مفتاح الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

ثالثها : البدليّ ، واللّفظ المفيد له هو «أيّ» سواء كان استفهاميّا ، كما في قوله تعالى (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها)(١) أو غيره ، كقوله تعالى (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)(٢) ويظهر من هذا التّقسيم ، أنّ العامّ يفترق عن الإطلاق ، فإنّه لا ينقسم إلى هذه الأقسام الثّلاثة ؛ إذ لا يمكن إثبات واحد منها بمقدّمات الحكمة.

توضيح الفرق : أنّ العامّ قد يعمّ مصاديق المتعلّق وأفراده بأسرها عرضا ، لا واحدا منها فقط على نحو البدليّة ، ولا «الكلّ» و «المجموع» بما هو مجموع وبنعت الاجتماع ، فيسمّى عامّا استغراقيّا ، يكون لكلّ واحد واحد من الأفراد امتثال وعصيان على حدة ، ونتيجته ، تحقّق الامتثالات والعصيانات بعدد أفراد المتعلّق.

وقد يعمّ أفراد المتعلّق بأسرها عرضا ، لكن لا على وجه العرضيّة ، بل بنعت الوحدة ووصف الاجتماع ، بحيث تصير الأفراد كالأجزاء ، فيسمّى عامّا مجموعيّا يكون للمجموع امتثال وعصيان ، ونتيجته ، تحقّق امتثال واحد عند إتيان المجموع ، وتحقّق عصيان واحد عند تركه.

وقد يعمّ الجميع على نحو البدليّة ، بمعنى : أنّه يشمل الواحد لا بعينه ، فيسمّى عامّا بدليّا ، يكون هنا ـ أيضا ـ امتثال وعصيان واحد ، كالعامّ المجموعيّ ، إلّا أنّ الامتثال يتحقّق بإتيان واحد فقط ، والعصيان يتحقّق بترك الجميع وكلّ واحد ، بخلاف العامّ المجموعيّ ، فإن الامتثال هناك يتحقّق بإتيان المجموع ، والعصيان يتحقّق بتركه. هذا في العامّ.

__________________

(١) سورة النّمل (٢٧) : الآية ٣٨.

(٢) سورة الإسراء (١٧) : الآية ١١٠.

٢٢١

أمّا المطلق فقد عرفت في الجهة الاولى ، أنّ حقيقة الإطلاق ليست إلّا وقوع نفس الشّيء ، كالطّبيعة ، موضوعا للحكم بلا قيد ومن دون تعرّض للكثرة ، فضلا عن كيفيّتها من استغراق ونحوه.

وإن شئت فقل : إنّ الإطلاق ليس إلّا رفض القيود لا جمعها ، ولا يحرز به إلّا أنّ المراد هو نفس الموضوع له ، وقد أشرنا إلى أنّ الموضوع له لأسماء الأجناس هي نفس الجنس وصرف الطّبيعة المجرّدة عن كلّ قيد حتّى هذا القيد.

أو فقل : إنّ نتيجة الإطلاق ليست إلّا تطابق الإرادة والوضع ، فأراد المتكلّم المستعمل عين ما عيّنه الواضع بعنوان الموضوع له وهي نفس الطّبيعة وصرف الجنس بلا أيّ قيد وأيّة خصوصيّة ، وحينئذ ليس في وسع الإطلاق إثبات العموم وكيفيّته من الاستغراق وقسيميه.

وعليه : فما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) من أنّ قضيّة مقدّمات الحكمة مختلفة ، ففي بعض المقامات تفيد عموما استغراقيّا ، وفى بعضها بدليّا ، وفي الآخر مجموعيّا ، لم أقدر إلى الآن على تحصيله ؛ كيف ، وأنّ مقدّمات الحكمة إنّما تفيد تطابق الإرادة والوضع ، أو تطابق ما وقع تحت حيطة الحكم والموضوع له ، وهذا أمر واحد في جميع الموارد ، لا يختلف بحسب اختلاف المقامات ، إنّما الاختلاف في حكم العقل والعقلاء ، حيث إنّه يختلف باختلاف المسائل والموارد.

ولا يخفى عليك : أنّه أجنبيّ عن باب الألفاظ ومسألة العموم والإطلاق.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٩٥ إلى ٣٩٧.

٢٢٢

تذنيب :

يظهر من المحقّق الخراساني قدس‌سره أنّ منشأ انقسام العموم إلى الأقسام الثّلاثة المتقدّمة هو اختلاف كيفيّة تعلّق الأحكام بالعامّ ، ولو لا ذلك ، فليس في البين انقسام ؛ إذ العموم في الجميع ، بمعنى : واحد وهو شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه.

ولكنّه محلّ تأمّل ؛ إذ لا شبهة في أنّ الموضوع كان في رتبة متقدّمة على الحكم وبمنزلة العلّة له ، كما لا شبهة في أنّ الحكم تابع للموضوع ومتقوّم به ، بمعنى : أنّه لا بدّ أوّلا : من تحقّق الموضوع وتقرّره في أصل وجوده وفي كيفيّة حصوله من الإطلاق والتّقييد أو العموم والخصوص ، أو كيفيّة العموم من الاستغراق وغيره ، ثمّ ترتّب الحكم عليه وتعلّقه به ثانيا.

وبعبارة اخرى : أنّه لا مناص من أن يتعيّن الموضوع بجميع جهاته وشئونه ثبوتا ، ومن أن يتعيّن كذلك بما يدلّ عليه ويحكي عنه إثباتا ، ثمّ يتصوّر الحكم عليه في القضيّة المعقولة وينشأ الحكم عليه في القضيّة الملفوظة ، فالموضوع متقدّم على الحكم في الوجود وطوره.

وعليه : فلا يمكن أن يجيء كيفيّة عموم الموضوع ، كأصل عمومه ووجوده من قبل حكمه.

ويشهد له : أنّه لو كان كذلك ، لكان اللّازم في المحاورة العرفيّة والخطابات العقلائيّة لحاظ الحكم أوّلا ، ثمّ لحاظ تعلّق الحكم بالعامّ ثانيا ، ثمّ لحاظ كيفيّة تعلّق الحكم وتحصيلها بمعونة القرائن ثالثا ، ثمّ استكشاف كيفيّة عموم الموضوع والعامّ من

٢٢٣

الاستغراق وغيره رابعا ، مع أنّه ليس كذلك ، ألا ترى ، أنّهم يفهمون من أدوات العموم ، أصل العموم وكيفيّته ، من دون لحاظ الحكم وبلا انتظار وطلب قرائن دالّة على كيفيّة تعلّقه بالموضوع العامّ.

وكذلك يشهد له : أنّ لكلّ واحد من الأقسام الثّلاثة ، لفظا ودالّا خاصّا غير ما للآخر ، كلفظة : «كلّ» و «جميع» في الاستغراقيّ ، ولفظة : «مجموع» في المجموعيّ ولفظة : «أيّ» في البدليّ ، وأنت ترى ، أنّ هذه الألفاظ تدلّ على العموم وكيفيّته ، دلالة تصوريّة ناشئة من الوضع ، سواء كان هناك حكم ، أو لا ، وأمّا إرادة كلّ واحد منها ، فيستكشف من أصالة تطابق الجدّ والاستعمال ، كما هو واضح.

الجهة الرّابعة : أنّه لا ريب ولا كلام في أنّ لفظة : «كلّ» و «جميع» و «مجموع» و «أيّ» ممّا وضع للعموم ويعدّ من ألفاظه ، كما أشرنا إليه آنفا ، إنّما الكلام في أنّ النّكرة في سياق النّهي أو النّفي ، وكذا اسم الجنس ، هل هما من ألفاظ العموم ، أو لا؟

وجهان ، بل قولان ، والحقّ هو الثّاني ؛ وذلك ، لأنّ اسم الجنس ، كما أشرنا سابقا ، إنّما وضع بإزاء نفس الطّبيعة وصرف الجنس بلا قيد ، من دون دلالة له على العموم والكثرة ، ولا على الخصوص والوحدة ، وأمّا النّكرة وهي تدلّ على الطّبيعة بقيد الوحدة بمعونة التّنوين.

ومن المعلوم : أنّ ألفاظ النّهي أو النّفي إنّما وضعت لنفي المتعلّق ، أو النّهي والزّجر عنه بلا دلالة لها على الكثرة والعموم ، وقد عرفت في محلّه ، أنّه لا وضع للمركّب بجملته ، مضافا إلى وضعه بموادّه وهيئاته.

وعليه : فمن أين جاء الوضع للعموم في النّكرة المفروضة؟ بل لا فرق بين

٢٢٤

النّكرة الواقعة تلوهما ، وبين الواقعة في تلو الإثبات من ناحية الدّلالة الوضعيّة ، كما لا فرق بينهما من ناحيه احتياجهما إلى مقدّمات الحكمة.

غاية الأمر : يختلف نتيجة المقدّمات في النّفي والإثبات بحكم العقل والفطرة ، حيث إنّ الجنس والطّبيعة المهملة تنتفي وتنعدم بعدم جميع الأفراد ، ولكن توجد بوجود فرد ما ، فلا دلالة هنا لفظيّة على الاستغراق والكثرة ، بل الكثرة مع وقوع النّكرة تلو النّفي إنّما تستفاد من العقل والفطرة ، وهذا بخلاف مثل لفظة : «كلّ» فإنّها تدلّ على الاستيعاب والعموم بحكم الوضع والتّبادر.

ثمّ إنّه بقي في المقام ألفاظ أخر ينبغي التّعرض لها :

منها : المفرد المحلّى باللّام ، فهو ليس من ألفاظ العموم ، بل يفيد الجنس ويدلّ على نفس الطّبيعة ، إلّا إذا كان هناك قرينة على الاستغراق والعموم ، فيدلّ عليه ، كما يدلّ على الوحدة لو كان منوّنا.

وإن شئت ، فقل : إنّ اسم الجنس إذا ذكر مع «الألف واللّام» أو جرّد عنهما وعن التّنوين ، يدلّ على صرف الطّبيعة ، بخلاف ما إذا ذكر مع التّنوين ، فإنّه يدلّ على الجنس بقيد الوحدة ، كما أنّه يدلّ مع «الألف واللّام» على الكثرة من باب تعدّد الدّال والمدلول ، لا من باب الدّلالة بنفسه.

ومنها : الجمع المحلّى باللّام ، فهو من ألفاظ العموم قطعا ويكون ظاهرا فيه عرفا ، والبحث في أنّ ما يفيد للعموم ، هل هو نفس «الألف واللام» أو «الجمع» أو تعريفه بتقريب : أنّ الجمع ذو عرض عريض وليس المعيّن إلّا أقصى مراتبه وغيره

٢٢٥

لا تعيين فيه حتّى أدنى المراتب ، خال عن الفائدة. (١)

ومنها : كلمة : «العشرة» وأمثالها من مراتب الأعداد ، فهي اسم من أسماء الأجناس ، ولا تكون من ألفاظ العموم البتّة.

وعليه : فدلالتها على هذه العشرة وتلك العشرة ، إنّما هي بالإطلاق ، نظير دلالة الرّجل على هذا الرّجل وذاك الرّجل بالإطلاق ، غاية الأمر : أنّ العشرة مركّبة من أجزاء وآحاد دون الرّجل ، فلا تركيب فيه ، كما هو واضح.

وبالجملة : أنّ شمول «العشرة» للآحاد ليس من باب الشّمول العامّ للأفراد ، بل يكون من قبيل شمول لفظة : «كلّ» للأجزاء ، كما تنبّه عليه المحقّق الخراساني قدس‌سره ، حيث قال : «قد انقدح أنّ مثل شمول «العشرة» وغيرها لآحادها المندرجة تحتها ، ليس من العموم ؛ لعدم صلاحيّتها بمفهومها للانطباق على كلّ واحد منها ، فافهم». (٢)

إذا عرفت تلك الجهات الأربعة ، فلنشرع البحث عن العامّ والخاصّ في ضمن فصول :

(الفصل الأوّل : حجّيّة العامّ المخصّص في الباقي)

هل العامّ بعد تخصيصه حجّة في الباقي ، أم لا؟ والبحث هنا يقع في موردين :

الأوّل : في تخصيص العامّ بما هو المبيّن مفهوما ومصداقا بلا فرق بين المتّصل منه أو المنفصل ، الثّاني في تخصيصه بما هو المجمل كذلك.

__________________

(١) وقد أشار إلى هذا البحث المحقّق الخراساني قدس‌سره ، فراجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٨١.

(٢) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٣٢.

٢٢٦

امّا المورد الأوّل فلا يخفى ، أنّ هذا البحث مبتن على بحث آخر وهو أنّ تخصيص العامّ ، هل يوجب مجازيّته مطلقا ، أو في الجملة ، أم لا يوجبها كذلك؟ وجهان ، بل قولان : فعلى القول الثّاني يكون العامّ حجّة ، وعلى القول الأوّل يصير مجملا ساقطا على الحجّيّة.

بتقريب : أنّ التّخصيص كاشف عن عدم إرادة العموم من الابتداء ، وإلّا لزم الكذب ، وقضيّة عدم إرادته ، عدم استعمال العامّ في العموم الّذي وضع بإزائه ، فلا يكون حجّة في الباقي لتعدّد مراتبه.

ومن الواضح : أنّ المجازات المتعدّدة تحتاج إرادة كلّ واحد منها بخصوصه إلى قرينة معيّنة له ، ولا يكتفى بقرينة صارفة عن الحقيقة ، كما يكتفى بها فيما إذا كان المجاز واحدا البتّة ، والمفروض ، أنّه لا قرينة معيّنة على مرتبة من مراتب الباقي حتّى مرتبة تمام الباقي ، ومعه يصير العامّ مجملا ساقطا عن الحجيّة قطعا.

والحقّ هو القول الثّاني ، وأنّ المخصّص لا يوجب المجازيّة ، ونتيجته ، هي حجّيّة العامّ بعد التّخصيص ، فيما بقي ، فيتمسّك به بعد ورود التّخصيص ، كما يتمسّك به قبله ، سواء كان ذلك في المخصّص المتّصل ، أم كان في المخصّص المنفصل.

أمّا المخصّص المتّصل ، فلأنّه لا تخصيص هنا إلّا على وجه مسامحيّ ، كإطلاق التّضييق في مثل «ضيّق فم الرّكيّة» حيث إنّ المخصّص المتّصل إنّما يكون هادما لظهور العامّ في العموم ، مانعا عن انعقاده فيه ، موجبا لاستقراره من الابتداء في دائرة الخصوص.

وإن شئت ، فقل : إنّ دائرة العامّ مع تخصيصه بالمتّصل تكون ضيقا محدودة من

٢٢٧

الابتداء ، فلا تعميم ولا توسعة له حتّى يخصّص واقعا ويوجب تخصيصه المجازيّة ، فيسقط عن الحجّيّة لطروّ الإجمال.

وأمّا المخصّص المنفصل ، فلأنّ إرادة الخصوص واقعا بإرادة جدّيّة ، لا تستلزم استعمال العامّ فيه وإرادته بإرادة استعماليّة ، بحيث يكون الخاصّ المخصّص قرينة عليه ، بل العامّ هنا ـ أيضا ـ يستعمل في العموم جعلا للضّابطة وضربا للقانون وينعقد ظهوره فيه لا في الخاصّ ، والمفروض ، أنّ الخاصّ لا يكون هادما لظهوره ومانعا عن انعقاده ، كما في المتّصل ، غاية الأمر : يكون مانعا عن حجيّة ظهوره تحكيما للنّص أو الأظهر على الظّاهر ، وعليه ، فلم يستعمل العامّ في الخصوص ، مجازا حتّى يصير مجملا ساقطا عن الحجّيّة.

هذا كلّه بناء على مسلك المشهور في المجازات من أنّها عبارة عن استعمال اللّفظ في غير ما وضع له ، وأمّا بناء على ما سلكنا ـ في أوائل مباحث الألفاظ ذيل مبحث الوضع تبعا لمشايخنا العظام ـ من أنّ المجازات مطلقا حتّى المجازات المرسلة ، كالحقائق تستعمل في الموضوع له ، إلّا أنّه مع نوع من الادّعاء ، فلا مجال لتطرق المجازيّة إلى العموم أصلا ، لعدم إمكان التّأويل والادّعاء إليه ، وعدم حسن إعمال الإغراق والمبالغة ، بأن يدّعى كون الباقي والخصوص عين ما كان قبل التّخصيص من العموم ؛ ضرورة ، أنّ العمومات ـ كما عرفت آنفا ـ لم يقصد منها إلّا ضرب القانون وجعل الضّابطة ، وهذا الموقف لا يلائمه الادّعاء والإغراق والمبالغة الّتي كانت من الامور الذّوقيّة.

ونتيجة ذلك كلّه ، أنّ العامّ دائما ـ مخصّصا أو غير مخصّص ـ يستعمل في معناه

٢٢٨

وهو العموم ، إلّا أنّه قد يريد المتكلّم الّذي يكون في مقام إنشاء الحكم ، عين العموم ونفسه الّذي استعمل العامّ فيه استعمال اللّفظ في معناه ، فتطابق حينئذ الإرادة الاستعماليّة مع الإرادة الجدّيّة ، وقد لا يريد العموم ، بل يريد ـ بإرادة جدّيّة ـ خلافه ، ويبرز ذلك بمبرز من مخصّص متّصل أو منفصل وحينئذ تخالف الإرادتان (الاستعماليّة والجدّيّة) بتعلّق الاستعماليّة بالعموم والجدّيّة بخلافه.

وأنت تعلم ، أنّ الدّاعي لإنشاء الحكم بنحو العموم مع أنّ المراد الجدّيّ يكون خلافه ، إنّما هو لإعطاء القاعدة وضرب القانون كي يكون أصلا ومرجعا في الموارد المشكوكة ، استنادا إلى أصل عقلائي وهو أصالة تطابق الإرادتين ، فيقال : العموم قانون حاكم لا بدّ من العمل به ، إلّا إذا قام الدّليل الأقوى والأظهر على خلافه.

فتحصّل : أنّ العامّ في جميع موارد استعماله باق على عمومه ، والتّخصيص لا يوجب التّغيير فيه ، كما لا يكون سببا لتطبيق ما هو الموضوع له وهو العموم على غيره ، إمّا بادّعاء المصداقيّة ، أو بادّعاء العينيّة ، بل يرجع إلى الإرادة الجدّيّة ويوجب تضييق دائرتها ، ومن المعلوم : أنّ مدار الحقيقة والمجاز هي الإرادة الاستعماليّة لا الجدّيّة.

وإن شئت ، فقل : إنّ التّخصيص لا يكشف عن عدم استعمال العامّ في العموم ، بل إنّما يكشف عن عدم تعلّق الإرادة الجدّيّة بالعموم في موارد التّخصيص ، بمعنى : أنّ التّخصيص يقتضي التّفكيك بين الإرادتين ، وهذا أجنبيّ عن دلالته على المجاز بالنّسبة إلى الباقي ، لما أشرنا ، من أنّ المدار في الحقيقة والمجاز هي الإرادة الاستعماليّة.

٢٢٩

هذا ، ولكن اورد عليه بما حاصله (١) : أنّ الاستعمال ليس إلّا إلقاء للّفظ ظاهرا وصورة ، وإلقاء للمعنى واقعا وسيرة ، لكون اللّفظ آلة لإلقاء المعنى وعاملا لإبرازه ، والآلة مغفول عنها ، حين الاستعمال والإلقاء ، وعليه ، فليس للاستعمال إرادة مغايرة لإرادة المعنى الواقعيّ ، بل إرادة الاستعمال ليست إلّا نفس إرادة المعنى ، فإذا كان المستعمل مريدا للمعاني الواقعيّة تحت الألفاظ فهو ، وإلّا كان هاذلا.

ومن هنا ظهر ، أنّ التّفكيك بين الإرادة الاستعماليّة والإرادة الواقعيّة ممّا لا محصّل له ، بل العامّ قبل ورود التّخصيص عليه وبعده يكون على حدّ سواء في تعلّق الإرادة به ، وأنّ هناك إرادة واحدة متعلّقة بمفاده.

وفيه : أنّ معنى الإرادة الاستعماليّة هنا ، هو أنّ المستعمل استعمل العامّ في معناه وهو العموم ، وأراد هذا المعنى منه وجعله مرآة له وقنطرة إليه ، فأنشأ الحكم ورتّبه على العامّ بنحو العموم ظاهرا (فيما كان المخصّص منفصلا) لداع من الدّواعي الّتي منها إعطاء القاعدة وضرب القانون وتأسيس المرجع للموارد المشكوكة ، غاية الأمر : أنّ الإرادة الجدّيّة لم تتعلّق مع التّخصيص بإنشاء الحكم على العموم وترتيبه عليه.

وبالجملة : الإرادتان إنّما تتعلّقان بالحكم وتلاحظان بالنّسبة إليه ، لا بالنّسبة إلى معنى العامّ حتّى يقال : ليس للاستعمال إرادة مغايرة لإرادة المعنى الواقعيّ.

هذا ، ولكن المحقّق العراقي قدس‌سره أجاب عن الإيراد المذكور بالانحلال ، فقال في تقريبه ما حاصله : أنّ دلالة العامّ وإن كانت واحدة صورة وظاهرا ، لكنّها متعدّدة

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ١ و ٢ ، ص ٥١٧ و ٥١٨.

٢٣٠

واقعا ، فهذه الدّلالة والحكاية باعتبار تعدّد محكيها تكون بمنزلة خطابات متعدّدة ، حيث يتلوّن الحاكي بلون المحكي ، فيتوحّد بتوحّده ، ويتعدّد بتعدّده والمحكي هنا يكون متعدّدا ، فيصير الحاكي ـ أيضا ـ كذلك ، وعليه ، فمجرّد رفع اليد عن حجيّة حكاية العامّ بالنّسبة إلى فرد ـ مثلا ـ لا يوجب رفع اليد عن حجيّة حكايته بالنّسبة إلى غيره من الأفراد.

وقد أيّد قدس‌سره هذه المقالة بالمخصّص المتّصل ، فقال : إنّه كما يمنع المتّصل عن انعقاد الظّهور بالنّسبة إلى المرتبة العليا لا المراتب الأخر ، كذلك المنفصل يمنع عن حجيّة الظّهور بالنّسبة إلى خصوص المرتبة العليا. (١)

ولنا في هذا الجواب وكذا في التّأييد نظر ؛ أمّا الجواب فلما أشرنا في المباحث الماضية سيّما في مبحث التّرتّب ، من أنّ كلّ حكم كلّي قانونيّ فهو خطاب واحد متوجّه إلى جميع المكلّفين ، لا تعدّد في ناحية الخطاب ولا تكثّر ، بل التّعدّد والتّكثر إنّما هو من ناحية متعلّقه وموضوعه ، وعليه ، فلا انحلال لذلك الحكم الواحد الكلّي الشّامل لعامّة المكلّفين.

ويشهد له ، وجدان الشّخص في خطاباته ، حيث إنّه إذا دعى قومه لإنجاز عمل أو رفع بليّة ، فلا يدعوهم إلى ما رامه إلّا بخطاب واحد ، لا أنّه يدعو كلّ واحد بخطاب مستقلّ ولو انحلالا ، وإن شئت تفصيل الكلام ، فراجع مبحث التّرتّب.

وأمّا التّأييد بالمتّصل وجعل الظّهور الوضعي للعامّ فيه ذا مراتب من العليا وما دونها ، فلأنّ العامّ في المتّصل إنّما استعمل في معناه ، كما في المنفصل وهو العموم

__________________

(١) راجع ، مقالات الاصول : ص ١٤٨ و ١٤٩.

٢٣١

وشمول أفراد متعلّقه ، غاية الأمر : أنّ المتعلّق يختلف سعة وضيقا بالتّقييد وعدمه ، فلفظة : «كلّ» ـ مثلا ـ إنّما وضعت لاستغراق متعلّقه واستيعاب جميع مصاديقه ، سواء كان المتعلّق هو «العالم» ـ مثلا ـ أو كان هو العالم غير الفاسق أو العادل ، إلّا أنّ لفظة : «العالم» أوسع من لفظة : «العالم غير الفاسق» أو «العادل» فالتّقييد والإخراج بالاستثناء في قولنا : «أكرم كلّ عالم إلّا الفاسق» لا يكون مانعا عن ظهور العامّ في العموم والشّمول ، بل إنّما هو يوجب انعقاد ظهوره في دائرة غير الخاصّ.

وعليه : فليس ظهور العامّ ذا مراتب ، بحيث يتصوّر للعامّ ظهوران : أحدهما : أعلى ؛ وثانيهما : غيره كي يمنع التّقييد عن ظهوره الأعلى ويبقى ظهور غيره ، بل العامّ يفيد دائما ظهورا واحدا وهو العموم ، إلّا أنّه يختلف باختلاف متعلّقه.

هذا تمام الكلام في المورد الأوّل (تخصيص العامّ بما هو المبيّن مفهوما ومصداقا) وقد عرفت فيه ، أنّ العامّ لا يسقط عن الحجّيّة بورود التّخصيص عليه.

أمّا المورد الثّاني (تخصيص العامّ بما هو المجمل حسب المفهوم والمصداق) فالكلام فيه يقع تارة في المجمل المفهوميّ ؛ واخرى في المجمل المصداقيّ.

أمّا المجمل المفهوميّ ، فعلى أقسام أربعة :

أحدها : المخصّص المتّصل الدّائر بين المتباينين.

ثانيها : هو الدّائر بين الأقلّ والأكثر.

ثالثها : المخصّص المنفصل الدّائر بين المتباينين.

رابعها : هو الدّائر بين الأقلّ والأكثر.

أمّا القسم الأوّل : فالحقّ فيه سريان إجمال المخصّص إلى العامّ وصيرورته

٢٣٢

مجملا ساقطا عن الحجّيّة في موارد الشّكّ قطعا ، نظير قولنا : «أكرم كلّ عالم إلا زيدا» مع دورانه بين «زيد بن بكر» و «زيد بن عمرو» فإنّ العامّ الباقي وهو «كلّ عالم غير زيد» يصير مجملا بالنّسبة إلى الفرد المشكوك ؛ إذ لا يعلم كونه داخلا في المستثنى أو داخلا في المستثنى منه ، والسّر في الإجمال الباقي ، ما ذكرنا آنفا ، من أنّ المخصّص المتّصل يضيّق دائرة العموم ويحدّده من الابتداء ، وأنّ إطلاق التّخصيص هنا ليس إلّا من قبيل إطلاق التّضييق في «ضيّق فم الرّكيّة» ، ففي المثال المتقدّم يصير العامّ بعد التّخصيص معنونا بعنوان غير خاصّ وهو قولنا : «أكرم كلّ عالم غير زيد» وليس حجّة إلّا فيما ينطبق عليه قطعا ؛ إذ لا ريب : في أنّه إذا شكّ ـ مع إجمال «زيد» ودورانه بين الفردين ـ في أنّ «زيد بن بكر» مثلا ، هل هو مصداق لعنوان عالم غير زيد ـ فيما لو كان المستثنى «زيد بن عمرو» ـ أو لا ـ فيما إذا كان المستثنى نفسه ـ فالشّبهة تصير شبهة مصداقيّة لعامّ ناشئة من ناحية الإجمال المفهوم ، ومن المعلوم : أنّه لا يجوز التّمسّك به قطعا ، بل لا بدّ أن يرجع إلى دليل آخر ولو كان أصلا عمليّا.

أمّا القسم الثّاني (المخصّص المتّصل الدّائر بين الأقلّ والأكثر) فكذلك يسري إجمال المخصّص إلى العامّ ، فيسقط عن الحجّيّة بالنّسبة إلى الفرد المشكوك ، نظير قولنا : «أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم» مع فرض إجمال «الفاسق» ودورانه بين الأقل وهو خصوص مرتكب الكبيرة ، وبين الأكثر وهو الأعمّ منها ومن الصّغيرة ، فإنّ موضوع الحكم بعد الاستثناء ليس إلّا عنوان «العالم غير الفاسق» نظرا إلى أنّ ظهور العامّ ينعقد في هذه الدّائرة من الابتداء ، لكون المخصّص متّصلا ، ومعه يصير الشّبهة في مورد مرتكب الصّغيرة مصداقيّة للعامّ ناشئة من إجمال المفهوم في الخاصّ ،

٢٣٣

فلا يجوز التّمسّك به في مثله ، بل لا بدّ من الرّجوع حينئذ إلى دليل آخر ولو كان أصلا ، كما أشرنا آنفا.

ولقد أجاد الإمام الرّاحل قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «إنّ الحكم في العامّ الّذي استثني منه أو اتّصف بصفة مجملة متعلّق بموضوع وحدانيّ عرفا ، فكما أنّ الموضوع في قولنا : «أكرم العادل» هو الموصوف بما هو كذلك ، فهكذا قولنا : «أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم» ... فحينئذ كما لا يجوز التّمسّك بالعامّ ، كقولنا : «لا تكرم الفسّاق» إذا كان مجمل الصّدق بالنّسبة إلى مورد ، كذلك لا يجوز في العامّ المتّصف ، أو المستثنى منه بشيء مجمل بلا فرق بينهما». (١)

أمّا القسم الثّالث (المخصّص المنفصل الدّائر بين المتباينين) فالحقّ فيه سراية إجمال المخصّص إلى العامّ ، لكن لا حقيقة ـ كما في المتّصل ـ بل حكما ، بمعنى : أنّه لا يجوز التّمسّك بالعامّ في واحد من الفردين المتباينين ، كقولنا : «أكرم كلّ عالم ولا تكرم زيدا» مع دورانه بين الفردين ، ففي مثل ذلك ، لا يجوز التّمسّك بالعامّ بالنّسبة إلى «زيد بن عمرو» أو «زيد بن بكر» مثلا ؛ إذ نعلم إجمالا في الفرض بخروج أحدهما من تحت العامّ ، ولا مرجّح في البين لأحدهما حتّى نتمسّك في حكم الآخر بالعامّ ، كما في الأقلّ والأكثر ـ على ما سيجيء من كون الأقلّ متيقّنا يؤخذ به ، والأكثر مشكوكا يترك ـ بل الفردان المتباينان متساويان.

وعليه : لا يبقى المجال حينئذ للتّمسّك بالعامّ في واحد منهما ، بل اللّازم هو الرّجوع إلى الاصول بإعمال قواعد العلم الإجمالي ، فلو كان العامّ مقتضيا دالّا على

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ١٤.

٢٣٤

وجوب الإكرام ـ مثلا ـ وكان الخاصّ رافعا للوجوب فقط من دون إثبات الحرمة لأفراده ، فالمرجع هو الاشتغال والاحتياط بإكرام كلا الفردين في المثال المتقدّم حتّى تحصل براءة الذّمّة وفراغها يقينا.

وأمّا إذا كان الخاصّ دالّا على حرمة إكرام أفراده ، فالمقام يندرج تحت كبرى دوران الأمر بين المحذورين ، وحكمه واضح.

وأمّا القسم الرّابع (المخصّص المنفصل الدّائر بين الأقلّ والأكثر) فالحقّ فيه ـ كما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) ـ عدم سراية إجمال المخصّص إلى العامّ ، لا حقيقة ولا حكما ، نظير قولنا : «أكرم كلّ عالم ولا تكرم الفسّاق منهم» مع فرض إجمال الفاسق بين خصوص مرتكب الكبيرة ، وهو الأقلّ وبين الأعمّ منه ومن الصّغيرة وهو الأكثر ، ففي مثل ذلك يتمسّك بالعامّ في الموارد المشكوكة الّتي لا يكون الخاصّ فيها لإجماله ، حجّة ، حيث إنّ العامّ لم ينهدم ظهوره في العموم بالخاصّ المنفصل ، بل انعقد ظهوره ، فيكون شاملا لجميع أفراد متعلّقه ، وقضيّة أصالة التّطابق بين الإرادتين وهما : الاستعماليّة والجدّيّة ، حجّيّته بالنّسبة إلى جميع الأفراد ، إلّا ما قامت عليه حجة اخرى أقوى ، فترفع اليد حينئذ عن العموم ، والمفروض ، أنّ في مورد دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر قامت الحجّة على الأقلّ فقط ، كالمرتكب للكبيرة في المثال المتقدّم ، فيندرج غيره تحت العامّ ويحكم بحكمه ، ولا مجال لقياس المقام بالمجمل المتّصل الدّائر بين الأقلّ والأكثر ، كما لا يخفى.

هذا كلّه في المجمل المفهوميّ من المخصّص ، وقد عرفت : أنّ الإجمال هنا

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٣٩.

٢٣٥

يسري إلى العامّ حقيقة في القسمين من الأقسام الأربعة وهما المتّصل الدّائر بين المتباينين والدّائر بين الأقلّ والأكثر ، ويسري ـ أيضا ـ حكما في القسم الثّالث منها وهو المنفصل الدّائر بين المتباينين ولا يسري أصلا ، لا حقيقة ، ولا حكما في القسم الرّابع وهو المنفصل الدّائر بين الأقلّ والأكثر.

وأمّا المجمل المصداقيّ ، فالكلام فيه يقع تارة بالنّسبة إلى المخصّص اللّفظيّ ، واخرى بالنّسبة إلى المخصّص اللّبّي من الإجماع وغيره ، أمّا المخصّص اللّفظيّ ، فلا شبهة في عدم جواز التّمسّك بالعامّ للفرد المشكوك فيما لو كان المخصّص متّصلا ، نظير قولنا : «أكرم كلّ عالم إلّا الفاسق» مع فرض الشّكّ في فسق فرد وعدمه ، ففي مثل ذلك ، لا مجال لاندراج الفرد المشكوك تحت العامّ ، تمسّكا به ؛ وذلك ، لما ذكرنا في المتّصل المجمل المفهوميّ من أنّه لا ينعقد ظهور للعامّ حينئذ ، إلّا في دائرة الخصوص من أوّل الأمر ؛ ولذا قلنا : هناك أنّ التّخصيص في المتّصلات يكون صوريّا اسميّا ، لا حقيقيا ورسميّا.

ونضيف هنا ، فنقول : التّخصيص بالمتّصل ظاهره تخصيص ، وباطنه تقييد ، سواء كان التّخصيص بالاستثناء ، أو بالوصف والشّرط ونحوهما وحينئذ يؤول العامّ المخصّص بالمتّصل إلى موصوف ووصف ، أو إلى المستثنى منه والمستثنى ، أو إلى الشّرط والمشروط ونحوها ، وواضح ، أنّه ليس في أمثال ما ذكر ظهوران ، أحدهما : للموصوف ، والآخر للوصف ـ مثلا ـ بل لهما معا ظهور واحد ، كظهور المقيّد والقيد ويكون للحكم فيه موضوع واحد لا موضوعان ، وعليه ، فيصير الفرد المشكوك اندراجه تحت الخاصّ ، مشكوكا اندراجه تحت العامّ ـ أيضا ـ فلا مجال في مثل ذلك للتّمسّك به.

٢٣٦

وبالجملة : فالشّبهة المصداقيّة للخاصّ حينئذ تكون شبهة مصداقيّة للعامّ ، ومن الواضح المطبق عليه ، عدم جواز التّمسّك بالعامّ في شبهته المصداقيّة ، حيث إنّ كلّ قضيّة إنّما تتكفّل لبيان حكم موضوعها بلا دلالة لها على وجود الموضوع ، وبلا تكفّل لبيان أنّ هذا أو ذاك أو ذلك يكون موضوعا لحكمها ، أو يكون فردا ومصداقا لموضوع حكمها.

وإن شئت ، فقل : إنّ الكبرى في القضايا لا تتكفّل لإثبات الصّغرى وإحرازها ، فقولنا : «أكرم كلّ عالم» يدلّ على وجوب إكرام كلّ عالم ، لا أنّه يدلّ على أنّ «زيدا» المشكوك ـ مثلا ـ عالم ، فيجب إكرامه ، أو غير عالم فلا يجب إكرامه ، وكذا قولنا : «أكرم كلّ عالم إلا الفاسق» فعند الشّكّ في فسق فرد وعدمه لا يدلّ العامّ على كونه فاسقا أو غير فاسق ؛ هذا إذا كان المخصّص متّصلا.

وأمّا إذا كان المخصّص منفصلا ، فالمشهور (١) هو جواز التّمسّك بالعامّ قياسا بالمنفصل المجمل المفهوميّ الدّائر بين الأقلّ والأكثر ، فكما أنّ التّمسّك بالعامّ هناك بالنّسبة إلى الزّائد على الأقلّ المتيقّن جائز ، لعدم حجّيّة الخاصّ فيه ـ كي يزاحم ظهور العامّ ، كما زاحمه في الأقلّ لكونه نصّا أو أظهر ـ كذلك يجوز التّمسّك به في المقام ـ أيضا ـ ففي مثل قولنا : «أكرم كلّ عالم» انعقد ظهور العامّ بالنّسبة إلى جميع أفراد العالم ، فيصير الإكرام في الجميع واجبا بلا فرق بين العادل والفاسق ، إلّا أنّه إذا ورد دليل منفصل لإخراج الفرد الفاسق ، كقولنا : «لا تكرم الفاسق منهم» فلا كلام في رفع اليد عن العموم بالإضافة إلى من احرز فسقه وعلم به ؛ لكونه حينئذ من مصاديق

__________________

(١) منتهى الأفكار : ج ٢ ، ص ٢٥٢.

٢٣٧

الخاصّ فيشمل دليله ، وأمّا بالإضافة إلى من لم يحرز فسقه ولم يحصل العلم به ، سواء حصل العلم بعدمه ، أو لا ، فدليل الخاصّ لا يشمله ، كيف ، وأنّه شبهة مصداقيّة لهذا الدّليل ، فلا إطلاق ولا عموم له بالنّسبة إليه ، بل يندرج هذا الفرد المشكوك تحت العموم ويعدّ من مصاديقه ، فيعمّه دليله ؛ وذلك ، لأنّ المقتضي فيه موجود ، والمانع وهو دليل الخاصّ ، مفقود ؛ إذ هو إنّما يشمل معلوم الفسق فقط دون المشكوك ، كما عرفت آنفا.

وبالجملة : الشّبهة هنا مصداقيّة للخاصّ دون العامّ ، حيث إنّه يشكّ في أنّ «زيدا» مثلا ، الّذي يصدق عليه عنوان العالم ، هل يكون فاسقا كي يخرج عن حكم العامّ ويندرج تحت حكم الخاصّ ، أو لا يكون فاسقا فيبقى تحت العامّ حكما كما يكون مندرجا تحته موضوعا؟ فهو معلوم الفرديّة للعامّ ومشكوك الفرديّة للخاصّ ، ومعه يكون العامّ بالنّسبة إليه حجّة بلا مزاحم ، كما لا يخفى.

هذا ، ولكنّ الحقّ أنّه لا مجال للتّمسّك بالعامّ في الشّبهة المصداقيّة للخاصّ ، وأنّ قياسه بالشّبهة المفهوميّة الدّائرة بين الأقلّ والأكثر مع الفارق.

توضيح الفرق : أمّا الشّبهة المصداقيّة ، فالمفروض فيه ، أنّ أصل التّخصيص وكذا حدّه ، محرز معلوم ، والشّكّ إنّما هو في مقام التّطبيق والصّدق بالنّسبة إلى الحجّتين (العامّ والخاصّ) وأنّ الفرد المشكوك هل هو مصداق للعامّ بما هو حجّة كي يندرج تحته ، أو مصداق للخاصّ كذلك كي يدخل فيه ويخرج عن العامّ؟ ومن المعلوم : أنّ في مثل ذلك لا يجوز التّمسّك بالعامّ ، كما لا يجوز التّمسّك بالخاصّ إلّا أن يكون هناك أصل موضوعي منقّح للموضوع ، فيندرج حينئذ تحت العامّ أو الخاصّ.

٢٣٨

وإن شئت ، فقل : هنا حجّتان ، أحدهما : العامّ فهو حجّة فيما عدا الخاصّ ؛ ثانيهما : الخاصّ فهو حجّة في خصوص مورده ، والمفروض ، أنّ الفرد المشكوك لا يحرز كونه داخلا تحت هذه الحجّة أو تلك ، ولا ريب : في عدم جواز التّمسّك حينئذ بواحد من الحجّتين ، لأجل كونه من قبيل التّمسّك بالدّليل في شبهته

المصداقيّة.

وأمّا الشّبهة المفهوميّة الدّائرة بين الأقلّ والأكثر ، فالشّكّ هنا إنّما يكون في زيادة التّخصيص بعد العلم بأصله ، فيرجع الشّكّ حينئذ إلى حدّ التّخصيص ، ولا ريب : في أنّ أمثال ذلك يكتفى بالقدر المتيقّن من التّخصيص وهو الفرد المعلوم كونه خارجا عن تحت العامّ ، وأمّا الزّائد المشكوك فيحكم ببقائه تحته ، فإذا دار مفهوم الفاسق بين كونه مختصّا بمرتكب الكبيرة أو يعمّه مرتكب الصّغيرة ، لا بدّ من الاقتصار على المقدار المتيقّن المعلوم خروجه عن حكم العامّ وهو مرتكب الكبيرة ، ولكن بالنّسبة إلى الزّائد عنه الّذي يشكّ في خروجه وعدمه يتمسّك بالعموم ، كما يتمسّك به فيما إذا كان الشّكّ في أصل التّخصيص ؛ إذ الأصل هو تطابق الجدّ والاستعمال ، إلّا أن يقوم قرينة وحجّة على خلافه.

فتحصّل : أنّه لا يجوز التّمسّك بالعامّ في مورد إجمال المخصّص بحسب المصداق بأن اشتبه فرد بين أن يكون فردا للخاصّ ، أو باقيا تحت العامّ.

والوجه فيه : هو أنّ المشكوك وإن لم يكن شبهة مصداقيّة للعامّ بما هو عامّ ، لكنّه شبهة مصداقيّة له بما هو حجّة ؛ بداهة ، أنّ في فرض التّخصيص يكون العامّ بما هو عامّ أكثر أفرادا من العامّ بما هو حجّة ، بخلاف فرض عدم ورود التّخصيص عليه ، فإنّه بما هو عام مساو لنفسه بما هو حجّة.

٢٣٩

ولقد أجاد شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «إنّ الشّبهة المصداقيّة في المقام ليست شبهة مصداقيّة بالنّسبة إلى الحكم الواقعي فقط ، بل هي شبهة مصداقيّة لما هو مشمول للحجّة القطعيّة ، فحينئذ نقول : إنّ أصالة العموم إنّما تكون حجّة بالنّسبة إلى كلّ فرد نقطع بعدم كونه تحت حجّة واصلة على خلافه ، وأمّا لو شكّ في كون الفرد مشمولا للحجّة واصلة على خلافه ، فلا يكون مجرى للأصل المزبور». (١)

وهم ودفع :

أمّا الوهم فقال شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره : «قد يتخيّل أنّه لا وجه هنا لعدم جواز التّمسّك بالعامّ ، بتقريب : أنّ العامّ مقتض للحجّيّة بنفسه وبلا احتياج إلى انضمام أمر آخر ؛ ضرورة ، أنّ العامّ له ظهور ولظهوره حجّيّة ، والمفروض ، اندراج المشكوك تحته ، فيعمّه حجيّته ، والخاصّ المخصّص لا يحدّد العامّ ولا يضيّق دائرة حجيّته ، إلّا بمقدار حجيّة نفسه وهي لا تكون إلّا بالنّسبة إلى الأفراد المعلوم اندراجها تحت الخاصّ ، وعليه ، فيبقى المشكوك كسائر أفراد العامّ تحته ويحكم بحكمه بمقتضى أصالة العموم بلا اعتداد لاحتمال المانع». (٢)

وقد دفع قدس‌سره هذا الوهم : «بأنّ الخاصّ المخصّص وإن لم يعط العامّ والموضوع المأخوذ فيه ، عنوانا ولم يوجب تغييرا فيه حتّى في ناحية لبّ الإرادة ومقام الحجّيّة ، إلّا أنّه يحدّده ويضيّق دائرته واقعا ، ويوجب اختصاص الحكم بأفراد مخصوصة

__________________

(١) منتهى الأفكار : ج ٢ ، ص ٢٥٧.

(٢) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

٢٤٠