مفتاح الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

لها مفهوم ، أم لا؟ والنّزاع كبرويّ ، بمعنى : أنّ المفهوم هل هي حجّة أم لا؟ ولا مجال له بعد كون المفهوم من الظّهورات الّتي تكون حجّة بلا كلام.

أمّا المقام الثّالث (أقسام المفهوم) : فينقسم المفهوم تارة بالموافق (١) وهو ما يوافق المنطوق إيجابا وسلبا ، واخرى بالمخالف (٢) وهو ما يخالفه كذلك ، ولا يهمّنا بيان أنّه من صفات المدلول ، أو الدّلالة وإن كان بصفات المدلول أشبه ، كما أشار إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره. (٣)

أمّا المقام الرّابع (بعض موارد الاختلاف في المفهوم)

فالمفاهيم الّتي اختلف فيها ، على أنحاء :

(مفهوم الشّرط)

النّحو الأوّل مفهوم الشّرط ، فقد وقع الكلام بين الأعلام في أنّ الجملة الشّرطيّة ، هل تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء ، كدلالتها على الثّبوت عند الثّبوت ، أم لا؟ قولان : والحقّ هو الثّاني ، لما عرفت ، في المقام الأوّل ، من أنّ المفهوم عبارة عن حكم تستتبعه خصوصيّة المعنى المنطوق (ككون الشّرط في القضيّة الشّرطيّة علّة

__________________

(١) ويسمّى هذا ـ أيضا ـ بفحوى الخطاب ولحن الخطاب.

(٢) ويسمّى هذا ـ أيضا ـ بدليل الخطاب.

(٣) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٠١.

١٦١

منحصرة) ، فالقائل بالمفهوم لا بدّ له من إثبات تلك الخصوصيّة ، إمّا بالوضع ، أو بالقرينة وأنّى له ذلك ، حيث إنّ إثباتها يحتاج إلى تحقّق امور أربعة في القضيّة الشّرطيّة :

أحدها : كونها لزوميّة.

ثانيها : كون اللّزوم ترتبيّا.

ثالثها : كون التّرتّب عليّا.

رابعها : كون العلّة انحصاريّة.

مع أنّك ترى ، أنّه إذا منع واحد من تلك الامور ينتفي المفهوم ، فضلا أن يمنع عن الجميع ، ولذا نكتفي بمنع العلّيّة المنحصرة الّتي استدلّ بها لإثبات المفهوم ، فنقول : قد تمسّك بها لإثباته من وجوه.

منها : تبادرها من القضيّة الشّرطيّة ووضعها لها.

وفيه : أنّ ذلك أوّل الكلام ، كيف ، وأنّه لو كان هناك تبادر لزم أن يكون استعمال القضيّة الشّرطيّة في غير موارد العلّيّة المنحصرة مجازا ومع العناية ، والأمر ليس كذلك ، ولنعم ما أفاده المحقّق الخراساني قدس‌سره ، فقال : «كيف ، ولا يرى في استعمالها فيهما (مطلق اللّزوم والعلّيّة غير المنحصرة) عناية ورعاية علاقة ، بل تكون إرادته ، كإرادة التّرتّب على العلّة المنحصرة بلا عناية». (١)

ومنها : انصراف القضيّة الشّرطيّة إلى العلّيّة المنحصرة لمكان أكمليّة هذه العلّة.

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٠٣.

١٦٢

وفيه : منع صغرى وكبرى.

أمّا الصّغرى ، فلعدم الأكمليّة ؛ إذ العلّيّة تدور مدار ربط خاصّ بين الشّيئين ، وأمر الرّبط دائر بين الوجود والعدم ، فإذا كان موجودا ، تثبت العلّيّة ، وإلّا فلا ، وعليه ، فانحصار العلّيّة لا يوجب أكمليّة الرّبط ، بل الرّبط مع الانحصار وبدونه سواء.

أمّا الكبرى ، فلعدم كون الأكمليّة بعد تسلّمها موجبة للانصراف ، كما أنّ الأغلبيّة ـ أيضا ـ كذلك ، بل الموجب له هي أكثريّة الاستعمال الّتي توجب كثرة الانس بين اللّفظ والمعنى.

وإن شئت ، فقل : إنّ كثرة انس اللّفظ بالمعنى وهي النّاشئة من أكثريّة الاستعمال توجب الانصراف فقط ، دون الأكمليّة ، لا سيّما مع كثرة الاستعمال في غير الأكمل.

ومنها (١) : إطلاق أداة الشّرط بمعونة مقدّمات الحكمة ، بتقريب : أنّه لو كان في البين تعليق آخر مستقلّا كان أو غير مستقلّ ، للزم على المتكلّم أن يبيّنه ، إمّا «بالواو» في فرض الاستقلال ، أو «بالأو» في فرض عدم الاستقلال ، فيستكشف من عدم البيان عدم تعليق آخر معه ، أو بديل وعدل له ، كما مرّ نظير هذا البيان ـ أيضا ـ في اقتضاء إطلاق صيغة الأمر للوجوب النّفسي العيني التّعييني.

والنّتيجة : أنّ مقتضى الإطلاق المذكور هو أن يكون التّعليق والشّرط على وجه الاستقلال والانحصار ، وهذا لا يفيد إلّا الانتفاء عند الانتفاء وهو المفهوم.

وقد اجيب عنه بوجوه :

أحدها : ما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره محصّله ؛ أنّ أداة الشّرط حيث كانت معنى

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٠٤.

١٦٣

حرفية ، فلا تقبل التّقييد ، إمّا للجزئيّة أو للآليّة وعدم الاستقلال ، وعليه ، فكيف يصحّ إطلاقها مع أنّ الإطلاق فرع التّقييد ، ولك أن تقول : أنّ الحكم بالإطلاق والتّقييد ، إنّما يصحّ على موضوع ملحوظ بنحو الاستقلال ، ومن المعلوم : أنّ المدلول اللآلي لا يلحظ كذلك ، فلا يحكم فيه بالإطلاق والتّقييد. (١)

وفيه : أوّلا : أنّك عرفت في مبحث الواجب المشروط : أنّ المعنى الحرفي قابل للتّقييد ، كالمعنى الاسمي بالبيان الّذي مرّ هناك ، فراجع.

وثانيا : لو سلّم ذلك ، فهو منطبق على مسلك المشهور ، لا على مسلكه قدس‌سره كيف ، وأنّه قدس‌سره قد صرّح في موضعين من كتابه قدس‌سره بأنّ مفاد الهيئة قابل للتّقييد مع أنّه معنى حرفي.

الأوّل : في المبحث السّادس من المباحث المتعلّقة بصيغة الأمر ، حيث قال : «قضية إطلاق الصّيغة كون الوجوب نفسيّا تعيينيّا عينيّا ... فالحكمة تقتضي كونه مطلقا وجب هناك شيء آخر ، أو لا ، اتي بشيء آخر ، أو لا ، اتي به آخر أو لا». (٢)

الثّاني : في مبحث الواجب المشروط ، حيث قال : «فلحاظ الآليّة ، كلحاظ الاستقلاليّة ليس من طواري المعنى ... والطّلب المفاد من الهيئة المستعملة فيه مطلق قابل لأن يقيّد». (٣)

ثانيها : ما عنه ـ أيضا ـ وإليك نصّ كلامه : «وثانيا : تعيّنه (أي تعيّن اللّزوم

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٠٤.

(٢) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١١٦.

(٣) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ١٥٤.

١٦٤

العلّي الانحصاري) من بين أنحائه بالإطلاق المسوق في مقام البيان بلا معيّن ، ومقايسته مع تعيّن الوجوب النّفسي بإطلاق صيغة الأمر ، مع الفارق ، فإنّ النّفسي هو الواجب على كلّ حال ، بخلاف الغيري ... وهذا بخلاف اللّزوم والتّرتّب بنحو التّرتّب على العلّة المنحصرة ؛ ضرورة ، أنّ كلّ واحد من أنحاء اللّزوم والتّرتّب محتاج في تعيّنه إلى القرينة مثل الآخر». (١)

وفيه : أنّه لا فرق بين المقام والواجب النّفسي ، فكما أنّ النّفسي هو الواجب على كلّ حال ، كذلك العلّة المستقلّة المنحصرة ، فإنّها ـ أيضا ـ علّة على كلّ حال ، وعليه ، فالإطلاق هنا يثبت تعيّن اللّزوم العلّي الانحصاري ، كما يثبت هناك تعيّن الوجوب النّفسي.

وثالثها : ما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره حيث قال : «أنّ الأقسام كلّها تتميّز عن المقسم بقيود خارجة منه ، وإلّا لزم أن يكون القسم عين المقسم وهو باطل ، فالإطلاق لا يثبت نفسيّة الأمر ولا غيريّته ، بل كلّ منهما متميّز عن نفس الطّلب بقيد خاصّ ، فلا يعقل أن يكون عدم بيان قيد مثبتا لقيد آخر ، فالحكم في المقيس عليه باطل ، فكيف المقيس ؛ لأنّ التّرتّب العلّي ينقسم إلى قسمين انحصاري وغير انحصاري ، فكلّ واحد مشتمل على خصوصيّة زائدة على مقسمه ، فلا معنى لإثبات أحدهما بعدم البيان». (٢)

وفيه : أنّ النّفسيّة والتّعيينيّة والعينيّة كلّها قيود للوجوب ، كمقابلاتها من

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٠٤.

(٢) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٤٢.

١٦٥

الغيريّة والتّخييريّة والكفائيّة ، وتلك القيود ـ أيضا ـ كالقيود في المقابلات تحتاج إلى بيان ، إلّا أنّ البيان فيها هي مقدّمات الحكمة بلا حاجة إلى مئونة زائدة ، بخلاف القيود في المقابلات ؛ ومن هنا يظهر الفرق بين الطّلب وأقسامه ، كما يظهر الفرق بين كلّ واحد من الأقسام.

هذا بالنّسبة إلى حال المقيس عليه (الوجوب النّفسي والغيري) فكذلك حال المقيس (الشّرط) ، حيث إنّ كلّ واحد من القيود المستقلّة والمنحصرة وغيرهما محتاج إلى بيان ، إلّا أن مقدّمات الحكمة كاف في إثبات قيد الاستقلال والانحصار ، بخلاف ما يقابله.

فتحصّل : أنّ هذه الأجوبة لردّ إثبات العلّيّة المنحصرة بالإطلاق المذكور مردودة ، والجواب الصّحيح هو أن يقال : إنّ الأحكام الشّرعيّة إنّما تستفاد من القضايا حسب الأنظار العرفيّة ، لا الدّقيّة الفلسفيّة ، وعليه ، فلا حاجة في تحقّق المفهوم بذلك الإطلاق إلى إثبات العلّيّة الفلسفيّة ، فضلا عن انحصارها ، بل لو انعقد الإطلاق بجريان مقدّمات الحكمة يكشف عرفا عن الانحصار مضافا إلى الاستقلال ، وهذا كاف في تحقّق المفهوم. (١)

تقريب ذلك : هو أنّ العرف قاض بأنّ التّعليق لو لم يستقلّ لكان اللّازم أن يبيّن المولى ما يكمّله ويتمّه بمعونة كلمة : «الواو» بأن يقول : إن كذا وإن كذا ، فيستكشف من إطلاق «الواوي» كون التّعليق مستقلّا ، وكذا لو لم ينحصر لكان اللّازم أن يبيّن ما يكون بديله وعدله بمعونة كلمة : «الأو» بأن يقول : «إن كذا أو إن كذا»

__________________

(١) نعم ، هذا الإطلاق وأمثاله في غاية النّدرة ومن باب الاتّفاق.

١٦٦

فيستكشف من إطلاق الأوي» كون التّعليق منحصرا ، وعليه ، فلا نقول : بالعلّيّة والتّرتّب العلّي فضلا عن كونها منحصرة ، بل نقول : إنّه يستكشف من الإطلاقين (الواوى والأوي) الشّرطيّة المستقلّة والمنحصرة ، وهذا المقدار كاف في انعقاد المفهوم.

ومن هنا ظهر ، أنّه لا مجال لما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره من قوله : «وأمّا المنع عن أنّه بنحو التّرتّب على العلّة فضلا عن كونه منحصرة ، فله مجال واسع». (١)

ثمّ إنّ إطلاق نفس الشّرط وهو ما تتعلّق به الأداة بمعونة مقدّمات الحكمة ـ أيضا ـ يكون نظير الإطلاق في أداة الشّرط بعين التّقريب الّذي مرّ آنفا ، ونتيجته ، أنّ الشّرط لو انعقد فيه الإطلاق يكون مستقلّا لا جزء ولا شريك له ، وكذلك يكون منحصرا ، فلا بدل ولا عدل له ، وبهذا المقدار يتحقّق ثبوت المفهوم بلا حاجة إلى أصل مسألة العلّيّة الفلسفيّة ، فضلا عن المنحصرة ، فلا يرد على هذا الإطلاق ما اورد على المتقدّم من توقّفه على قبول أصل العلّيّة واللّزوم التّرتّبي العلّي وهو غير لازم ؛ وذلك ، لصدق الشّرطيّة بلا علّيّة ، أيضا.

وانقدح ممّا مرّ ، أنّ المفهوم في القضيّة الشّرطيّة ثابت بإطلاق الشّرط وأداته حسب الأنظار العرفيّة بلا توقّف على إثبات العلّيّة المنحصرة ، كما هو مقتضى الدّقيّة العقليّة ، وما قلنا سابقا : من عدم ثبوت المفهوم إنّما هو بملاحظة كونه متوقّفا على تحقّق العلّيّة المنحصرة.

ومنها : إطلاق الجزاء ، وهذا ممّا ادّعاه المحقّق النّائيني قدس‌سره فقال في تقريب

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٠٣.

١٦٧

ذلك ما محصّله : أنّ الإطلاق إنّما يحصل من مقدّمات الحكمة وهي لا تجري إلّا في المجعولات الشّرعيّة الّتي تنالها يد الجعل نفيا وإثباتا ، وحيث إنّ العلّيّة والسّببيّة المنحصرة أو غيرها ليست كذلك ، فلا تجري فيها مقدّمات الحكمة حتّى ينعقد الإطلاق ، وعليه ، فلا مجال للتّمسّك بالإطلاق في ناحية الشّرط والسّبب بخلاف الجزاء والمسبّب ، فإنّه مجعول على تقدير وجود سببه ، فتجري مقدّمات الحكمة فيه من حيث عدم تقييده بشرط آخر عدا ما في القضيّة ، لا على نحو الاشتراك ، ولا على نحو الاستقلال ، ومقتضاه ، أنّ الجزاء مترتّب على ذلك الشّرط فقط من دون أن يشاركه شرط آخر ، أو ينوب عنه ، ومن المعلوم : أنّ هذا لا ينتج إلّا الانتفاء عند الانتفاء. (١)

هذا ، ولكن قد اورد عليه بوجوه لا حاجة بنا إلى ذكرها ، والعمدة في الإيراد عليه ما أشرنا إليه آنفا ، من عدم المجال في أمثال المقام للتّمسّك بالاصول الفلسفيّة والمباحث الدّقيّة العقليّة ، ولا ملزم لنا لخلط اصول الفقه بالفلسفة وخلط التّشريع بالتّكوين ، كما أشار إليه الإمام الرّاحل قدس‌سره بقوله : «إنّ طريق استفادة الأحكام من القضايا هو الاستظهارات العرفيّة لا الدّقائق الفلسفيّة». (٢)

وعليه ، فمجرّد كون الشّرط أو أداته خال عن التّقييد الواوي ، أو الأوي ، كاف عرفا في استظهار الانتفاء عند الانتفاء وهو المفهوم ، ولا يحتاج ذلك إلى إثبات كون الشّرط أو أداته علّة لما يترتّب عليه من الجزاء ، فضلا عن إثبات انحصار العلّيّة كي يقال : بعدم كون العلّيّة وانحصارها ممّا لا تنالها يد الجعل.

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٤٨٣ و ٤٨٤.

(٢) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٤٣.

١٦٨

«تتميم»

هنا امور :

(حقيقة المفهوم)

الأمر الأوّل : أنّه لا كلام في أنّ انتفاء شخص الحكم المعلّق ، بانتفاء شرطه المعلّق عليه ، خارج عن مورد النّزاع في مسألة المفهوم ، نظرا إلى كونه أجنبيّا عن الدّلالة المفهوميّة ؛ ضرورة ، أنّه يكون بمقتضى حكم العقل لرجوعه إلى انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه ولو ببعض قيوده ، كما أشار إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره. (١)

وإن شئت ، فقل : إنّ وجه انتفاء الحكم عن غير مورد الشّرط ـ مثلا ـ هو عدم الجعل إلّا لمورد الشّرط ، ومن هنا لا يكون الانتفاء عند الانتفاء في مثل الأيمان والأوقاف والنّذور والوصايا من مقولة المفهوم ؛ لأنّه إذا صار شيء ملكا لأحد ـ مثلا ـ باليمين أو الوقف ، أو النّذر ، أو الوصيّة ، لا يقبل أن يصير ملكا لغيره بالأسباب المذكورة ، ومن الواضح : أنّ انتفاء تلك الأسباب بالنّسبة إلى غير موردها من الأشخاص بألقابها وأوصافها يكون عقليّا أجنبيّا عن دلالة المفهوم ، بل هو حاصل قهرا ولو قلنا : بعدم الدّلالة المفهوميّة رأسا.

إنّما النّزاع في انتفاء سنخ الحكم المعلّق على الشّرط عند انتفاء شرطه ، نظرا إلى كونه داخلا في الدّلالة المفهوميّة ، حيث إنّه يمكن حينئذ ثبوت الحكم وانتفائه عند انتفاء الشّرط ، وهذا لا إشكال فيه إذا كان الجزاء معنى اسميّا كلّيّا ، نظير قولنا : «إن جاءك زيد ، فإكرامه واجب».

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٠٩.

١٦٩

إنّما الإشكال فيما إذا كان معنى حرفيّا كمفاد «صيغة الأمر» في مثل قولنا : «إن جاءك زيد ، فأكرمه» فقد اورد عليه ، بأنّه خارج عن حريم النّزاع ، وذلك ؛ لأنّ المجعول هنا يكون حكما جزئيّا خاصّا ـ بناء على كون الموضوع له في الحروف كذلك ـ وقد عرفت : أنّ انتفاء شخص الحكم بانتفاء شرطه عقلي أجنبيّ عن مقولة المفهوم.

ولكن اجيب عن هذا الإيراد بوجهين :

أحدهما : ما هو مبنيّ على كون معاني الحروف عامّة ، وهذا ما أفاده المحقّق الخراساني قدس‌سره حيث قال ما حاصله : إنّ الموضوع له ، بل المستعمل فيه في باب الحروف وما في معناها عامّ ، والتّشخّص والجزئيّة إنّما يكون من ناحية الاستعمال ويعدّ من عوارضه وشئونه ، فلا يمكن أخذه في الموضوع له أصلا ، وعليه ، فالجزاء حكم كلّي ولو كان من قبيل معاني هيئة الأمر. (١)

وفيه : أنّه مبتن على تماميّة ما سلكه في باب معاني الحروف من أنّها موضوعة للمعاني الكلّيّة بلا دخل للخصوصيّة في أصل المعنى الموضوع له ، ولكن قد مرّ منّا البحث في ذلك بوجه مبسوط ، وحقّقنا هناك ما يظهر به ضعف هذا المسلك ، فراجع.

ثانيهما : ما هو مبنيّ على كون معاني الحروف خاصّة ، وهذا ما أفاده الإمام الرّاحل قدس‌سره مستفادا من كلمات الشّيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) ، فقال ما حاصله : أنّ في القضيّة الشّرطيّة المذكورة تقاريب (٣) ثلاثة :

التّقريب الأوّل : أنّ ظاهر القضيّة وإن كان هو ترتّب بعث المولى وطلبه

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣١٠.

(٢) راجع ، كتاب الطّهارة (للشّيخ الأنصاري) : ص ٤٩ ، س ٢٩.

(٣) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٤٤ و ٣٤٥.

١٧٠

على الشّرط لرجوع القيد والشّرط إلى مفاد الهيئة ، فيطلب المولى إيجاد مادّة الجزاء وهو «الإكرام» ويبعث إلى إيجادها على تقدير وجود الشّرط وهو المجيء ، لكن من المعلوم : أنّه ما لم تكن مناسبة بين الشّرط ومادّة الجزاء ، كان ذلك الطّلب المشروط جزافا ولغوا ، فالطّلب المشروط كاشف عن وجود مناسبة بين الشّرط وتلك المادّة ، وحاك عن كونهما بمنزلة المقتضي (بالكسر) والمقتضى (بالفتح) والمولى يتوصّل لبيان هذه المناسبة إلى الأمر بإيجاد المادّة عند ثبوت الشّرط ، وعليه ، فالتّرتّب إنّما يتحقّق بين ذات الشّرط وطبيعيّه ، وبين مطلق الجزاء وطبيعيّه الّذي تعلّق بالحكم بلا خصوصيّة للحكم الخاصّ الجزئيّ المنشأ ، فيشبه الإنشاء ، الإخبار في عموم المجعول.

التّقريب الثّاني : أنّ ظاهر الشّرطيّة وإن كان بدءا هو تعليق الوجوب على الشّرط ، لكن العقلاء حكموا في أمثالها أنّ بين الشّرط ومادّة الجزاء مناسبة تكون تلك المناسبة سببا لتعلّق الوجوب بالمادّة وتوجّه بعث المولى إليها ، فالإيجاب المتعلّق بالمادّة متفرّع على التّناسب الحاصل بينها وبين الشّرط ، فإذا قال : «إن أكرمك زيد ، فأكرمه» يفهم العرف والعقلاء أنّ التّناسب الواقعي يكون بين الإكرامين ، وإلّا كان التّفريع لغوا.

وعليه : فإذا فرض دلالة أداة الشّرط على العلّيّة المنحصرة تمّت الدّلالة على المفهوم وإن كان مفاد الهيئة خاصّة ؛ إذ المناسبة حينئذ موجودة في الحقيقة بين طبيعة متعلّق أداة الشّرط وبين مادّة الجزاء.

التّقريب الثّالث : أنّ الهيئة وإن كانت دالّة على البعث الجزئي ، لكن التّناسب بين الحكم والموضوع يوجب إلغاء الخصوصيّة عرفا ، ويجعل الشّرط علّة منحصرة لنفس الوجوب وطبيعيّه ، فبانتفائه ينتفي طبيعيّ الوجوب وسنخه.

١٧١

ثمّ بعد ذلك قال قدس‌سره (١) : «وبما ذكرنا ، يظهر ضعف ما أفاده بعض الأكابر (٢) من : أنّا لا نتعقّل لسنخ الحكم وجها معقولا ، لوضوح أنّ المعلّق في قولك : «إن جاءك زيد ، فأكرمه» هو الوجوب المحمول على إكرامه ، والتّعليق يدلّ على انتفاء نفس المعلّق عند انتفاء المعلّق عليه ، فما فرضته سخنا إن كان متّحدا مع هذا المعلّق موضوعا ومحمولا ، فهو شخصه ، لا سنخه ؛ إذ لا تكرّر في وجوب إكرام زيد ، وإن كان مختلفا معه في الموضوع ، كإكرام عمرو أو المحمول ، كاستحباب إكرام زيد ، فلا معنى للنّزاع ـ انتهى كلامه ـ ووجه الضّعف ظاهر ، فلا نطيل المقام». (٣)

هذا ، ولكن يرد على التّقريب الأوّل والثّاني بأنّهما لا يثبتان كون الجزاء سنخا عامّا كلّيّا ولا يخرجانه عن الخاصّ والجزئيّة ، إلّا أن يكون في البين إلغاء الخصوصيّة ، فيرجعان حينئذ إلى التّقريب الثّالث ، ولو لا رجوعهما إليه لما كانا يجديان شيئا ؛ ضرورة ، أنّ مجرّد كون التّرتّب والتّناسب الواقعي بين مادّة الشّرط ـ في المثال المتقدّم ـ وهو المجيء ، وبين مادّة الجزاء وهو الإكرام لا يوجب صيرورة الجزاء وهو مفاد الهيئة عامّا كلّيّا ، فلا بدّ وأن يراد بما في التّقريب الأوّل من قوله : «بلا خصوصيّة للحكم المنشأ» وفي التّقريب الثّاني من قوله : «ففي الحقيقة يكون التّناسب موجودا بين طبيعة ما يتلو أداة الشّرط ومادّة الجزاء ...» هو إلغاء الخصوصيّة ، كما أشار إليه في التّقريب الثّالث ، مع أنّ إرادة ذلك من التّقريب الثّاني مشكل ؛ إذ من المحتمل قويّا أنّ المراد منه ما عن الشّيخ الأنصاري قدس‌سره من التّصريح بأنّ ارتفاع مطلق

__________________

(١) أى : الإمام الرّاحل قدس‌سره.

(٢) وهو المحقّق البروجردي قدس‌سره ، راجع ، نهاية الاصول : ص ٢٧٣.

(٣) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٤٤ و ٣٤٥.

١٧٢

الوجوب ، إنّما يكون من فوائد العلّيّة المنحصرة المستفادة من الجملة الشّرطيّة ، حيث كان ارتفاع شخص الوجوب غير مستند إلى ارتفاع العلّة المأخوذة فيها ، فإنّه يرتفع ولو لم يؤخذ في حيال أداة الشّرط ، كما في اللّقب والوصف. (١)

وعليه : فما في التّقريب الثّاني من قوله : «فإذا فرض دلالة الأداة على العلّيّة المنحصرة تمّت الدّلالة على المفهوم وإن كان مفاد الهيئة خاصّا» يكون ناظرا إلى ما صرّح به الشّيخ الأنصاري قدس‌سره كما عرفته آنفا ، لا أنّه ناظر إلى مسألة إلغاء الخصوصيّة.

كيف ، وأنّ الشّيخ قدس‌سره قائل في مبحث الواجب المشروط بأنّ المشروط هو الواجب ـ كالمعلّق عند صاحب الفصول قدس‌سره ـ لا الوجوب ـ كالمشروط عند المشهور ـ وعليه ، فالمشروط في مثل قولنا : «إن جاءك زيد فأكرمه» هو الإكرام لا وجوبه ، أو البعث إليه أو طلبه فالمجيء هو المقتضي (بالكسر) وطبيعيّ الإكرام هو المقتضى (بالفتح) ، ومعناه : هو أنّه لو لا المجيء لم يكن لطبيعيّ الإكرام ـ بناء على الانحصار ـ مقتض ومع عدم المقتضي له ، لا حكم له رأسا من دون حاجة في انتفائه مطلقا إلى إلغاء الخصوصيّة.

إذا عرفت عدم تماميّة ما عن المحقّق الخراساني والإمام الرّاحل قدس‌سرهما من الجواب عن الإيراد المذكور ، فنقول : في حلّ العويصة ، بأنّه لا شكّ ولا شبهة في كون الخطابات الشّرعيّة من الأوامر والنّواهي ـ ولو كانت بصورة الجملة الخبريّة ـ قانونيّة متوجّهة إلى كافّة المكلّفين إلى يوم القيامة ، وعليه ، فلو القي الخطاب إلى

__________________

(١) راجع ، مطارح الأنظار : ص ١٧٣ ، س ٢٣.

١٧٣

المكلّفين بصورة القضيّة الشّرطيّة وكان الجزاء أمرا أو نهيا ، لكان حكما قانونيّا معلّقا على الشّرط ، كتعليق قانون وجوب الحجّ على الاستطاعة ؛ بداهة ، أنّ بالأوامر والنّواهي ينشأ القانون الإلهي ، لا الحكم الجزئي الخاصّ.

ونتيجة ذلك : هو أنّه لو استفدنا الانحصار من الشّرط كان المنطوق هو ثبوت ذلك الجزاء على نحو القانون عند ثبوت شرطه ، وكان المفهوم هو انتفائه كذلك عند انتفاء شرطه.

ومن هنا يظهر ، حلّ الشّبهة الّتي أوردها الفقيه البروجردي قدس‌سره كما مرّ ذكرها آنفا.

هذا في ما إذا كانت الجملة الشّرطيّة إنشائيّة مشتملة على حكم الوجوب أو الحرمة ولو كانت بصورة الجملة الخبريّة.

وأمّا إذا كانت خبريّة محضة غير مشتملة على الحكم والالتزام من الإيجاب أو التّحريم ، نظير قولنا : «من جاءني اكرمه» فالمعلّق هنا ، يكون نفس الإكرام وطبيعيّه ، بناء على مسلك الشّيخ الأنصاري قدس‌سره من رجوع الشّرط والقيد إلى مادّة الجزاء.

وعليه ، فلو كان المجيء شرطا ، لزم الانتفاء عند الانتفاء ـ أيضا ـ كما لا يخفى.

وأمّا بناء على مسلك المشهور من رجوع القيد إلى هيئة الجزاء ، فالمعلّق هو نفس النّسبة الخبريّة التّرقبيّة ، ولازمه ـ عند انحصار الشّرط ـ الانتفاء عند الانتفاء.

(تعدّد الشّرط واتّحاد الجزاء)

الأمر الثّاني : إذا تعدّد الشّرط واتّحد الجزاء ، نظير : «إذا خفي الأذان فقصّر ، وإذا خفي الجدران فقصّر» فلو قلنا : بعدم المفهوم للجملة الشّرطيّة وعدم دلالتها على

١٧٤

الانحصار ، لا يقع التّعارض بين الشّرطين ، بل يكون كلّ واحد من خفاء الأذان والجدران حينئذ شرطا لوجوب القصر ، وهذا واضح.

وأمّا لو قلنا : بثبوت المفهوم لها ودلالتها على الانحصار فيقع التّعارض بينهما ؛ ضرورة ، أنّه ينافي كون كلّ واحد من خفاء الأذان والجدران علّة منحصرة أو شرطا منحصرا لوجوب القصر مع كون خفاء الآخر شرطا له كذلك ، وهذا لا فرق فيه بين القول بكون التّعارض أوّلا وبالذّات في المنطوقين ـ كما اختاره الإمام الرّاحل (١) وشيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سرهما (٢) وهو الحقّ ـ وبين كونه كذلك في مفهوم كلّ واحد مع منطوق الآخر ـ كما اختار المشهور (٣) ـ وهكذا لا فرق فيه بين القول بالمفهوم من طريق الوضع الحاصل من التّبادر ، أو الانصراف إلى الانحصار ، أو من طريق الإطلاق الحاصل من مقدّمات الحكمة.

وكيف كان ، فالمهمّ هنا بيان كيفيّة علاج التّعارض بعد استقراره وعدم المرجّح في البين.

فنقول : إنّ غاية ما يمكن أن يقال في العلاج : هو الوجوه الخمسة الّتي تعرّض لها المحقّق الخراساني قدس‌سره : (٤)

منها : الجمع بين الشّرطين «بالأو» ومقتضاه ، تخصيص مفهوم كلّ منهما

__________________

(١) راجع ، مناهج الوصول : ج ٢ ، ص ١٨٩.

(٢) راجع ، منتهى الأفكار : ج ٢ ، ص ٢٠٦. وقد علّل قدس‌سره لذلك بقوله : «لأنّ المفهوم ظلّ المنطوق ومن آثاره التّابعة له في السّعة والضّيق ، فلا يعقل التّصرّف في المفهوم مع بقاء المنطوق على حاله من الإطلاق أو العموم ، وعليه ، يكون التّعارض في الحقيقة بين المنطوقين ...».

(٣) راجع ، منتهى الأفكار : ج ٢ ، ص ٢٠٦.

(٤) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣١٣.

١٧٥

بمنطوق الآخر ، بحث ينتفي الحكم رأسا بانتفاء كلا الشّرطين.

ومنها : الجمع بينهما «بالواو» ومقتضاه ، تقييد إطلاق الشّرط في كلّ منهما بالآخر ، بحيث ينتفي الحكم رأسا بانتفاء أحد الشّرطين.

ومنها : برفع اليد عن المفهوم في كليهما ، ومقتضاه ، عدم نفي الثّالث ، فلا ينتفي الحكم بانتفائهما ، بخلاف الوجه الأوّل ، كما هو واضح ، وهذا هو مختار المحقّق الخراساني قدس‌سره.

ومنها : برفع اليد عن المفهوم في خصوص أحد الشّرطين دون الآخر ، كما حكي ذلك عن الحلّي قدس‌سره. (١)

ومنها : بجعل الشّرط هو القدر المشترك بينهما.

ولا يخفى : أنّ الظّاهر المناسب لأمثال المقام (مسألة اصول الفقه) هو الوجه الأخير ، والباقي لا يخلو من ضعف.

أمّا الوجه الأوّل ، فلأنّ التّعارض أوّلا وبالذّات ـ كما عرفت آنفا ـ إنّما هو بين المنطوقين ، لا بين مفهوم كلّ واحد مع منطوق الآخر ، كيف ، وأنّ المفهوم يكون ظلّ المنطوق وتبعا له في أصل الوجود والانعقاد ، وفي طور الوجود وكيفيّته من السّعة والإطلاق ، أو الضّيق والإغلاق ، وعليه ، فلا شأن له مع قطع النّظر عن المنطوق.

أمّا الوجه الثّاني ، فلعدم الدّليل على كون الشّرط هو خصوص الجمع ، بحيث كي يلزم ارتكاب التّصرّف في ناحية إطلاق كلا الشّرطين ؛ إذ من المحتمل ـ كما سيأتي ـ هو كون الشّرط عند العرف شيئا آخر ورائهما.

__________________

(١) راجع ، هامش كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣١٤.

١٧٦

أمّا الوجه الثّالث ، فلأنّ مقتضى الاكتفاء بمقدار الضّرورة في رفع اليد عن إطلاق كلّ من المفهومين هو تقييده بالآخر ، إمّا «بالواو» أو «بالأو» لا رفع اليد عنه في كلا المفهومين رأسا.

هذا بناء على تسليم وقوع المعارضة أوّلا وبالذّات بين المفهومين ، وإلّا فالضّرورة تقتضي رفع اليد عن إطلاق كلّ من المنطوقين بتقييده بالآخر.

أمّا الوجه الرّابع ، فلأنّه ممّا لم يقم عليه دليل ، إلّا دعوى ، أنّ المفهوم الباقي هو الأظهر ، وهذه كما ترى.

وإذا اتّضح لك ضعف الوجوه الأربعة ، علمت ، أنّ الظّاهر المناسب للمقام الّذي يلاحظ فيه الأنظار العرفيّة ، لا الدّقّة الفلسفيّة هو الوجه الخامس ؛ ضرورة ، أنّ شرط وجوب التّقصير ـ حسب الفهم العرفي ـ ليس خصوص هذا أو ذاك ، ولا هذا وذاك ، بل هو البعد الخاصّ عن البلد بحيث يوجب خفاء آثاره ، وعليه ، فالشّرط هو نفس هذا البعد الجامع بين الخفاءين ، وأمّا الخفاءان فهما أمارتان وطريقان لإحراز ذلك.

غاية الامر : يكون خفاء الأذان طريقا سمعيّا ؛ وخفاء الجدران طريقا بصريّا.

ومن هنا ظهر ، أنّه لا حاجة لإثبات هذا الوجه إلى حكم العقل بمعونة قاعدة «الواحد لا يصدر إلّا من الواحد» كما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) ، إذ لا ملزم لنا من الذّهاب إلى هذه الدّقّة العقليّة في مثل مسألة اصول الفقه بعد كفاية استظهار العرفي في أمثال تلك المسألة.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣١٣ و ٣١٤.

١٧٧

ونتيجة ما ذكرنا هو أنّ قضيّة : «إذا خفي الأذان فقصّر ، وإذا خفي الجدران فقصّر» خارجة عن محل النّزاع تخصّصا ؛ إذ النّزاع إنّما هو في ما إذا كان الشّرط متعدّدا والجزاء واحدا ، والمفروض ، أنّ الشّرط هنا واحد وهو البعد المخصوص والمتعدّد ليس بشرط ، بل أمارة عليه.

وبالجملة : فما هو شرط ليس بمتعدّد ، وما هو متعدّد ليس بشرط.

(تداخل الأسباب والمسبّبات)

الأمر الثّالث : أنّه بناء على فرض تعدّد الشّرط واتّحاد الجزاء مع عدم الالتزام بالوجه الثّاني من وجوه الجمع (وهو كون الشّرطين معا سببا للجزاء) هل يجب عند اجتماع الشّرطين إتيان الجزاء متعدّدا ، أو يكتفي بإتيانه دفعة واحدة؟

وبعبارة اخرى : هل يتداخل الأسباب أو المسبّبات في الفرض المذكور ، أم لا؟ فيه وجوه واحتمالات.

قبل الورود في تحقيق المسألة وبيان ما هو الحقّ فيها ، لا بدّ من التّكلم في جهات أربعة :

الاولى : تحرير محل النّزاع.

الثّانية : الفرق بين الأسباب الشّرعيّة والتّكوينيّة.

الثّالثة : أقسام الأسباب والمسبّبات.

الرّابعة : معنى التّداخل ، سواء في الأسباب أو المسبّبات.

الجهة الاولى : أنّ النّزاع في مثل المقام إنّما هو في ما إذا كان السّبب قابلا للتّعدّد والتّكرار ، كالإفطار العمدي في نهار شهر رمضان ؛ بناء على بعض الأقوال ،

١٧٨

بخلاف ما إذا لم يكن كذلك ، فلا يجري فيه النّزاع من حيث التّداخل وعدمه ، كما لا يخفى.

والأمر كذلك في المسبّب ، فإنّ مورد النّزاع فيه هو ما إذا كان قابلا للتّعدّد ، كالوضوء والغسل ونحوهما ، دون ما ليس كذلك ، كالقتل ، حيث إنّه لا يقبل التّعدّد عند تعدّد أسبابه ، كالارتداد والزّنا عن إحصان.

نعم ، قد يكون القتل متعلّقا لحقوق متعدّدة ، كما إذا ارتكبه شخص بالنّسبة إلى أشخاص متعدّدين ، فإنّ لكلّ واحد من ولي الدّم هنا حقّ القصاص مستقلّا ؛ بحيث لو أسقط أحدهم حقّه لم يسقط حقّ الباقين ، بل هو ثابت بالنّسبة إليهم ، غاية الأمر : لو اقتصّ منه مرّة واحدة بمطالبة أحد الأولياء ، سقط حقّ الباقين قطعا ؛ وذلك ، لا لأجل التّداخل ، بل لانتفاء الموضوع ، فلهم حينئذ أن يأخذوا الدّية من أمواله ، وقس على هذا سائر حقوق الله تبارك وتعالى ، فلا تداخل فيها ـ أيضا ـ بل تأكّد.

الجهة الثّانية : (بيان الفرق بين الأسباب الشّرعيّة والتّكوينيّة) فنقول : اعلم ، أنّ المقصود من الأسباب التّكوينيّة بجميع أقسامها ـ من البسيطة والمركّبة ، والتّامّة والنّاقصة ، والقريبة والبعيدة ـ هو كونها مؤثّرة مولّدة للأثر المسمّى بالمعلول والمسبب ، وهذا بخلاف الأسباب التّشريعيّة ـ كالوضوء والغسل والنّوم والعقل ودخول الوقت والاستطاعة ونحوها ـ فإنّها ليست بمؤثّرة ، بل المقصود بها ، إمّا هو الشّرط ، أو المانع ، أو القاطع ، حسب اختلاف الموارد.

توضيح ذلك : أنّ الأسباب الشّرعيّة لو كانت مؤثّرة ، لكان تأثيرها ، إمّا يكون بالنّسبة إلى الأحكام التّكليفيّة والوضعيّة ، أو بالنّسبة إلى متعلّقاتها ، أو بالنّسبة إلى موضوعاتها ، والجميع كما ترى.

١٧٩

أمّا الأحكام تكليفا كان أو وضعا ، فلعدم معقوليّة كونها معاليل للامور المذكورة ، سواء كانت ، بمعنى : الإرادات المبرزة ، أو الإرادة وحدة ؛ إذ هي كسائر الصّفات والأفعال لها مباد وعلل خاصّة ، كيف ، وأنّ الحكم ، بمعنى : البعث والزّجر المنشئين بالآلات والأدوات ، فعل صادر من المولى الحكيم ، فيكون كسائر أفعاله الاختياريّة ، ناشئا من مباديه الخاصّة ، لا من مثل الامور المذكورة.

وإن شئت ، فقل : إنّ البعث والزّجر من الامور الاعتباريّة العقلائيّة يقعان مقام البعث والزّجر التّكوينيين ، وعليه ، فلا يكونان معلولين لمثل ما ذكر من الامور.

وأمّا متعلّقات الأحكام ، وهي الأفعال الصّادرة عن المكلّفين اختيارا ، فلأجل أنّه لا معنى لأن يكون شيء من المذكورات علّة فلسفية لتلك الأفعال الاختياريّة ، كما هو واضح.

وأمّا موضوعاتها ، فلوضوح أنّها من الأعيان الخارجيّة النّاشئة من عللها ومباديها التّكوينيّة بلا دخل لمثل النّوم وغيره من الأسباب الشّرعيّة في إيجادها ، وهذا ممّا لا يخفى.

ونتيجة ذلك كلّه ، هو أنّ الأسباب الواردة في الشّريعة ليست بعلل تكوينيّة ، بل هي إمّا تكون من قبيل الشّروط للمتعلّق ، كالوضوء والغسل واستقبال القبلة وستر العورة بالنّسبة إلى الصّلاة ، أو لمتعلّق المتعلّق (موضوع الحكم) كالعقل والقدرة بالنّسبة إلى المكلّف الّذي هو موضوع الحكم ، كما عن المشهور. (١)

__________________

(١) هذا ، ولكن الأحسن أن يقال : التّكليف قانون عامّ متوجّه إلى قاطبة العاقلين القادرين ، فلو لا العقل والقدرة لا يدخل الشّخص تحت ذلك القانون ، ولا يكون شاملا له ، وقد مضى في مبحث التّرتب ما ينفعك هنا ، فراجع.

١٨٠