مفتاح الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

وما عن المحقّق الخوانساري قدس‌سره من دفعه بكون التّوقّف من أحد الطّرفين صلوحيّا شأنيّا باستناد عدم الضّدّ إلى عدم المقتضي ، أو إلى عدم الشّرط ـ لو كان المقتضي موجودا ـ لا إلى المانع ، سواء كان الضّدّان فعل شخص واحد ، أم فعل شخصين.

ففيه : أنّه يتمّ على مبنى تقدّم وجود المقتضي على عدم المانع رتبة ، فيتقدّم عدم المقتضي على وجود المانع كذلك ؛ لكون عدمه نقيض وجوده والنّقيضان في رتبة واحدة.

ونتيجة ذلك : أنّ ترك الصّلاة وعدمها مستند إلى عدم المقتضي وهو الإرادة ، أو إلى عدم الشّرط ، لا إلى وجود المانع وهو الإزالة ، إلّا إذا فرض وجود المقتضي والشّرط مع وجود المانع ، فالعدم حينئذ مستند إلى وجود المانع.

ولكنّ المبنى غير تامّ ، فلا تقدّم لأجزاء العلّة بعضها على بعض لانتفاء ملاك التّقدّم بينها ؛ ونتيجته ، عدم تقدّم المقتضي على الشّرط ولا على عدم المانع ، وكذا عدم تأخّره عنهما ، وهكذا بالنّسبة إلى الشّرط وعدم المانع ، حيث إنّه لا تقدّم ولا تأخّر لهما.

نعم ، تتقدّم العلّة التّامّة على معلولها تقدّما بالذّات وبالعلّيّة ، كما يتقدّم المقتضي (بالكسر) على المقتضى (بالفتح) تقدّما بالطّبع ، وهكذا تقدّم الشّرط على المشروط.

وعليه : فإذا لم يكن بين أجزاء العلّة تقدّم وتأخّر ، فلا يكون بين نقيض كلّ منها ونفس الآخر ـ أيضا ـ تقدّم وتأخّر ، وهكذا بين نقيض كلّ منها ونقيض الآخر.

ومن هنا ، لا تقدّم لعدم المقتضي على وجود المانع حتّى يستند عدم الضّدّ إليه ويصير التّوقّف شأنيّا ، بل عدم الضّدّ مستند إلى عدم المقتضي ووجود المانع معا ، كما أنّ وجود الضّدّ مستند إلى نقيضهما معا وهو وجود المقتضي وعدم المانع. وعليه :

٢١

فتوقّف عدم الضّدّ على وجود الآخر يكون فعليّا ، فيلزم الدّور.

منها : ما أشار إليه الإمام الرّاحل قدس‌سره (١) : محصّله : أنّه لا ريب في كون الضّدّين عرضيين وعدم كون أحدهما مقدّمة للآخر ؛ ولكن لمّا كان بينهما غاية التّنافي والتّعاند ، يمتنع اجتماعهما في محلّ واحد وزمان فارد. وهذا أوجب أن يقارن وجود أحدهما عدم الآخر. وعليه : فلو كان وجود كلّ منهما متوقّفا على عدم الآخر لزم الخلف.

بتقريب : أنّه لو قلنا : بتوقّف وجود الإزالة ـ مثلا ـ على عدم الصّلاة ، كان عدمها متقدّما على الإزالة بمقتضى المقدّميّة ، ولازمه تقدّم الصّلاة ـ أيضا ـ على الإزالة ؛ ضرورة ، أنّ عدم الصّلاة نقيض لها والنّقيضان في رتبة واحدة لا ترتّب بينهما ، وهكذا الأمر في الصّلاة ، فلو قلنا : بتوقّفها على عدم الإزالة كان عدمها متقدّما على الصّلاة بمقتضى المقدّميّة ، فيكون نفس الإزالة ـ أيضا ـ متقدّمة عليها ، لكون النّقيضين في رتبة واحدة ، وهذا هو الخلف ؛ حيث يلزم من تقدّم عدم كلّ منهما على وجود الآخر ، ومن تقدّم وجود كلّ منهما على وجود الآخر ، تقدّم المتأخّر وتأخّر المتقدّم.

هذا كلّه في الطّريق الأوّل وهو المقدّميّة ، وقد عرفت : بطلانه وأنّه لا يعقل أن يكون ترك أحد الضّدّين مقدّمة لفعل الآخر.

أمّا الطّريق الثّاني وهو الملازمة ، فتقريبه : أنّه لا ريب في أنّ وجود كلّ واحد من الضّدّين ، يلازم عدم الآخر ، وكذلك العكس ، كما أنّه لا ريب ـ أيضا ـ في أنّ المتلازمين لا يحكمان بحكمين مختلفين في وقت واحد وزمن فارد ، بلا فرق بين أن يكون

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٢٢٩.

٢٢

الحكمان إلزاميّين ، أو أحدهما إلزاميّا والآخر غير إلزاميّ ، أو كلاهما غير إلزاميين.

أمّا الإلزاميان ، كالوجوب والحرمة ، فلعدم القدرة واستحالة الامتثال والإطاعة.

وأمّا إذا كان أحدهما إلزاميا دون الآخر ، كوجوب أحدهما واستحباب الآخر ، أو حرمة أحدهما وكراهة الآخر ، فللزوم اللّغويّة.

وأمّا إذا كان كلاهما غير إلزاميين ، كاستحباب أحدهما وكراهة الآخر أو العكس ، فللزوم اللّغويّة ، أيضا.

ونتيجة ذلك كلّه ، هو أنّ وجوب شيء يستلزم وجوب ترك ضدّه الملازم له ، ووجوب تركه يستلزم حرمة فعله لما سيأتي إن شاء الله من اقتضاء الأمر بالشّيء حرمة نقيضه ، إمّا بنحو العينيّة أو بالملازمة.

ومن المعلوم : أنّ مقتضى ذلك هو كون الضّدّ الخاصّ منهيّا عنه ، فيفسد لو كان عبادة ، كالصّلاة بالنّسبة إلى الإزالة.

وفيه : أوّلا : أنّ التّلازم بين كلّ واحد من الضّدّين مع عدم الآخر ، إنّما هو ثابت حسب التّكوين والوجود الخارجيّ ، وأمّا حسب التّشريع والاعتبار الشّرعيّ ، فلا تلازم ولا اتّحاد في الحكم بأن يحكما بحكمين متماثلين ؛ والوجه فيه ، هو أنّ الأحكام لا تكون مجعولة جزافا ، بل تابعة للمصالح والمفاسد الكامنة في المتعلّق ، فيمكن أن يكون في أحد المتلازمين مصلحة موجبة لحكم الوجوب عليه دون الآخر ، فيجوز أن يكون ذلك الآخر مباحا بإباحة لا اقتضائيّة.

وما قرع سمعكم من أنّ كلّ واقعة لا بدّ أن يكون فيها حكم ، فهو خال عن

٢٣

التّحقيق ، فربّ واقعة تكون مباحة بإباحة لا اقتضائيّة.

وثانيا : أنّ وجوب عدم الصّلاة لا يلازم حرمة فعلها ، بل يستلزم حرمة نقيضه وهو ترك ترك الصّلاة الّذي يقارن فعل الصّلاة ، وأنت تعلم : أنّ حكم الشّيء لا يسري إلى ملازمه فضلا عن مقارنه ، اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ ترك ترك الصّلاة عين فعلها لا المقارن له.

وثالثا : أنّ التّرك ـ كما أشرنا سابقا ، في طريق المقدّميّة ـ أمر عدميّ لا يصلح لاشتمال الملاك والمصلحة حتّى يصير واجبا.

لا يقال : إنّ إرادة الشّيء تكوينا ، كما تستلزم إرادة لوازمه غير المنفكّة عنه ، كذلك الإرادة التّشريعيّة ؛ فإنّ إرادة الشّيء وطلبه تشريعا ، تستلزم إرادة لوازمه وطلبها ـ أيضا ـ ومن هنا قالوا : بوجوب المقدّمة.

وعليه : فإرادة وجود أحد الضّدّين تكوينا ، تستلزم إرادة عدم الآخر ، وكذلك الأمر في موقف التّشريع.

لأنّه يقال : أوّلا : إنّه لا نسلّم الاستلزام بين الإرادتين في موقف التّكوين فضلا عن التّشريع ، بل الاستلزام إنّما هو بين نفس الملزوم واللّازم.

وثانيا : أنّ قياس المقام بالمقدّمة يكون مع الفارق ، لكون المقدّمة أمرا وجوديّا مصبّا للمصالح الغيريّة ، بخلاف ترك الضّدّ ، لكونه أمرا عدميّا ، وقد عرفت : أنّه غير لائق لاشتمال الملاكات من المصالح والمفاسد.

وثالثا : أنّ إرادة ذي المقدّمة ـ على ما مرّ في مبحث المقدّمة ـ غير مستلزم لإرادة المقدّمة.

٢٤

فتحصّل : أنّ الأمر بالشّيء لا يقتضي النّهي عن ضدّه الخاصّ ، لا من طريق المقدّميّة ، ولا من طريق الملازمة.

ثمّ إنّه لا فرق فيما قلنا : بين الضّدّين اللّذين لهما ثالث وهو الغالب ، وبين ما لا ثالث لهما ، خلافا للمحقّق النّائيني قدس‌سره حيث إنّه قدس‌سره فصّل بينهما وقال : بوجود ملاك النّقيضين ـ وهو امتناع ارتفاعهما واجتماعهما ـ في الضّدّين الّذين لا ثالث لهما ، فيسري إليهما حكم النّقيضين وهو استلزام الأمر بأحدهما للنّهي عن الآخر ، وهذا بخلاف الضّدّين الّذين لهما ثالث ، فإنّ الملاك المذكور مفقود فيه ، وإليك نصّ كلامه :

«ومن المعلوم : أنّ الملاك في دعوى اللّزوم البيّن في الضّدّين الّذين لا ثالث لهما هو ملازمة وجود أحدهما لترك الآخر خارجا وبالعكس ، فكلّ منهما وإن لم يكن بنفسه رافعا للآخر ، كالنّقيضين ، إلّا أنّه لازم لما هو نقيضه ورافعه ، فيسري إليهما حكم النّقيضين وهو استلزام الأمر بأحدهما للنّهي عن الآخر ، وهذا الملاك مفقود في الضّدّين الّذين لهما ثالث قطعا ... فتخلّص ممّا ذكرنا : أنّ الأمر بأحد النّقيضين يستلزم النّهي عن الآخر باللّزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، والأمر بأحد الضّدّين في ما لا ثالث لهما ، كالحركة والسّكون والاجتماع والافتراق يستلزم النّهي عن الآخر باللّزوم البيّن بالمعنى الأعمّ ، وفي ما لهما ثالث لا استلزام أصلا ...». (١)

وفيه : أوّلا : لا نسلّم أنّ الاستلزام هو حكم النّقيضين بحيث يستلزم الأمر بالشّيء للنّهي عن نقيضه كي يسري إلى المقام.

وثانيا : أنّه فرق واضح عرفا ، بين النّقيضين والمقام ؛ فإنّ العرف يرى نقيض

__________________

(١) أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٢٥٣ و ٢٥٤ ؛ راجع ، فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٣٠٤.

٢٥

الشّيء مبغوضا إذا كان ذلك الشّيء محبوبا ، وهذا بخلاف الضّدّين ، فلا يرى العرف أحدهما مبغوضا إذا كان الآخر محبوبا ، إلّا بملاك أنّ ترك أحدهما حيث يكون لازما لفعل ذلك الآخر المحبوب أو مقارنا له يصير محبوبا ، ولازم ذلك أن يكون نقيضه وهو الفعل مبغوضا.

وهذا كما ترى ؛ إذ إنّما يتمّ ذلك إذا يسري محبوبيّة أحد الضّدّين إلى ما هو المقارن له وهو ترك الضّدّ الآخر ، مع أنّه من الواضح عدم سراية محبوبيّة الشّيء إلى ملازمه فضلا عن مقارنه.

وثالثا : أنّه لو قلنا : باستلزام الأمر بأحد الضّدّين للنّهي عن الآخر في ما لا ثالث لهما ، فلا وجه للحصر ؛ إذ ملاك هذا الاستلزام وهو ملازمة وجود أحدهما لترك الآخر ، وعليه : فلا فرق بينهما. نعم ، يفرق بينهما في أنّ عدم أحدهما مستلزم لوجود الآخر ـ أيضا ـ في الأوّل دون الثّاني ، لإمكان ارتفاعهما معا ، ولكن هذا أمر آخر أجنبيّ عمّا ذكر من الملاك.

وإن شئت ، فقل : إنّ ملاك الاستلزام هي الملازمة ، أو المقارنة في الوجود ، بمعنى : ملازمة وجود أحدهما لعدم الآخر أو مقارنته ، وهذا موجود في كلّ ضدّ بالإضافة إلى ضدّه ، سواء كان لهما ثالث ، أم لم يكن. هذا كلّه في الضّدّ الخاصّ.

(الضدّ العامّ)

وأمّا الضّدّ العامّ ، فقد اختلفت كلمات الأعلام في اقتضاء الأمر بالشّيء

٢٦

للنّهي عنه ، فعن جماعة (١) نفي الاقتضاء ، وعن جماعة اخرى إثباته مع اختلافهم في كيفيّة الاقتضاء ، فذهب بعضهم إلى أنّ الاقتضاء كان بنحو العينيّة والمطابقة ، وبعض آخر إلى أنّه كان بنحو الجزئيّة والتّضمن ، وثالث إلى أنّه كان بنحو الالتزام ؛ فالمسألة ذات أقوال أربعة :

والحقّ هو القول بعدم الاقتضاء ، كما يظهر وجهه في ردّ باقي الأقوال.

فنقول : أمّا القول بالاقتضاء على نحو العينيّة ، فقد استدلّ له : بأنّ الوجود طارد للعدم ، فطلب إيجاد شيء عين طلب طرد عدمه ، ومعناه : أنّه إذا ورد الأمر بالإزالة ـ مثلا ـ فهو عين النّهي عن ضدّها العامّ وهو تركها ، وإن شئت ، فقل : إنّ هيئة : «أزل» هو عين هيئة : «لا تترك الإزالة».

وفيه : أنّ العينيّة إن اريد بها في مقام الثّبوت ، فهي غير معقولة ؛ إذ كيف يمكن أن يكون الأمر التّابع للمصلحة في المتعلّق عين النّهي التّابع للمفسدة فيه ، وأن يكون الأمر الّذي هو البعث إلى الفعل عين النّهي الّذي هو الرّدع والزّجر عنه ، وأن يكون الأمر الّذي يمتثل بفعل المتعلّق عين النّهي الّذي يمتثل بتركه؟!

وإن اريد بها في مقام الإثبات والدّلالة ، بمعنى : دلالة هيئة : «صلّ» مثلا وهيئة : «لا تترك الصّلاة» على معنى واحد ومراد فارد ، وهو اشتغال ذمّة المكلّف بالصّلاة ووجوبها عليه.

فهي غير مجدية ؛ حيث إنّ هذا المقدار لا يفيد إلّا وجوب الفعل ، غاية الأمر : بتعبير إيجابيّ تارة ، وسلبيّ اخرى ، فأين الدّلالة على حرمة التّرك كما هو المقصود؟

__________________

(١) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ١ ، ص ٤٨.

٢٧

فالنّهي هنا صوريّ ويكون عبارة اخرى عن الأمر ، لا أنّه نهي حقيقيّ ناش عن مفسدة إلزاميّة كامنة في متعلّقه ، ومن هنا نقول : إنّ الرّوايات النّاهية عن ترك الصّلاة تكون آمرة بفعلها حقيقة ، بمعنى : أنّها وردت للأمر بالصّلاة بلسان النّهي عن تركها.

ونتيجة ذلك : هو أنّه ليس في الصّلاة إلّا تكليف واحد وهو وجوبها لا الوجوب بالنّسبة إلى فعلها ، والحرمة بالنّسبة إلى تركها ـ كما هو مقصود القائل بالعينيّة ـ وإلّا يلزم استحقاق العقابين لتاركها ؛ أحدهما : المترتّب على ترك الواجب ، وثانيهما : المترتّب على فعل الحرام ، وهذا كما ترى.

هذا ، مضافا إلى ما عرفت : من أنّ التّرك أمر عدميّ لا يصلح لتعلّق الحكم به.

وبالجملة : فالعينيّة ممنوعة مطلقا ، ثبوتيّة كانت ، أو إثباتيّة.

أمّا الثّبوتيّة ، فلعدم معقوليّتها.

أمّا الإثباتيّة ، فلأجل أنّها غير مفيدة وإن كانت أمرا معقولا.

أمّا القول بالجزئيّة والتّضمن ، فقد ظهر بطلانه ممّا ذكرنا ، حيث إنّ النّهي عن التّرك ليس جزءا للأمر بالشّيء.

وما يقال في تعريف الوجوب : من أنّه عبارة عن طلب الفعل مع المنع من التّرك ، فليس حدّا له على نحو يكون المنع من التّرك من أجزاء الوجوب ومقوّماته ؛ وذلك ، لأنّ الوجوب ، إمّا إرادة نفسانيّة مبرزة ، فيكون عرضا نفسيّا وكيفا بسيطا ، كما اختاره المحقّق الخراساني قدس‌سره. (١) وإمّا حكم عقليّ ، بمعنى : أنّ العقل يحكم بالوجوب

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢١١ ؛ وإليك نصّ كلامه : «والتّحقيق : أنّه لا يكون الوجوب إلّا طلبا بسيطا ومرتبة وحيدة أكيدة من الطّلب ، لا مركّبا من طلبتين ...».

٢٨

واللّابديّة عند ما إذا اعتبر المولى فعلا على عهدة العبد بلا نصب قرينة على جواز تركه ، فيكون حينئذ أمرا عقليّا انتزاعيّا لا تركّب فيه ، كما اختاره بعض الأعاظم قدس‌سره. (١) وإمّا حكم مجعول شرعيّ ، فيكون ـ أيضا ـ بسيطا لا جزء له ، جنسا أو فصلا. نعم ، الممنوع من التّرك يكون من خواصّ الوجوب ولوازمه ، بمعنى : أنّه لو التفت الآمر إلى التّرك ، لما كان راضيا به ، لا محالة وكان يبغضه البتّة ، كما أشار إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره. (٢)

أمّا القول بالالتزام ، فغاية ما يقال في تقريبه : أنّ الأمر بالشّيء إنّما يكون لمحبوبيّة فعله ، ولازم ذلك هي مبغوضيّة تركه ، فالأمر به لتلك المحبوبيّة يستلزم النّهي عن تركه لهذه المبغوضيّة.

وفيه : أنّ محبوبيّة الشّيء ـ ولو كانت شديدة ـ لا تستلزم مبغوضيّة تركه حقيقتا ؛ لعدم ملاك البغض في التّرك ، غاية الأمر : أنّ في الفعل ملاك الحبّ.

ومن هنا ، يكون إسناد المبغوضيّة إلى التّرك بالعرض والمجاز ، كما أنّ إسناد المحبوبيّة إلى ترك المبغوض فعله ، يكون بالعرض والمجاز ؛ لعدم ملاك الحبّ في التّرك ، بل في الفعل ملاك البغض.

والحاصل : أنّ التّرك ممّا لا حبّ ولا بغض فيه ، بل هما يتعلّقان بالفعل.

(ثمرة النّزاع في المسألة)

اعلم ، أنّ ثمرة البحث عن اقتضاء الأمر بالشّيء للنّهي عن ضدّه ، إنّما تظهر في

__________________

(١) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٣ ، ص ٤٩ ، ٥٠ و ٦٦.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢١١.

٢٩

الضّدّ الخاصّ لو كان عبادة ، حيث إنّه لو قلنا : بالاقتضاء ، فلا مناص من القول بفساده ، فتكون هذه المسألة من صغريات مسألة النّهي عن العبادة ، كما أنّه لو قلنا : بعدم الاقتضاء ، فلا مناص من القول بصحّته.

ولا يخفى عليك : أنّ مصبّ هذه الثّمرة هو ما إذا وقع التّزاحم بين الواجبين الّذين يكون أحدهما موسّعا عباديّا ـ كالصّلاة في أوّل الوقت ـ والآخر مضيّقا غير عباديّ ـ كالإزالة ـ فأتى المكلّف بالموسّع قبل المضيّق ، أو يكون كلاهما مضيّقا ، إلّا أنّ الواجب العباديّ هو المهمّ ـ كالصّلاة في آخر الوقت ـ والآخر هو الأهمّ ـ كالإزالة ـ فأتى المكلّف بالمهمّ قبل الأهمّ.

هذا ، ولكن أشكل على هذه الثّمرة بوجهين :

أحدهما : ما يستفاد من كلام الشّيخ البهائي قدس‌سره (١) حاصله : أنّ العبادة في مورد التّزاحم المذكور فاسدة ؛ لا لأجل اقتضاء الأمر للنّهي عن الضّدّ ، بل لعدم تعلّق الأمر بها ، وعليه ، فلا ثمرة في المسألة.

وفيه : أنّ هذا الكلام مبتن على احتياج العبادة إلى الأمر ، ولكن قد مضى منّا أنّ العبادة إنّما تحتاج إلى شيئين :

أحدهما : الصّلوح للتّعبّد.

ثانيهما : الإتيان بها للتّقرّب بلا حاجة إلى الأمر وقصده ، إلّا أنّه لا بدّ من أن لا يرد فيها النّهي ولو غيريّا حتّى يتأتّى التّقرّب بها باستنادها إلى المولى وربطها إليه ،

__________________

(١) زبدة الاصول : ص ١١٨ ؛ وإليك عبارته : «ولو ابدل النّهي عن الضّدّ الخاصّ بعدم الأمر به فيبطل لكان أقرب».

٣٠

فلو ردع عنها لا يتأتّى التّقرّب بها إلى ساحته والزّلفى لدى حضرته ؛ إذ المفروض ، أنّ المولى يتوصّل بالنّهي إلى عدمها ، كما يتسبّب بالأمر إلى وجودها ، ومعه كيف يتقرّب العبد بعمل يريد المولى عدمه وينهى ويزجر عن فعله؟!

وبالجملة : ما هو مطلوب عدمه كيف يمكن التّقرّب به؟!

ونتيجة ذلك : هو تحقّق الثّمرة ؛ إذ تفسد العبادة بالنّهي الغيريّ ، بناء على القول بالاقتضاء ـ خلافا للمحقّق النّائيني قدس‌سره على ما سيأتي كلامه ـ وتصحّ بناء على عدمه ، لما ذكرنا : من تحقّق العباديّة بالصّلوح للتّعبّد وبالإتيان للتّقرّب بلا احتياج إلى الأمر.

ثانيهما : ما عن المحقّق النّائيني قدس‌سره حاصله : أنّ العبادة في مورد التّزاحم صحيحة حتّى على القول بالاقتضاء ؛ وذلك ، لكون النّهي حينئذ غيريّا تبعيّا ناشئا من المقدّميّة أو الملازمة ، لا نفسيّا ناشئا عن المبغوضيّة المانعة عن التّقرّب به. (١)

وفيه : ما عرفت آنفا ، من أنّ العبادة ممّا يحتاج إلى الإتيان بها للتّقرّب ، وأنّ النّهي مطلقا ـ ولو كان غيريّا ـ مانع عن ذلك.

ثمّ إنّه يظهر من كلام المحقّق الثّاني قدس‌سره دفع ما أورده الشّيخ البهائي قدس‌سره بأنّه يمكن تصوير الأمر في صورة المزاحمة المذكورة.

توضيحه : أنّه قدس‌سره قد فصّل في المقام ، حيث أنكر الثّمرة في صورة مزاحمة الواجب المضيّق المهمّ ـ كالصّلاة في آخر الوقت ـ للمضيّق الأهمّ ـ كالإزالة ـ فقال : بفساد المهمّ حتّى على القول بعدم الاقتضاء ؛ وذلك ، لأنّ الأمر بالأهمّ يقتضي عدم الأمر بالمهمّ ، فيكون فاسدا لأجل ذلك ، ولكن أثبتها في صورة مزاحمة الواجب

__________________

(١) راجع ، أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٢٦٢.

٣١

الموسّع ـ كالصّلاة في أوّل الوقت ـ للمضيّق ـ كالإزالة ـ فقال : بفساد الموسّع ، بناء على الاقتضاء ـ فكأنّه يقيّد إطلاق أمر «صلّ» مثلا ، بغير صورة المزاحمة ، وإلّا لزم انطباق الواجب على الحرام ـ وقال بصحّته بناء على عدم الاقتضاء حتّى في فرض احتياج العبادة إلى الأمر وعدم كفاية مجرّد الرّجحان والمحبوبيّة للمولى ؛ وذلك ، لأنّ الأوامر تتعلّق بالطّبائع المعرّاة عن جميع الخصوصيّات دون الأفراد ، كما هو الحقّ المختار ، على ما سيأتي.

وعليه : فيقصد المكلّف الأمر المتعلّق بطبيعيّ الصّلاة ـ مثلا ـ والأمر بالطّبيعة يكون حسنا صحيحا إذا كان بعض أفرادها مقدورا ، كالفرد الّذي لا يزاحم الواجب المضيّق ، وعليه ، فالفرد المزاحم ، كالصّلاة في أوّل الوقت وإن لم يكن مقدورا مأمورا به ، إلّا أنّه ينطبق عليه طبيعيّ الصّلاة المأمور به قهرا ، ومع الانطباق القهريّ يحصل الامتثال بقصد الأمر المتعلّق بالطّبيعيّ.

وبعبارة اخرى : الانطباق هنا قهريّ ، والإجزاء عقليّ ، ومن هنا ، يظهر الفرق بين هذه الصّورة ، والصّورة السّابقة وهي المزاحمة للأهمّ ؛ إذ لا يكون هناك فرد مقدور غير مزاحم كي يتصوّر الأمر بالطّبيعيّ لأجل ذلك ، فيحصل الامتثال بقصد هذا الأمر ، بل الفرد المقصود هناك ليس إلّا ما هو المزاحم للأهمّ ، والمفروض ، أنّه غير مقدور ، وعليه ، فلا أمر في البين كي يقصد حين الامتثال. (١)

فتحصّل ممّا ذكره المحقّق الثّاني قدس‌سره : أنّ الفرد المزاحم في سعة الوقت كان منهيّا عنه ؛ بناء على الاقتضاء ولا ينطبق عليه المأمور به ، وإلّا لزم انطباق الواجب على

__________________

(١) راجع ، جامع المقاصد : ج ٥ ، ص ١٣ و ١٤.

٣٢

الحرام ، فلا إجزاء ولا امتثال لو اتي به ، لدوران الامتثال مدار الانطباق.

وأمّا بناء على عدم الاقتضاء ، فلا يكون منهيّا عنه ، فينطبق عليه المأمور به ، لكونه فردا له ، كسائر الأفراد ، ومعه لا إشكال في الامتثال والإجزاء لو اتي به بقصد الأمر بالطّبيعيّ ، لدورانه مدار انطباق الطّبيعيّ المأمور به على المأتي به.

هذا ، ولكن أورد عليه المحقّق النّائيني قدس‌سره بما حاصله : أنّ هذا الكلام إنّما يتمّ ، بناء على كون القدرة شرطا في التّكليف ، باقتضاء حكم العقل بقبح تكليف العاجز ؛ إذ على هذا ، حيث أنّ المكلّف به مطلق غير مقيّد بقيد القدرة ، وأنّ العقل لا يحكم إلّا باعتبار القدرة على المكلّف به في الجملة ولو لأجل بعض أفراده.

فيقال في المقام ، إنّه لو قلنا : بالاقتضاء ، لكان الفرد المزاحم منهيّا عنه ، لا ينطبق عليه الطّبيعيّ المأمور به ، فلا يحصل الامتثال ، ولا إجزاء أصلا ، كما لا يخفى ، بخلاف ما لو قلنا : بعدم الاقتضاء ، فإنّ الفرد المزاحم لا يكون منهيّا عنه ، كما لا يكون مأمورا به أيضا ، إلّا أنّه ينطبق عليه المأمور به ، فيحصل الامتثال بإتيانه ويقع الإجزاء.

وأمّا بناء على اعتبار القدرة باقتضاء نفس التّكليف ، كما هو الحقّ ، فلا يتمّ الكلام المذكور ؛ إذ ينحصر متعلّق التّكليف حينئذ بالأفراد المقدورة فقط.

توضيحه : أنّ الغرض من التّكليف حيث كان جعل الدّاعي نحو المكلّف به ، ومن الواضح جدّا ، امتناع جعله نحو غير المقدور عقلا أو شرعا ، فلا مناص من الالتزام بأنّ نفس التّكليف يستدعي اعتبار القدرة واشتراطها ، ولا يصل الدّور إلى حكم العقل المبنيّ على الحسن والقبح.

ونتيجة ذلك : هو انحصار التّكليف بالحصّة المقدورة من الطّبيعة ، وأمّا الحصّة

٣٣

الاخرى غير المقدورة ، فتكون خارجة عن حوزة الأمر وحيطة التّكليف ، بحيث لا ينطبق الطّبيعة بما هي مأمور بها على هذه الحصّة ، ومع عدم الانطباق لا يحصل الامتثال ولا يقع الإجزاء ، فالفرد المزاحم في مفروض البحث يكون غير مقدور شرعا ، وخارجا عن حوزة التّكليف والأمر ، فلا يكون مأمورا به بنفسه ، ولا ينطبق عليه الطّبيعيّ المأمور به ـ أيضا ـ لتقيّده بالقدرة ، فلا امتثال ولا إجزاء لو اتي به حتّى بناء على القول بعدم اقتضاء الأمر بالشّيء للنّهي عن ضدّه ، إذ الامتثال ـ كما أشرنا إليه ـ تأول حقيقتا إلى انطباق المأمور به على المأتي به وهو هنا منتف. (١)

وفيه : أوّلا : أنّ ابتناء مقالة المحقّق الثّاني قدس‌سره على كون القدرة شرطا عقليّا في جواز التّكليف وحسنه ، نظرا إلى قبح تكليف العاجز عند العقل ، محلّ تأمّل ؛ إذ ولو سلّم أنّ القدرة ليست من قيود المكلّف به بحيث يقتضيها طبع التّكليف ونفس البعث إليه ، بل إنّما هي بتجويز العقل ، إلّا أنّه لا يجوّز تعلّق التّكليف بمطلق الطّبيعيّ ، بل يجوّز تعلّقه به بحصّته المقدورة ، لا بجميع حصصه حتّى غير المقدورة.

وبتعبير آخر ـ كما عن شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره ـ أنّ العقل لا يجوّز تعلّق التّكليف بالطّبيعيّ إلّا من النّاحية الّتي يرى المكلّف قادرا فيها عليه ، فإذا فرضنا أنّ المكلّف قادر على الطّبيعيّ من بعض نواحيه وعاجز عنها من ناحية اخرى ، فالعقل لا يصحّح التّكليف بذلك الطّبيعيّ باعتبار جميع نواحيه ، فلا محالة يكون المكلّف به حصّة منه. (٢)

__________________

(١) راجع ، أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٢٦٣ و ٢٦٤.

(٢) راجع ، منتهى الأفكار : ص ٢٩.

٣٤

فعلى هذا ، لا ينطبق الطّبيعيّ المأمور به باعتبار الحصّة المقدورة على الفرد المزاحم المأتيّ به ، ولا انطباق قهرا حتّى بناء على القول بعدم الاقتضاء كي يحصل الامتثال ويقع الإجزاء عقلا.

نعم ، يتمّ كلامه قدس‌سره بناء على أمر لا يقول به المحقّق النّائيني قدس‌سره وهو إمكان الشّرط المتأخّر ، أو إمكان الواجب المعلّق.

أمّا الشّرط المتأخّر ، فبتقريب : أنّ فعليّة التّكليف والأمر إنّما تكون بالقدرة ، وحيث إنّه لا قدرة على الموسّع حال المزاحمة مع المضيّق ، فلا مانع من الاكتفاء بالقدرة عليه حال عدم المزاحمة بنحو الشّرط المتأخّر وهي القدرة في الزّمن الآخر غير الزّمن الأوّل الّذي تقع المزاحمة فيه ، فإذا ـ بناء على عدم الاقتضاء ـ ينطبق الطّبيعي المأمور به على الفرد المزاحم المأتيّ به باعتبار كونه ـ أيضا ـ مقدورا نظرا إلى الاكتفاء بالقدرة عليه حال عدم المزاحمة ، وهذا هو كلام المحقّق الثّاني قدس‌سره.

أمّا الواجب المعلّق ، فبتقريب : أنّ وجوب الموسّع حال المزاحمة وفي الزّمن الأوّل فعليّة مع استقباليّة الواجب وكون ظرف امتثاله هو الزّمان الآخر وهو زمان ارتفاع المزاحمة ، ونتيجته أنّه ـ بناء على عدم الاقتضاء ـ لا مانع من انطباق الطّبيعيّ على الفرد المزاحم لأجل فعليّة وجوبه حين المزاحمة ، كما هو مقتضى مقالة المحقّق الثّاني قدس‌سره.

وبالجملة : أنّ ما قال به المحقّق النّائيني قدس‌سره من ابتناء تماميّة كلام المحقّق الثّاني قدس‌سره على كون القدرة شرطا عقليّا غير تامّ وما هو تامّ من ابتناء كلامه على إمكان الشّرط المتأخّر أو إمكان الواجب المعلّق ـ بالتّقريب الّذي عرفت آنفا ـ لا يقول به.

٣٥

وثانيا : أنّ القدرة لو كانت ناشئة من قبل نفس التّكليف وطبع البعث ، كما يقتضيه التّحقيق ، فلا مجال لأخذها في الموضوع وهو المكلّف به لتأخّرها عنه بمرتبتين ، كما لا مجال لأخذ نفس الحكم في الموضوع لتأخّره عنه بمرتبة واحدة.

وعليه : فالمكلّف به لا يكون مقيّدا بالقدرة النّاشئة من قبل طبع الخطاب ونفس البعث ، بل إنّما تكون قيدا عقليّا. وقد عرفت : أنّ العقل لا يجوّز تعلّق التّكليف بالطّبيعيّ إلّا من النّاحية الّتي يرى المكلّف قادرا فيها عليه ، وأنّ المكلّف به لا يكون مطلق الطّبيعيّ ، بل هي الحصّة المقدورة منه ، وواضح ، أنّها لا تنطبق على الفرد المأتيّ به حتّى يكون الإجزاء عقليّا.

«تتميم»

قد أشرنا في أثناء البحث عن الثّمرة إلى جواز الاكتفاء بالملاك في صحّة العبادة ، وعدم الاحتياج إلى الأمر وقصد امتثاله ، وهذا لا إشكال فيه ثبوتا ، إنّما الإشكال في مقام الإثبات ، والكشف عن الملاك بعد ما سقط التّكليف والأمر عن الفعليّة ، فهل يكون طريق كشف الملاك ووجه إحرازه حينئذ هو إطلاق المادّة أو إطلاق الهيئة؟ وجهان ، بل قولان :

الأوّل : هو المشهور ومختار بعض الأساطين ، كالمحقّق النّائيني قدس‌سره. (١)

الثّاني : هو مختار جملة من المحقّقين ، منهم المحقّق العراقي قدس‌سره (٢) وهذا هو الحقّ.

__________________

(١) راجع ، أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٢٦٦.

(٢) راجع ، منتهى الأفكار : ص ٣٢.

٣٦

أمّا الأوّل : فتقريب التّمسّك به لإحراز الملاك هو أنّ القدرة ، إمّا تؤخذ قيدا للمتعلّق والمكلّف به ـ وهو المادّة ـ في متن الخطاب وصقع الدّليل ، أو لا.

ففي فرض الأخذ : يعلم دخلها في الملاك ، كدخل سائر القيود المأخوذة في لسان الأدلّة ، إذ لو لا الدّخل في المتعلّق لكان أخذها فيه لغوا وبلا وجه ، وعليه : فينتفي الملاك بانتفاء القدرة ؛ وذلك ، نظير الاستطاعة المأخوذة في دليل الحجّ ، وهو قوله تعالى : (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً.)(١)

وفي فرض عدم الأخذ : يعلم عدم دخلها ؛ ضرورة ، أنّ عدم أخذ القدرة قيدا للمتعلّق في متن الدّليل ولسان الخطاب ، بمعنى : أنّ الحكم والتّكليف متوجّه إلى نفس المتعلّق ومحض المكلّف به عاريا عن قيد القدرة ، يكشف عن عدم دخلها في الملاك ، ومقتضاه ، أنّ المتعلّق واجد له مطلقا ، سواء كان مقدورا ، أو غير مقدور ، والمقام من هذا القبيل ، حيث إنّ الخطاب متوجّه إلى الصّلاة المطلقة المجرّدة عن قيد القدرة ، فتكون واجدة في ظرف المزاحمة وعدم فعليّة أمرها للملاك ، أيضا.

وعليه : فتقع صحيحة بناء على الاكتفاء به في الصّحة.

وفيه : أنّ إطلاق المادّة إنّما يتمّ وينعقد لو لا احتفافها بما يصلح للقرينيّة على التّقييد ، وأمّا معه فلا ، بل الاحتفاف به يوجب الإجمال ، والمفروض ، أنّ المادّة في المقام محفوفة بهيئة أمريّة بعثيّة وهي لا تقتضي توجّه الخطاب إلى العاجز عن الامتثال ، ولعلّ عدم ذكر قيد القدرة في المتعلّق وعدم أخذه فيه هو لأجل الاكتفاء بها.

وبعبارة اخرى : لا دليل هنا على عدم إرادة المولى قيد القدرة كي يحرز

__________________

(١) سورة آل عمران (٣) : الآية ٩٧.

٣٧

بمعونته إطلاق المادّة ، بل يحتمل قويّا دلالة نفس الخطاب على كونه مرادا ، ولعلّ المولى اتّكل عليه ولم يذكره في متن الدّليل. وهذا الاحتمال يوجب الإجمال وعدم انعقاد الإطلاق للمتعلّق.

وعليه : فلا يتّضح الحال من حيث دخل القدرة في الملاك شرعا وعدم دخلها ، بل نقول : بعدم إحراز الدّخل حتّى في ما لو ذكر القيد في لسان الدّليل ؛ إذ ليس شأنه كشأن ساير القيود المأخوذة في الدّليل ؛ وذلك ، لأنّ الحاكم بقيد القدرة هو العقل ، ولذا يحمل ذكرها في صقع الخطاب على الإرشاد.

ومن المعلوم : عدم حكم العقل بالدّخل في الملاك ، بل الدّخل وعدمه محتمل عند العقل على وجه سواء.

فتحصّل : أنّ قول المحقّق النّائيني قدس‌سره : «إذا كان متعلّق الطّلب مقيّدا بالقدرة ، كما في آيتي الحجّ والوضوء ، فالتّقييد يكشف عن دخل القدرة في الملاك واقعا» وكذا قوله : «أنّ اقتضاء الطّلب لاعتبار القدرة في متعلّقه يستحيل أن يكون بيانا ومقيّدا للإطلاق في مرتبة سابقة عليه ، فلا معنى لدعوى الإجمال» (١) غير سديد ؛ إذ المستحيل هو أخذها في المتعلّق ، وأمّا كونها ـ من جهة أخذها في الخطاب أو اقتضاء الطّلب لها ـ بيانا وأمارة على عدم الإطلاق فأمر ممكن ، لا دليل على استحالته ولا أقلّ من احتمال البيانيّة ، فهو موجب للإجمال. هذا كلّه بالنّسبة إلى إطلاق المادّة.

وأمّا إطلاق الهيئة ، فتقريب التّمسّك به لإثبات وجود الملاك وتحقّقه حالتي العجز والقدرة ، هو أنّ للهيئة دلالات ثلاثة ، بعضها مطابقيّة وبعضها التزامية.

__________________

(١) أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٢٦٦ و ٢٦٧.

٣٨

الاولى : دلالتها على فعليّة البعث إلى المادّة مطلقا ، سواء في فرض القدرة ، أو فرض العجز.

الثّانية : دلالتها على تعلّق إرادة الأمر تشريعا بالمادّة مطلقا ، أيضا.

الثّالثة : دلالتها على اتّصاف المادّة بالملاك ووجدانها له مطلقا ، أيضا.

وعليه : فالهيئة مطلقة من ناحية تلك الدّلالات الثّلاث ، ويكون ظهورها الإطلاقيّ حجة ما لم يرد دليل مقيّد ، وحيث إنّه ورد الدّليل بالنّسبة إلى الاوليين وهو حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، يسقط ظهورهما الإطلاقيّ عن الحجّيّة ، وتبقى الثّالثة بحالها من الحجّيّة.

وإن شئت ، فقل في التّقريب المذكور : هو أنّ الأمر ، كما يدلّ على الوجوب مطلقا ، سواء فيه حال العجز أو القدرة ، كذلك يدلّ على كون المتعلّق الواجب ذا ملاك مطلقا ، بناء على مسلك العدليّة (من دوران الأحكام مدار الملاكات الواقعيّة).

غاية الأمر : دلالته على الوجوب تكون على وجه المطابقة وعلى وجود الملاك في الواجب تكون على وجه الالتزام ، نظرا إلى أنّ الوجوب ملزوم ووجود الملاك لازم.

وعليه : فلأجل حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، تسقط الدّلالة المطابقيّة (وهو الظّهور في الوجوب مطلقا) عن الحجّيّة.

وأمّا الدّلالة الالتزاميّة (وهو الظّهور في الملاك مطلقا) باقية بحالها من الحجّيّة.

إن قلت : إنّ الدّلالة الالتزاميّة إنّما هي في طول الدّلالة المطابقيّة ، فتكون تابعة لها ، فإذا كيف يحكم ببقائها بعد زوال الدّلالة المطابقيّة؟

٣٩

قلت : إنّ الدّلالة الالتزاميّة تكون في طول الدّلالة المطابقيّة حسب مقام الثّبوت ، لكون اللّازم تابعا للملزوم ، وكذلك حسب مقام الإثبات ، لأنّ انعقاد الظّهور في اللّازم هو في طول انعقاده في الملزوم ، وأمّا حسب مقام الحجّيّة ، فلا طوليّة بينهما ، ومن هنا ، لو سقط الظّهور المطابقيّ عن الحجّيّة بدليل معارض أقوى ، لا يوجب ذلك سقوط الظّهور الالتزامي عنها.

وبعبارة اخرى : إنّ الظّهور المطابقيّ ظهور ، والالتزاميّ ظهور آخر ، وهذه حجّة في نفسه ، وتلك حجة اخرى كذلك بمقتضى أدلّة الحجّيّة.

وعليه : فلا بدّ في رفع اليد عن كلّ واحد منهما وعدم ترتيب الأثر عليه من قيام دليل أقوى على خلافه ، والمفروض ، أنّه لم يقم دليل إلّا على خلاف الظّهور المطابقيّ ، فيسقط هو وحده عن الحجّيّة لا غير.

هذا ، ولكن قد يتوهّم عدم إمكان إحراز الملاك في أمثال المقام بوجه ؛ وذلك ، لأنّ المفروض امتناع فعليّة الخطابين المتزاحمين معا ، فيكون أحدهما كاذبا قطعا ، ومعه يندرجان تحت كبرى التّعارض ، فلا بدّ من التّرجيح لو كان هناك مرجّح ، ومع ترجيح ذي المزيّة يسقط الآخر الفاقد لها عن الاعتبار والحجّيّة ، فكيف يحرز به وجود الملاك في المتعلّق؟!

وفيه : أنّه لو كان المراد من ذلك مجرّد سقوط أحدهما عن الفعليّة لامتناع فعليّة كليهما ، فهو أمر مسلّم مقبول ، لكن لا يوجب اندراجهما تحت كبرى التّعارض كي يقال : بعدم وجود الملاك في ما لم يكن فيه المزيّة والتّرجيح ، بل يمكن اندراجهما تحت كبرى التّزاحم ؛ لاشتراكهما في مسألة التّرجيح وتقديم الواجد للمزيّة على الفاقد لها.

٤٠