مفتاح الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

وإمّا تكون من قبيل الموانع للمتعلّق ، كالنّوم والبول والحيض والجنابة ونحوها ممّا يمنع شرعا من الورود في الصّلاة ، وهكذا الجنون والعجز للمكلّف ؛ حيث إنّ المشهور يسمّونهما «بموانع التّكليف».

وإمّا تكون من قبيل القواطع للمتعلّق ، كالقهقهة والبكاء ونحوهما ممّا يقطع الصّلاة شرعا. هذا ما سنح ببالي القاصر.

وأمّا القول بكون الأسباب الشّرعيّة معرّفات لا مؤثّرات ، فإن كان المراد منه هو عدم دخلها في الأحكام أو غيرها ، كدخل العلّة في المعلول ، فهو متين جدّا ، لما عرفته آنفا من أنّ الأحكام آثار صادرة من الحاكم ، أو نعوت قائمة به ، سواء كانت امورا جعليّة اعتباريّة ـ بحيث يكون وضعها ورفعها بيد الشّرع ، لكونها أفعالا اختياريّة له ـ أم كانت امورا تكوينيّة وهي الإرادة مطلقا ، أو الإرادة المبرزة ، فلا يعقل استنادها إلى العلل والأسباب الخارجيّة.

وأمّا إن كان المراد منه أنّها معرّفات محضة وأمارات وكواشف صرفة واقعا ، فهو وإن كان ممكنا ثبوتا ، إلّا أنّه لا يساعده ظاهر الأدلّة ؛ حيث إنّ مقتضى ظاهرها هو الدّخل بنحو من الأنحاء المذكورة وهي الشّرط والمانع والقاطع.

وعليه ، فما نسب إلى فخر المحقّقين قدس‌سره (١) من أنّ : «القول بالتّداخل وعدمه مبتن على كون الأسباب الشّرعيّة عللا مؤثّرة ، أو معرّفات محضة ، فلا يمكن التّداخل على العلّية ، ويمكن على المعرّفيّة لإمكان الاجتماع ، بناء على هذه دون تلك» غير سديد ، بل المعرفيّة خاطئة جدّا خالية عن الحقيقة قطعا ، كما أنّ المؤثّر به بنحو

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣١٨ ؛ ومحاضرات في اصول الفقه : ج ٥ ، ص ١١٣.

١٨١

العلّيّة والسببيّة ـ أيضا ـ كذلك ، سواء كانت بالنّسبة إلى الأحكام أو متعلّقاتها ، أو موضوعاتها.

الجهة الثّالثة (أقسام الأسباب والمسبّبات) فنقول : إنّ الأسباب الشّرعيّة يقسّم باعتبارين ، أحدهما : باعتبار أنّها قابلة للتّعدّد والتّكرار ، كالنّوم والبول والجنابة ونحوها من أسباب الوضوء أو الغسل ، وأنّها غير قابلة له ، كالإفطار في نهار شهر رمضان بالنّسبة إلى وجوب الكفارة ، بناء (١) على القول بعدم تعدّد الكفارة بتعدّد الإفطار ، كما ذهب إليه بعض الأعاظم قدس‌سره (٢).

ثانيهما : باعتبار أنّها مختلفة نوعا وماهيّة ، كالنّوم والبول وأنّها متّحدة كذلك ، كنومين وبولين وغيرهما هذا في الأسباب ، وكذلك المسبّبات فإنّها ـ أيضا ـ يقسّم تارة باعتبار قبول التّعدد ـ كالوضوء والغسل ـ وعدم قبوله ـ كالقتل ـ واخرى باعتبار اختلافها ماهية ونوعا ـ كالوضوء والغسل ـ واتّحادها كذلك ـ كوضوءين وغسلين ـ.

الجهة الرّابعة (معنى التّداخل) والكلام فيها يقع تارة في تداخل الأسباب ، واخرى في تداخل المسبّبات.

أمّا تداخل الأسباب ، فالمراد منه أنّها عند الاجتماع يكون كلّ واحد منها جزء العلّة والمجموع تمامها ، فحينئذ لا تقتضي إلّا معلولا ومسبّبا واحدا ؛ وذلك ، نظير النّوم والبول ، فإنّهما عند الاجتماع لا يقتضيان إلّا وضوءا واحدا ، ويقابل ذلك عدم

__________________

(١) نعم بناء على القول بتعدّد الكفارة ، كما عن السّيّد اليزدي قدس‌سره يكون الإفطار في المثال من قبيل الأسباب القابلة للتّعدد ، كالنّوم والبول.

(٢) محاضرات في اصول الفقه : ج ٥ ، ص ١١٥ و ١١٦.

١٨٢

التّداخل ، فإنّ المقصود منه أنّ كلّ واحد من الأسباب عند الاجتماع مستقلّ في السّببيّة ، كحالها عند الانفراد ، فيقتضي مسبّبا خاصّا مستقلّا ، ونتيجته ، أنّه يجب في المثال وضوءان متعدّدان.

وأمّا تداخل المسبّبات ، فالمراد منه هو الاكتفاء بمصداق واحد في مقام الامتثال ، كما عرفت ذلك في فرض عدم تداخل الأسباب ؛ وفي قباله عدم التّداخل ، فإنّ مقتضاه ، عدم الاكتفاء به.

ولا يخفى : أنّ التّداخل وعدمه في الأسباب يرجعان إلى مقام الجعل والتّشريع ، فعلى التّداخل يكون المجعول حكما واحدا ، وعلى عدمه يكون حكمين متعدّدين ، بخلافهما في المسبّبات ، فإنّهما يرجعان إلى مقام الإطاعة ومرحلة الامتثال ، فيكتفى على مسبب واحد عند الامتثال ؛ بناء على التّداخل ، وأمّا بناء على عدمه ، فلا.

إذا عرفت تلك الجهات الأربعة ، فاعلم ، أنّ الكلام في المقام ، إمّا يلاحظ حسب مقام الثّبوت ، وإمّا حسب مقام الإثبات.

أمّا مقام الثّبوت ، فنقول : لا كلام ولا إشكال في إمكان تداخل الأسباب والمسبّبات ، والإشكال فيه ناش من قياس الأسباب الشّرعيّة بالتّكوينيّة ، وقد علمت ممّا حقّقناه آنفا ، أنّ الأسباب الشّرعيّة لا تكون عللا مؤثّرة ، لا للأحكام ولا لمتعلّقاتها وهي الأفعال ، ولا لموضوعاتها وهم المكلّفين.

أمّا مقام الإثبات ، فنبدأ الكلام فيه ، بالنّسبة إلى تداخل الأسباب ، فنقول : لا نزاع فيما إذا ورد الدّليل على التّداخل فيها ، بل يؤخذ به ويعمل على طبقه بلا كلام ، كما هو كذلك في باب الوضوء ، حيث إنّه ورد فيه ما يدلّ على التّداخل في الأسباب ، كرواية إسحاق بن عبد الله الأشعري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا ينقض الوضوء إلّا

١٨٣

حدث والنّوم حدث». (١)

وجه الدّلالة ، هو أنّ المستفاد من هذه الرّواية وأمثالها ، أنّ ناقض الوضوء إنّما هو الحدث ، وحيث إنّ النّقض لا يتكرّر ، فلا تكرّر في الحدث ، بل أسباب الوضوء جميعا ـ نظير البول والنّوم وغيرهما ـ تؤثّر في تحقّق هذه الصّفة الواحدة ، غاية الأمر : مع تقارن الأسباب يكون المؤثّر هو المجموع ، بحيث يعدّ كلّ واحد منها جزء السّبب ، ومع التّقدّم والتّأخّر يكون المؤثّر هو المتقدّم منها ، وعليه ، فالتّداخل في باب الوضوء ، يكون في الأسباب فقط دون المسبّبات.

إنّما النّزاع في ما إذا لم يكن هناك دليل على ذلك ، فيقال : هل (٢) الظّاهر عند تعدّد الشّرط واتّحاد الجزاء ، يقتضي التّداخل ، أم لا؟

وإن شئت ، فقل : هل القضيّة الشّرطيّة لو خلّيت وطبعها ظاهرة في التّداخل وعدمه؟ أو لم تكن ظاهرة أصلا ، لا في هذا ولا ذاك؟ وجوه وأقوال ثلاثة :

الأوّل : ما عن المشهور (٣) من عدم التّداخل مطلقا.

الثّاني : ما عن جماعة منهم ، المحقّق الخوانساري قدس‌سره من التّداخل مطلقا. (٤)

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٣ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٤ ، ص ١٨٠.

(٢) واعلم ، أنّ البحث بهذا النّهج إنّما يصحّ على ما هو المتعارف الدّارج من اطلاق الشّرط على المذكور مع أداته ، وأمّا على ما حقّقناه في الأسباب الشّرعيّة ، من أنّها تكون من قبيل الشّروط ، أو الموانع أو القواطع ، فلا تداخل في الشّروط ، إذ الشّرط على هذا يطيق على مثل الوضوء والغسل ، وهذا ممّا لا معنى للتّداخل فيه بخلاف الموانع أو القواطع والنّواقض ، فيقع التّداخل فيهما مع اجتماع الأسباب ، ومع التّقدّم والتّأخّر يستند المنع أو القطع والنّقض إلى المتقدّم ، فافهم واغتنم.

(٣) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣١٥.

(٤) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣١٥.

١٨٤

الثّالث : ما عن الحلّي قدس‌سره من التّفصيل بين اتّحاد جنس الشّرط ، كالبول مرّتين ، فقال : بالتّداخل فيه وبين تعدّده ، كالبول والنّوم ، فقال : بعدمه فيه. (١)

والحقّ هو الأوّل ، فلا تداخل في الأسباب مطلقا حتّى مع اتّحاد الجنس ، والدّليل عليه ، هو الأمر العرفي الّذي أشار إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره بقوله : «لأنّ العرف لا يكاد يشكّ بعد الاطّلاع على تعدّد القضيّة الشّرطيّة في أنّ قضيّته تعدّد الجزاء ، وأنّه في كل قضيّة ، وجوب فرد غير ما وجب في الاخرى ، كما إذا اتّصلت القضايا وكانت في كلام واحد» (٢) ، لا ما ذكره أصحاب هذا القول من الأدلّة العلميّة الصّناعيّة المتباعدة عن الأذهان العامّة والأفهام العرفيّة.

منها : ما ذكره العلّامة قدس‌سره في خصوص ما إذا تعدّد الشّرط ماهيّة ونوعا ، من أنّه إذا تعاقب السّببان أو اقترنا ، فإمّا أن يقتضيا مسبّبين مستقلّين ، أو مسبّبا واحدا ، أو لا يقتضيا شيئا ، أو يقتضي أحدهما دون الآخر ، والثّلاثة الأخيرة باطلة ، فتعيّن الأوّل. (٣)

ومنها : ما عن الشّيخ الأنصاري قدس‌سره من أنّ عدم التّداخل ينحلّ إلى ثلاث مقدّمات :

إحداها : دعوى تأثير السّبب الثّاني في الجزاء ، كالأوّل.

ثانيتها : إنّ أثر كلّ شرط غير أثر الآخر.

ثالثتها : إنّ ظاهر التّأثير هو تعدّد الوجود لا تأكّده. (٤)

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣١٥.

(٢) هامش كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣١٨.

(٣) مختلف الشّيعة ، ج ٢ ، ص ٤٢٨ و ٤٢٩.

(٤) راجع ، مطارح الأنظار ، ص ١٧٧.

١٨٥

ومنها : ما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره حاصله : أنّ القول بالتّداخل مستلزم للتّصرّف في ما هو ظاهر الجملة الشّرطيّة من حدوث الجزاء عند حدوث الشّرط بأحد وجوه ثلاثة :

الأوّل : بعدم دلالتها في هذا الحال على الحدوث عند الحدوث ، بل على مجرّد الثّبوت.

الثّاني : بأنّ متعلّق الجزاء وإن كان واحدا صورة ، إلّا أنّه حقائق متعدّدة حسب تعدّد الشّرط متصادقة على واحد.

الثّالث : بحدوث الأثر عند وجود كلّ شرط ، إلّا أنّ الأثر عند وجود الشّرط الأوّل هو الأصل وعند وجود الشّرط الثّاني هو تأكّده. (١)

هذا ، ولكن لقائل أن يمنع عن هذا الدّليل ، أوّلا : بعدم الموجب لرفع اليد عن ظهور الجملة الشّرطيّة في الحدوث عند الحدوث.

وثانيا : بعدم المعنى لدعوى كون الوضوء ونحوه حقائق متعدّدة في الواقع ونفس الأمر.

وثالثا : بعدم المنع من اجتماع الحكمين المتماثلين في شيء واحد ، وأنّه يوجب التّأكّد والاندكاك وصيرورتهما حكما واحدا مؤكّدا ، على أنّ التّضاد واجتماع المثلين ونحوهما ممّا فيه المحذور عقلا لا تجري في التّشريع.

ومنها : ما عنه قدس‌سره ـ أيضا ـ من أنّه إذا دار الأمر بين ظهور الشّرط في حدوث الجزاء ، وبين ظهور إطلاق الجزاء في الاكتفاء بواحد ، يقدّم ظهور الشّرط ؛

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣١٥ ، ٣١٦ و ٣١٧.

١٨٦

ضرورة ، أنّ ظهور الإطلاق يكون معلّقا على عدم البيان ، وحيث إنّ ظهور الجملة الشّرطيّة في حدوث الجزاء صالح للبيانيّة ، فلا يبقى المجال لظهور الإطلاق ، ونتيجته ذلك هو عدم التّداخل.

وقد اورد عليه : بأنّ ظهور الجملة الشّرطيّة في حدوث الجزاء ـ أيضا ـ يكون ظهورا إطلاقيّا متوقّفا على عدم ورود البيان ، فمثل قوله عليه‌السلام «إذا نامت العينيان والاذنان انتقض الوضوء» (١) يدلّ على كون النّوم سببا للوضوء مطلقا ، سواء سبقه ، أو قارنه ، أو لحقه سبب آخر ، أم لا.

وعليه ، فلا وجه لتقديم أحد الإطلاقين على الآخر.

ومنها : ما عن المحقّق الهمداني قدس‌سره محصّله : أنّ القواعد اللّفظيّة تقتضي سببيّة كلّ شرط للجزاء مستقلّا ، وقضيّة ذلك تعدّد اشتغال الذّمة بفعل الجزاء ، ولا يعقل ذلك إلّا مع تعدّد المشتغل به.

توضيحه : أنّ السّبب الأوّل تامّ في سببيّته لاشتغال ذمّة المكلّف بإيجاد الجزاء والسّبب الثّاني إن أثّر ، وجب أن يكون أثره اشتغالا آخر ، لعدم معقوليّة تأثير المتأخّر في المتقدّم ، مع أنّه تحصيل للحاصل وتأثير في أثر كائن واقع.

ومن المعلوم : أنّ تعدّد الاشتغال مع وحدة الفعل المشتغل به ذاتا ووجودا غير معقول.

وإن لم يؤثّر السّبب الثّاني ، فهو إمّا لفقد المقتضي أو لوجود المانع ، والكلّ منتف لظهور الشّرطيّة في سببيّة الشّرط مطلقا (سبقه أو قارنه أو لحقه شرط آخر ، أو لا)

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب من ابواب نواقض الوضوء ، الحديث ٨ ، ص ١٧٦.

١٨٧

ولقابليّة المحلّ للتّأثير وقدرة المكلّف على الامتثال وعدم عجزه عنه ، فلا مانع عن التّنجيز ، على أنّ الأسباب الشّرعيّة حالها حال الأسباب العقليّة ، فيتعدّد اشتغال الذّمّة الّذي هو مسبّب شرعيّ بتعدّد أسبابه ، كتعدّد المسبب التّكويني بتعدّد أسبابه. (١)

هذا ، ولكن يورد عليه ، بأنّ دليل تعدّد الاشتغال بتعدّد الشّرط إنّما هو إطلاق الشّرط لا غير ، وهو معارض بإطلاق الجزاء المقتضي للاجتزاء بواحد ، على أنّ قياس التّشريع بالتّكوين ، لا يساعده الدّرك السّديد المتين.

ومنها : ما عن المحقّق الأصفهاني قدس‌سره من «اقتضاء أداة الشّرط للسّببيّة المطلقة وأنّ متعلّق الجزاء إنّما يكون نفس الماهيّة المهملة من دون اقتضاء للتّعدّد والوحدة ، ومن المعلوم : عدم التّعارض بين المقتضي واللّامقتضى». (٢)

وفيه : أن الاقتضاء في جانب الشّرط ليس إلّا ظهورا إطلاقيّا ؛ وذلك ، موجود في جانب الجزاء ـ أيضا ـ وعليه ، فيقع التّعارض بين الاقتضاء للتّعدّد في جانب الشّرط ، والاقتضاء للاجتزاء بواحد في جانب الجزاء بلا ترجيح في البين حتّى يقدّم أحدهما على الآخر.

ومنها : أنّ المستفاد من إطلاق دليل الشّرط هو السّببيّة التّامّة لكلّ شرط ، فإذا انضمّ إلى هذا الإطلاق ما حكم به العقل من قاعدة امتناع صدور الواحد من الكثير ، وكذا العكس ، ينتج نفى إطلاق الجزاء وعدم التّداخل.

وفيه ما لا يخفى ، بعد ما عرفت من عدم صحّة قياس التّشريع بالتّكوين.

__________________

(١) راجع ، مصباح الفقيه : كتاب الطّهارة ، ص ١٢٦ ، من منشورات مكتبة الصّدر.

(٢) نهاية الدّراية : ج ٢ ، ص ١٦٩ و ١٧٠.

١٨٨

ومنها : ما عن المحقّق النّائيني قدس‌سره توضيحه : أنّ تعلّق الطّلب بصرف الوجود من طبيعة الجزاء ، كالوضوء ـ مثلا ـ وإن كان من المداليل اللّفظيّة بعد إثبات كون متعلّق الأمر نفس الطّبيعة المشتركة بين التّكرار والمرّة ، لا خصوص هذه ولا ذاك ، وصرف الشّيء لا يتثنّى ولا يتكرّر ، إلّا أنّ ذلك (عدم القابليّة للتّكرار) لا يكون مستندا إلى ظهور لفظيّ حتّى يعارض ظهور الشّرطيّة ، بل مستند إلى حكم العقل بعدم إمكان تكرار صرف الشّيء ، وأنّ المطلوب الواحد إذا امتثل مرّة ، امتنع امتثاله ثانيا ومرّة اخرى ، فحكم العقل موضوعه صرف الشّيء والمطلوب الواحد ، والجملة الشّرطيّة ظاهرة في تأثير كلّ شرط أثرا غير أثر الشّرط الأوّل ، ومعناه ظهور الشّرطيّة في تعدّد المطلوب وأنّ متعلّق الطّلب لا يكون صرفا وواحدا ، وهذا الظّهور اللّفظي رافع لموضوع حكم العقل حقيقتا ، فلا يعارضه حكم العقل أصلا. (١)

وفيه ما مرّ : من أنّ ظهور الجزاء في الاكتفاء بواحد ـ أيضا ـ إطلاقيّ ، كظهور الشّرط في التّعدّد ، لا أنّه مستند إلى حكم العقل ، وعليه ، فلا مرجّح لتقديم إطلاق الشّرط عليه ، والعجب أنّه قدس‌سره بعد الاعتراف باستناد الشّرط والجزاء إلى الإطلاق ، مع ذلك قائل بترجيح أحد الإطلاقين على الآخر ، واليك نصّ كلامه : «وثانيا ، أنّ ظهوره في عدم التّكرار بالإطلاق وعدم موجب التّعدّد ، ويكفي ظهور الشّرطين في بيان موجب التّعدّد». (٢)

فتحصّل : أنّ الحقّ في المسألة عدم التّداخل ، والدّليل عليه ليس إلّا الأمر العرفي الّذي نبّه عليه المحقّق الخراساني قدس‌سره كما عرفت ، وأمّا سائر الأدلّة المتقدّمة الّتي

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٢ ، ص ٤٩٧.

(٢) فوائد الاصول : ج ٢ ، ص ٤٩٧.

١٨٩

استند إليها القائل بعدم التّداخل ، فلا حاجة إليها ، مضافا إلى ما عرفت من الإشكال في بعضها.

(مقتضى الأصل العملي)

واعلم ، أنّه لو لم يحرز التّداخل وعدمه في الأسباب إثباتا ويصل الدّور إلى الشّكّ ، فلا مناص إذا من الرّجوع إلى الأصل العملي ، فهل مقتضاه هو التّداخل ، أم لا؟ وجهان :

والحقّ هو الأوّل ؛ لرجوع الشّكّ إلى ثبوت تكليف زائد على المتيقّن ، والبراءة يقتضي عدمه ، فإذا لو بال المكلّف أو نام مرّة ثانية ، أو بال بعد النّوم أو بالعكس ، ويشكّ في وجوب الوضوء ثانيا ، تجري البراءة بالنّسبة إلى الوضوء الثّاني ، ونتيجته ، كفاية وضوء واحد وهو التّداخل. هذا كلّه بالنّسبة إلى تداخل الأسباب.

أمّا تداخل المسبّبات وعدمه ، فالقاعدة تقتضي العدم ؛ ضرورة ، أنّ تعدّد الامتثال إنّما هو بتعدّد التّكليف ، والمفروض ، أنّ التّكليف بناء على عدم تداخل الأسباب ، ـ كما هو الحقّ ـ متعدّد ؛ بداهة ، أنّ مقتضى عدم تداخلها هو أنّ كلّ سبب خاصّ يستدعي تكليفا خاصّا ، وكلّ تكليف خاصّ ـ أيضا ـ يستدعي امتثالا خاصّا على حدّة ، كما هو واضح ، وعليه ، فالاشتغال اليقيني بتكاليف متعدّدة يقتضي هو البراءة اليقينيّة ، وهي لا تحصل إلّا بتعدّد الامتثال وعدم الاكتفاء بواحد.

نعم ، إذا دلّ دليل خاصّ على جواز الاكتفاء بواحد ، فلا مناص إذا من القول بالتّداخل ، نظير ما ورد في باب الأغسال المتعدّدة من الرّوايات الدّالّة على إجزاء غسل واحد عند اجتماع الأسباب ، وفيها صحاح وموثّقات.

١٩٠

منها : صحيحة زرارة ، قال : «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والحجامة وعرفه ... فإذ اجتمعت عليك حقوق أجزأها عنك غسل واحد». (١)

ومنها : صحيحة شهاب بن عبد ربّه ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الجنب يغسل الميّت ، أو من غسّل ميّتا له أن يأتي أهله ثمّ يغتسل؟ فقال عليه‌السلام : سواء ، لا بأس بذلك إذا كان جنبا غسل يده وتوضّأ وغسّل الميت وهو جنب وإن غسل ميّتا توضّأ ثمّ أتى أهله ويجزيه غسل واحد لهما». (٢)

ومنها : موثّقة زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إذا حاضت المرأة وهي جنب أجزأها غسل واحد». (٣)

تقريب الدّلالة : هو أنّ التّعبير «بالإجزاء» في أمثال هذه الرّوايات يكشف وضوحا عن التّداخل في المسبّب (الغسل) عند اجتماع الأسباب المتعدّدة ، فلا بدّ في أمثال ذلك من الالتزام بالتّداخل ، وهذا لا كلام فيه ، كما لا كلام ـ أيضا ـ في التّداخل وجواز الاكتفاء بواحد في ما إذا كانت النّسبة بين موضوعي التّكليف عموما من وجه ، نظير قولنا : «أكرم العالم وأكرم الهاشمي» فإنّ هنا يجوز الاكتفاء بإكرام فرد واحد يجتمع فيه عنوان العالم والهاشمي ، بلا لزوم التّكرار في الإكرام ؛ وذلك ، لسقوط كلا التّكليفين بإتيان المجمع.

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٤٣ من أبواب الجنابة ، الحديث ١ ، ص ٥٢٥ و ٥٢٦.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٤٣ من أبواب الجنابة ، الحديث ٣ ، ص ٥٢٦.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٤٣ من أبواب الجنابة ، الحديث ٤ ، ص ٥٢٦.

١٩١

استدراك وتطبيق :

لا إشكال في لزوم متابعة المفهوم ـ بناء على تسليم المفهوم في القضيّة الشّرطيّة ـ للمنطوق في جميع القيود والخصوصيّات المأخوذة في ناحية الشّرط والجزاء ، فقولنا : «إن جاءك زيد راجلا يوم الجمعة ، فأكرمه» مفهومه هو قولنا : «إن لم يجئك زيد راجلا يوم الجمعة ، فلا تكرمه».

وكذا لا إشكال في لزوم المتابعة في قيد العموم المجموعي المأخوذ في ناحية موضوع الجزاء ، كقولنا : «إن جاءك زيد ، وقدم الحاجّ ، فأكرم مجموع العلماء أو الأصدقاء» فإنّ مفهومه هو قولنا : «إن لم يجئك زيد أو لم يقدم الحاجّ ، فلا تكرم مجموعهم ، وهذا لا ينافي وجوب إكرام البعض.

إنّما الإشكال في خصوص قيد العموم الاستغراقي ، سواء كانت القضيّة الشّرطيّة موجبة كليّة أو سالبة كليّة ، فوقع النّزاع بين صاحب الحاشية الشّيخ محمّد تقي الاصفهاني قدس‌سره (١) فقال : بعدم لزوم متابعة المفهوم ـ بأن كان مفهوم الإيجاب الكلّي هو السّلب الجزئي ، ومفهوم السّلب الكلّي هو الإيجاب الجزئي ـ وبين الشّيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) فقال : بلزوم المتابعة ، فمفهوم الإيجاب الكلّي هو السّلب الكلّي وبالعكس.

والثّمرة بين القولين تظهر في مثل ما ورد في الرّوايات من قوله عليه‌السلام : «إذا كان

__________________

(١) راجع ، هداية المسترشدين : ص ٢٥١ و ٢٥٢.

(٢) راجع ، مطارح الأنظار : ص ١٧٣.

١٩٢

الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» (١) فإنّ مقتضى قول صاحب الحاشية قدس‌سره هو أنّ مفهوم الجملة المذكورة الّتي كانت على نحو السّلب الكلّي هو الإيجاب الجزئي وهو «الماء إذا لم يبلغ قدر كرّ ينجّسه شيء من النّجاسات» وأمّا مقتضى قول الشّيخ الأنصاري قدس‌سره هو أنّ المفهوم في الفرض يكون بنحو الإيجاب الكلّي وهو «الماء إذا لم يبلغ قدر كرّ ينجّسه كلّ شيء من النّجاسات».

والحقّ في المسألة مع صاحب الحاشية قدس‌سره إذ المتبادر من أمثال هذه الجمل الشّرطيّة هو الإيجاب الجزئي لا الكلّي ، فالمستفاد من منطوق قضية «الماء إذا بلغ قدر كرّ ...» هو أنّ الماء يصل بالكريّة إلى القوّة العاصمة الدّافعة ؛ بحيث لا يؤثّر فيه معها شيء من النّجاسة ، ولا ريب : أنّ مفهومها ـ لو سلّم ـ هو أنّ الماء لو لا الكريّة لا يصل إلى هذه المرتبة من العاصمة الموجبة لعدم الانفعال بمجرّد الملاقاة مع أىّ نجس من النّجاسات المختلفة ، بل ينجّسه حينئذ شيء من النّجاسة ، وهذا لا ينافي عدم تنجّسه بملاقات بعض النّجاسات لجهة اخرى.

وإن شئت ، فقل : إنّ الجملة الشّرطيّة الواردة في الرّوايات تدلّ بمنطوقها على أنّ الكريّة توجب العاصميّة المطلقة وعدم انفعال الماء بملاقاة أيّة نجاسة من النّجاسات ، وتدلّ بمفهومها على أنّه لو لا الكريّة لم يكن للماء عاصميّة مطلقة وعدم الانفعال بالكلّيّة ، وهذا لا ينافي عاصميّته في الجملة وعدم انفعاله بملاقات بعض الأشياء من النّجاسات.

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١ ، ٣ ، ٥ و ٦ ، ص ١١٧ و ١١٨.

١٩٣

ولقد أجاد السّيّد البروجردي قدس‌سره في ما أفاده في المقام ، حيث قال : «علّيّة الشّرط بنحو الانحصار إنّما هي بالنّسبة إلى حكم الجميع ، لا كلّ فرد فرد بالاستقلال ، فعلّة الموجبة الكليّة ـ مثلا ـ تنحصر في الشّرط ، وهذا لا ينافي إمكان استناد الحكم في بعض الأفراد إلى علّة اخرى عند عدم ثبوت الحكم للجميع» وأشار قدس‌سره في ذيل كلامه إلى ما هو المقرّر في المنطق بقوله : «ولذا قالوا : إنّ نقيض السّلب الكلّي الإيجاب الجزئي ، والنّقيض الإيجاب الكلّي السّلب الجزئي». (١)

هذا تمام الكلام في النّحو الأوّل من المفاهيم الّتي ورد فيها الاختلاف وهو مفهوم الشّرط.

(مفهوم الوصف)

النّحو الثّاني : مفهوم الوصف.

اعلم ، أنّ هنا امور ثلاثة لا بدّ من التّكلّم فيها قبل الورود في تحقيق المسألة :

أحدها : أنّ المراد من الوصف ـ حسب الظّاهر ـ هو ما يكون قيدا للموضوع ، سواء كان نعتا نحويّا ، أو حالا ، أو نحوهما من سائر القيود عدا الغاية والاستثناء ، كما أشار إلى ذلك المحقّق الخراساني قدس‌سره بقوله : «الظّاهر أنّه لا مفهوم للوصف وما بحكمه ...» (٢) فإنّ مقتضى عطف كلمة : «وما بحكمه» على الوصف هو عدم اختصاص البحث بالوصف النّحوي ، وهو واضح.

__________________

(١) نهاية الاصول : ص ٢٨٠ و ٢٨١.

(٢) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٢٠.

١٩٤

ثانيها : أنّ للوصف تقسيمات متعدّدة منها : تقسيمه بالوصف المعتمد على الموصوف كقولنا : «أكرم رجلا عالما» وبالوصف الغير المعتمد ، فيذكر بلا موصوف كقولنا : «أكرم عالما».

ومنها : تقسيمه بالوصف المساوي للموصوف ، نظير : «أكرم إنسانا ضاحكا» والأعمّ المطلق منه ، نظير : «أكرم إنسانا ماشيا» والأخصّ المطلق منه ، نظير : «أكرم إنسانا عالما» والأعمّ من وجه ، نظير : «في الغنم السّائمة زكاة».

ومنها : تقسيمه بالوصف الذّاتي ، كالنّاطق للإنسان ، والعرضي ، كالكاتب له.

ثالثها : أنّه اختلف في تحرير محلّ النّزاع في المقام بانّ أيّ قسم من الأقسام المذكورة في هذه التّقسيمات الثّلاثة داخل في النّزاع ، وأيّ قسم منها خارج عنه.

أمّا في التّقسيم الأوّل : فقد يقال : باختصاص النّزاع بالوصف المعتمد ، بدعوى أوّلا : أنّ غير المعتمد ليس إلّا اللّقب ، كما عن المحقّق النّائيني قدس‌سره (١) وبعض الأعاظم قدس‌سره. (٢)

وثانيا : أنّه يلزم من شمول مورد النّزاع للوصف الغير المعتمد هو كون الجوامد المتعلّقة للحكم داخلة في النّزاع ـ أيضا ـ كما عن المحقّق الشّيخ عبد الحسين الرّشتي قدس‌سره حيث علّل لذلك بقوله : «لعدم الفرق بينهما إلّا في أنّ المبدأ في الجوامد جعلي بخلاف الوصف الغير المعتمد ، وهذا ليس بفارق ، بل المبدأ الجوهري أولى من المبدأ العرضي في أنّ مناط الحكم يعدم بعدمه». (٣)

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٢ ، ص ٥٠١.

(٢) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٥ ، ص ١٢٧.

(٣) شرح الكفاية : ج ١ ، ص ٢٨٥.

١٩٥

وقد يقال : بالتّعميم ، كما صرّح به صاحب الفصول قدس‌سره (١) وكذا الشّيخ الأنصاري قدس‌سره. (٢)

والحقّ أنّ مقتضى الظّاهر هو التّعميم ، كما يشهد له ما تمسّك الأصحاب لمفهوم الوصف بمثل قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(٣) فإنّ كلمة : «فاسق» وصف غير معتمد ، كما هو واضح ، وبرواية أبي عبيدة ، حيث قال عليه‌السلام : «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته» (٤) و «مطل الغنيّ ظلم» (٥) ، فإنّ كلمة : «الواجد» وكذا : «الغني» وصفان غير معتمدين على موضوع ، مع أنّ أبا عبيدة قد فهم منهما المفهوم وهو «ليّ غير الواجد لا يحلّ عرضه ولا عقوبته» و «مطل غير الغنيّ لا يكون ظلما».

وأمّا القياس باللّقب ، كما عرفته آنفا من المحقّق النّائيني قدس‌سره ، ففيه : أنّ الأوصاف تفارق الألقاب ، بأنّ التّعليق عليها مشعر بالعليّة دون الألقاب ، فلا ملازمة بين دخول الوصف الغير المعتمد في حريم النّزاع ، وبين دخول اللّقب فيه.

ومن هنا يظهر ضعف ما استدلّ به المحقّق النّائيني قدس‌سره للقول بالاختصاص من قوله : «الالتزام بالمفهوم في ما ذكر الموصوف صريحا ، إنّما هو لخروج الكلام عن

__________________

(١) راجع ، الفصول الغروية : ص ١٥١ ، س ٣٦.

(٢) راجع ، مطارح الأنظار : ص ١٨٣ ، س ٩.

(٣) سورة الحجرات (٤٩) ، الآية ٦.

(٤) مسند أحمد بن حنبل ، صفحه ٢٢٢ ، سنن ابن ماجة ، ج ٢ ، الباب ١٨ من الصّدقات ، ص ٨١١ ، الحديث ٢٤٢٧ ، سنن النسائى ، ج ٧ ، ص ٣١٦ و ٣١٧ ؛ راجع قوانين الاصول : ج ١ ، ص ١٧٨ ، س ١٢.

(٥) صحيح مسلم : ج ٣ ، الباب ٧ في المساقات ، ص ٢٨٣ ، الحديث ٣٣ ؛ وسنن النّسائى : ج ٧ ، ص ٣١٧ ؛ راجع ، قوانين الاصول : ج ١ ، ص ١٧٨ ، س ١٤.

١٩٦

اللّغويّة ، وتقريبه ، أنّ الحكم لو لم يختصّ بمورد الوصف وكان ثابتا له وللفاقد ، لما كان لذكر الوصف وجه ، وهذا لا يجري في مثل : «أكرم عالما» فإنّ ذكر موضوع الحكم لا يحتاج إلى نكتة غير إثبات الحكم له ، لا إثباته له وانتفائه عن غيره». (١)

وجه ظهور الضّعف ، هو أنّ الوصف الغير المعتمد في المثال وإن كان موضوعا للحكم ، إلّا أنّه ليس كسائر الموضوع الّذي ليس بصورة الوصف ، نظير قولنا : «أكرم زيدا» كي يقال : بأنّ ذكر الموضوع لا يفيد غير إثبات الحكم له ، لا إثباته له وانتفائه عن غيره ، كما هو كذلك في مورد الألقاب ، بل يكون نظير الوصف المعتمد ، فيجري فيه ما دلّ على مفهومه من خروج الكلام عن اللّغويّة ، هذا كلّه في التّقسيم الأوّل.

وأمّا في التّقسيم الثّاني ، فلا ريب : أنّ الوصف المساوي والأعمّ المطلق خارجان عن محلّ النّزاع ؛ إذ لا بدّ في انعقاد المفهوم من بقاء الموضوع الموصوف بعد انتفاء الوصف ، والمفروض ، أنّه ينتفي الموصوف بالوصف المساوي أو الأعمّ المطلق بعد انتفاء وصفه ، فينتفي الحكم هنا عقلا وقهرا ، ومعه لا مجال للدّلالة على المفهوم ؛ وأمّا الوصف الأخصّ المطلق ، فهو داخل في حريم النّزاع قطعا لوجود ملاك الدّلالة على المفهوم فيه البتّة ؛ وأمّا الوصف الأعمّ من وجه «كالسّائمة في الغنم» فلو كان الافتراق من جانب الوصف ، فهو داخل في النّزاع بلا إشكال ، كالغنم غير السّائمة (المعلوفة) مقابل الغنم السّائمة ، بخلاف ما لو كان من جانب الموصوف ، كالإبل غير السّائمة مقابل الغنم السّائمة ؛ إذ انحفاظ الموضوع الموصوف ممّا لا بدّ منه في انعقاد المفهوم ، كما عرفته آنفا.

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ٢ ، ص ٥٠١.

١٩٧

ومنه ينقدح فساد ما حكي عن بعض الشّافعيّة من أنّ : «الغنم السّائمة زكاة» يدلّ على عدم الزّكاة في : «الإبل المعلوفة» أيضا ، كما يدلّ على عدمها في الغنم المعلوفة. (١)

وأمّا في التّقسيم الثّالث : فقد خرج الوصف الذّاتي عن محلّ النّزاع ؛ لما ذكر من أنّه يعتبر في المفهوم بقاء الموضوع بعد انتفاء الوصف ، والوصف الذّاتي ليس كذلك ؛ ضرورة ، أنّ الموضوع والذّات ينتفي رأسا بانتفاء الوصف الذّاتي.

إذا عرفت تلك الامور الثّلاثة ، فاعلم ، أنّ الأقوال في المسألة ثلاثة :

الأوّل : ثبوت المفهوم للأوصاف وما بحكمها مطلقا.

الثّاني : نفي المفهوم عنها مطلقا ، كما ذهب إليه المشهور (٢) وتبعهم مشايخنا العظام وأساطين الاصول ، وهذا هو الحقّ.

الثّالث : التّفصيل بين ثبوت المفهوم لها من جهة دلالة تقييد الموضوع ، أو المتعلّق بالوصف على عدم ثبوت الحكم له على نحو الإطلاق ونفي المفهوم عنها من جهة عدم دلالة الوصف على انتفاء الحكم عن غيره ، كما هو مختار بعض الأعاظم قدس‌سره. (٣)

وكيف كان ، فالمهمّ هو ذكر أدلّة هذه الأقوال ، فنقول :

أمّا القول الأوّل (ثبوت المفهوم للأوصاف مطلقا) فقد استدلّ له بوجوه :

منها : تبادر الانتفاء عند الانتفاء وهو المفهوم ، من مثل الوصف ، فيثبت وضعه له.

__________________

(١) راجع ، المنخول للغزالي ، ص ٢٢٢ ؛ ومطارح الأنظار : ص ١٨٢ ، س ٢٢ و ٢٣.

(٢) راجع ، مقالات الاصول : ج ١ ، ص ١٤٢.

(٣) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٥ ، ص ١٣٣ و ١٣٤.

١٩٨

وفيه : أنّه ادّعاء محض ، كيف ، ولو كان الأمر كذلك ، لكان موارد استعمال الأوصاف بلا مفهوم ـ وهي كثيرة ـ من المجازات ، وهذا ممّا لا يلتزم به أحد حتّى من يدّعي التّبادر والوضع.

ومنها : انصراف الوصف إلى الانتفاء عند الانتفاء.

وفيه : أنّ الانصراف إنّما يعتبر ويعتنى به إذا نشأ من غلبة الاستعمال وكثرته ، والمقام ليس كذلك ؛ إذ استعمال الوصف في الانتفاء عند الانتفاء بنحو الغلبة والكثرة غير ثابت ، كيف ، وأنّ العرف يفهم في موارد كثيرة ، فوائد اخرى من الأوصاف عدا الانتفاء عند الانتفاء ، كما سنشير إليها عن قريب عند نقد وجه الثّالث وهو اللّغويّة.

نعم ، يمكن دعوى كثرة الوجود أو الأكمليّة في المقام ، إلّا أنّه لا يجدي شيء منهما في تحقّق الانصراف ، على ما هو المقرّر في محلّه.

ومنها : لزوم اللّغويّة ، بتقريب : أنّ الوصف لو لم يدلّ على المفهوم والانتفاء عند الانتفاء ، للزم كون المتكلّم الآتي به لاغيا ، وهذا كما ترى.

وفيه : أنّ هذا إنّما يتمّ إذا كانت الفائدة في الوصف منحصرة بالمفهوم ، مع أنّه ليس كذلك ، بل له فوائد اخرى ، كالاعتناء والاهتمام الأكيد إلى خصوص محلّ الوصف ، نظير : «إكرام العالم» ومن هنا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أكرم عالما ، فقد أكرمني» (١) وكسبق حكم غير محلّ الوصف ؛ فيذكر الآن خصوص حكم محلّ الوصف ، وكاحتياج السّائل إلى حكم خصوص محلّ الوصف ، لكونه محلّ ابتلائه فقط ، وكتعيين الموضوع مثل : «أكرم هذا الجالس» إلى غير ذلك.

__________________

(١) جامع الأخبار : ص ٣٨.

١٩٩

ومنها : إشعار الوصف بالعلّيّة المنحصرة ـ كما قالوا : إنّ تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعليّة ـ ومن المعلوم : أنّ مقتضاه هو الانتفاء عند الانتفاء وهو المفهوم.

وفيه : أوّلا : أنّا لا نسلّم الإشعار ؛ إذ يمكن دعوى أنّ الأوصاف من المعيّنات والمقيّدات للموضوع أو المتعلّق ، لا أنّها من قيود الحكم ، كالشّرط حتّى يدور الحكم مدارها وجودا وعدما حدوثا وبقاء.

وثانيا : لو سلّم ذلك ، فمجرّد الإشعار بالعليّة لا يجدي لإثبات المفهوم ، بل لا بدّ فيه من الدّلالة على العلّيّة ؛ وذلك ، لأنّ الحجّة إنّما هي الظّهور ، لا الإشعار الّذي هو مجرّد الإدخال في الوهم.

وثالثا : لو سلّمت الدّلالة على العليّة لما يكفي ذلك ـ أيضا ـ في ثبوت المفهوم ، بل اللّازم هي الدّلالة على العلّيّة المنحصرة ، ودون إثباتها خرط القتاد.

ومنها : كون الوصف احترازيّا ، كما هو الأصل في كلّ قيد ، ولا ريب : أنّ مقتضاه هو الانتفاء عند الانتفاء ، بخلاف ما إذا كان الوصف توضيحيّا.

وفيه : أوّلا : لا نسلّم الأصل المذكور ، بل تذكر الأوصاف والقيود كثيرا ما ، لجهات اخرى ، كما بيّناها آنفا.

وثانيا : لو سلّمنا ذلك ، فليس معنى الاحترازيّة هو انتفاء سنخ الحكم عن غير مورد الوصف والقيد كي تفيد المفهوم ، بل غاية الأمر : أنّها توجب تضييق دائرة الموضوع ، وقضيّة ذلك ، ترتّب الحكم على موضوع مقيّد خاصّ ، لا على طبيعيّه بلا قيد وخصوصيّة ، من دون أن يدلّ على نفي الحكم عن غير ذلك الموضوع الخاصّ ، فقولنا : «أكرم الرّجل العالم» يدلّ على نفي وجوب إكرام الرّجل المطلق ، لا نفي وجوب

٢٠٠