الموضوع |
الصّفحة |
الجهة الخامسة : الأمر بالشّيء هل يقتضي النّهي عن ضدّه........................... ١١
الضدّ الخاصّ................................................................... ١٦
الضدّ العامّ.................................................................... ٢٦
ثمرة النّزاع في المسألة............................................................. ٢٩
تتميم......................................................................... ٣٦
التّرتّب........................................................................ ٤١
تتميم وتكميل................................................................. ٦١
الجهة السّادسة : أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه.................................. ٦٧
الجهة السّابعة : تعلّق الأوامر بالطّبائع دون الأفراد................................... ٧٠
ثمرة النّزاع...................................................................... ٧٢
الجهة الثّامنة : نسخ الوجوب..................................................... ٧٣
الجهة التّاسعة : الواجب التّخييريّ والتّعيينيّ......................................... ٧٥
التّخيير بين الأقلّ والأكثر....................................................... ٧٧
الجهة العاشرة : الواجب الكفائي.................................................. ٧٩
الجهة الحادية عشر : الواجب الموسّع والمضيّق....................................... ٨١
تابعيّة القضاء للأداء............................................................ ٨٢
الجهة الثّانية عشر : الأمر بالأمر بشيء............................................ ٨٥
الجهة الثّالثة عشر : الأمر بشيء بعد الأمر به...................................... ٨٧
المسألة الثّانية : النّواهي ـ ص ٨٩
الفصل الأوّل : معنى مادّة النّهي وهيئته............................................ ٩١
الفصل الثّاني : اجتماع الأمر والنّهي.............................................. ٩٦
تمايز المسألة عن مسألة النّهي في العبادات......................................... ٩٩
ثمرة مسألة اجتماع الأمر والنّهي................................................. ١٢٠
تتمّة........................................................................ ١٣٠
الفصل الثّالث : اقتضاء النّهي عن الشّيء للفساد................................. ١٣٢
تذنيب...................................................................... ١٥٢
المسألة الثّالثة : المفاهيم ـ ص ١٥٧
مفهوم الشّرط................................................................ ١٦١
تتميم....................................................................... ١٦٩
حقيقة المفهوم................................................................ ١٦٩
تعدّد الشّرط واتّحاد الجزاء....................................................... ١٧٤
تداخل الأسباب والمسبّبات..................................................... ١٧٨
مقتضى الأصل العملي........................................................ ١٩٠
استدراك وتطبيق.............................................................. ١٩٢
مفهوم الوصف............................................................... ١٩٤
مفهوم الغاية.................................................................. ٢٠٥
مفهوم الاستثناء............................................................... ٢٠٦
مفهوم اللّقب والعدد.......................................................... ٢١٠
المسألة الرّابعة : العامّ والخاصّ ـ ص ٢١٥
تذنيب...................................................................... ٢٢٣
الفصل الأوّل : حجّيّة العامّ المخصّص في الباقي................................... ٢٢٦
وهم ودفع................................................................... ٢٤٠
الفصل الثّاني : العمل بالعامّ قبل الفحص........................................ ٢٦٩
الفصل الثّالث : الخطابات الشّفاهيّة............................................. ٢٧٧
الفصل الرّابع : تعقّب العامّ بضمير يرجع إلى بعض................................ ٢٨٢
الفصل الخامس : تخصيص العامّ بالمفهوم المخالف................................. ٢٨٧
الفصل السّادس : الاستثناء المتعقّب للجمل...................................... ٢٩٠
الفصل السّابع : تخصيص الكتاب بالخبر الواحد.................................. ٢٩٣
الفصل الثّامن : دوران الأمر بين التّخصيص والنّسخ............................... ٢٩٦
النّسخ....................................................................... ٣٠٥
البداء....................................................................... ٣٠٧
المسألة الخامسة : المطلق والمقيّد ـ ص ٣١١
الموضع الأوّل : اسم الجنس..................................................... ٣١٥
الماهيّة وأقسامها............................................................... ٣١٦
علم الجنس................................................................... ٣٢٣
الموضع الثّاني : مقدّمات الحكمة................................................ ٣٢٥
الموضع الثّالث : العمل بالمطلق قبل الفحص...................................... ٣٣٦
الموضع الرّابع : حمل المطلق على المقيّد............................................ ٣٣٩
المسألة السّادسة : المجمل والمبيّن ـ ص ٣٥١
فهرس الموضوعات............................................................. ٣٥٥
مصادر الكتاب............................................................... ٣٥٩
مصادر الكتاب
١ ـ القرآن الكريم.
٢ ـ الاصول من الكافي ، الشّيخ الكليني ، دار صعب ودار التّعارف ، بيروت (الطّبعة الرّابعة ، ١٤٠١ ه).
٣ ـ التّفسير الكبير ، الفخر الرّازي ، دار إحياء التّراث العربي ، بيروت.
٤ ـ التّوحيد ، الشّيخ الصّدوق ، مكتبة الصّدوق ، طهران (١٣٨٧ ه. ق).
٥ ـ العروة الوثقى ، السّيّد اليزدي ، مؤسّسة النّشر الإسلامي ، قم (١٤٢٠ ه. ق).
٦ ـ الفصول الغرويّة ، الشّيخ محمّد حسين الأصفهاني ، الطّبعة القديمة (١٢٧٧ ه ق).
٧ ـ المنخول ، الغزالي ، دار الفكر ، بيروت.
٨ ـ أجود التّقريرات ، السّيّد الخوئي ، تقريرا لبحث المحقّق النّائيني ، مكتبة المصطفوي ، قم.
٩ ـ تشريح الاصول ، الشّيخ النّهاوندي ، (طبع سنة ١٣٢٠ ه).
١٠ ـ تهذيب الأحكام ، الشّيخ الطّوسي ، دار الكتب الإسلاميّة ، طهران.
١١ ـ جامع المقاصد ، المحقّق الثّاني الشّيخ علي الكركي ، مؤسّسة آل البيت (ع) ، قم (١٤١١ ه).
١٢ ـ جواهر الكلام ، الشّيخ محمّد حسن النّجفي ، دار الكتب الإسلاميّة ، طهران.
١٣ ـ درر الفوائد ، الشّيخ الحائري ، مؤسّسة النّشر الإسلامي ، قم.
١٤ ـ زبدة الاصول ، الشّيخ البهائي ، المحقّق فارس حسون كريم ، النّاشر مرصاد ، ١٤٢٣ ق.
١٥ ـ سنن ابن ماجة ، محمّد بن يزيد القزويني ، دار الفكر ، بيروت.
١٦ ـ سنن النّسائي ، أحمد بن شعيب النّسائي ، دار الكتب العلميّة ، بيروت.
١٧ ـ شرح كفاية الاصول ، الشّيخ عبد الحسين الرّشتي ، المطبعة الحيدريّة في النّجف (١٣٧٠ ه).
١٨ ـ صحيح مسلم ، مسلم بن الحجاج ، مؤسّسة عزّ الدّين ، بيروت (١٤٠٧ ه).
١٩ ـ فوائد الاصول ، الشّيخ الكاظمي ، تقريرا لبحث المحقّق النّائيني ، مؤسّسة النّشر الإسلامي ، قم.
٢٠ ـ قوانين الاصول ، الميرزا القمي ، مكتبة العلميّة الإسلاميّة ، طهران.
٢١ ـ كتاب الطّهارة ، الشّيخ الأنصاري ، مؤسّسة آل البيت (ع) ، قم.
٢٢ ـ كتاب المصباح المنير ، الفيّومي ، المطبعة الأميريّة ، القاهرة (١٩٢٨ م).
٢٣ ـ كفاية الاصول ، الآخوند الخراساني ، مكتبة العلميّة الإسلاميّة ، طهران.
٢٤ ـ مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان ، المولى احمد الأردبيلي ، منشورات جامعة المدرّسين ، قم (١٤٠٣ ه. ق).
٢٥ ـ محاضرات في اصول الفقه ، الشّيخ الفياض ، تقريرا لبحث السّيّد الخوئي ، دار الكتب العلميّة ، قم.
٢٦ ـ مختلف الشّيعة ، العلّامة الحسن بن يوسف الحلّي ، مكتبة نينوى الحديثة ، طهران.
٢٧ ـ مسند أحمد بن حنبل ، أحمد بن حنبل الشّيباني ، دار الفكر ، بيروت.
٢٨ ـ مصباح الفقيه ، الفقيه الهمداني ، مكتبة الدّاوري ، قم.
٢٩ ـ مطارح الأنظار ، الشّيخ ابو القاسم الكلانتري النّوري ، مؤسّسة آل البيت (ع) ، قم.
٣٠ ـ معالم الاصول ، الشّيخ حسن بن زين الدّين العاملي ، بخطّ عبد الرّحيم ، (المطبوع ١٢٩٧ ه) ، طهران.