مفتاح الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

للتّخلّص عن الإشكال الّذي يرد على المقام ، وهو أنّ الخطاب كالإشارة ، نحو توجّه تكويني صوب المخاطب لغرض التّفهيم ، وهذا متوقّف على حضوره والتفاته ، والغائب والمعدوم ليسا كذلك.

اللهمّ إلّا أن ينزّلا منزلة الموجود والحاضر الملتفت ويخاطبان تنزيلا وعناية ، كما ورد في قول الشّاعر :

أيا شجر الخابور مالك مورقا

كانّك لم تجزع على ابن طريف

أو في قوله :

ألا أيّها اللّيل الطّويل ألا انجلي

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

وهذا كما ترى.

وكذلك انقدح بما ذكرنا ـ أيضا ـ أنّه لا يصل الدّور إلى ما أشار إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره من البحث عن الثّمرة المترتّبة على القول بعموم الخطابات الشّفاهيّة للغائبين والمعدومين وهي أمران : أحدهما : حجيّة ظهور خطاب الكتاب لهما كالمشافهين ؛ ثانيهما : صحّة التّمسّك بإطلاقات الخطابات القرآنيّة ، بناء على التّعميم لثبوت الأحكام لمن وجد وبلغ من المعدومين وإن لم يكن متّحدا مع المشافهين في الصّنف وعدم صحّته بناء على عدمه. (١)

هذا ، مضافا إلى أنّه قد حقّق في محلّه : أنّ حجيّة الظّواهر لا تختصّ بمن قصد إفهامه ، بل تعمّ غيره ـ أيضا ـ إذ دليل الحجيّة هو بناء العقلاء ولا فرق فيه بين المذكورين ، كما سيجيء تحقيق ذلك في مبحث حجيّة الظّواهر.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٥٩ و ٣٦٠.

٢٨١

ومضافا إلى أنّ المقصود بالإفهام من خطابات القرآن الكريم ، قاطبة المكلّفين إلى قيام يوم الدّين ، ففي الأخبار (١) أنّه يجري كما يجري اللّيل والنّهار ، أو كما تجري الشّمس والقمر ، فهو تبيان ونور وشفاء لما في الصّدور إلى يوم ينفخ فيه الصّور ، وعليه ، فالكلّ مقصودون بالإفهام ، ولكن كلّ في ظرفه ووعائه من الحاضرين والغائبين ومن الموجودين والمعدومين إلى يوم الدّين.

(الفصل الرّابع : تعقّب العامّ بضمير يرجع إلى بعض)

هل تعقّب العامّ بضمير يرجع إلى بعض أفراده يوجب تخصيصه به ، أم لا؟

هنا أقوال ولكن قبل الورود في ذكرها وبيان ما هو الحقّ المختار ، لا بدّ من تحرير محل النّزاع ، فنقول : لا نزاع في أنّ العامّ المتعقّب بالضّمير لو لم يكن موضوعا للحكم مستقلّا ، بل يحتاج إلى ضمير يعقّبه ، يكون مخصّصا بهذا الضّمير ، نظير قوله تعالى (الْمُطَلَّقاتُ أَزْواجَهُنَ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ)(٢) فإنّ «المطلقات» عامّ والضّمير في كلمة : «أزواجهنّ» يرجع إلى بعض أفراده وهي «الرّجعيات» ويوجب تخصيص العامّ ، فيراد منه «الرّجعيّات» فقط ، كما هو واضح.

وكذا قوله تعالى (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ)(٣) فإنّ الضّمير في جملة «يتربّصن» راجع إلى بعض أفراد العامّ (المطلّقات) وهو غير الصّغيرة واليائسة وغير المدخول

__________________

(١) راجع ، الاصول من الكافي : ج ٢ ، ص ٤٣٩ ، الحديث ٧ و ٨.

(٢) سورة البقرة (٢) : الآية ٢٢٨.

(٣) سورة البقرة (٢) : الآية ٢٢٨.

٢٨٢

بها ؛ لأنهنّ لا يتربّصن وليس عليهن عدّة ويكون موجبا للتّخصيص ، فيراد من العامّ خصوص الأفراد المذكورة دون غيرها.

وإنّما النّزاع في العامّ الّذي يكون موضوعا مستقلّا للحكم ، مستغنيا عن الضّمير ، سواء كانا في كلامين كقوله تعالى (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ... وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ)(١) فإنّ مرجع الضّمير في قوله تعالى (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) هو الفرد الواحد من المطلّقات وهي الرّجعيّات ؛ ضرورة ، أنّ حقّ الرّجوع ثابت في خصوص هذا الفرد دون غيره ، أم كانا في كلام واحد ، نظير قولنا : «أكرم العلماء وواحدا من أصدقائهم» وقولنا : «أكرم العلماء وخدّامهم» هذا إذا علم من الخارج رجوع الضّمير إلى بعض أفراد العامّ ، كالعدول منهم ، وإلّا يكون أجنبيّا عن مورد البحث.

إذا عرفت موضع النّزاع ، فنقول : تعرّض المحقّق الخراساني قدس‌سره أنّ في المسألة احتمالات ثلاثة : الأوّل : التّصرّف في العامّ بأن يراد منه خصوص ما اريد من الضّمير ، فلازم هذا هو التّخصيص ؛ الثّاني : التّصرّف في الضّمير فقط بإرجاعه إلى بعض ما هو المراد من مرجعه ، فلازمه هو ارتكاب الاستخدام والمجازيّة في الكلمة ؛ الثّالث : التّصرّف بإرجاع الضّمير إلى تمام ما اريد من العامّ ، لكن مع التّوسع في الإسناد بأن يسند الحكم المترتّب على البعض حقيقة وإلى الجميع توسعا وتجوّزا من باب المجاز في الإسناد ، لا الكلمة ، كما في الاحتمال الثّاني. (٢)

__________________

(١) سورة البقرة (٢) : الآية ٢٢٨.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٦٢ و ٣٦٣.

٢٨٣

ولا يخفى : أنّ هذه الاحتمالات (١) هي المنشأ لاختلاف الأعلام ، فذهب بعض إلى أن المرجع في المسألة هي أصالة العموم وعدم تخصيصه ، وبعض إلى أصالة عدم الاستخدام في الضّمير ، وبعض إلى الإجمال والرّجوع إلى ما يقتضيه الاصول ، كما هو مختار المحقّق الخراساني قدس‌سره حيث قال ، ما محصّله : أنّ أصالة الظّهور في ناحية العامّ تامّ ، بخلافها في ناحية الضّمير ؛ وذلك ، لأنّ مرجع الشّكّ في العامّ إلى الشّكّ في المراد منه ، بأنّه هل اريد منه العموم ، أم لا؟ لا في كيفيّة الإرادة والاستعمال ، فيرجع إلى أصالة الظّهور ويحكم بالعموم ، لأنّ المتيقّن من بناء العقلاء هو اتّباع الظّهور في تعيين المراد ، كما هو المقرّر في محلّه ، وهذا بخلاف الشّكّ في الضّمير فإنّ مرجعه إلى الشّكّ في كيفيّة الإرادة والاستعمال ، بأنّه هل هو بنحو الحقيقة أو بنحو المجاز في الإسناد أو الكلمة ؛ إذ المراد من الضّمير وهي الرّجعيات معلوم حسب الفرض ، وعليه ، ففي مثل هذا المورد لا يمكن الرّجوع إلى أصالة الظّهور وعدم الاستخدام ، ولكن هذا كلّه فيما إذا عقد للكلام ظهور في العموم بأن لا يعدّ ما اشتمل على الضّمير ممّا يكتنف به عرفا ، وإلّا فيحكم عليه بالإجمال ، ويرجع إلى ما يقتضيه الاصول ، انتهى ملخص ما أفاده قدس‌سره. (٢)

ولكن الحقّ المختار ما أفاده السّيّد البروجردي قدس‌سره حاصله : أنّ في المسألة احتمالا رابعا غير ما ذكره المحقّق الخراساني قدس‌سره من الاحتمالات الثّلاثة ، وهو أنّ العامّ في الآية المتقدّمة قد استعمل في معناه ، فيراد من «المطلّقات» الأعمّ من «الرّجعيّات

__________________

(١) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٥ ، ص ٢٨٥.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٦٢ و ٣٦٣.

٢٨٤

والبائنات» وكذلك «الضّمير» فهو ـ أيضا ـ استعمل في معناه ، فمرجعه هو العامّ ، غاية الأمر : قد خصص بدليل منفصل واريد منه خصوص «الرّجعيّات» وهذا لا يوجب تخصيص مرجعه. (١)

والوجه فى ما اخترناه ، هو ما حقّق في فصل حجيّة العامّ المخصّص فيما بقي ، من أنّه لا يلزم من تخصيصه المجازيّة ، بل العامّ يستعمل دائما في معناه وهو العموم ولو كان مخصّصا ، غاية الأمر : قد يكون هذا المعنى مرادا جدّيا ـ أيضا ـ فتطابق الإرادتان (الاستعماليّة والجدّيّة) وهذا فيما إذا لم يخصّص العامّ ، وقد لا يكون مرادا جدّيا فتخالف الإرادتان ، وهذا فيما إذا خصّص العامّ.

وكيف كان ، فلا مجازيّة في البين لكون المعيار في الحقيقة والمجاز هي الإرادة الاستعماليّة ، لا الجديّة ، هذا في العامّ.

وأمّا الضّمير في قوله تعالى (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) فهو وإن استعمل في معناه ـ أيضا ـ ويراد منه ما اريد من العامّ ، إلّا أنّه حيث ورد فيه دليل منفصل ، فلا مناص من تخصيصه ، والإرادة منه خصوص «الرّجعيات» بحسب الجدّ ، فلم يتطابق فيه الإرادتان (الاستعماليّة والجديّة) وأنت تعلم ، أنّ تخصيص الضّمير لا يستلزم تخصيص مرجعه وهو العامّ.

وإن شئت ، فقل : إنّ سقوط ظهور حجيّة الضّمير في العموم ، لا يلازم سقوط حجيّة ظهور المرجع العامّ في العموم.

ولقد أجاد شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «إنّ العامّ

__________________

(١) راجع ، نهاية الاصول : ص ٣٢٣.

٢٨٥

لو خصّص ، لا يستعمل في الخصوص كي يلزم المجازيّة ، بل يستعمل في معناه العموم ، وإنّما يراد الخصوص منه حسب الجدّ بدال آخر ، فالتّخصيص لا يوجب تصرّفا في العامّ ، وأمّا توافق الضّمير مع المرجع ، فإن كان المقصود هو التّطابق بحسب الإرادة الجدّيّة ، فلا شاهد له من الأدب والمحاورات العرفيّة ، وإن كان المقصود هو التّطابق بلحاظ الإرادة الاستعماليّة ، فهو حاصل في الآية ؛ إذ الضّمير والمرجع كلاهما استعملا في العموم ، غاية الأمر : اريد من الضّمير حسب الجدّ خصوص «الرّجعيّات» بدال آخر من نصوص وروايات ، وعليه ، فلا موقع للنّزاع في المسألة». (١)

ثمّ إنّه يظهر بما قدّمناه ، ضعف ما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره من دوران الأمر بين تخصيص المرجع وهو العامّ ، وبين التّصرّف في الضّمير بالمجازيّة والاستخدام ، أو بالمجازيّة في الإسناد بإرجاع الضّمير إلى تمام ما اريد من المرجع ، لكن مع التّوسّع في الإسناد ، بإسناد الحكم المسند إلى البعض حقيقة ، وإلى الجميع والكلّ توسّعا وتجوّزا. (٢) وجه ظهور الضّعف واضح.

هذا ، مع أنّ المجازيّة سواء كانت في الإسناد أو الحذف أو في الكلمة ، إنّما تتقوّم بالادّعاء والمبالغة ، فلا مجال لها في أمثال المقام الّذي يكون مقام بيان أحكام الشّريعة.

وكذلك يظهر ـ أيضا ـ أنّه لا حاجة رأسا إلى ما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره وسائر أرباب الكتب الاصوليّة من طرح بحث الاستخدام والمجازيّة في الضّمير والتّصرّف فيه بهذا الوجه بلا تصرّف في العامّ المرجع ، أو طرح بحث تخصيص العامّ

__________________

(١) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٦٢.

٢٨٦

والتّصرّف فيه بهذا الوجه بلا تصرّف في الضّمير أو طرح بحث التّرجيح وأنّ أيّ تصرّف يرجّح عند الدّوران.

وكيف كان ، لا صغرى ظاهرا لهذه المسألة في الفقه ولا ثمرة لها فيه ، أيضا.

(الفصل الخامس : تخصيص العامّ بالمفهوم المخالف)

هل المفهوم المخالف ، كالمفهوم الموافق يوجب تخصيص العامّ ، أم لا؟

قبل الورود في تحقيق المسألة ، لا بأس بذكر المثال في مورد كلا المفهومين :

فنقول : أمّا المفهوم المخالف ، فنظير «إذا لم يكن الماء قدر كرّ ينجّسه شيء» فإنّه مفهوم مخالف لقوله عليه‌السلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» (١) والعامّ هنا ، نظير ما ورد : «الماء كلّه طاهر» أو «خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه إلّا غيّر لونه أو طعمه أو ريحه» (٢) فيقع الكلام بين الأعلام في أنّ هذا العامّ ، هل يخصّص بالمفهوم المذكور كي ينحصر مورده بالماء الكرّ ، أم لا؟

أمّا المفهوم الموافق ، فنظير «حرمة تزويج ذات البعل» فإنّه مفهوم موافق لقول أبي عبد الله عليه‌السلام : «والّذي يتزوّج المرأة في عدّتها وهو يعلم لا تحلّ له أبدا» (٣)

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١ ، ص ١١٧.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ١ من ابواب الماء المطلق ، الحديث ٩ ، ص ١٠١.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ١٤ كتاب النّكاح ، الباب ١٧ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، الحديث ١ ، ص ٣٤٤.

٢٨٧

والعامّ هنا ، نظير قوله تعالى (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ)(١) فلا شبهة في أنّ هذا العامّ يخصّص بالمفهوم المذكور ، فيستثنى منه تزويج ذات البعل ، كما يستثنى منه تزويج ذات العدّة.

إذا عرفت هذا المثال ، فاعلم ، أنّ المسألة ذات قولين : أحدهما : جواز تخصيص العامّ بالمفهوم المخالف ؛ ثانيهما : منع ذلك.

أمّا القول الأوّل : فقد استدلّ له بأنّ المنطوق العامّ دليل شرعيّ قد عارض مثله وهو المفهوم الخاصّ ، فلو قلنا : بالتّخصيص يتحقّق الجمع بين الدّليلين وهو أولى من طرحهما.

واجيب عنه ، بأنّ الجمع بينهما ، كما يمكن بتخصيص العموم وإلغاءه ، كذلك يمكن بإلغاء المفهوم ، فلا بدّ في ترجيح أحدهما على الآخر من مرجّح وهو مفقود هنا ؛ إذ مجرّد ما ذكر من «الجمع أولى من الطّرح» لا يصلح للتّرجيح ، كما لا يخفى.

أمّا القول الثّاني : فقد استدلّ له بأنّ العامّ أقوى من الخاصّ ؛ وذلك ، لأنّ العامّ يستفاد من المنطوق ، والخاصّ من المفهوم ، وواضح أنّ المنطوق ولو كان عامّا أقوى من المفهوم ولو كان خاصّا ، فلا وجه حينئذ لتقديم الخاصّ بارتكاب التّخصيص لفقد ملاك التّقديم وهو الأقوائيّة ، بل لا يصل الدّور حينئذ إلى المعارضة بينهما.

وفيه : أنّ مجرّد كون المنطوق ملاكا للأقوائيّة ، والمفهوم ملاكا للأضعفيّة محلّ منع ، كما لا يخفى على المتتبّع.

هذا ، ولكنّ الحقّ في المسألة يقتضي أن يقال : إنّه لا فرق في الخاصّ المعارض

__________________

(١) سورة النّساء (٤) : الآية ٢٤.

٢٨٨

للعامّ ، بين كونه مفهوميّا أو منطوقيّا فيلاحظ الخاصّ المستفاد من المفهوم مع العامّ عند المعارضة ، مثل ملاحظة الخاصّ المستفاد من المنطوق مع العامّ كذلك ، وهو أنّه لو كان أحدهما أظهر من الآخر أو نصّا وجب الأخذ به ، وإلّا ففي مادّة المعارضة ، كما إذا كانت النّسبة بينهما عموما من وجه يتساقطان ، والمرجع حينئذ هي الاصول العمليّة لو لم يكن هنا دليل آخر من الأدلّة الاجتهاديّة.

ونتيجة ذلك هو ، أنّه ليست المفهوميّة لمكان التّبعيّة ملاك الوهن ، ولا المنطوقيّة لمكان الأصالة ملاك القوّة ، بل حال العامّ المنطوق مع الخاصّ المفهوم ، كحاله مع الخاصّ المنطوق ، وملاك التّقديم فيما إذا كانت النّسبة بينهما عموما وخصوصا مطلقا هي الأظهريّة أو النّصّية مطلقا ، كما أنّ ملاك التّعارض والتّساقط فيما إذا كانت النّسبة عموما من وجه هو التّساوي في الظّهور.

نعم ، قد يكون العامّ أظهر من الخاصّ ، فلا يخصّص به ، بل يقدّم عليه ، كما قد يقال : بتقديم عموم العلّة في آية النّبإ (١) على مفهوم الوصف أو الشّرط فيها ـ على تقدير تسليمه ـ بتقريب : أنّ إصابة القوم بجهالة ، آبية عن التّخصيص ؛ إذ هو أمر قبيح فاسد مطلقا ولو كان المخبر عادلا ، فعموم العلّة مانع عن انعقاد ظهور مفهوميّ ، وعليه ، فيقدّم على المفهوم.

ثمّ إنّه يظهر ممّا ذكرنا : أنّ ما اختاره المحقّق الخراساني قدس‌سره (٢) وغيره في المسألة من التّفاصيل ، لا يختصّ بالمفهوم ، بل يجري في المنطوق ـ أيضا ـ فلا حاجة بنا إلى نقلها ونقدها.

__________________

(١) (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ،) سورة الحجرات (٤٩) : الآية ٦.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٦٣ و ٣٦٤.

٢٨٩

(الفصل السّادس : الاستثناء المتعقّب للجمل)

إذا تعقّب الاستثناء للجمل المتعدّدة ، فهل هو ظاهر في رجوعه إلى الكلّ أو خصوص الأخيرة ، أم ليس كذلك ، بل لا بدّ في التّعيين ، من قرينة؟

ولنبدأ قبل التّحقيق في المسألة بذكر المثال لذلك وهو قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا)(١) فإنّ الاستثناء وهو قوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) تعقّب للجمل الثّلاث : أحدها قوله تعالى (فَاجْلِدُوهُمْ) ثانيها قوله تعالى (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ) ثالثها قوله تعالى (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ.)

إذا عرفت المثال ، فنقول : إنّ المسألة ذات أقوال أربعة :

الأوّل : أنّ الاستثناء ظاهر في رجوعه إلى خصوص الجملة الأخيرة ، وأنّ رجوعه إلى غيرها وإن كان ممكنا ، ولكن يحتاج إلى قرينة.

الثّاني : أنّه ظاهر في رجوعه إلى الجميع وأنّ التّخصيص بالأخيرة محتاج إلى قرينة.

الثّالث : أنّه ليس ظاهرا في كليهما ، بل يكون مجملا ، نعم ، يكون الرّجوع إلى الأخيرة متيقّنا على كلّ حال.

الرّابع : أنّه راجع إلى الجميع في مورد ، وإلى الأخيرة فقط في مورد آخر ، ولا إلى الجميع ولا إلى الأخيرة في مورد ثالث ، وهذا القول يرجع إلى التّفصيل في

__________________

(١) سورة النّور (٢٤) : الآية ٤.

٢٩٠

المسألة ، وهو الحقّ المختار ، كما سيأتي بيانه.

والتّحقيق هنا يقتضي التّكلّم في مقامين :

الأوّل : في مقام الثّبوت ؛ الثّاني : في مقام الإثبات.

أمّا الأوّل : فالحقّ فيه إمكان الرّجوع إلى الكلّ ، ووجهه واضح ؛ بناء على القول بكون الموضوع له في الحروف ـ ومنها «إلّا» ونحوها ـ عامّا ، وأمّا بناء على القول بكونه خاصّا ، فوجهه ، عدم منافاة وحدة الإخراج وتشخّصه لكثرة الأطراف من المستثنى منه والمستثنى ، على أنّ الاستثناء عن الجمل المتعدّدة قد وقع في الخارج ولو قليلا ، وأدلّ الدّليل على إمكان الشّيء وقوعه.

أمّا الثّاني : فالحقّ فيه هو التّفصيل ، فيقال : في بعض الصّور بظهور الرّجوع إلى الكلّ ، وفي بعضها بظهوره إلى الأخيرة ، وفي بعضها بعدم الظّهور رأسا ، لا في الرّجوع إلى الكلّ ولا إلى الأخيرة ، بل يصير مجملا.

ولا بأس بالإشارة إلى تلك الصّور ليبيّن لك ما اخترناه :

منها : ما كان الموضوع المستثنى منه في الجملة الاولى اسما ظاهرا واحدا ، وفي سائر الجمل التّالية ضميرا راجعا إليه مع فرض اشتمال المستثنى على الضّمير ، ومع فرض تعدّد الحكم في تلك الجمل ، بمعنى : أنّ عقد الوضع (الموضوع) واحد ، ولكن عقد الحمل (الحكم) متعدّد ، نظير قولنا : «أكرم العلماء وسلّم عليهم وألبسهم إلّا فسّاقهم» والظّاهر أنّ الاستثناء في مثل ذلك راجع إلى الكلّ.

ومنها : ما كان عين الصّورة المتقدّمة ، لكن بلا اشتمال المستثنى على الضّمير ، فيقال : بعد ذكر الجملات المذكورة «إلّا الفسّاق» ولا ريب : أنّ حال هذه الصّورة

٢٩١

ـ أيضا ـ هو حال الصّورة المتقدّمة ، والآية المتقدّمة في ابتداء الفصل كانت من هذا القبيل ، فإنّ عقد الوضع (الموضوع) فيها وهو قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) واحد ، ولكن عقد الحمل (الحكم) وهو قوله تعالى (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) يكون متعدّدا ، والمفروض فيها ـ أيضا ـ هو عدم اشتمال المستثنى على الضّمير وهو قوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا.)

ومنها : ما كان الموضوع المستثنى منه في تمام الجمل اسما ظاهرا متعدّدا مع فرض اشتمال المستثنى على الضّمير ، ومع فرض وحدة الحكم تلك الجمل ، بمعنى : أنّ عقد الوضع (الموضوع) متعدّد ، ولكن عقد الحمل (الحكم) واحد ، نظير قولنا : «أكرم العلماء والسّادة والقارئين إلّا فسّاقهم» والظّاهر فيها ـ أيضا ـ هو رجوع الاستثناء إلى الكلّ.

ومنها : ما كان الموضوع المستثنى منه في الجملة الاولى والأخيرة اسما ظاهرا واحدا ، وفي الجملة المتوسطة ضميرا راجعا إليه مع فرض تعدّد الحكم واشتمال المستثنى على الضّمير ، نظير قولنا : «أكرم العلماء وسلّم عليهم ، وجالس العلماء إلّا فسّاقهم» والظّاهر هنا هو رجوع الاستثناء إلى الأخير فقط.

ومنها : ما إذا كان الموضوع المستثنى منه اسما ظاهرا متعدّدا مع تعدّد الحكم ، بمعنى : أنّ عقد الوضع (الموضوع) وعقد الحمل (الحكم) كلاهما متعدّدان ، نظير قولنا : «أكرم العلماء وأضف التّجار وألبس الفقراء إلّا الفسّاق منهم» والظّاهر هنا هو عدم رجوع الاستثناء إلى الجميع ولا إلى الأخيرة فقط ، بل يصير مجملا.

وكيف كان ، فالمدار في كلّ واحد من تلك الصّور ، هو الظّهور ، ويشكل جعل

٢٩٢

ضابطة كلّيّة حاصرة ، فربّ مورد يكون الظّاهر هو الرّجوع إلى الكلّ ؛ وفي مورد إلى الأخيرة ؛ وفي مورد آخر لا ظهور رأسا ، بل الكلام يصير مجملا ، فالأخيرة هي المتيقّنة ، والمرجع في غيرها هي الاصول العمليّة.

فتحصّل : أنّ الحقّ المختار في المسألة هو هذا التّفصيل الّذي عرفته آنفا.

(الفصل السّابع : تخصيص الكتاب بالخبر الواحد)

هل يجوز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد المعتبر بالخصوص ، كما يجوز تخصيصه بالخبر المتواتر ، أو الخبر الواحد المحفوف بالقرينة القطعيّة ، أم لا؟

والحقّ في المسألة هو الجواز بعد إثبات حجّيّة الخبر الواحد ببناء العقلاء والسّيرة ، وهذا هو مختار المحقّقين (١) ، منهم المحقّق الخراساني قدس‌سره (٢) بل ادّعى بعض الأعاظم قدس‌سره أنّه لا خلاف في المسألة عند الإماميّة ، والمخالف هو العامّة. (٣)

هذا ، ولكن اقيم على المنع أدلّة أربعة :

أحدها : أنّ صدور الكتاب قطعيّ ، وصدور الرّواية ظنّي ، فلا يجوز رفع اليد عن القطعيّ بالظّنّي ، كما هو واضح.

وفيه : أوّلا : أنّ الخبر وإن كان ظنيّا من جهة السّند والصّدور ، إلّا أنّ المفروض ثبوت حجيّته بدليل قطعيّ.

__________________

(١) راجع ، مطارح الأنظار : ص ٢١٠.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٦٦.

(٣) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٥ ، ص ٣٠٩.

٢٩٣

وثانيا : أنّه لا مقابلة بين الكتاب والخبر من جهة السّند كي يلزم المحذور المذكور ، بل تقع المقابلة بينهما من جهة الدّلالة ، وأنت تعلم ، أنّ الكتاب ـ أيضا ـ كالخبر ، ظنّي الدّلالة ، وعليه ، فلا مناص من رفع اليد عن عموم الكتاب وظهوره في العموم بظهور الخبر الخاصّ المعتبر ، لكونه نصّا أو أظهر.

ثانيها : أنّه لو ثبت جواز تخصيص الكتاب بالخبر ، لثبت جواز نسخه به ـ أيضا ـ والتّالي باطل قطعا ، وكذلك المقدّم ؛ وجه الملازمة هو أنّ النّسخ ـ أيضا ـ تخصيص إلّا أنّه بحسب الأزمان ، وهذا المقدار لا يوجب الفرق بينه وبين التّخصيص المصطلح الّذي يكون بحسب الأفراد ؛ أمّا وجه بطلان التّالي ، فهو وجود الإجماع القطعيّ عليه.

وفيه : أنّ الملازمة ممنوعة ، لقيام الإجماع من الفريقين على عدم جواز نسخ الكتاب بالخبر الواحد ، لا تعبّدا ، بل من باب أنّه لو كان لاشتهر وبان ، لوضوح كثرة الدّواعي وتوافرها إلى ضبطه ؛ ولذا قلّ الخلاف في تعيين موارده ، بخلاف التّخصيص ، وحيث إنّ المفروض عدم اشتهار النّسخ ، يستكشف منه عدم وجوده ؛ ولأجل ذلك لو دلّ خبر واحد على النّسخ ، فلا بدّ إمّا من الالتزام بطرحه أو حمله على الكذب وغيره.

ثالثها : أنّ حجّيّة الخبر الواحد ثابتة بالإجماع الّذي هو من الأدلّة اللّبيّة ، فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن منه وهو حجّيّة الخبر في غير مورد المعارضة مع الكتاب.

وفيه : أنّه يمنع عن ثبوت حجّيّة الخبر من طريق الإجماع ، بل إنّما هي ثابتة من بناء العقلاء وقيام السّيرة منهم ، كما تثبت بذلك ـ أيضا ـ حجّيّة العمومات

٢٩٤

والظّهورات ، لكن إذا لم تقم قرينة على خلافها ، وأنت تعلم ، أنّ الخبر الخاصّ المعتبر يصلح للقرينيّة ، فيوجب التّخصيص وهو المطلوب.

رابعها : أنّه وردت أخبار كثيرة دالّة على وجوب طرح ما خالف الكتاب (١) ، أو كونه زخرفا (٢) ، أو ممّا لم أقله (٣) أو نحو ذلك.

وفيه : أنّ المراد من المخالفة للكتاب ليس إلّا المخالفة له بنحو التّباين الكلّي ، ولا تعمّ مخالفة الخاصّ للعامّ ، والمقيّد للمطلق وما شاكلهما ، بل لا يكون في أمثالهما مخالفة إلّا بدويّة غير مستقرّة ؛ ولذا صدر من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام أخبار كثيرة مخالفة لعموم الكتاب أو إطلاقه.

ولقد أجاد الإمام الرّاحل قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال ما حاصله : أنّ التّعارض بالعموم والخصوص وإن كان يعدّ من التّعارض الحقيقي ؛ إذ الموجبة الكلّيّة ، نقضيه السّالبة الجزئيّة ، لكنّ العارف باصول الجعل والتّشريع وكيفيّته من تقديم بعض وتأخير آخر ، لا يرى تعارضا ومخالفة ولا تناقض ومناقضة ، فمحيط التّقنين والتّشريع غير محيط الخارج والتّكوين. (٤)

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١ و ٢٩ و ٣٥ ، ص ٧٦ و ٨٤ و ٨٦.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٢ و ١٤ ، ص ٧٨ و ٧٩.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٥ ، ص ٧٩.

(٤) راجع ، تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٥٨.

٢٩٥

(الفصل الثّامن : دوران الأمر بين التّخصيص والنّسخ)

لو دار أمر الخاصّ المخالف للعامّ بين أن يكون تخصيصا أو نسخا ، فهل هنا مرجّح لأحدهما ، أم لا؟

والمسألة ذات صور خمس ؛ ثلاث منها واضح الحكم ولا خلاف فيها لأحد ، والاثنان منها وقع فيهما الخلاف بين الأعلام.

أمّا الصّور الثّلاث ، فالاولى : أن يكون الخاصّ متّصلا بالعامّ ، ولا ريب : أنّ الحكم فيها التّخصيص لا النّسخ ، بلا خلاف فيه ؛ لعدم انعقاد العموم حينئذ حتّى يجري فيه النّسخ والرّفع بالخاصّ.

كيف ، وأنّك عرفت في محلّه ، أنّ المخصّص المتّصل يكون من باب «ضيّق فم الرّكية» وهو رافع للظّهور فلا ينعقد معه العموم ، وهذا لا يناسب النّسخ الّذي معناه الرّفع ، حيث إنّ الرّفع متوقّف على الوضع ، والمفروض ، أنّه لا حكم موضوعا للعامّ كي يرفع وينسخ بالخاصّ المخالف.

والثّانية : أن يكون الخاصّ متأخّرا عن العامّ ، واردا قبل حضور وقت العمل به ، ولا ريب : أنّ الحكم فيها ـ أيضا ـ هو تعيّن التّخصيص وعدم إمكان النّسخ ؛ وذلك ، لأنّ الخاصّ لو كان ناسخا للزم الجهل في الجاعل «عزوجل» أو لغويّة الجعل ، وكلاهما ممنوعان.

توضيح ذلك : أنّ الجعل في الأوامر أو النّواهي الحقيقيّة ، قبال الاختباريّة ، إنّما يكون لغرض الدّاعويّة نحو الفعل أو التّرك ، فإذا علم الجاعل بعدم بلوغه إلى هذه

٢٩٦

المرحلة بسبب خاصّ ، لزم لغويّة جعل الحكم العامّ ، وإذا لم يعلم به لزم الجهل منه ، وأنت تعلم ، أنّ اللّغويّة تنافي الحكمة ، وأنّ الجهل لا طريق له إلى ساحة من لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة.

وإن شئت ، فقل : إنّ الجعل والتّشريع في الأحكام إنّما يجوز ويحسن إذا وصل الدّور إلى مرحلة الإتيان والامتثال ، بخلاف ما إذا علم بعدم الوصول إلى هذه المرحلة ، فإنّه لا موقع للجعل قطعا والبتّة ، وهذا أمر واضح بلا فرق بين أن يكون الجعل على نحو القضيّة الحقيقيّة أو الخارجيّة ، أو على نحو الموقّتة وغير الموقّتة.

فما عن المحقّق النّائيني قدس‌سره (١) من الفرق بين القضايا الحقيقيّة غير الموقّتة ، والموقّتة بعد حضور وقت العمل ولو كانت خارجيّة ، وبين الموقّتة قبل حضور وقت العمل ولو كانت حقيقيّة باختصاص النّسخ بالطّائفة الاولى من القضايا ، واستحالة تعلّقه بالحكم في الطّائفة الثّانية ، غير ظاهر الوجه.

ومجرّد كون الموضوع مقدّر الوجود في الخارج ، كما في القضايا الحقيقيّة عندهم ، غير كاف في صحّة الجعل وعدم لزوم اللّغويّة ، بعد العلم بعدم وصوله إلى مرحلة الفعليّة ، كما لا يخفى.

ولقد أجاد شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره في ردّ هذا التّفصيل ، حيث قال : «إنّ إنشاء الحكم على نحو الحقيقيّة وإن كان لا يحتاج إلى فعليّة الموضوع ووجوده بالفعل خارجا ، إلّا أنّ ذلك الإنشاء لا محالة يكون عن مصلحة كامنة في المتعلّق اقتضت ذلك الإنشاء كي يقع في طريق العمل ، وعليه ، فلا يعقل إنشاء آخر يمنع فعليّة الأوّل ؛ إذ هو

__________________

(١) راجع ، أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٥٠٧ و ٥٠٨.

٢٩٧

نقض للغرض ، ولا فرق في ذلك بين الحقيقيّة وغيرها ، والتّفصيل بين الموقّت وغيره لا يرجع إلى محصّل ؛ كما أنّ ما ذكره قدس‌سره من أنّ النّسخ قبل حضور العمل في الحقيقيّة الموقّتة كالخارجيّة ، يكون كاشفا عن عدم كون الحكم المنشأ أوّلا حكما مولويّا مجعولا بداعي البعث أو الزّجر ، بل كان بداعي الامتحان ، لا يرجع إلى محصّل». (١)

وكذلك أجاد بعض الأعاظم قدس‌سره في ذلك ، حيث قال : «ولا ندري ، كيف ذهب شيخنا الاستاذ قدس‌سره إلى هذا التّفصيل ، مع أنّه قدس‌سره قد صرّح في عدّة موارد ، أنّ امتناع فعليّة الحكم يستلزم امتناع جعله». (٢)

فتحصّل : أنّ الحقّ في الصّورة الثّانية هو التّخصيص واستحالة النّسخ ، والسّند لزوم اللّغويّة ، أو الجهل في الجاعل.

والصّورة الثّالثة : أن يكون العامّ متأخّرا عن الخاصّ ، واردا قبل حضور وقت العمل به ، والحكم فيها ، كالحكم في الصّورة الثّانية بعين السّند المذكور.

وأمّا الصّورتان المختلف فيهما ، فالاولى منهما : أن يكون الخاصّ واردا بعد حضور وقت العمل بالعامّ ، فقد وقع الخلاف فيها بأنّ الخاصّ هنا ، هل هو مخصّص للعامّ ، أو ناسخ فيه؟ وجهان : ذهب جماعة إلى الثّاني ؛ ولكنّ الحقّ هو الأوّل.

وقد استدلّ (٣) للوجه الثّاني ، بأنّ التّخصيص مستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة وهو قبيح ؛ ضرورة ، أنّ التّخصيص بيان للعامّ ، بأنّ المراد الجدّي منه ليس

__________________

(١) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

(٢) محاضرات في اصول الفقه : ج ٥ ، ص ٣١٧ و ٣١٨.

(٣) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٥ ، ص ٣١٨.

٢٩٨

هو العموم ، وهذا يستدعي أن يرد وقت حضور العمل لا بعده ، فلا مناص إذا من حمل ما ورد بعد حضور وقت العمل بالعامّ على النّسخ كي لا يلزم القبيح وتأخير البيان عن وقت الحاجة.

وفيه : أنّ القول بالتّخصيص في مثل المقام وإن يلزم منه تأخير البيان عن وقت الحاجة ، إلّا أنّه لا قبح فيه لو كان لأجل المصلحة المقتضية له ، أو لأجل المفسدة في التّقديم الّتي تمنع عن ذكر البيان عند الحاجة.

توضيح ذلك : أنّ القبح إنّما يكون لأحد أمرين : أحدهما : إيقاع المكلّف في الكلفة والمشقّة بلا جهة ملزمة ، كما إذا كان العامّ ظاهرا في الإلزام ، نظير قولنا : «أكرم العلماء» مع فرض عدم الإلزام في إكرام الفسّاق منهم ، ولكن لم يبيّن بعد العامّ ، فلا ريب ، في أنّ المكلّف لو عمل بظاهر العامّ بإكرام جميعهم حتّى الفسّاق منهم ، لوقع في تعب وكلفة بلا جهة موجبة جابرة ، وهذا ممّا يستقبحه العقل.

ثانيهما : إلقاء المكلّف في المفسدة أو تفويت المصلحة ، كما إذا كان العامّ ظاهرا في التّرخيص وعدم الإلزام ، نظير قولنا : «ينبغي إكرام العلماء» مع فرض أنّ إكرام العدول منهم إلزاميّ إيجابيّ ، أو أنّ إكرام الفسّاق منهم إلزاميّ تحريميّ ، ولكن لم يبيّن بعد العامّ ، فلا ريب ، في أنّ المكلّف لو ترك إكرام الجميع حتّى العدول منهم ، عملا بظاهر العامّ ، للزم منه فوت المصلحة ، وكذا لو فعل ذلك حتّى بالنّسبة إلى الفسّاق لوقع في المفسدة.

إذا عرفت هذا ، فاعلم ، أنّه لا ريب : في أنّ أحد هذين الأمرين ينتفي بوجود المصلحة الأقوى المقتضية للإلقاء في المشقّة ، أو الإلقاء في المفسدة ، أو تفويت المصلحة ، فلا يقبح حينئذ تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ألا ترى ، أنّ بيان أصل

٢٩٩

الأحكام في الشّريعة المقدّسة كان على نهج التّدريج والتّدرج طىّ سنين متمادية ، نظرا إلى مصلحة التّسهيل وحكمة الإرفاق والتّوسعة ، فبيان المخصّصات والمقيّدات يكون كذلك.

فعلى ما ذكر ، أنّ الخاصّ الوارد بعد حضور العمل ، يتعيّن للتّخصيص ، فالخصوصات الصّادرة عن الأئمة عليهم‌السلام تخصّص ما ورد في عصر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عمومات الكتاب والسّنة.

على أنّه لا فرق بين النّسخ والتّخصيص بالنّسبة إلينا ، لوجوب الأخذ بالخاصّ والعمل به ، سواء كان ناسخا ، أو مخصّصا.

ثمّ إنّه ورد على القول بالنّسخ إشكالان آخران :

الأوّل : أنّه لا يمكن الالتزام بالنّسخ بعد زمن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نظرا إلى أنّ الوحي منقطع بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا تشريع للأحكام كي يقال : بنسخ بعضها لبعض.

وفيه : أنّه وإن كان كذلك ، لكنّه لا مانع من القول بالإحالة والإيكال إلى الأئمّة عليهم‌السلام بأن يقال : إنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو كل بيان النّسخ إليهم عليهم‌السلام كما أو كل إليهم عليهم‌السلام بيان كثير من الأحكام ، وهذا ممّا لا محذور فيه.

الثّاني : أنّه لا ريب : في أنّ المخصّصات الصّادرة عن أهل بيت العصمة عليهم‌السلام بعد حضور وقت العمل بعمومات الكتاب والسّنة كثيرة جدّا ، وأنت ترى ، أنّ الالتزام بالنّسخ مع تلك الكثرة بعيد غاية البعد (١) ، بل مقطوع خلافه بالضّرورة ؛ للزوم محذور نسخ كثير في الشّريعة المقدّسة مع فرض خلودها لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حلال

__________________

(١) راجع ، درر الفوائد : ج ١ ، ص ٢٢٩.

٣٠٠