آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨
الماهيّة «البشرطشيء» فإنّها الّتي تتحقّق بالخارج ، بل التّقسيم لاعتبار الماهيّة ولحاظها ؛ ولأجل ذلك ، اشتهر بينهم : أنّ الاعتبارات الماهيّة ثلاثة ، وعلى هذا فليس هنا «لا بشرطان» قسميّ ومقسميّ ، كما توهّموه». (١)
أمّا الإشكال عليه ، فنقول : أوّلا : أنّ المقسم لا بدّ أن يلحظ ابتداء ثمّ يقسّم ، فلو كان اللّحاظ مقسما لزم لحاظ اللّحاظ ثمّ تقسيمه ، وهذا غير صحيح.
وثانيا : أنّ اللّحاظ هو التّصور وهو الوجود الذّهني ، فيلزم أن يكون الاعتبارات الثّلاث والتّقسيم للوجود ، لا للماهيّة ، بمعنى : أنّه يلزم أن يصير الوجود الذّهني هو «اللّابشرط» وقسيماه ، وأن يكون مخلوطا مجرّدا مطلقا ، وهذا كما ترى.
وثالثا : أنّ اللّحاظ وهو الاعتبار والوجود الذّهني ، يكون أمرا آليّا حرفيّا ، فكيف يصير مقسما!؟ مع أنّ المقسم لا بدّ أن يكون أمرا استقلاليّا اسميّا.
وما عن بعض تلامذة السّيّد البروجردي قدسسره من أنّ القيود في تقسيم القوم ليست متقابلة ، فليس التّقسيم صحيحا ، بتقريب : أنّهم «جعلوا القيد في القسم الأوّل عبارة عن نفس مفهوم اللّابشرطيّة الّتي هي أمر ذهنيّ ، فيجب بمقتضى المقابلة أن يجعل القيد في القسمين الأخيرين عبارة عن نفس مفهوم البشرطشيئيّة ، والبشرطلائيّة حتّى يصير القيود الثّلاثة كلّها ذهنيّة متقابلة ، وهم قد جعلوا التّقييد باللّابشرطيّة في القسم الأوّل في قبال التّقييد ببعض القيود الخارجيّة ، أو التّقييد بعدمها ، فلا يحصل التّقابل بين القيود حينئذ ، ولو جعلوا القيد في «البشرطشيء» أعمّ من القيود الخارجيّة والذّهنيّة لم يكن «اللّابشرط القسمي» قسما على حدّة ، بل كان
__________________
(١) نهاية الاصول : ص ٣٣١ و ٣٣٢.
داخلا في البشرطشيء». (١)
غير تامّ ؛ إذ اللّابشرطيّة معناها : هو عدم اشتراط المقارنة ، وعدم المقارنة لما يلحق بالماهيّة من الخصوصيّة ، فهذا القيد كالآخرين (البشرطشيء ، والبشرطلا) يكون بالنّسبة إلى القيود اللّاحقة للماهيّة ، فالقيود كلّها متقابلة ، ولم يقل أحد ؛ ولا ينبغي أن يقال : يكون مفهوم اللّابشرطيّة ـ وهو أمر ذهنيّ ـ قيدا للماهيّة ، وعليه ، فلا يلزم أن يدخل اللّابشرطيّة في البشرطشيء حتّى لا يكون قسما على حدّة.
هذا كلّه ما عند القوم من الاعتبارات الثّلاث للماهيّة.
ولكن للإمام الرّاحل قدسسره هنا كلام لطيف دقيق ، حاصله (٢) :
أنّ هذا التّقسيم ليس تلاعبا بالمفاهيم مع قطع النّظر عن عالم العين ونشأة الخارج ، بل يكون بلحاظ الخارج ونفس الأمر ، فالماهيّة بحسب واقعها لها حالات ثلاثة ، لا تتخلّف عن واقعها ، ولا يرجع قسم منها إلى قسم آخر وإن لوحظ على خلاف واقعه ألف مرّة حتّى أنّ الاختلاف الواقع بين المادّة والجنس واقعيّ لا اعتباري.
وبالجملة : أنّ الماهيّة إذا قيست إلى أىّ شيء ، فإمّا يكون ذلك الشّيء لازم الالتحاق بها بحسب وجودها أو ذاتها ، كالتّحيّز بالنّسبة إلى الجسميّة ، والزّوجيّة بالنّسبة إلى الأربعة ، فتسمّى حينئذ بشرط شيء ؛ وإمّا يكون ذلك الشّيء ممتنع الالتحاق بها بحسب وجودها أو ذاتها ، كالتّجرّد عن المكان والزّمان للجسم ، والفرديّة للأربعة ، فتسمّى بشرط لا ؛ وإمّا يكون ذلك الشّيء ممكن الالتحاق بها بحسب
__________________
(١) نهاية الاصول : ص ٣٣٤.
(٢) راجع ، تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٦٦.
وجودها وذاتها ، كالوجود للماهيّة ، والبياض للجسم الخارجى ، فتسمى لا بشرط.
وعليه : فلا يلزم التّداخل في الأقسام ، ويتّضح الفرق بين القسمي والمقسمي ، حيث إنّ المقسمي نفس الماهيّة وهي موجودة في جميع الأقسام ؛ والقسمي مقابل للآخرين (البشرطشيء ، والبشرطلا) بحسب نفس الأمر ، فالمعيار وجوب الالتحاق وامتناعه وإمكانه في الواقع ، فلا شأن للّحاظ حتّى يكون هو المقسم.
(علم الجنس)
ومنها (الأسماء المطلقة) : علم الجنس ، فلا كلام ولا إشكال في أنّه يعامل معه معاملة المعرفة في وقوعه مبتدأ وذا حال وموصوفا بالمعرفة ونحوها من سائر حالات المعرفة ، إنّما الكلام في وجه ذلك.
فعن المحقّق الخراساني قدسسره : إنّه معرفة بالتّعريف اللّفظي ، كالتّأنيث اللّفظي (١) ، فلا فرق بينه وبين اسم الجنس في المفاد والمعنى ؛ وعن المشهور بين أهل العربيّة إنّه معرفة بالتّعريف الحقيقي ، بمعنى : أنّه وضع للطّبيعة ، لكن لا بما هي هي ، كاسم الجنس ، بل بما هي متصوّرة متعيّنة بالتّعيّن الذّهني ؛ ولذا يعامل معه معاملة المعرفة بدون أداة التّعريف.
وقد أورد المحقّق الخراساني قدسسره على هذه المقالة بوجهين : أحدهما : أنّ علم الجنس حينئذ يصير كلّيّا عقليّا ، لا موطن له إلّا العقل ، فيلزم عدم صحّة حمله على الأفراد والمصاديق إلّا بتصرّف وتأويل وتجريد بإرادة نفس المعنى بدون قيده ،
__________________
(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٧٨.
وليس الأمر كذلك ؛ ضرورة ، صحّة الحمل بدون ذلك ؛ ثانيهما : أنّ وضع اللّفظ ، كعلم الجنس ، لخصوص معنى يحتاج إلى تجريده عن خصوصيّته دائما عند الاستعمال ، وهذا ممّا لا يكاد يصدر عن جاهل ، فضلا عن الواضع الحكيم ؛ لكونه لغوا محضا ، فلا يعقل أن يوضع لفظ لمعنى لم يستعمل فيه أبدا ، كما لا يخفى. (١)
فحاصل ما اختاره قدسسره هو عدم الفرق بين اسم الجنس وعلمه من ناحية المعنى ، بل الفرق من جهة المعاملة مع علم الجنس معاملة المعرفة وإجراء أحكامها عليه ، كإجراء أحكام التّأنيث على بعض الألفاظ مع عدم التّأنيث فيه حقيقة ، كالرّجل واليد والعين والاذن ونحوها.
ويدلّ عليه ، ما عرفت : من عدم إمكان أخذ الخصوصيّة الذّهنيّة في معناه ، والإنصاف ، أنّ ما أفاده قدسسره متين جدّا ، يساعده الارتكاز ، ويصدّقه الاستعمال المتعارف من أرباب اللّسان.
وعليه ، فما حكى شيخنا الاستاذ الآملي قدسسره عن المحقّق العراقي قدسسره من المناقشة في كلام المحقّق الخراساني قدسسره بأنّه إنّما يتوجّه لو كان الموضوع له هي الماهيّة المقيّدة بالإشارة الذّهنيّة ؛ وأمّا لو قلنا : بأنّه هي الطّبيعة المقرونة بالإشارة المصاحبة لها لا المقيّدة بها ، فلا يتوجّه الإيراد ؛ لأنّ المفهوم الكذائي قابل الصّدق والانطباق على الخارج وله نحو تعيّن بالإشارة من دون الأخذ في الوضع ، ومن هنا يفارق علم الجنس عن اسمه ، حيث إنّ علم الجنس موضوع للماهيّة التّوأمة مع الإشارة من دون اعتبارها فيها حسب الوضع ، بحيث تكون جزءا للموضوع له ، بخلاف اسم الجنس ،
__________________
(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٧٩.
فإنّه موضوع لنفس الماهيّة ، وهذا نظير ما قلنا : في بيان الفرق بين المعنى الاسمي والحرفي في توجيه مقالة صاحب الفصول قدسسره من أنّ ألفاظ الحروف موضوعة للمعاني التّوأمة مع اللّحاظ الآلي ، والأسماء موضوعة للمعاني التّوأمة مع اللّحاظ الاستقلالي من دون أخذ الآليّة والاستقلاليّة في صقع المعنى وافق الموضوع له (١) ؛ لا يخلو عن ضعف ؛ إذ ليس هذا إلّا تلاعب علمي ، لا يساعده العرف واللّغة.
ويلحق بهذه المناقشة في الضّعف ـ أيضا ـ ما عن بعض الأعاظم قدسسره من المناقشة فيما ذكره المحقّق الخراساني قدسسره بأنّه إنّما يتمّ لو كان الأخذ على وجه الجزئيّة والشّطريّة ، أو على وجه القيديّة والشّرطيّة ؛ وأمّا لو اخذ على نحو المعرّفيّة والمرآتيّة فحسب ، بلا دخل في الموضوع له رأسا ، فلا يتمّ ما ذكره قدسسره. (٢)
وجه ضعف هذه المناقشة هو ما عرفت آنفا ، من أنّ أمثال هذا الكلام إنّما هو من المخترعات في المدرسة ، ولا أساس له في العرف واللّغة ، مع أنّ المناقشة المذكورة تجري في اسم الجنس ـ أيضا ـ كما لا يخفى.
(الموضع الثّاني : مقدّمات الحكمة)
قبل الورود في البحث عن مقدّمات الحكمة ، لا بدّ من تقديم أمر وهو أنّه قد أشرنا سابقا إلى أنّ الطّبيعة والماهيّة إذا وقعت موضوعة للحكم ، يكون على وجهين :
__________________
(١) تقريرات بحوثه قدسسره القيّمة بقلم الرّاقم.
(٢) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٥ ، ص ٣٥٥.
الأوّل : أن يكون ذلك الحكم ثابتا لجميع أفرادها ، ساريا فيها بسريان نفس الطّبيعة ، وليس معنى ذلك هو تعلّق الحكم بالأفراد ؛ إذ عرفت : أنّ الحكم متعلّق بنفس الطّبيعة الّتي هو تمام الموضوع للحكم ، فيكون جميع أفرادها مشمولة له.
الثّاني : أن يكون ثابتا لبعض أفرادها ؛ فعلى الأوّل : توصف الطّبيعة بالإطلاق ؛ وعلى الثّاني : توصف بالتّقيد. هذا واضح لا كلام فيه ، إنّما الكلام في بيان ملاك إطلاق الطّبيعة وتقييدها ، فنقول : يقع الكلام هنا تارة في مقام الثّبوت ؛ واخرى في مقام الإثبات.
أمّا مقام الثّبوت ، ففيه وجوه واحتمالات :
الأوّل : أنّ مفهوم السّريان مأخوذ في الطّبيعة بنحو الشّطريّة أو الشّرطيّة ، فعلى هذا ، ليس ملاك إطلاق الطّبيعة ، وكذا تقييدها إلّا الوضع.
الثّاني : أنّ الإطلاق والتّقييد كليهما أمران وجوديّان ، وعلى هذا يكون ملاك كلّ منهما هو لحاظ شيء مع الماهيّة والطّبيعة ، غاية الأمر : قد يكون ذلك الشّيء الملحوظ معها ، هو الشّياع والسّريان ، فتصير الطّبيعة مطلقة ، وقد يكون قيدا آخر غير السّريان ، فتصير الطّبيعة مقيّدة ، وعلى كلا التّقديرين ، تسمّى تلك الطّبيعة بالمخلوطة وبشرط شيء.
ولا يخفى : أنّ مقتضى هذا الوجه هو كون السّريان قيدا كسائر القيود ، وكونه كالأعراض المفارقة للطّبيعة لا يعرضها إلّا باللّحاظ ، فإن لوحظ الشّياع والسّريان ووضع الحكم على الطّبيعة السّارية ، سمّيت مطلقة ، وإن لوحظ قيد آخر وراء السّريان ، كالعلم والإيمان ، سمّيت مقيّدة.
الثّالث : إنّه ليس للإطلاق في الاصول اصطلاح خاصّ ، بل يراد به هنا معناه اللّغوي ، وهو الإرسال وعدم التّقييد بشيء في قبال التّقييد ، غاية الأمر : يبحث في الاصول عن عدّة من الأسماء بأنّها هل هي من المطلقات ، أم لا؟ فالإطلاق ليس تقييدا بشيء أصلا ولو كان ذلك الشّيء هو الشّياع والسّريان حتّى يكون وجوديّا ، بل الإطلاق هو رفض القيود كلّها حتّى قيد السّريان ، ولا ريب : أنّ ملاك إطلاق الطّبيعة على هذا هو عدم لحاظ أمر آخر معها ، وهذا الوجه هو الحقّ المختار.
والنّتيجة : أنّ الإطلاق لا يكون ملاكه هو لحاظ السّريان ـ كما عرفت في الوجه الثّاني ـ بل هو عبارة عن عدم لحاظ شيء آخر ـ أيّ شيء كان ـ مع الطّبيعة ، بمعنى : أنّ الطّبيعة المهملة إذا لوحظت بنفسها مع عدم لحاظ أمر آخر معها ، سمّيت مطلقة ، ونعت بوصف الإطلاق.
ومن الواضح : أنّ السّريان والانطباق على جميع الأفراد لا يكون كالأعراض المفارقة ، بل يكون من شئونها ، لكون الطّبيعة عين الأفراد وهي واحدة في نشأة الذّهن وعالم الباطن ، وكثيرة في نشأة الخارج وعالم الظّاهر ، وهذا ليس بمعنى أخذ مفهوم السّريان في الطّبيعة ودخله في وضعها بنحو الشّطريّة أو الشّرطيّة ـ كما عرفت في الوجه الأوّل ـ بل يكون نظير الزّوجيّة للأربعة ، أو الفرديّة للثّلاثة ، وكيف كان ، هذا مطلب آخر ، عقليّ فلسفي ، أجنبي عن العرف واللّغة ، هذا تمام الكلام في مقام الثّبوت.
فقد عرفت فيه : أنّه على الوجه الأوّل يكون الإطلاق جزءا للموضوع له ؛ وعلى الوجه الثّاني يكون عرضا مفارقا لا بدّ من لحاظه ؛ وعلى الوجه الثّالث
يكون بمعنى الإرسال وعدم لحاظ شيء أصلا مع الطّبيعة ، بحيث يلحظ نفس الطّبيعة ولا يلحظ معه أمر آخر.
وأمّا مقام الإثبات ، فلا يخفى أنّه لا حاجة في إحراز الإطلاق إلى قرينة ـ ولو كانت هي مقدّمات الحكمة ـ بناء على الوجه الأوّل ؛ وأمّا بناء على الوجهين الآخرين ، فإحراز الإطلاق وأنّ نفس الطّبيعة تمام الموضوع للحكم بلا دخل قيد فيها ، يحتاج إلى قرينة وهي مقدّمات الحكمة.
نعم ، هذا يتمّ على مبنى التّحقيق من عدم المجازيّة بالتّقييد ، كالتّخصيص ، وإلّا فإن شككنا في الإطلاق وعدمه ولم يكن هناك قرينة على التّقييد ، نتمسّك لإحرازه بأصالة الحقيقة.
إذا عرفت هذا الأمر ، فلنشرع البحث في مقدّمات الحكمة ، فنقول : إنّها ـ على ما عن المحقّق الخراساني قدسسره (١) ـ ثلاثة :
الاولى : كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد ، لا الإهمال أو الإجمال.
الثّانية : انتفاء ما يوجب التّعيين.
الثّالثة : انتفاء القدر المتيقّن في مقام التّخاطب.
أمّا الاولى ، فهي دخيلة في انعقاد الإطلاق ، كما هو واضح ـ نظير قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) و (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ونحوهما ـ فلو لم يتمكّن المتكلّم من البيان وإتيان القيد ، أو كان متمكّنا ، لكن لم يكن في مقام البيان ، بل كان في مقام الإهمال أو الإجمال ، لم ينعقد هناك إطلاق قطعا ، كما أنّه إذا كان في مقام البيان من بعض النّواحي دون
__________________
(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٨٤.
بعض ، يتمسّك بالإطلاق في تلك النّاحية الّتي كان بالنّسبة إليها في مقام البيان دون النّاحية الاخرى ، وهذا يوجد في غير موضع من الكتاب والسّنة ، كقوله تعالى (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ) حيث إنّه يتمسّك بإطلاقه لو شكّ في أنّه هل يعتبر في تذكية الحيوان خصوص الإمساك من الحلقوم ، أم لا؟ بل عضّ الكلب وجرحه على أيّ موضع من الحيوان ، يكون بمنزلة ذبحه ، والتّمسّك بهذا الإطلاق إنّما هو لأجل كون الآية في مقام البيان من هذه النّاحية.
وأمّا لو شكّ في طهارة محلّ الإمساك ونجاسته ، فلا مجال للتّمسّك بالإطلاق والحكم بطهارته ؛ وذلك ، لعدم كون الآية في مقام بيان هذه النّاحية ، فيحكم حينئذ بالنّجاسة.
وإن شئت ، فقل : إنّ الآية تكون في مقام بيان حلّيّة صيد الكلاب المعلّمة وأنّه مذكّى لا ميتة ، لا في مقام بيان حكم موضع الإمساك من حيث النّجاسة والطّهارة.
ثمّ إنّ المحقّق الحائري قدسسره قد خالف في دخل هذه المقدّمة ، فقال ما هذا لفظه : «هذا ، ويمكن أن يقال : بعدم الحاجة إلى إحراز كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد في الحمل على الإطلاق عند عدم القرينة ، بيانه ، أنّ المهملة مردّدة بين المطلق والمقيّد ولا ثالث ؛ ولا إشكال أنّه لو كان المراد ، المقيّد يكون الإرادة متعلّقة به بالأصالة ، وإنّما ينسب إلى الطّبيعة بالتّبع لمكان الاتّحاد ، فنقول : لو قال القائل : «جئني بالرّجل» أو «برجل» يكون ظاهرا في أنّ الإرادة أوّلا وبالذّات متعلّقة بالطّبيعة ، لا أنّ المراد هو المقيّد ثمّ أضاف إرادته إلى الطّبيعة لمكان الاتّحاد ، وبعد تسليم هذا الظّهور تسري الإرادة إلى تمام الأفراد ، وهذا معنى الإطلاق». (١)
__________________
(١) درر الفوائد : ج ١ ، ص ٢٣٤.
ولكن هذا الكلام غير تامّ ، والوجه فيه ، ما أفاده الإمام الرّاحل قدسسره ونعم ما أفاد ، حيث قال ، ما ملخّصه : أنّ ما ذكره قدسسره من ظهور الإرادة في الأصليّة ، لا التّبعيّة ، مستفاد من المقدّمة المذكورة ؛ إذ لولاها ، لا دليل على أنّ المقيّد غير مراد ، وأنّ المراد بالأصالة هي الطّبيعة ؛ ضرورة ، أنّه يحتمل لولاها ، كان هنا قيد لم يذكره المولى ، فإحراز كون الطّبيعة واردا مورد الإرادة بالأصالة ، فرع إحراز كونه في مقام البيان دون الإهمال والإجمال ، لأنّ هذا ليس ظهورا وضعيّا ، بل حكم عقلائي ، بأنّ ما جعل موضوع الحكم هو تمام المراد لا بعضه ، فيحتاجون فى حكمهم هذا إلى هذه المقدّمة وأنّ المتكلّم كان في مقام البيان ، فلو كان لشيء دخل ، لكان عليه البيان ، وحيث لا بيان ، فلا دخل ، ويكون هو تمام المراد (١). هذا كلّه في المقدّمة الاولى.
أمّا المقدّمة الثّانية (انتفاء ما يوجب التّعيين) فالوجه في كونها دخلية في انعقاد الإطلاق ، هو أنّه مع وجود القرينة المتّصلة الدّالّة على التّقييد ، لا ينعقد ظهور في الإطلاق قطعا ، كالقرينة على التّخصيص على ما عرفت في مباحث العامّ ، ومع وجود القرينة المنفصلة وإن لم ينهدم الظّهور الإطلاقيّ ، لكن لا حجيّة له لكشفها عن عدم تتطابق الإرادتين (الاستعماليّة والجدّيّة).
هذا ، ولكن قد خالف في ذلك السّيّد البروجردي قدسسره فقال : «هي زائدة ، إذ البحث ، إنّما هو في صورة الشّكّ ، ومع وجود القرينة لا يكون شكّ في البين». (٢)
وكذا خالف فيه الإمام الرّاحل قدسسره فقال : «لا يخفى ، أنّها محقّقة لمحلّ البحث ،
__________________
(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٧١ و ٧٢.
(٢) نهاية الاصول : ص ٣٤٣.
لأنّ التّمسّك بالإطلاق عند طريان الشّكّ ، وهو مع وجود ما يوجب التّعيين مرتفع ، فلو كان في المقام انصراف ، أو قرينة لفظيّة ، أو غيرها ، فالإطلاق معدوم فيه بموضوعه ؛ وبالجملة : فهي محقّقه لموضوع الإطلاق ، لا من شرائطه ومقدّماته». (١)
والحقّ هو عدم دخل تلك المقدّمة في تحقّق الإطلاق ، ووجهه ما عرفت من العلمين قدسسرهما من أنّ هذه المقدّمة تكون محقّقه لموضوع الإطلاق ، لا شرطا ومقدّمة له ، وقد أجادا فيما أفاداه قدسسرهما.
أمّا المقدّمة الثّالثة (انتفاء القدر المتيقّن في مقام التّخاطب) فالحقّ فيها ـ أيضا ـ عدم الدّخل في انعقاد الإطلاق ؛ وذلك ، لأنّ القدر المتيقّن على قسمين :
أحدهما : أن يكون خارجا عن مقام التّخاطب ، غير مستند إلى اللّفظ رأسا ، بل هو ثابت بحسب الإرادة المتكلّم لمكان القرائن ولو كانت من قبيل تناسب الموضوع والحكم ، وهذا هو المسمّى ب «المتيقّن الخارجي» ولا ريب : أنّ هذا القسم لا يكون مانعا عن التّمسّك بالإطلاق قطعا كي يقال : باشتراط انتفائه في التّمسّك به ؛ ضرورة ، أنّ كلّ مطلق لا يخلو من هذا المتيقّن ، فقوله : «أكرم عالما» مثلا ، يكون المتيقّن منه هو «الهاشمي التّقي» فهو المراد قطعا ، مع أنّك تعرف : أنّ هذا المتيقّن لا يوجب المنع عن الإطلاق بالنّسبة إلى سائر أفراد المطلق.
وبالجملة : لا يكون وجود مثل هذا المتيقّن مانعا عن الإطلاق ، أو عدمه شرطا له ؛ إذ جلّ المطلقات لو لا الكلّ لها قدر متيقّن خارجي قطعا ، فلو كان مخلّا بانعقاد الإطلاق لزم انسداد باب التّمسّك به.
__________________
(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٧٢.
ثانيهما : أن يكون في مقام التّخاطب ، بمعنى : ثبوت قدر المتيقّن بحسب دلالة اللّفظ وظهوره ، لا بحسب الحكم وواقع الإرادة ، وهذا هو المسمّى ب «المتيقّن التّخاطبي».
والحقّ أنّ هذا القسم ـ أيضا ـ لا يمنع عن التّمسّك بالإطلاق ، خلافا للمحقّق الخراساني قدسسره فقال بمنعه عنه ، بتقريب : أنّ هذا المقدار المتيقّن ، لعلّه اتّكل المتكلّم على تيقّنه ، فهو مقطوع ، وما عداه مشكوك فلا إطلاق. (١)
والوجه فيما قلناه : هو أنّ المفروض ، عدم القرينة المتّصلة المانعة عن انعقاد الظّهور الإطلاقيّ ، ولا المنفصلة المانعة عن حجّيّة تلك الظّهور ، فالإطلاق قد انعقد واستقرّ ، فيكون حجّة قابلا للتّمسّك ، ومجرّد التّيقّن حسب التّخاطب ، لا يصلح لكونه قرينة مانعة عن انعقاده وحجّيّته ، إلّا أن يصل إلى حدّ الانصراف ، وهذا أمر آخر ، ألا ترى ، أنّه إذا سئل عن حكم بئر معيّنة ، فاجيب «ماء البئر واسع لا يفسده شيء» لا يشكّ أحد في إطلاق هذا الجواب بالنّسبة إلى جميع أفراد البئر وإن كان مورد السّؤال هو المتيقّن التّخاطبي ، نظير ذلك ، ما ورد في موثّقة ابن بكير ، سأل زرارة أبا عبد الله عليهالسلام : «عن الصّلاة في الثّعالب والفنك والسّنجاب وغيره من الوبر ، فأخرج كتابا زعم أنّه إملاء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّ الصّلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله ، فالصّلاة في وبره وشعره و... وكلّ شيء من فاسد ...». (٢)
__________________
(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٨٤.
(٢) وسائل الشّيعة : ج ٣ ، كتاب الصّلاة ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي ، الحديث ١ ، ص ٢٥٠.
فلا يرتاب أحد في إطلاق جواب الإمام عليهالسلام بالنّسبة إلى جميع أفراد ما لا يؤكل لحمه ، مع أنّ المتيقّن التّخاطبي وهو مورد السّؤال ، موجود هنا.
ثمّ إنّه انقدح ممّا ذكرناه ، ضعف ما يقال : بكون المقدّمة الثّالثة ، كالثّانية من محقّقات الموضوع ، لا من الشّرائط والمقدّمات ، لتقوّم الإطلاق بعدم البيان ، فمع البيان لا مجال له. (١)
وجه انقداح الضّعف ، هو ما عرفت آنفا ، من أنّ الحقّ عدم منع المتيقّن التّخاطبي عن الإطلاق وأنّه لا يكون بيانا على التّقييد ، إلّا أن يصل إلى حدّ الانصراف.
ولقد أجاد المحقّق الحائري قدسسره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «ثمّ إنّ وجود القدر المتيقّن في مقام التّخاطب ، لا يضرّ بالحمل على الإطلاق ما لم يصل إلى حدّ الانصراف ... ويشهد لذلك أنّه لم يعهد من أحد من أهل اللّسان ، التّوقّف في حمل المطلقات الواردة في الموارد الخاصّة على الإطلاق ، والاقتصار عليها فقط ، لأنّها المتيقّن ، بل يتجاوزون عنها حتّى أنّه قد اشتهر أنّ العبرة بعموم اللّفظ ، لا خصوص المورد». (٢)
فتحصّل : أنّ المادّة المؤثّرة في انعقاد الإطلاق منحصرة بالمقدّمة الاولى وهو كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد ، لا الإهمال والإجمال ؛ وأمّا المقدّمة الثّانية (عدم وجود القرينة المعيّنة) فهي دخيلة في تحقّق موضوع الإطلاق ، لا أنّها تعدّ من
__________________
(١) راجع ، نهاية الاصول : ص ٣٤٣.
(٢) درر الفوائد : ج ١ ، ص ٢٣٥.
المقدّمات ؛ وأمّا المقدّمة الثّالثة (انتفاء قدر المتيقّن في مقام التّخاطب) فهي بكلا قسميه غير مانعة عن انعقاد الإطلاق ، لعدم كونه بيانا على التّقييد.
وهم ودفع :
أمّا الوهم ، فقال الشّيخ الأنصاري قدسسره : «وإنّما حمل على الإطلاق والإشاعة بواسطة عدم الدّليل ، فالإطلاق حينئذ بمنزلة الاصول العمليّة في قبال الدّليل». (١)
وقد توهّم أنّ مراده قدسسره عدم جواز التّمسّك بالإطلاقات ، بعد الظّفر بالدّليل وهو المقيّد المنفصل ، نظير عدم جواز التّمسّك بالاصول العمليّة من الاستصحاب والاشتغال والبراءة ، بعد الظّفر بالدّليل وهو الكتاب والسّنة ؛ وذلك ، لانخرام المقدّمة الاولى من الحكمة بالظّفر بالمقيّد المنفصل الكاشف عن عدم كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد ، بل كان في مقام الإهمال والإجمال ، مع أنّ السّيرة استقرّت على التّمسّك بها مطلقا ولو بعد الظّفر والاطّلاع.
وبالجملة : المتوهّم يقول : إنّ مراده قدسسره هو كون العثور على القيد مستلزما لسقوط الإطلاق ، وصيرورة الكلام المشتمل على المطلق واردا في مقام الإهمال أو الإجمال بالنّسبة إلى قيود أخر ، مع أنّ السّيرة قامت على التّمسّك بالإطلاقات حتّى بعد العثور ، ومقتضى هذه السّيرة عدم سقوط الإطلاقات ، بل كونها باقية على الحجّيّة.
أمّا الدّفع ، فيقال : إنّ المراد من كون المتكلّم في مقام البيان هو كونه في مقام الإظهار والإعلان لغرض الإفهام ولو لم يكن عن جدّ ، بل كان لتأسيس القانون وضرب القاعدة.
__________________
(١) مطارح الأنظار : ص ٢١٨ ، ص ٢١.
توضيح ذلك : قد عرفت منّا مرارا ، أنّ البيان على نوعين : أحدهما : أن يكون بيانا للمراد الجدّي ، وهذا هو المقصود في قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ؛ ثانيهما : أن يكون أعمّ من ذلك ، فيراد بالبيان هو إظهار الإطلاق والإعلان به ولو لم يكن عن جدّ ، والغرض من هذا الإظهار هو ضرب القانون وإعطاء الحجّة حتّى يكون مرجعا لدى الشّكّ ما لم يقم حجّة أقوى على خلافه ، وهذا هو المقصود من البيان في المقام.
وعليه : فلا يكون العثور على المقيّد المنفصل كاشفا عن عدم كون المتكلّم في مقام البيان وكونه في مقام الإجمال أو الإهمال ، ولا يكون موجبا لسقوط المطلق عن الحجّيّة في الإطلاق ، بل الإطلاق باق على حجيّته في غير مورد القيد المعثور عليه ، لجريان أصالة التّطابق بين الإرادتين.
نعم ، لا يجري هذا الأصل في مورد القيد ، فتخالف الإرادتان فيه ، حيث إنّ الإرادة الاستعماليّة تكون في الإطلاق ، والإرادة الجدّيّة تكون في التّقييد ، وهذا ، كالعامّ المخصّص بمخصّص منفصل ، حيث عرفت : أنّه لا يبطل حجّيّة العامّ في غير مورد التّخصيص المعيّن ، فلو قال : «أكرم عالما» فعثرنا على قيد العدل المنفصل ، وأحرزنا أنّ المراد الجدّي هو «العالم العادل» لم يوجب ذلك سقوط الإطلاق هنا عن الحجّيّة بالمرّة ، وعدم جواز التّمسّك به في غير مورد العدالة.
وهذا الّذي أشرنا ، هو سرّ استقرار السّيرة على التّمسّك بالإطلاقات في موارد الشّكّ حتّى بعد الظّفر بقيود منفصلة خاصّة.
فتحصّل : أنّ التّقييد من ناحية وبحسب حالة وخصوصيّة ، لا ينافي الإطلاق
بحسب حالة وخصوصيّة اخرى ، بمعنى : أنّ تقييد المطلق بقيد خاصّ لا ينافي إطلاقه من ناحية قيد آخر أو قيود اخرى ، فالتّقييد الواحد لا يوجب سقوط الإطلاق رأسا وبالكلّيّة.
(الموضع الثّالث : العمل بالمطلق قبل الفحص)
قد وقع الكلام بين الأعلام في أنّه ، هل يجوز العمل بالمطلق قبل الفحص عن المقيّد ، أو لا؟ وجهان :
والحقّ هو الثّاني فيما إذا كان المطلق في معرض التّقييد ، كما هو الحال في إطلاقات الكتاب والسّنّة.
والسّر فيه ما عرفت في مبحث العامّ : من أنّ دليل حجّيّة الإطلاقات والظّهورات الإطلاقيّة هو بناء العقلاء والسّيرة ، ونحن نقطع باستقرار سيرتهم على عدم العمل بالمطلق قبل الفحص عن المقيّد ولا أقلّ من الشّكّ في استقراره على العمل به قبله.
نعم ، لو لم يكن المطلق في معرض التّقييد ، كالوارد في ألسنة أصحاب المحاورة العرفيّة ، فالسّيرة على العمل به بلا فحص ، قائمة ثابتة.
وبالجملة : كما أنّ الفحص في العمومات يكون عن متمّم الحجّة ـ نظير الفحص في الاصول العمليّة ـ لا مزاحمها ، كذلك الفحص في الإطلاقات ، فإنّه ـ أيضا ـ يكون عن المتمّم لا المزاحم ، فالفحص في إطلاقات الكتاب والسّنة ، ـ أيضا ـ يكون
كالفحص في الاصول العمليّة بلا شبهة ، خلافا للمحقّق الخراساني قدسسره (١) على ما أشار إليه في مبحث العمومات.
بقي الكلام في امور :
الأوّل : في مقدار الفحص هنا.
الثّاني : في أنّه هل يمكن إحراز كون المتكلّم في مقام البيان ، بالأصل أم لا؟
الثّالث : في أنّ الانصراف إلى بعض أفراد المطلق ، هل هو مانع عن انعقاد الإطلاق ، أم لا؟
أمّا الأوّل : فالكلام فيه هو الكلام في مبحث العامّ بعينه ؛ محصّله : أنّه بناء على كون الوجه في لزوم الفحص هو العلم الإجمالي ، يجب الفحص بمقدار يوجب انحلاله وانتفاء بالمرّة ، وأمّا بناء على كون الوجه هو المعرضيّة ـ كما هو المختار ـ لزم الفحص حتّى يخرج المطلق عن المعرضيّة.
أمّا الثّاني : فالحقّ أن يقال : إذا احرز كون المتكلّم بصدد بيان حكم ، ولكن شكّ في أنّه ، هل كان في مقام بيان تمام المراد ، أم لا؟ يرجع إلى الأصل لإحراز كونه بصدد بيان تمام المراد وبيان كلّ ما له دخل في موضوع حكمه ، مقابل الإجمال والإهمال ؛ وأمّا إذا شكّ في كونه بصدد بيان هذا الحكم ، أو ذاك الحكم ، فلا أصل هنا يرجع إليه لإحراز الحال ، وأنّه كان بصدد بيان هذا ، دون ذلك.
أمّا الثّالث : فلا ريب ، في أنّه لا إطلاق مع انصراف المطلق إلى بعض أفراده ، أو أصنافه إذا كان ناشئا عن كثرة الاستعمال ، وشيوع الإرادة ، لشدّة انس اللّفظ
__________________
(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٥٤.
بالمعنى الموجبة لصيرورة اللّفظ وجها له ، وتكون بمنزلة القرنية المتّصلة المانعة عن انعقاد ظهور المطلق في الإطلاق ؛ ولذا يقولون : إنّ المتفاهم العرفي من عنوان «ما لا يؤكل لحمه» في ما ورد من النّهي عن الصّلاة في وبر ما لا يؤكل لحمه (١) هو خصوص الحيوان مقابل الإنسان ، لا مطلق ما له الحياة ، كما هو مقتضى معناه اللّغوي ، فيفتون بجواز الصّلاة في شعر الإنسان ونحوه ، وليس ذلك إلّا للانصراف ، كانصراف لفظ : «المسح» إلى المسح باليد ، فمثل هذه الانصرافات تكون مانعة عن انعقاد الإطلاقات.
ولقد أجاد شيخنا الاستاذ الآملي قدسسره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «وهنا قسم آخر من الانصراف ، مانع عن انعقاد الإطلاق وهو النّاشي عن كثرة الاستعمال الموجبة للانس ، بحيث إذا اطلق اللّفظ ، ينساق ذلك الفرد إلى الذّهن ، فهذا الانس الذّهني يمنع عن انعقاده لعدم جريان مقدّمات الحكمة بتمامها حينئذ ؛ إذ منها عدم القرينة على التّقييد ، والانس المذكور يكون قرينة». (٢)
نعم ، إذا كان الانصراف أجنبيّا عن الألفاظ وظهوراتها ، فهي بدويّة غير مانعة عن انعقاد الإطلاق ، كالانصراف المستند إلى الأكمليّة ، أو غلبة الوجود ، أو تعارف الممارسة الخارجيّة وكثرة المزاولة العينيّة بالنّسبة إلى بعض الأفراد والأصناف ، فأمثال هذه الانصراف تكون بدويّة غير مستقرّة تزول بأدنى تأمّل ، والعمدة للفقيه تشخيص هذه المسألة وأنّه ، هل الانصراف يكون من هذه أو تلك؟ وقد قالوا : إنّ
__________________
(١) راجع ، وسائل الشّيعة : ج ٣ ، كتاب الصّلاة ، الباب لباس المصلّى ، ص ٢٥٠ إلى ٢٦٠.
(٢) تقريرات بحوثه قدسسره القيّمة بقلم الرّاقم.
انصراف المسح إلى المسح باليد يكون من الانصرافات اللّفظيّة غير البدويّة ؛ وأمّا انصرافه إلى المسح بخصوص باطن اليد ، فهو بدويّ نشأ من تعارف المسح بالباطن للسّهولة ، ولكونه مقتضى الطّبيعة والجبلّة في مسحات الإنسان ، لا لعلاقة لفظيّة ؛ ولذا أفتى بعض الفقهاء بجواز المسح بظهر اليد تمسّكا بإطلاق الآية المباركة. (١)
(الموضع الرّابع : حمل المطلق على المقيّد)
إذا ورد مطلق ومقيّد متنافيان ، فلا إشكال في تقييد المطلق بالمقيّد لو كانا متخالفين في الإثبات والنّفي ، نظير قولنا : «أعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة» فيقيّد المطلق ويراد به خصوص الرّقبة المؤمنة ، إنّما الإشكال فيما إذا كانا متوافقين ، نظير قولنا : «أعتق رقبة ، وأعتق رقبة مؤمنة» فذهب المشهور (٢) إلى التّقييد هنا ، أيضا.
والتّحقيق في المسألة : يحتاج إلى بيان صورها وأحكامها ، ولكن قبل الشّروع فيه ، لا بدّ من الإشارة إلى أمرين : أحدهما : أنّ محلّ النّزاع في المسألة ما إذا كان المقيّد منفصلا حتّى يتصوّر التّعارض ويعالج بنحو ؛ وأمّا إذا كان متّصلا ، فلا نزاع فيه ، حيث إنّه يمنع عن انعقاد أصل الإطلاق ، فلا معنى للتّعارض الّذي هو فرع ثبوت الإطلاق ؛ ولذا لا وجه لقياس المقيّد المنفصل بالمتّصل ، كما لا يقاس المخصّص المنفصل بالمتّصل ، على عرفته في مبحث العامّ.
ثانيهما : أنّ تقديم المقيّد على المطلق وحمله عليه ، ليس من باب الحكومة الّتي
__________________
(١) سورة المائدة (٥) : الآية ٦.
(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٨٩.
هي عبارة عن تعرّض أحد الدّليلين بلسانه للدّليل الآخر من حيث التّوسعة والتّضييق لموضوعه ، بل يكون من باب تقديم الأظهر على الظّاهر ، نظرا إلى أنّ ظهور القيد في التّقييد يكون أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق ، فالتّقديم هنا ، كالتّقديم في باب العامّ والخاصّ ، وفي باب القرينة وذي القرينة.
إذا عرفت هذين الأمرين : فاعلم ، أنّ الصّور في المسألة كثيرة ، نشير إلى عدّة مهمّة منها :
الاولى : أنّ المطلق والمقيّد مختلفان في الإثبات والنّفي مع كون الحكم فيهما تكليفيّا وهي على قسمين : أحدهما : أن يفرض الإثبات في المقيّد والنّفي في المطلق ، نظير قولنا : «لا تعتق رقبة ، وأعتق رقبة مؤمنة».
ولا ريب : أنّه يحكم هنا بحمل المطلق على المقيّد وتقييده به ؛ ضرورة ، أنّ النّهي في جانب المطلق ، سواء كان تحريميّا أو تنزيهيّا ، ينافي الأمر في جانب المقيّد ، سواء كان إيجابيّا أو استحبابيّا ، وهذا التّنافي لا يرفع إلّا بالحمل المذكور ، كما هو الحال في العامّ المنافي للخاصّ ، فإنّه يحمل على الخاصّ ويخصّص به ، على عرفت سابقا.
ولا يخفى : أنّ هذا النّحو من الجمع بين المطلق والمقيّد المتنافيين ، هو جمع دلالي عرفيّ مقبول عند العقلاء.
ثانيهما : أن يفرض الإثبات في المطلق والنّفي في المقيّد ، عكس القسم الأوّل ، نظير قولنا : «أعتق رقبة ، ولا تعتق رقبة كافرة» والحكم فيه يختلف باختلاف أنحاء النّهي في جانب المقيّد ؛ منها : ما علم دلالته على الحرمة ، فلا ريب ، أنّه يحكم هنا بحمل المطلق على المقيّد لوقوع التّنافي بينهما حينئذ ، وهذا كما أشرنا ، جمع دلاليّ